عيد الفطر المبارك 1430هـ

تحرير المحاضرات

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين. أعزائي المشاهدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أسعد الله أيامكم، وجعلها مغفورةً بالأمن والطمأنينة والسلام، وكل عام وأنتم بألف وخير، وأهلًا بكم وأنتم تتابعوننا من على شاشة قناة الفرات الفضائية، ونحن نستضيف سماحة السيد منير الخباز، الأستاذ في الحوزة العلمية. سادتي المشاهدين، بعد هذه الرحلة الاستثنائية المختلفة كمًا ونوعًا، نحتاج أن نقف قليلًا عند محطاتٍ نقرأ من خلالها ما كان ينبغي علينا تحقيقه في رحلة الصوم، وما ينبغي علينا الالتفات له، فما هي فلسفة العيد في الإسلام؟ وما هي الأبعاد التربوية والمعنوية التي يحققها العيد؟ ما هي أهم الأمور الفقهية التي ترتبط بيوم الدين؟ هذه المسألة وغيرها نود الوقوف عندها برفقة سماحة السيد منير الخباز. ما هي فلسفة العيد في الإسلام؟

سماحة السيد: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين. نهنئ جميع المسلمين بهذا اليوم المبارك، ونسأل الله أن يتقبل أعمالهم وصيامهم وقيامهم، إنه سميع الدعاء قريب مجيب. العيد يلبي حاجتين فطريتين لدى الإنسان:

الحاجة الأولى: حاجة الإنسان إلى التجديد.

إن روح الإنسان طُبِعَت على نزعة التغيير والتجديد، فهي تسأم وتمل من الروتين الذي يكون على نسق واحد، وهذا كما ينعكس في عالم التكوين ينعكس في عالم التشريع، فنلاحظ أن الله تبارك وتعالى في عالم التكوين جعل فصولًا أربعة طول السنة، لأجل أن تتجدد روح الإنسان، فإن تغيّر الفصول على الإنسان يبعث في الإنسان القوة والنشاط، وتستعيد الروح حيويتها ونشاطها وإقبالها.

كذلك في عالم التشريع، أراد الله تبارك وتعالى أن يجعل العبادات بشكل متجدد متغير، كي لا يكون الإنسان في حالة سأم أو ملل من ممارسة النهج العبادي، فنلاحظ أن ليوم الجمعة مراسم خاصة تختلف عن أيام الأسبوع، ولشهر رمضان مراسم خاصة، ولليلة القدر مراسم خاصة، كل ذلك لأجل أن تتفاعل روح الإنسان مع العبادة تفاعلًا جديدًا، بألا يكون النهج الروتيني للعبادة نهجًا واحدًا، وعلى نسق واحد. ولذلك ورد عن النبي محمد : ”للقلوب إقبالٌ وإدبارٌ، فإذا أقبلت فاحملوها على الفرائض والنوافل، وإذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض“، كل ذلك يرشدنا إلى أن الإسلام عالج حالة نزعة التجديد والتغيير في باطن الروح الإنسانية، فمن هنا جعل بعد الصيام يوم عيد، وجعل بعد الحج بأعماله المنهكة يوم عيد، كل ذلك لأجل أن يتفاعل الإنسان مع العبادة تفاعلًا متجددًا ومستمرًا.

الحاجة الأخرى: حاجة الإنسان إلى الألفة.

علماء الاجتماع يقولون أن السر والحاجة الأساسية التي من أجلها انبثق المجتمع هي حاجة الإنسان إلى الاستخدام، فلأجل أن يستخدم الإنسان الآخرين من أجل قضاء حوائجه، وأن يستخدمه الآخرون، بحيث يكون مستخدِمًا ومستخدَمًا انبثقت بذرة المجتمع، لكن الإسلام من خلال النصوص الشريفة يؤكد على حاجة فطرية أخرى، وهي أن الإنسان يحتاج إلى المجتمع لا لأجل مسألة الاستخدام فقط، بل لأجل حاجته الفطرية إلى الألفة، فالإنسان يحتاج أن يألف وأن يؤلف، كما ورد عن النبي محمد : ”أفاضلكم أحاسنكم أخلاقًا، الموطّؤون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون“، فالإنسان محتاج بفطرته إلى أن يألف ويؤلف، هذه الحاجة رسّخها الإسلام وغذّاها بعدة طقوس وبعدة ممارسات.

مثلًا: منها وليمة الزفاف، أن الإنسان يدعو في زفافه المؤمنين، وأن يولم لهم وليمة لتأكيد روح الألفة، مثلًا العقيقة، يستحب إذا وُلِد له ولد أن يعق عنه بكبش، وأن يدعو المؤمنين على العقيقة، لتأكيد روح الألفة، أيضًا يوم العيد بما يشتمل عليه من مراسم هو يوم جعله الإسلام لتأكيد الروح الاجتماعية وتغذيتها، ألا وهي النزعة للألفة، أن يألف وأن يؤلف.

المقدم: نحن نعلم أن عيد الفطر المبارك يأتي بعد موسم عبادي مكثف، وهو موسم شهر رمضان المبارك، فكيف تقرؤون ذلك؟ وما هو وجه الحكمة فيه؟

سماحة السيد: المرجع هنا للآية المباركة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، والمقصود بهذه الآية أن الإنسان لما كانت حقيقته حقيقة المملوكية، بمعنى أنه مملوك صرف لله تبارك وتعالى، فمقتضى مملوكيته أن يكون الهدف من وجوده إظهار هذه المملوكية، أن يظهر أنه مملوك وعبدٌ قنٌّ لله، وإظهار هذه المملوكية لا ينحصر بالصلاة، ولا بالصوم، بل لا بد أن يمتد إلى سائر حركات الإنسان، فصلاته لله، وحسن خلقه لله، وصلته للرحم لله، والكسب الحلال لله، كل هذا عبادة، كل ما يمارسه الإنسان في يومه فهو عبادة، كله إظهار وإبراز لمملوكيته وعبوديته لله تبارك وتعالى.

إذن، بما أن الآية تدل على أن الهدف من إيجاد الإنسان صياغة الإنسان صياغةً عباديةً، بمعنى أن تكون العبادة متجليةً فيه في كل حركاته، في كل سكناته، بأن يكون حبه لله، كما ورد في الروايات، بغضه لله، كما ورد في الروايات، فرحه لله، حزنه لله، علاقاته لله، قطع علاقاته لله، مصوغ صياغة عبادية كاملة، من هذا المنطلق - أي: من أجل تحقيق الهدف القرآني، وهو صياغة الإنسان صياغة عبادية - أراد الله تبارك وتعالى بعد هذا الموسم العبادي المكثف في شهر رمضان وفي أيام الحج، أن يأتي يومٌ عباديٌ آخر يعلن فيه الإنسان فرحه، أنه أنهى البرنامج العبادي بدقة وإتقان، فيكون فرحه لله، ففرحه لا لأجل الزينة التي يتزين بها، ولا لأجل الثوب الجديد الذي يلبسه، ولا لأجل أنه يشارك المجتمع في مراسيم العيد الاجتماعية، وإنما فرحه لأنه أكمل البرنامج العبادي بإتقان ودقة، ففرحه لله.

إذن، يوم العيد هو مظهر من مظاهر إبراز المملوكية لله، بأن تكون الفرحة لله تبارك وتعالى، وهذا هو المنسجم مع كونه يومًا ختاميًا لبرنامج عبادي مكثف. ومن هذا المنطلق، ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين أنه قال في حق يوم العيد: ”إنما هو عيدٌ لمن قبل الله صيامَه، وشكر قيامَه، وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيدٌ“، هذه إشارة إلى أن اللذة - كما يقول علماء العرفان - هناك لذة حسية، كلذة الإنسان بالطعام اللذيذ، أو لذة الإنسان بالجنس، وهناك لذة عقلية، اللذة العقلية أعظم من اللذة الحسية، اللذة الحسية يشترك فيها الإنسان والحيوان، فلا ميزة للإنسان في اللذة الحسية على الحيوان، إنما يمتاز الإنسان على الحيوان باللذة العقلية.

واللذة العقلية لها موطنان: موطن التعلم، كلما اكتشف الإنسان العلومات حصل على لذة عقلية، والموطن الآخر: في انتصار الإرادة، إذا شعر الإنسان أن إرادته حديدية، وأنه انتصر على شهواته وغرائزه ونزعاته الشيطانية، فشعوره بانتصار الإرادة يعطيه لذةً لا تقارن بها اللذة الحسية. من هنا قال الإمام أمير المؤمنين : ”وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد“ لأنه يوم انتصار اللذة، وهو يوم إظهار اللذة العقلية، من هنا نفهم جعل يوم العيد ختامًا لمراسيم عبادية مكثفة.

المقدم: ما هي الأبعاد التربوية والمعنوية والاجتماعية التي يحقّقها العيد؟

سماحة السيد: العيد تتمركز نظرة الإسلام له في العنصر الاجتماعي، وفي البعد الاجتماعي، غاية ما في الأمر أن هذا البعد الاجتماعي له مجالات مختلفة: المجال الأول هو المجال الحقوقي، مجال التكافل الاجتماعي، والمجال الثاني: مجال العبادة الاجتماعية، والمجال الثالث: مجال تهذيب الخلق، وتهذيب الروح.

المجال الأول: المجال الحقوقي.

من المعروف أن من المراسيم المطلوبة يوم العيد إما طلبًا إلزاميًا كما في عيد الفطر هو زكاة الفطرة، أو طلبًا ندبيًا، كما في يوم عيد الأضحى، وهو الأضحية، ذبح الأضحية، زكاة الفطرة والأضحية عنوانٌ للتكافل الاجتماعي، فأراد الإسلام أن يستثمر هذا اليوم في أن يكون يومًا للتكافل الاجتماعي.

ومن الواضح أن نظرة الإسلام للتكافل الاجتماعي تختلف عن نظرة القوانين الوضعية، وتختلف عن نظرة الملل الأخرى، القوانين الوضعية أيضًا تنادي بالتكافل الاجتماعي، لكنها تنادي به على أساس التفضل والعطاء، يعتبرون من يتكفل بنفقة أيتام أو بنفقة فقراء، يعتبر في نظر القانون الوضعي إنسانًا متفضلًا، وإنسانًا خلوقًا، ولكن الإسلام لا يرى ذلك، يرى مبدأ التكافل الاجتماعي على أساس الشركة، أن الفقير مع الغني في أمواله، فالغني لا يملك تمام الأموال، بل الفقير شريك معه، القرآن الكريم: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وكما ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”إن الله أشرك الفقراء في أموال الأغنياء“.

إذن فبالنتيجة: هناك شركة، وبالتالي عندما يقوم من يدفع زكاة الفطرة، أو من يقوم بالتكافل الاجتماعي للفقراء والمحتاجين، فهو يسلِّم المال إلى شريكه، لا أنه متفضل، ولا أن هذا عطاء وتفضل ورحمة منه، بل هو واجبٌ إلزاميٌ؛ لأنه من باب تسليم حصةٍ من المال إلى من هو مالكه. لأجل ذلك، الإسلام من خلال نظرته إلى مبدأ الشراكة من جهة يربّي المتكفِّل على البذل والعطاء؛ لأنه يربيه على أساس أن هذا ملك لغيرك، عليك أن تسلمه له، ومن جهةٍ أخرى يرفع معنوية الإنسان الفقير، ويحسّسه بأنه يملك أموالًا في الثروات التي بيد الأغنياء، فهذا حقه وليس أمرًا تفضليًا عليه.

المجال الثاني: مجال العبادة الاجتماعية.

نلاحظ أن من مراسم يوم العيد صلاة العيد، وصلاة العيد كما تعلمون يستحب أن يؤتى بها جماعة، وأن يؤتى بها في الإصحار، بمعنى أن تكون تحت السماء، وأن يخرج إليها سائر الناس، خصوصًا الكبار والوجهاء منهم، هذا التأكيد على صلاة العيد جماعة، وعلى أن تكون تحت السماء، وعلى أن تكون بحضور وجهاء القوم، تأكيدٌ على مبدأ المساواة، فالقرآن والسنة تؤكد في صلاة العيد أن تكون صلاة العيد مظهرًا عباديًا واجتماعيًا، يتأكد فيه مبدأ المساواة بين أبناء المجتمع، فلا يشعر الفقير الذي لا يملك زينة يوم العيد بأنه أقل شأنًا من الغني؛ لأنه هو والغني في صلاة واحدة، وفي موقع واحد، وتحت السماء.

المجال الثالث: تهذيب الروح.

المجال الثالث من مجالات البعد الاجتماعي ليوم العيد: تهذيب الروح يوم العيد، وتهذيب الخلق يوم العيد، على الالتزام بالخلق الاجتماعي. ورد عن النبي محمد أنه قال: ”تخلّقوا بأخلاق الله، قيل: وما أخلاق الله؟ قال: الرحمة، فمن تخلّق بالرحمة فقد تخلّق بأخلاق الله“، الرحمة ماذا تعني؟ الرحمة تعني أن يكون الإنسان منفتحًا على الآخرين، مبرزات الانفتاح والتعبير الإنساني عن الانفتاح والرحمة من خلال ثلاثة عناصر: البسمة، والكلمة الطيبة، والمصافحة.

هذه الأمور الثلاثة يؤكد عليها الإسلام يوم العيد، يستحب للإنسان يوم العيد - كما في الأحاديث الشريفة - أن يبتسم، وأن يقول الكلمة الطيبة، وأن يصافح الآخرين، التأكيد على هذه التعبيرات المعينة لأنها تعبيرات مؤثرة في إزالة الأحقاد، وفي اجتثاث الضغائن من القلوب، وفي إزالة الاحتقان والتوتر من النفوس، حتى علماء النفس في المدرسة التحليلية يقولون: إذا التقى شخص بشخص فهما بين الألفة والفرقة، ولا يرفع التوتر إلا البسمة، البسمة طريقٌ لإزالة التوتر من نفسية الإنسان الذي تلتقيه لأول مرة وفي كل يوم.

لذلك، القرآن الكريم يقول: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا، والمصافحة: فقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام علي : ”إذا التقى المؤمنان فتصافحا وتعانقا غمرتهما الرحمة، وكُتِب بين إبهاميهما ألف حسنة“، إذن الكلمة الطيبة والبسمة والمصافحة تعبيرات لإشاعة الحب الإنساني، والوئام الإنساني بين أبناء المجتمع الواحد، أبرزها الإسلام وأكّدها يوم العيد؛ لتأكيد البُعْد الاجتماعي لهذا اليوم.

المقدم: ونحن نعيش في أجواء العيد، حيث التزاور والتآلف، لو بينتم الآثار المادية والمعنوية لصلة الأرحام، وخصوصًا في مثل مناسبة العيد.

سماحة السيد: يستحب يوم العيد صلة الأرحام، طبعًا ليس المقصود بالصلة هو مجرد الزيارة، أو مجرد السلام، المقصود: كل عمل لو لم يقم به الإنسان لعُدَّ قاطعًا لرحمه عرفًا، وذلك بالوقوف مع الرحم في أزماته المادية، في أزماته الإنسانية، بمشاركته في أفراحه وأحزانه، والقيام بأمره، هذه هي الصلة المطلوبة.

صلة الرحم أكّد عليها القرآن الكريم: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ، وقال تبارك وتعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، وورد عن النبي : ”إنَّ للرحم لسانًا طلقًا ذلقًا يوم القيامة، يقول: يا رب، صل من وصلني، واقطع من قطعني“. إذن، صلة الرحم لها أثران:

الأثر الأول: الانتماء الاجتماعي.

كل إنسان - كما يذكر علماء النفس - محتاج إلى الانتماء الاجتماعي، والحاجة إلى الانتماء الاجتماعي تكمن في حاجة الإنسان إلى الاعتزاز والاحتماء، كل إنسان يحتاج إلى أن يشعر بالعزة، لو لم يشعر بالعزة لأصابه الشعور بالنقص والضعف، والشعور بالنقص والضعف يؤدي إلى أن يكون الإنسان إنسانًا محبطًا في الصلاة، فالإنسان لكي يزيل الشعور بالإحباط والنقص، لا بد أن يغذّي نفسه بالشعور بالعزة، والشعور بالعزة إنما يحصل عليه من خلال الانتماء إلى العشيرة، من خلال الانتماء إلى الأرحام، من خلال الارتباط بهم.

وأيضًا الشعور بالاحتماء، يحتاج الإنسان إلى أن يشعر أن هناك من يحميه، وأن هناك من يستظل بظله، وأن هناك من يقيه من أي شرور اجتماعية، وهذا توفره صلة الرحم، فإن الارتباط بالعشيرة والتزاور معها وصلتها يؤكد للإنسان الانتماء الاجتماعي من خلال هذا البعد، وهو الشعور بالاحتماء.

الأثر الآخر: هناك آثار وضعية غيبية ملكوتية تترتب على صلة الرحم.

ورد عن النبي محمد : ”صلة الرحم تزكّي الأعمال“، الإنسان قد يذنب ذنوبًا ولا يلتفت إليها ولا يتوب منها، ولكن الأعمال الحسنة تزيل أثر الذنوب السيئة، ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، صلة الرحم تزكّي الأعمال، ”وتنمّي الأموال“ أي: تطرح للإنسان البركة في رزقه، ”وتعمر الديار“ بمعنى أن تكون الديار آمنة، ليست موطنًا لمصائب ولا لفجائع، ”وتطيل الأعمال“، إذن هذه آثار وضعية تترتب على صلة الرحم، مما يميّز أنها من المستحبات المهمة في يوم العيد، وإلا فهي واجب في حد نفسه؛ لأن قطيعة الرحم من الكبائر، كما ذكرنا الآية القرآنية التي ترشد إلى ذلك.

المقدم: ورد في الروايات أن يوم العيد هو يوم إعطاء الجوائز والهدايا للصائمين، ما طبيعة هذه الهدايا، وخصوصًا تلك الجوائز التي وردت في الأحاديث؟

سماحة السيد: القرآن الكريم يقسّم الرحمة الإلهية إلى قسمين: رحمة تفضلية، ورحمة استحقاقية. الرحمة التفضلية هي الرحمة التي أسبغها الله تبارك وتعالى على جميع المخلوقات، وهذا ما تشير إليه كلمة الرحمن، الرحمن تعني الرحمة العامة، التي تفضّل بها تعالى على جميع المخلوقات، وقال عنها تبارك وتعالى: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، وهناك رحمة استحقاقية، أي: بعد عمل، وبعد استعداد وجدارة، وهي الرحمة التي تعطى للمتقين، للعابدين، قال تبارك وتعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ هذه هي الرحمة التفضلية، ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ هذه هي الرحمة الاستحقاقية.

من مظاهر الرحمة الاستحقاقية ما يوزّعه الله ليلة القدر، فإنه ورد في أنه ليلة القدر تنزل الملائكة وتضيق الأرض بملائكة الرحمة التي تستغفر لكل عبد ما لم يكن مدمنًا على خمر أو عاقًّا لوالديه، فإن الملائكة تستغفر لكل مذنب في ليلة القدر، هذه من مظاهر الرحمة الاستحقاقية في ليلة القدر. ومن مظاهر الرحمة: الحج، فقد ورد في الحديث الشريف: من حج ورجع من حجه رجع كأنه يوم ولدته أمه، خلص من الذنوب ونقي منها. ومن مظاهر الرحمة الاستحقاقية: ما يتفضل به الله يوم العيد، فإن هذا الشخص الذي أتعب نفسه في صيام شهر رمضان، أو أتعب نفسه في أداء مناسك الحج، إذا جاء يوم الغدير صار إنسانًا جديرًا حقيقًا أهلًا لإفاضة نوع خاص من الرحمة عليه، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا.

المقدم: سماحة السيد، المحور الأخير هو تقريبًا يرتبط أو يتعلق بالجانب الفقهي فيما يرتبط بالعيد. ما هي الطرق الشرعية لثبوت الهلال؟

سماحة السيد: الطرق الشرعية لثبوت الهلال: العلم بدخول الشهر الشرعي إما عن طريق الرؤية أو عن طريق التواتر، أو الاطمئنان الحاصل من الشياع المستند إلى مناشئ عقلائية، أو عن طريق البيّنة، بمعنى شهادة العدلين، ويعتبر في البينة ألا تكون موطن ريبة، بمعنى: ليست كل شهادة عدلين مقبولةً في ثبوت الهلال، هناك ضابط: ألا تكون البينة موضع ريبة، فمثلًا: لو أن الفلكيين اتفقوا على استحالة الرؤية في هذه الليلة، وشهد عدلان بالرؤية، لا تُقْبَل شهادتهما؛ لأن شهادتهما حينئذ موضع ريبة، لعلهما اشتبها.

مثال آخر: لو فرضنا أن نسبة الرائين للمستهلين نسبة ضئيلة، يعتبر أن تكون نسبة الرائين للمستهلين على الأقل نسبة 10%، مثلًا: إذا خرج خمسون لرؤية الهلال، وكانوا متساوين في قوة النظر، وفي معرفة منازل الأهلة، وكان الجو والأفق واحدًا، فلو رآه من هؤلاء الخمسين خمسة، ولم يره خمسة وأربعون، فإن هذا يوجب الريبة في شهادة الخمسة، لأنهم مع تساوي الجميع في قوة النظر والمعرفة، وكون الأفق واحدًا بالنسبة للجميع، كيف رآه الخمسة دون البقية؟! على الأقل تكون هناك 10 مثلًا من الخمسين ممن رأى.

ولذلك ورد في الأحاديث الشريفة: إذا رآه واحدٌ رآه خمسون، وليس الهلال بالتظني وبالرأي، وأن يقول الشخص: رأيت الهلال، فيقول من معه: لم أره، ولكن إذا رآه واحد رآه خمسون. إذن، يعتبر في البينة - أي: شهادة العدلين - ألا تكون الشهادة موضع ريبة، ولا يثبت الهلال بشهادة العدل الواحد، ولا بشهادة المرأة، وإن كانت رؤية المرأة حجة عليها، لو رأت المرأة الهلال عليها أن تفطر أو تصوم حسب الرؤية، ولكن ليست شهادتها حجة على غيرها. ولا يثبت الهلال بشهادة الفلكيين، إلا إذا حصل الاطمئنان من شهادتهم.

المقدم: ألا يعتبرون هم أهل الاختصاص؟

سماحة السيد: نعم، هم أهل اختصاصٍ، ولكن أمر الهلال من الأمور الحسية وليس من الأمور الحدسية، فنيل الأمر الحسي بالحدس ليس حجةً، لو نيل الأمر الحسي بالحس لكان حجة، أما الشهادة على الأمر الحسي عن طريق حدسي، الفلكي إنما يشهد بأن الهلال قد دخل، بأن الشهر قد دخل، لا يشهد به عن طريق حسي، وإنما يشهد به عن طريق حدسي، وهو مبني على قواعد فلكية معينة. إذن بالنتيجة: الشهادة في الأمر الحسي بطريق حسي حجة، أما الشهادة في الأمر الحسي بطريق حدسي فهذا ليس حجةً.

لكن لو حصل الاطمئنان، بمعنى أنني اطلعت على أن الفلكيين على أن الليلة يتحقق الهلال، لكن الهلال الشرعي طبعًا، الليلة يصل القمر إلى درجةٍ يمكن رؤيته بالعين المجردة، لو حصل لي الاطمئنان بذلك أو العلم بذلك نتيجة شهادة الفلكيين فحينئذ يصح لي أن أصوم أو أفطر، لا لأجل حجية شهادة الفلكيين، بل لأجل حجية الاطمئنان أو العلم الحاصل منه. هناك موارد اختلف فيها الفقهاء، مثلًا: هل يثبت الهلال بالتطويق، وهو أن يُرَى مطوّقًا فيستدل على أنه الليلة الثانية؟ بعض الفقهاء - كالسيد الخوئي «قدس سره» - يرى ثبوته بالتطويق، بعض الفقهاء - كالسيد السيستاني «دام ظله» - لا يرى ثبوته بالتطويق.

مثلًا: مسألة حكم الحاكم، لو حكم الفقيه بالهلال، من دون أن نطلع هل عنده بينة أم لا، هو حكم بالهلال، هل حكم الحاكم، حكم الفقيه العادل، يثبت الهلال أم لا؟ بعض الفقهاء يرى ذلك، بعض الفقهاء لا يرى ذلك، كالسيد الخوئي والسيد السيستاني، لا يرون ثبوت الهلال بحكم الحاكم، هذه موارد خلاف بين الفقهاء في ثبوت الهلال بها.

المقدم: إذا رُئِي الهلال في بلد، فهل يكفي ذلك في ثبوت الهلال في بلد آخر، مع اشتراكهما في الأفق؟

سماحة السيد: هنا خلافٌ بين الفقهاء، بعض الفقهاء يرى أنه إذا ثبت الهلال في بلد ثبت في سائر البلدان المشتركة معه في الليل، ولو كان الاشتراك في ربع ساعة من الليل، جميع البلدان المشتركة في ليل واحد إذا ثبت الهلال في بلد منها ثبت في باقي البلدان، وهذا هو رأي السيد الخوئي «قدس سره». بعض الفقهاء يقول: إذا ثبت في البلد الشرقي ثبت في البلد الغربي؛ لأنه إذا رئي في البلد الشرقي فحتمًا إذا وصل الغروب في البلد الغربي فقد زاد حجم الهلال أكثر، وبالتالي ستكون الرؤية فيه قطعية بعد رؤيته في البلد الشرقي.

بعض الفقهاء الآخرين يرى رأيًا ثالثًا، كالسيد السيستاني «دام ظله» يقول: إذا ثبت في بلد ثبت في بلد آخر ولكن يشترط بين البلدين تقاربٌ في خطوط الطول والعرض، بحيث تكون الرؤية في أحدهما مستلزمةً للرؤية في البلد الآخر. النجف وكربلاء، أو النجف والكويت مثلًا، إذا كانا متقاربين في خطوط الطول والعرض، بحيث لو رئي في أحدهما كان مرئيًا في الآخر، هنا يتحقق، وإلا فلا.

هذا الخلاف بين الفقهاء يرجع إلى أنه.. مثل السيد الخوئي، والسيد الشهيد محمد باقر الصدر «قدس سرهما» يقولان بأنَّ الهلال هو ظاهرة واحدة، ظاهرة كونية واحدة للأرض كلها، الهلال عبارة عن خروج القمر من تحت المحاق بنحوٍ يمكن رؤيته بالعين المجردة، وهذا الخروج لا يختص ببقعة دون بقعة، فهو ظاهرةٌ كونيةٌ واحدةٌ لجميع الأرض، غاية ما في الأمر أننا نشترط اشتراكهما في ليل واحد كي يكون مجالٌ لإمكان الرؤية.

بعض الفقهاء الآخرين - كالسيد السيستاني «دام ظله» - يقول: هناك فرق بين الهلال الطبيعي والهلال الشرعي، الشهر الشرعي هو هذا، كما يقوله السيد الخوئي، خروج القمر من تحت المحاق، هذا هلال طبيعي، الهلال الطبيعي واحد للأرض كلها، حتى البلدان التي لا تشترك في ليل واحد، ولكن الهلال الشرعي منوطٌ بإمكان الرؤية، أي: أن يكون القمر بحدٍّ يمكن رؤيته بالعين المجردة، وإمكان الرؤية له عوامل، منها: ارتفاعه، منها: كبر حجمه، منها: قوة ضوئه، منها: طول مكثه، وهذه العوامل تختلف من بلد إلى آخر، ربما يكون الهلال ممكن الرؤية هنا، لتوفر العوامل، غير الممكن هناك، ولذلك نقول: إذا ثبت في بلد ثبت في آخر إذا كانا مشتركين في عوامل إمكان الرؤية، بحيث هناك ملازمة بين رؤيته في هذا البلد ورؤيته في البلد الآخر.

المقدم: ننتقل إلى زكاة الفطرة، على من تجب زكاة الفطرة؟

سماحة السيد: زكاة الفطر تجب على البالغ، لا تجب على الصبي، تجب على الحر، لا تجب على العبد، تجب على العاقل، لا تجب على المجنون، ولا على المغمى عليه، وتجب على الغني، وهو من يملك قوت سنته، إما فعلًا عنده قوت السنة، أو قوةً، بمعنى أن عنده وظيفة من خلالها يكتسب قوت السنة، من ملك قوت سنته قوةً أو فعلًا فهو غنيٌّ لا يعطى من زكاة الفطرة، وتجب عليه زكاة الفطرة، وإلا فالفقير لا تجب عليه فقير الفطرة، وهو من لم يملك قوت سنته لا فعلًا ولا قوةً، لكن يستحب له أن يتصدق بصاع، ويديره على عياله واحدًا واحدًا، كل واحد يتصدق به على الآخر، إلى أن يصل إلى الأخير، والأخير يتصدق به على الفقير الآخر، فالفقير لا تجب عليه زكاة الفطرة.

طبعًا تجب على الشخص وعلى من يعوله، متى ما كان الشخص غنيًا بالغًا عاقلًا وجبت عليه زكاة الفطرة وعلى من يعوله، أي: يدفع عن نفسه وعمن يعوله، صغير، كبير، حر، عبد، حتى لو كان من يعوله أجنبيًا، أحيانًا الإنسان يعول أيتامًا، يجب عليه أن يدفع عنهم زكاة الفطرة، وإن لم يكونوا واجبي النفقة، قد يعول الإنسان عمته أو خالته، من يعول عليه يجب عليه أن يدفع عنه زكاة الفطرة، وإن كان بعيدًا عنه، حتى الضيف، لو نزل عليه الضيف ليلة الهلال، وبات عنده أو جلس عنده، وإن لم يأكل شيئًا من طعامه، يعتبر عيالًا له تلك الليلة، فجيب أن يدفع عنه زكاة الفطرة، بخلاف ما لو دعا شخصًا للإفطار عنده، هذا لا يعد عيالًا له؛ لأنه جاء بدعوةٍ منه، هذا لا يجب أن يدفع عنه زكاة الفطرة.

المقدم: متى يجب إخراج زكاة الفطرة في الشخص الذي توفرت فيه شروطها؟

سماحة السيد: يجب إخراجها ليلة العيد، من دخل عليه هلال ليلة العيد وهو جامعٌ للشرائط وجب عليه إخراج زكاة الفطرة، ويمتد وقتها إلى زوال يوم العيد، لمن لم يصلِ صلاة العيد، الوقت موسّع عنده إلى الزوال، أما من أراد أن يصلي صلاة العيد، فالأحوط لزومًا قبل صلاة العيد إما أن يعزل صلاة الفطرة، أو يدفع صلاة الفطرة للفقير المستحق، وإذا عزلها جاز لها تأخيرها ولو أيامًا لغرض عقلائي، كأن يبحث عن الفقير المستحق، كأن يبحث عن أرحامه المستحقين، وأمثال ذلك.

المقدم: من هو المستحق؟

سماحة السيد: المستحق هو الفقير. زكاة الفطرة يمكن إعطاؤها للحاكم الشرعي أو وكيله، ويمكن دفعها بنفسه، أن يدفعها بنفسه للفقراء المستحقين، ولكن إذا كان المعيل عاميًا لا تحل فطرته على الهاشميين، ولو كانوا فقراء مستحقين، حتى لو كان العيال هاشميين، المدار على المعيل، وإذا كانت المعيل هاشميًا حلت فطرته على الهاشمي المستحق وغيره، ولو كان العيال غير هاشميين.

المقدم: شكرًا سيدنا على حضوركم معنا في هذه الحلقة، السيد منير الخباز الأستاذ في الحوزة العلمية، وشكرًا لكم سادتي المشاهدين لطيب متابعتكم، أتمنى لكم أطيب الأمنيات، وعيدًا سعيدًا، والسلام عليكم.