الدرس 133

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

وصل الكلام إلى أنّ المكلّف إذا التفت إلى النّجاسة أثناء الصلاة، فهل يمكن تصحيح صلاته من خلال النّصوص الواردة في منْ صلّى في النّجاسة عن جهلٍ أم لا؟ والمسألة لها صور: الصورة الأولى: إذا التفت إلى النّجاسة وهو يحتمل أنّها نجاسة عارضة، كما إذا رأى دمًا في ثوبه وهو يحتمل أن الدّم خرج الآن وليس سابقًا، ففي مثل هذه الصورة هل يمكن أن يُحكم بصحة صلاته؟ فيقال له: طهّر الثوب أو أبدله وامضِ في صلاتك. الصورة الثانية: أن يعلم بطُرُوِّ النّجاسة مع الأجزاء السابقة، كما إذا رأى الدم يابسًا وليس رطبًا، ونتيجةً لذلك عَلم بأنّه موجودٌ مع الأجزاء السابقة أيضًا، فهل يمكن تصحيح صلاته بتطهير الثوب أو إبداله والمضيّ في الصلاة؟ الصورة الثالثة: أن يكتشف أن هذه النّجاسة سابقة على الشّروع في الصلاة. والكلام هو الكلام في إمكان التّصحيح وعدم. وبعد عرض هذه الصّور الثّلاث، قد يُقال: إنّ لدينا مطلَقات، ومقتضى هذه المطلقات أنّ من التفت للنجاسة أثناء الصلاة فصلاته فاسدة، أي أنّ المصحح للصلاة أن لا يعلم بالنّجاسة حتّى يفرغ منها، فمتى التفت إليها ولو في جزء من الأجزاء فإنّها فاسدة، وهذه المطلقات هي ما تعرّض له سيدنا الخوئي «قده» ص 333 من الجزء الثالث من موسوعته في «كتاب الطهارة»، عدة روايات، منها «صحيحة محمد بن مسلم، في الرجل يرى في ثوب أخيه دمًا وهو يصلّي، قال: لا يُؤذِنُه حتّى ينصرف - أي حتّى يفرغ من صلاته -» باب 40 من أبواب النجاسات، حديث 1. بدعوى أنّ ظاهره أنّه لو آذنه - أخبره - وهو في الصلاة لكانت صلاته فاسدة. الرواية الأخرى: «صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله قال: إنّه ذكر المني فشدّده، فجعله أشدّ من البول، ثم قال: إن رأيت المني قبل أو بعدما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، وإن نظرت في ثوبك فلم تصبْه ثم صلّيت فيه ثم رأيته بعد - بعد الصلاة -، فلا إعادة عليك، وكذلك البول»، فإنّ ظاهره أنّ رؤية المني في أثناء الصلاة مبطلٌ، وإن لم يعلم بطُروّه قبل الدخول في الصلاة. الرواية الثالثة أيضًا من المطلَقات: «ما عن أبي بصير في رجل صلّى في ثوبٍ فيه جنابة ركعتين، ثم عَلم به، قال: عليه أن يبتدئ الصلاة - يستأنفها -». وهذه الرواية أخصُّ ممّا مضى، لأنّ موردها من كانت النّجاسة في ثوبه منذ شروعه في الصلاة، إلا أنّها دالّة على أنّ العلم بالنجاسة لمن كانت نجاسته موجودةً من حين الشروع مُبْطل، سواء أحرز أنها من البداية أم لم يُحرِز، فمتى ما علم بها أثناء الصلاة كانت صلاته فاسدة. فهل نبقى على هذه المطلقات الدالّة على أنّ مجرّد العلم بالنّجاسة أثناء الصلاة مُبْطل، أم أنّ هناك ما يوجب الخروج عن هذه المطلقات، لذلك لا بدّ من بحث الصور الثلاث، كل صورة على حِدة. فنأتي إلى الصورة الأولى، وهي ما إذا رأى النّجاسة واحتمل أنّها آنيّة، كما إذا رأى الدم رطبًا واحتمل أنّه حدث الآن ولم يحدث قبل ذلك، فهنا ذهب المشهور إلى صحّة صلاته، ببركة عدّة روايات، منها: ما ورد من الروايات في من رعف أنفه، من هذه الروايات: حديث 2، الباب الثاني من أبواب قواطع الصلاة: «موثّق بُكير بن أعين أنّ أبا جعفرٍ رأى رجلًا رَعَفَ وهو في الصلاة، وأدخل يده في أنفه، فأخرج دمًا، فأشار إليه بيده: افركه بيدك وصلِّ». وأيضًا صحيح محمد بن مسلم، حديث 4، من نفس هذا الباب: «سألت أبا جعفر عن الرجل يأخُذُه الرّعاف والقيء في الصلاة، قال: ينفتئ، فيغسل أنفه ويعود في صلاته، وإنْ تكلَّم فليُعِدْ صلاته، وليس عليه وضوء». وضوؤه صحيح، صلاته صحيحة ما لم يتكلّم عمدًا. وأيضًا صحيحة الحلبي، حديث 6 من نفس الباب: عن أبي عبد الله قال: سألته عن الرجل يصيبه الرُّعاف وهو في الصلاة، قال: إن قدر على ماء عنده يمينًا أو شمالًا، أو كان بين يديه وهو مستقبل القبلة، فليغسلْه عنه ثم ليصلِّ ما بقي من صلاته، وإنْ لم يقدر على ماءٍ حتّى ينصرف بوجهه - أي حتّى يستدبر أو يتكلم - فقد قطع صلاته. فظاهر هذه الروايات أنّ الالتفات للنّجاسة أثناء الصلاة، مع احتمال أنّها نجاسة طارئة فعلًا، لا يُبطل صلاته، واحتمال خصوصيّة الرُّعاف غير عُرْفيّ، كما أنّ احتمال أنّ ما لم يتكلّم ما لم يستدبر لهما خصوصية، بحيث أنّه لو لم يتكلّم ولم يستدبر ولكن أحدث مُبطلًا آخر، فإنّ هذا الاحتمال أيضًا غير عرفيّ، والنتيجة أن المستفاد عرفًا أنّ من التفت إلى النجاسة أثناء الصلاة، واحتمل طروّها، ولم يرتكب مبطلًا، فإنّ صلاته صحيحة. ولا يبعد الإطلاق في بعضها، كما في قوله «الرجل يصيبه الرُّعاف»، أو «سألته عن الرُّعاف أينقض الوضوء أم لا؟»، أو كما ورد «لا يقطع الصلاة الرُّعاف ولا الدم» وأمثال ذلك من الروايات. وقد يُستدَلُّ على المسألة في هذه الصورة، أي من رأى النجاسة وهو يحتمل طُروَّها، بصحيحة زرارة، حيث قال فيها: «وإن لم تشكّ، ثم رأيتَه رطبًا، قطعت الصلاة وغسلته، ثم بنيتَ على الصلاة، لأنّك لا تدري لعلّه شيءٌ أُوقع عليك، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا». وظاهرُ التّعليل نظر الرواية لفرض الاحتمال، أي أنَّه عَلم بالنّجاسة ويحتمل أنّها سابقة، فقال الإمام ما دُمْتَ لا تعلم بسبْق النّجاسة وتحتمل أنّها طرأت الآن، فصلاتك صحيحة «لأنّك لا تدري لعلّه شيءٌ أُوقع عليك، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا». وقد أفاد سيدنا «قده» بأنّ هذه الرواية كالصريحة، في أنّ طروّ النّجاسة أثناء الصلاة غير موجب لبُطلانها، بلا فرقٍ في ذلك بين العلم بحدوثها أثناء الصلاة، وبين الشكِّ في ذلك، فإنّ مقتضى الصحيحة أنّ الطهارة المعتبرة في الصلاة أعمُّ منَ الطهارة الواقعيّة والظاهريّة، لأنّه قال «لعلّه شيءٌ أُوقع عليك»، وهذا يعني استصحاب الطهارة إلى حين رؤية الدّم، أي تحقيق الطهارة الظاهرية. فإذا احتمل طروَّها قبل الصلاة، فله أن يستصحب عدم حدوث النّجاسة إلى حين الالتفات، وبه تُحرَز الطّهارة الظّاهرية الّتي هي شرطُ صحّة الصلاة. فما ذهب إليه المشهور في هذه الصّورة - وهي صورة من رأى النجاسة واحتمل طروّها - من صحّة الصلاة هو الصحيح. فما ذكره سيدنا «قده» متين. أما بالنّسبة إلى الصورة الثالثة، وهي ما إذا علم بالنّجاسة في أثناء الصلاة، مع العلم بطروّها قبل الصلاة، أي وجد نجاسةً يابسة وأحرز أنّها قبل الصلاة، وهنا أيضًا ذهب المشهور إلى صحّة صلاته، فقالوا: يزيل النّجاسة إمّا بالتّطهير أو بالإبدال، وصلاته صحيحة. وقد استُدِلَّ على ذلك بوجوه: الوجه الأول: دعوى الأولويّة القطعيّة، ببيان: أنّ من صلّى بالنّجاسة ولم يعلم بها حتّى فرغ من صلاته فإنّ صلاته صحيحة، للنّصوص السابقة التي ذكرناها في الدرس السابق، فمن باب أوْلى من علم بالنّجاسة أثناء الصلاة، لأنّه إذا كان وقوع النجاسة في جميع أجزاء الصلاة غير ضائر مع الجهل، فمن بابٍ أولى وقوع بعضها مع النجاسة غير ضائر. وقد يُستدَلّ على ذلك بفحوى الأخبار الواردة في صحّة الصلاة الواقعة مع النجاسة المجهولة، لأنّ الصلاة الواقعة في النجس بتمامها إذا كانت صحيحة، فالصلاةُ الواقعة في النجس ببعضها صحيحة بالأولويّة القطعيّة، إذ الأجزاء السابقة وقعت مع النجاسة جهلًا، والأجزاء اللاحقة وقعت مع الطهارة - لأنّ المفروض أنّه طهّر -، والآنُ الّذي رأى فيه النّجاسة غير ضائرٍ بمقتضى الروايات الّتي ذكرناها الآن، وهي أنّ العلم بالنّجاسة أثناء الصلاة غير مُبطل، إذًا فالنّتيجة هي صحّة صلاته بالأولويّة. وبذلك يظهر الحال في الصورة الثانية، أي من عَلم بالنّجاسة وعَلم أنّها كانت مع بعض الأجزاء السابقة، وإن لم يعلم بطروّها قبل الصلاة، فإنّ هذا أيضًا فيه أنّه: إذا صحّت الصلاة بتمامها مع النّجاسة جهلًا صحّت مع بعضها من بابٍ أوْلى. وقد يُقال كما ذكر الشيخ عبد الله المامقاني أنّ مُقتضى صحيحة زرارة السابقة، حيث قال «لأنّك لا تدري لعلّه شيءٌ أُوقع عليك» أنّ من عَلم بأنّه لم يُوقع عليه، وإنّما النّجاسة سابقة على الصلاة، أو أنّها سابقةٌ مع بعض الأجزاء، فإنّ صلاته فاسدة. أي مقتضى مفهوم التعليل «لأنّك لا تدري لعلّه شيءٌ أُوقع عليك» أنّك لو دريَت أنّه لم يُوقع عليك لأنّه نجاسة سابقة فإنّ صلاتك فاسدة. حيث قال «لأنّك لا تدري لعلّه شيءٌ أُوقع عليك»، فإنّه يدلّ على أنّ الصلاة إنّما يُحكَم بصحّتها مع رؤية النّجس إذا احتمل طروَّ النجاسة، وأمّا مع العلم بسَبْقها فلا.

والحمد لله رب العالمين