العلمانية والدين 2

تحرير المحاضرات

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين. أعزائي المشاهدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ألتقيكم مجددًا في حلقة جديدة من برنامج أفكار وحوار. موضوع حلقة هذا اليوم هو: العلمانية والدين، في قسمها الثاني برفقة سماحة السيد منير الخباز، الأستاذ في الحوزة العلمية. أعزائي المشاهدين، العلمانية بوجوهها المختلفة تحاول تحجيم حركة الأديان السماوية، وقد نجحت العلمانية في عزل الكنيسة المسيحية في أوروبا؛ لأسباب تتعلق برؤية الكنيسة للحياة والعالم، ثم حاولت العلمانية أن تجد لها موطئ قدم في العالم الإسلامي بعد الحرب العالمية الأولى، مستفيدةً من انهيار الدولة العثمانية، وغياب الحكومات الوطنية، فإلى أي مدى نجحت العلمانية في العالمين العربي والإسلامي؟ ما هي أهم التناقضات التي يمكن أن تواجهها العلمانية؟ ولنا أن نتساءل أيضًا بوضوح: هل يخشى الإسلاميون انتشار العلمانية ومواجهتها؟ وأخيرًا: ما الذي أعدته المؤسسة الإسلامية لمواجهة المد العلماني؟ محطاتٌ نحاول الوقوف عندها ولكن بعد أن نتابع هذا التقرير.

التقرير: رغم أن العلمانية لم يكن له اتجاهٌ واحدٌ فحسب، إلا أن الاتجاه الذي أخذ حيزًا إعلاميًا كبيرًا هو اتجاه فصل الدين عن السياسة، فصارت العلمانية تعبيرًا آخر عن ذلك الفصل، ولكن الصحيح أن هذه العلمانية بهذا المعنى إنما تعبّر عن اتجاهها السياسي حصرًا، دون الجانب الفكري المتمثل بالاتجاه الأول لها، وهو القول بنسبية الحقائق، فليست هناك حقائق مطلقة، وإنما هي حقائق نسبية، تختلف بحسب موضوعاتها ومحمولاتها، وبحسب ما تقدّمه المعطيات التجريبية في الرصد والحكم، وغير خفي ما يقف وراء ذلك من ملازمات خطرة جدًا، أهمها إنكار العالم الغيبي؛ لأنه غير خاضع للتجربة أولًا، وعلى فرض خضوعه لذلك من باب فرض المحال ليس بمحال، فإنه لا بد أن يخضع للقانون العام، وهو أنه لا يمكن أن يمثّل حقيقة مطلقة، وهذا هو أخطار اتجاهات العلمانية على الإطلاق، حيث يلزم منه إنكار وجود الله تعالى، أو إنكار كونه تعالى وجودًا مطلقًا وحقيقةً مطلقةً.

المقدم: سماحة السيد، كنا قد تعرضنا في الحلقة القادمة حول موضوع العلمانية والدين، ووقفنا عند تأريخ العلمانية ونشوئها، وتحدثنا عن بعض التعاريف للعلمانية، وتعرضنا أيضًا لموضوع الحداثة وارتباطه بقضية العلمانية، والملاحَظ في الحلقة السابقة أنك لم تسجّل أي نقد للعلمانية. الآن عندما نقرأ لبعض العلمانيين ولكتّاب العلمانيين نجد أن الكثير منهم يحاول إقصاء الدين عن إدارة شؤون الحياة، وتمكين العلم والتجربة من إدارة شؤون هذه الحياة، فما هي المشكلة في أن يتبنى العلمانيون أو يتبنى الفكر العلماني والتجربة العلمانية والعلوم التجريبية إدارة الحياة؟ ما هو الضير في ذلك؟

سماحة السيد: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين. تعرضت في الحلقة السابقة لتسجيل نقدٍ على العلمانية، في اعتمادها المنطق الحسي التجريبي، وفي تصويرها أن الدين منهج مثالي لا واقعي، تعرضت لنقد ذلك، أما هنا فنحن الآن نتعرض إلى فكرة أخرى، وهي ما تتبناها العلمانية السياسية من نظرية فصل الدين عن الدولة. نحن نريد أن نتحدث عن هذه النقطة: أن الإسلام دينٌ ودولةٌ. هذه النقطة عندما نريد أن نتحدث عنها نستدل عليها بالعقل والنقل.

نقول: العقل لو خُلِّي وحده لأدرك وحكم بأن الإسلام فكرٌ يشمل ويستوعب إقامة الدولة والنظام الإسلامي أيضًا، وذلك لأن الله «تبارك وتعالى» عندما خلق المجتمع البشري فإن المجتمع البشري بحاجة إلى نظام إداري يوفق بين المصالح العامة والمصالح الخاصة، ويقوم بفض الخصومات ورفع المنازعات وتأمين الحياة الكريمة لأفراده، وبما أن المجتمع البشري محتاج إلى هذا النظام، فالله تبارك وتعالى إما عالم بهذه الحاجة أو جاهل، لا يمكن القول بأن الله يجهل حاجة المجتمع البشري إلى نظام إداري، فإذا كان عالمًا فإما أن يكون قادرًا على إيصال هذا النظام إلى المجتمع أو عاجزًا، لا يمكن القول بأنه عاجزٌ عن إيصال النظام الإداري، فإذا كان عالمًا بحاجة المجتمع البشري إلى النظام، وقادرًا على إيصال ذلك النظام، فلا عائق أمامه عن إنزال ذلك النظام وتشريع ذلك النظام للمجتمع البشري، وهذا ما يعبّر عنه علماؤنا بقاعدة اللطف.

إذن، العقل لو خُلِّي وحده لحكم بأنه ما دام المجتمع البشري محتاجًا إلى نظام إداري، فمقتضى علم الله بهذه الحاجة، وقدرته على إشباع هذه الحاجة، وتشريع ذلك النظام أن ينزل نظامًا إلى البشرية يدير شؤونها، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ الميزان هو النظام، ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي: لتتحقق العدالة على الأرض. مضافًا إلى أن علاقة الإنسان بالله، بما وراء الطبيعة، هي علاقة الخلافة، حتى العلماني المؤمن بالله يؤمن بأن الإنسان ليس أصيلًا في هذا الكون، وإنما هو نائب أو خليفة أو وكيل عن ذلك الأصيل، بما أن الإنسان ليس أصيلًا، وإنما هو خليفة، فمقتضى الخلافة أن يتبع الإنسان النظام الذي وضعه من استخلفه على هذا الكون، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ.

المقدم: يبدو أن هذا الكلام عندما يتحدث به الإسلاميون لا ريب فيه ولا إشكال فيه، الإشكال أن العلمانيين يضفون على كل المعاملات وكل الإجراءات العملية في الحياة المنهج التجريبي العلمي الذي تحدثتم عنه في الحلقة السابقة، هل هناك إشكال يرد على هذه القضية؟

سماحة السيد: نحن الآن نوضّح نظريتنا في أن الإسلام دين ودولة، ثم نقف مع العلمانيين مع كل جزئية تتنافى مع ذلك.

المقدم: أريد أن أقف معك على هذه الجزئية، وهي: هل هناك ضير في أن يتبنى المنهج العلماني إدارة الحياة؟

سماحة السيد: سنقف عند هذه الجزئية. نقول: بما أن العقل يفرض أنه لا بد من أن ينزل الله نظامًا إداريًا يتكفل إدارة الشؤون - شؤون المجتمع البشري - والتوفيق بين المصالح العامة والمصالح الخاصة، باعتبار أن نسبة الإنسان في هذا الكون نسبة الخليفة، وليست نسبة الأصيل، ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ.

مضافًا إلى النقل، نحن عندما نراجع الآيات القرآنية نجد أن هذه الآيات على صنفين: صنف يتحدث عن كون الحكم والنظام الإداري بيد الله تبارك وتعالى، ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، أي نظام هو خير للبشرية يختاره الله تبارك وتعالى، مثلًا: قوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، وكذلك قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، فإنه إذا كان الهدف من رسالة السماء إقامة العدالة على الأرض، فكما تكفلت الرسالة بإقامة العدالة فقد تكفلت بآليات إقامة العدالة، وهو ما نعبّر عنه بالنظام والجهاز الإداري أو الدولة.

وهناك صنفٌ من الآيات يتحدث عن ضرورة تطبيق حكم الله، مثلًا: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وقوله تبارك وتعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. إذن، بملاحظة الدليل العقلي والنقلي نستفيد أن الإسلام دينٌ ودولةٌ، أي أن الإسلام وضع نظامًا لإدارة شؤون المجتمع، وهو ما نسميه بنظام الدولة. هناك مفارقات أو مواطن تقاطع بين العلمانية والإسلام تتعلق بجهاز الدولة، تتعلق بالنظام الإداري المعبر عنه بالدولة:

الأول: مسألة الولاية.

ولاية الحاكم الشرعي، أو ولاية الفقيه. العلماني يقول: عندما تجعلون الولاية لشخص أو لحزب أو لجماعة معينة، فهذا يعني إقصاء الشعب، هذا يعني أن لا سلطة للشعب، وهذا يعني الانغلاق وعدم قبول التعددية في مجال إدارة الدولة. هنا لا بد أن نتعرض إلى هذه النقطة: مسألة ولاية الفقيه نظريةٌ وليست هي الإسلام، يجب أن نحاكم الإسلام بما هو مسلّمات الإسلام، لا بنظرية قال بها بعض الفقهاء ولم يقل بها البعض الآخر، هذا لا يجب أن يكون موطنًا للاصطدام مع النظام الإسلامي، أن النظام الإسلامي يتبنى الدكتاتورية ويتبنى الحزب الواحد والفكر الشمولي؛ لأنه يتبنى نظرية ولاية الفقيه! نظرية ولاية الفقيه نظرية فقهية، محل خلاف بين الفقهاء.

هناك جمعٌ من فقهائنا، ومنهم السيد الخوئي رحمه الله، وبعض أساتذتنا المعاصرين، يقولون بأن هناك فرقًا بين الدستور وبين السلطة التنفيذية، الدستور دستور إسلامي، ولكن السلطة التنفيذية لا يجب أن تكون بيد الفقيه، السلطة التنفيذية حسب ما تقتضيه المجتمعات العقلائية لدى البشرية، بمعنى آخر أن الإسلام تدخل في وضع الدستور، ولم يتدخل في تحديد من هو الحاكم، ولم يتدخل من هي السلطة التنفيذية في مجال الحكم. في عصر حضور المعصوم فإننا لا نضمن شخصًا يطبّق هذا الدستور تطبيقًا دقيقًا سليمًا إلا المعصوم، مقتضى الأدلة والنصوص الخاصة أن نسلّم ذلك للمعصوم، ولكن في عصر غيبة المعصوم لم يتدخل الإسلام في تحديد الحاكم، في تحديد السلطة التنفيذية، نعم تدخل في وضع الدستور، لكن لم يتدخل في تحديد السلطة التنفيذية، فالمرجع حينئذ السيرة العقلائية.

المجتمع العقلائي هو الذي يختار السلطة التنفيذية بحسب الموازين العقلائية المتسالَم عليها، والموازين العقلائية هي ميزان الانتخاب وصندوق الاقتراع، هذا لا يمنع منه كثيرٌ من فقهائنا. إذن، لا يجب أن يحاسب الإسلام على ضوء نظرية فقهية، هذا الذي أريد أن أبيّنه.

الإشكالية الثانية التي قد تكون موضع تقاطع بين العلمانية والإسلام: إشكالية الاقتصاد الإسلامي. أنتم تعرفون أن الاقتصاد الرأسمالي الآن قائم على ركيزتين: القروض الاستثمارية، البنك الربوي، لولا هذه القروض الاستثمارية لما تحركت عجلة الاقتصاد، جميع المشاريع تحتاج إلى قروض استثمارية، وهذه الفائدة المأخوذة هي مقابل خدمات مصرفية، والركيزة الثانية هي عنصر المخاطرة بالأموال. هذا النظام الاقتصادي لا يتبناه الاقتصاد الإسلامي، ويطرح البنك اللاربوي بديلًا عنه.

نحن في قبال ذلك نقول: لم يجرب العالم الاقتصاد الإسلامي إلى هذا اليوم، لا داعي لوضع إشكالية أمام الاقتصاد الإسلامي والحال أن الاقتصاد الإسلامي لم يُطَبَّق إلى هذا اليوم، إلى الآن لم تطبِّق دولةٌ النظامَ الإسلامي في مجال الاقتصاد، البنك الاقتصادي إلى الآن هذا لم يُطَبَّق.

المقدم: هناك وقفة مع الاقتصاد الإسلامي؛ لأن البعض يقول: أين الاقتصاد الإسلامي؟! لم يطرح الاقتصاد الإسلامي بشكل واضح وجلي حتى يعرفه العالم. وعودًا على ما بدأتم به: الإسلام يمتلك دينًا ودولة، روحًا وعقلًا، يمتلك إدارة الحياة، ويمكن أن يدير الحياة، واستدللتم بالآيات القرآنية، وربما يضاف إليه بعض الأقوال الشريفة للمعصومين ، لكن هذا كله يعتبر التراث الإسلامي العظيم الذي ورثناه، هذا التراث كان موضع جدل، بعضهم وافقه بالمطلق، كالإخبارية والسلفية، وبعضهم ناقش فيه وأقصاه، كالعلمانية والليبرالية، والبعض الآخر جعل التراث محطًا لقراءة جديدة، يحاكي التراث محاكاة، ولا يسلّم بكل المعطيات، ففي ظل هذه الإشكاليات الموجودة كيف يمكن أن نقرأ الدين والدولة الإسلامية والاقتصاد الإسلامي؟ كيف تكون الصورة؟

سماحة السيد: أما بالنسبة للاقتصاد الإسلامي، فقد كتب الكثيرون في الاقتصاد الإسلامي من جميع المذاهب الإسلامية كتبًا مفصلة، ومنها ما كتبه السيد الشهيد السيد محمد باقر الصدر «قدس سره» في كتابه اقتصادنا وفي كتابه البنك اللاربوي في الإسلام، وغيره من الكتّاب المسلمين، فالاقتصاد الإسلامي معروضٌ بشكل واضح لمن أراد الرجوع إلى هذه الكتب. ويلات النظام الاقتصادي العالمي الآن ناشئة عن اعتماد النظام الرأسمالي، الآن العالم يمر بركود اقتصادي حاد نتيجة اعتماد الاقتصاد الرأسمالي، وما زال الاقتصاد الإسلامي مغيَّبًا ومعزولًا.

سمعت تقريرًا في إحدى القنوات الفضائية في هذه الأيام أن المصرف الإسلامي في الكويت وفي السعودية وفي قطر وفي الإمارات، هناك مصارف إسلامية تتبنى تعويض القروض الاستثمارية بنظرية المضاربة في الأموال، وتعوّض أو تستبدل هذه القروض ببيع السلع والتجارة بها، الآن هناك تقرير أنه في ظل هذا الركود الاقتصادي الفعلي أكثر البنوك ضمانًا للمال المصارف الإسلامية؛ لأنك تملك سلعة لا أنك تملك نقدًا، أنت الآن تملك من خلال المصرف الإسلامي سلعةً يُتعامَل بها، تملك من خلال المصرف الإسلامي أعيانًا متحركة، أعيانًا متجسدة في الخارج، هي في معرض الطلب والعرض.

إذن بالنتيجة: المصارف الإسلامية - وقد أقيمت التجربة في هذه الدول - لها إيجابيات كثيرة، لو أن هذه التجربة عُمِّمَت وأخذت مسارها العالمي لرأينا إيجابياتها ولجوء كثير من أصحاب الأموال والشركات الدولية والإقليمية إلى هذه المصارف. إذن، الاقتصاد الإسلامي ما زال لم يُجَرَّب، وبالتالي لا يمكن جعله نقطة افتراق بين العلمانية والإسلام.

أما مسألة التراث والمناقشة في التراث الإسلامي، فنحن استدللنا بآيات واضحة لدى الذهن العربي، لا تحتاج إلى تأويل أو مراجعة أو تأمل، هي آيات لو عُرِضَت على الذهنية العربية، ولو عُرِضت على المجتمع العربي، لفهم منها أن الإسلام نظامٌ إداريٌ كما هو دينٌ في المحاريب وفي الأخلاق وفي مجال التربية.

الإشكالية الثالثة التي هي موطن احتكاك بين العلمانية والإسلام: مسألة إقامة الحدود، حيث يحتج كثير من العلمانيين أنه لو سُلِّم الأمر إلى النظام الإسلامي لدخلنا في مشكلة عويصة، وهي مشكلة إقامة الحدود، قطع يد السارق، وجلد الزاني، وقتل القاتل، وأشباه ذلك، مع العلم أولًا أن إقامة الحدود هي أكثر ردعًا وأكثر استلزامًا للأمن والسلم الاجتماعي من أي عقوبات أخرى بحسب التجربة البشرية.

وثانيًا: نحن لا نمنع من وضع مصحات نفسية ومصحات عقلية لمن يقوم ببعض هذه الجرائم، لكن هناك فرقًا بين المجرم وبين المريض، المريض لا يقام عليه الحدود، من ارتكب هذه الجرائم لمرض نفسي أو عقلي أو جذور نفسية متراكبة يدخل ضمن هذه المصحات، هذا شيء لطيف، شيء ممتاز، ولكن من كان مجرمًا محترفًا، لم يكن متلبسًا بمرض، هذا لا يمكن علاجه من خلال وضع مصحات نفسية أو عقلية وتعويض العقوبات الإسلامية بمثل هذه الأمور.

ثالثًا: مسألة إقامة الحدود ما زالت مسألة جدل بين الفقهاء، ما زال بعض الفقهاء يرى أن إقامة الحدود بيد الحكومة الإسلامية، يمكن أن تؤجلها ويمكن أن تطبقها، فليس تطبيق الحدود الإسلامية أمرًا حاسمًا، بل مرجعه إلى يد الحاكم الشرعي، إذا شخّص المصلحة العامة في تطبيقها طبّقها، وإذا شخّص أن المصلحة العامة ولو سمعة الإسلام وسمعة الدولة الإسلامية في تأجيلها أجّلها، هذا أمر يرجع إليه.

الإشكالية الرابعة والأخيرة التي أريد أن أتعرض لها: حرية الإعلام، وحرية النقد.

قد يطرح العلماني أن النظام الإسلامي لا يسمح للصحيفة المعارضة، لا يسمح للقناة المعارضة، لا يسمح للفكر الناقد المعارِض، ويعبّر عنه بصحف الضلال وكتب الضلال، ويستدل على حرمته بقوله تعالى: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، أو بقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إلى آخر الآيات القرآنية والأحاديث الواردة.

نحن نقول: المجال مفتوحٌ إذا أعطي الفكر الإسلامي حقَّه في مجال الإعلام، إذا أعطي المجال الإعلامي للفكر الإسلامي أن يطرح نظرياتِه وأدلته وبراهينه، بحيث يتبين الإسلام من غيره، حينئذ يمكن لأي صحف ولأي إعلام مضاد أن ينقد الفكر الإسلامي، وهذا ما دلت عليه الآية المباركة: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، حينما يتبين الإسلام من خلال إعطائه فرصة إعلامية كافية، لا مانع حينئذ من طرح الفكر الآخر، ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ. إذن، هذه أوجه المقاطعة بين النظام الإسلامي والنظام العلماني.

المقدم: البعض يقول: أصلًا مسألة العلمانية مسألة أوروبية، وموضوع أوروبي محض، انطلاق إبّان الثورة الفرنسية، وكان له دعاته، ك «جون لوك»، هم الذين أسّسوا لهذه الثورة، وبالتالي هي مشكلة أوروبية فرنسية، لا داعي للحديث عنها، ولا داعي للخوض في غمارها، ولكن البعض يتخوّف من أن تسري هذه العلمانية كنظرية إلى الأوساط الدينية، فهل لهذا الخوف مبرر؟ هل يمكن أن يتطور الفكر العلماني إلى الأوساط الدينية والإسلامية؟

سماحة السيد: أنا أقول: لا داعي لهذا الخوف أصلًا، فلنفترض أن العلمانية جذورها أوروبية، بالنتيجة إذا كنا موضوعيين علينا أن نحاسب ونطارح الفكر بما هو فكر، مع غض النظر عن منشئه وجذوره، هذا الفكر بما هو فكر هل هو فكر صالح لمجتمعاتنا الإسلامية أم لا؟ هل هو بديلٌ عن النظام الإسلامي أم لا؟ أم أنه جذوره ما هي؟ مناشئه ما هي؟ هذا ليس شيئًا مهمًا في هذا المجال.

وأما أن النظرية العلمانية يمكن أن تدخل، أقول: نعم، يمكن، لماذا؟ للإسلام هدفان: دولة الإسلام، ودولة الإنسان. دولة الإنسان هذا الهدف الأقصى الذي استدللنا عليه بالعقل والنقل، وطرحنا الآيات المتعلقة بإقامة دولة الإنسان، ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، هذه دولة الإسلام، ولكن في بعض المجتمعات لا يمكن إقامة دولة الإسلام، إذا كانت المجتمعات ذات أديان مختلفة، وذات أعراق مختلفة، فلا يمكن حكمها بنظام إسلامي؛ لأنه يعني إثارة بؤر وإثارة مناشئ للتوتر الاجتماعي.

مثلًا: العراق لا يمكن فيه إقامة دولة إسلامية، لا يمكن إقامة نظام إسلامي في العصر الحاضر في العراق، ما لم يجمع الشعب نفسه على النظام الإسلامي، ويختار النظام الإسلامي، أو في لبنان مثلًا. حيث لا يمكن أن نصل إلى الهدف الأقصى، ألا وهو هدف دولة الإسلام والنظام الإسلامي؛ لأن إقامته تكون منشأً لحدوث توترات اجتماعية مختلفة، إذن نلجأ إلى الهدف الأدنى، ألا وهو إقامة دولة الإنسان، الدولة التي تحترم الإنسان، الدولة التي تحافظ على كرامة الإنسان، وهذا ما نادى به القرآن الكريم.

المقدم: هم يقولون أن الدولة التي تحترم الإنسان هي الدولة الديمقراطية، والدولة الديمقراطية لا يمكن إقامتها مع وجود الدين، العلمانية تساوي عدم الدين، وبالتالي الديمقراطية تنسجم مع العلمانية.

سماحة السيد: نعم، سنتعرض لهذا. أقول: دولة الإنسان هدفٌ طرحه القرآن الكريم كما طرح هدف دولة الإسلام، فمثلًا: القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، كرمنا بني آدم يعني أعطينا الكرامة للإنسان بما هو إنسان، كرامة تكوينية وكرامة تشريعية، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، التعارف من ملامح دولة الإنسان. دولة الإنسان التي تحترم حقوق الإنسان، وتحترم كرامة الإنسان، هذه الدولة هي التي تعرّض لها الإمام أمير المؤمنين في عهده لمالك الأشتر، حيث قال: ”ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا؛ فإن الناس صنفان: إما أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق“.

إذن، هنا تلتقي العلمانية والإسلام، في الهدف الثاني، عندما لا يمكن إقامة الهدف الأول ألا وهو إقامة دولة الإسلام، فنحن نتفق على الهدف الثاني، ألا وهو إقامة دولة الإنسان، الدولة التي تحترم الحقوق وتحترم الكرامات.

المقدم: الإسلام له مشروع، العلمانية لها مشروعها، والمسلم يعيش حالة من التشظي والانقسام وحالة من الازدواجية، فهل يمكن رفع هذه الحالة؟

سماحة السيد: نحن نركّز على عدة قضايا نعتقد أنه من خلالها يمكن التوفيق في الجهاز الإداري بين بعض معالم النظام الإسلامي وبعض معالم النظام العلماني، ونتيجة هذا التوفيق يمكن أن تتشكّل ما نسمّيه بدولة الإنسان.

القضية الأولى: قضية الانتخاب.

من المفارقات والتناقضات التي يطرحها الفكر العلماني: أن الميزان والمقياس هو صندوق الاقتراع، ولكن لو انتخب الشعب الإسلام فهو غير مقبول! كيف يجتمعان؟! مقتضى النظام الديمقراطي، ومقتضى أن الأساس في السلطة التنفيذية والتشريعية صندوق الاقتراع، أنه لو أدّى وأفرز صندوق الاقتراع النظام الإسلامي، بمعنى أن الشعب صوّت بأغلبية على النظام الإسلامي، أو صوّت بالأغلبية على حزب إسلامي أن يتولى السلطة التنفيذية، أو صوّت بالأغلبية على برلمان إسلامي، حينئذ بناء على أن الميزان هو صندوق الاقتراع علينا أن نقبل بالإسلام؛ لأنه وصل عبر الشعب، ووصل عبر صندوق الاقتراع.

لكن التناقض الذي يستبطنه النظام العلماني هو هذه النقطة: أن صندوق الاقتراع ميزانٌ يؤخذ به ما لم يفرز فكرًا شموليًا، كالإسلام، هو يؤخذ به إلا أن يفرز فكرًا شموليًا فلا يؤخذ به، لماذا؟ لأن الإسلام له مثلًا قانون في الأحوال الشخصية يتعارض مع القيم العلمانية، من القيم العلمانية مساواة الرجل والمرأة، بينما الإسلام يجعل العصمة بيد الرجل، يعطي الرجل في الميراث سهمًا من سهم المرأة، يرى دية الرجل عندما يُقْتَل ضعف دية المرأة عندما تُقْتَل.

إذن، قانون الأحوال الشخصية لدى الإسلام قانونٌ يصطدم مع القيم العلمانية، ويصطدم مع قيمة المساواة والمكافأة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وبالتالي حتى لو أفرز صندوق الاقتراع نظامًا إسلاميًا، وصوّت أغلبية الشعب على النظام الإسلامي أو البرلمان الإسلامي، فإنه لا يؤخذ بهذه النتيجة، وهذا تناقضٌ يختزله ويستبطنه النظام العلماني، وبالتالي لحل هذا التناقض حتى تتشكّل دولة الإنسان التي تحترم كل الحقوق، وتحترم كل الديانات، وتحترم الأنظمة، لا بد أن نقبل بنتيجة صندوق الاقتراع، حتى إذا أدى إلى إفراز النظام الإسلامي أو البرلمان، فصندوق الاقتراع هو الحاكم.

القضية الثانية: مشكلة المنظومة الأخلاقية.

ذكرنا في الحلقة السابقة أن هناك قيمًا إنسانيةً، كقيمة العدالة، كقيمة الصدق، كقيمة الأمانة، وقيمًا إدارية: روح المبادرة، تنظيم الأولويات، استغلال الوقت، وأمثال ذلك. هذه القيم الإنسانية لا يطرحها النظام العلماني إلزامًا، إنما يطرحها كمالًا، بينما النظام الإسلامي يطرحها إلزامًا، أي أن من بنود النظام الإسلامي ومن فلسفة النظام الإسلامي التركيز على منظومة القيم الإنسانية والخلقية، فالإسلام كما شرّع نظامًا جزائيًا، كما شرّع نظامًا اقتصاديًا، شرّع نظامًا تربويًا، وألزم بتطبيق هذا النظام التربوي، وألزم بالعمل به، بينما النظام العلماني لم يلزم بالقيم، يعتبرها قيمًا جميلة، لكنه لا يلزم به، وهذه نقطة تناقض أخرى في النظام العلماني.

ما نراه من المآسي والجرائم الكثيرة - جرائم الاعتداء والظلم - في المجتمعات الأوروربية والمجتمع الأمريكي بشكل خاص، كله ناشئ عن كون القيم الإنسانية مجرد منظومة جمالية، وليست منظومة إلزامية كما يطرحها النظام الإسلامي. إذن، نحن نقبل بدولة الإنسان عندما تتبنى القيم الإنسانية كمنظومة إلزامية يُرَكَّز عليها من خلال وسائل الإعلام والمقررات المدرسية، ويحاسَب عليها الموظف، ويحاسَب عليها رجل الدولة، يحاسَب على المنظومة الخلقية كما يحاسَب على الالتزام بالقوانين الأخرى.

القضية الثالثة: قضية الانغلاق والانفتاح.

النظام الإسلامي متّهمٌ بأنه نظامٌ شموليٌ، يحتكر الحقيقة، ويلغي الفكر الآخر، وبالتالي لا يسمح لأي فكر آخر لأي حزب آخر أن ينشط من خلال المجتمع الإسلامي، وهذا ليس صحيحًا أبدًا، هذا الأمر ليس صحيحًا. نحن عندما ننظر إلى الآيات القرآنية المختلفة، الآيات القرآنية احترمت الأديان الأخرى في ظل النظام الإسلامي، مثلًا: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، تحترم الصابئة والنصارى واليهود إذا احترموا دينهم.

الآية القرآنية تقول: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ، من ناحية إقامة العلاقات مع أهل الأديان وأهل التيارات المختلفة، الإسلام والقرآن الكريم يركّز على عدم المانع من إقامة هذه العلاقات الودية.

المقدم: ولكن هؤلاء - النصارى، اليهود، الأحبار - يعتبرهم الإسلام من أهل الذمة، وليسوا جزءًا من الأمة، الإسلام له حدود مع الآخر، فكيف تقولون أن الإسلام انفتح على الآخر؟

سماحة السيد: نحن لا نتكلم عن النظام الإسلامي، نحن الآن في نظام توفيقي نسمّيه بدولة الإنسان، نحن نقول: المجتمع الإسلامي يتقبل الأديان الأخرى، ويتقبّل الأفكار الأخرى، أما إذا أقيم نظامٌ إسلاميٌ فكيف يتعامل مع الأديان الأخرى؟ هذه مسألة أخرى، يتعامل معهم بالذمة، بشرائط الذمة، أو بشرائط أخرى. أما المجتمع الإسلامي فهو أقيم على أساس احترام الأديان الأخرى، الإمام أمير المؤمنين مرَّ مع أصحابه على كنيسة، فقال بعض أصحابه: هذا مكانٌ طالما عُصِي فيه الله! قال: مه! قل: هذا مكان طالما عُبِد فيه الله. ثم استدل بالآية القرآنية: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ.

المقدم: سماحة السيد، عذرًا على المقاطعة؛ بقي من الوقت قليل. بعض العلمانيين يحاولون الآن إقصاء الدين، ويحاولون تهميش الدين، بل انتقل الموضوع إلى اضطهاد الدين ومحاربته، وليس النداء بالعلمانية فقط، مقابل هذا ما هي أدوات التحصين الفكري الذي تبنته المؤسسات الدينية والإسلامية ضد هذا التيار؟

سماحة السيد: ليست المسألة مسألة عداوة، وليست المسألة مسألة مشاحنة بين التيار العلماني والإسلامي، أنا أقول...

المقدم: كيف لا تكون عداوة؟! البعض من العلمانيين نادى باضطهاد الدين، ومنع المراسيم الدينية، وإقصاء التعليم الديني، ومحاربة الدين بشتى وسائله، فكيف لا تكون عداوة؟!

سماحة السيد: هذا ليس طرحًا علمانيًا، وإنما هذا تطرفٌ في العلمانية، وليس طرحًا علمانيًا بحسب المبادئ للفكر العلماني. نحن نقول: أولًا: أول أداة وأول وسيلة لتحصين الأمة أمام التطرف العلماني، أو أمام الفكر العلماني الذي يلغي الدين، هو سلوك المتدينين. نحن نستدل على نقاء ديننا بسلوكنا، إذا رأى الآخرون أن سلوك المتدينين لا يلتقي مع مبادئ الدين، ولا يلتقي مع مبادئ الإسلام، فسوف تكون ثغرةً واضحةً للعبور إلى فكر الأمة، وإلى المجتمع الإسلامي، سلوك المتدينين، عندما يتبنى المتدينون القيم الإسلامية، والقيم الإنسانية، ولا يُرَى بنظر المجتمع أنهم متهالكون على السلطة، أو أنهم متهالكون على المناصب، أو أنهم متنافسون على الدنيا والأموال، عندما يُرَى سلوك المتدينين سلوكًا نقيًا فهذه أعظم رسالة تجذب الأمة إلى حظيرة القيم الإسلامية وحظيرة الفكر الإسلامي، وأن المجتمع سينادي يومًا وسيصوّت يومًا بأغلبية ساحقة على قبول الإسلام وعلى الفكر الإسلامي.

ثانيًا: سد الفراغات. نحن ما زلنا نعيش فراغات، فمثلًا: المطارحات الفكرية التي قام بها السيد الشهيد السيد الصدر، والتي قام بها الشيخ الشهيد الشيخ مرتضى المطهري «قدس سرهما»، هذا المشروع توقف الآن، الآن انشغلت المنظمات الإسلامية والمثقفون المسلمون، انشغلوا بالقضايا السياسية، وتركوا مشروع المطارحة الفكرية مع الفكر الآخر، نحن نحتاج إلى أن نستمر على ذلك المشروع، الإسلام لا يبقى لزخم جماهيري فقط، الإسلام كما يحتاج إلى زخم جماهيري يحتاج إلى مطارحات فكرية معمّقة ومركّزة، نحتاج إلى مواصلة مشروع السيد الصدر ومشروع الشيخ المطهري، أن تكون عندنا مطارحات فكرية على مستوى علم النفس، على مستوى علم الاجتماع، على مستوى علم القانون، كي يتبين الفكر العلماني مدى أصالة الفكر الإسلامي في مختلف الحقول الفكرية المختلفة، وهذا مشروع توقف مع الأسف، المسلمون انشغلوا عن هذا المشروع بأمور أخرى، بينما هو رصيد أساس لنفوذ الفكر الإسلامي، وتحصين الأمة عن أي فكر آخر.

الأداة الثالثة: الوسائل الإعلامية.

نحن عندما نراجع قنواتنا الإسلامية، نحن عندما نراجع الوسائل الإعلامية المختلفة التي نملكها نحن المسلمين، ما زلنا نركز على طرح الإسلام طرحًا عاطفيًا، يعتمد الأساليب العاطفية، ما زلنا نمتلك على طرح الفكر الإسلامي طرحًا ركيكًا، يعتمد على الأفكار الاجترارية والمكرّرة، والحال أنه لا بد أن نستغل هذه الوسائل الإعلامية التي بأيدينا في طرح المادة الإسلامية طرحًا معمّقًا ومركّزًا، كي يكون أداةً واضحةً لتحصين المجتمع الإسلامي من أي فكر متطرف يحاول أن يلغي الدين ويقصيه.

المقدم: ألا تعتبر قراءة التراث وتنقيته من الخرافات عاملًا مهمًا في عملية توطيد عرى المسلمين وتوحيدهم ضد التيارات الأخرى؟

سماحة السيد: طبعًا قراءة التراث الإسلامي قراءة تنسجم مع المبادئ العامة للإسلام، وتنسجم مع الأحكام العقلية الفطرية، هذه القراءة يجب أن يقوم بها الخبيرون بها، والقادرون عليها، وبالتالي فهي جزءٌ من مشروع المطارحات الفكرية التي تحدثنا عنها.

المقدم: سماحة السيد، أنا في ختام هذا اللقاء أشكرك جزيل الشكر على حضورك معنا، والشكر موصول لكم - أنتم مشاهدينا الأكارم - على حسن المتابعة، وهذه تحيات أسرة البرنامج.