الخلل الواقع في الصلاة

الدرس 135

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ذكرنا في ما سبق أننا إذا قمنا بالمقارنة بين موثّق داود بن سرحان «في الرجل يصلّي فأبصر في ثوبه دمًا، قال: يُتِمّ» الدالّ على صحّة صلاته، ورواية عبد الله بن سنان «إن رأيت في ثوبك دمًا وأنت تصلّي ولم تكن رأيته قبل ذلك فأتمّ صلاتك» هذا من جهة، حيث إن كليهما دالّ على صحّة الصلاة، وبين صحيح محمد بن مسلم «في الرجل يرى في ثوب أخيه دمًا وهو يصلّي، قال: لا يؤذنه حتى ينصرف» الدالّ على أنّه لو علم بالدم أثناء الصلاة لكانت صلاته فاسدة، فقد قلنا بأنّهما متعارضان. ولكن قد يُقال بأنّ الطرف الأوّل، ألا وهو موثّق داود بن سرحان، ورواية عبد الله بن سنان، أقوى دلالةً على الصحّة، فمن باب تقدُّم الأظهر على الظاهر يؤخذ بهما، والوجه في ذلك أنّ صحيحة محمد بن مسلم محتمِلةٌ للنّهي التكليفيّ احتمالًا عرفيًّا، فإنّ قوله «في الرجل يرى في ثوب أخيه دمًا وهو يصلّي، قال: لا يؤذنه حتى ينصرف»، حيث إنّ في إيذانه أي في إخباره بوجود الدّم في ثوبه إيذاءً له، لأنّه وإن كانت صلاته صحيحة، لكنّه يجب عليه أن يطهّر ثوبه بالنسبة للأجزاء الباقية، فبحثه عن ثوب طاهر أو قيامه بالتّطهير تطهيرًا آنيًّا لا يُخلُّ بالموالاة بين أجزاء الصلاة، كل ذلك نوعٌ من الكُلفة، فنُهي عن إخباره لكي لا يوقعَه في الكُلفة، لا لأنّه إذا علم بالنجاسة أثناء الصلاة فإنّ صلاته فاسدة. ويؤيّد هذا الاحتمال، أنّه في نسخة التهذيب «لا يؤذيه حتّى ينصرف»، فكأنّ إخباره بنجاسة ثوبه الذي يستدعي البحث عن طهارته نحوٌ من تكليفه وإحراجه، فلذلك قال «لا يؤذيه حتّى ينصرف». فبما أنّ هذه الصحيحة تحتمل النهي التكليفيّ احتمالًا عرفيًّا، بينما موثّق داود بن سرحان «في الرجل يصلّي فأبصر في ثوبه دمًا، قال: يُتِمّ صلاته» ظاهرةٌ في الحكم الوضعيّ، ألا وهو صحّة صلاته، فهي مقدّمةٌ على صحيحة محمد بن مسلم. ومقتضى ذلك أن يقال في الصورة الثالثة، وهي من رأى النجاسة وعلم بأنّها سابقة، فصلاته صحيحة لولا التعليل الوارد في صحيحة زرارة. وإن لم نسلّم بذلك، وقلنا بأنّ صحيحة محمد بن مسلم ظاهرة بالحكم الوضعي ظهورًا عرفيًّا، أي أنّ قوله «لا يؤذنه حتّى ينصرف». وإن قلنا بأنّ صحيحة محمد بن مسلم ظاهرة ظهورًا عرفيًّا في الإرشاد إلى بطلان الصلاة على تقدير العلم بالنجاسة أثناءها، فلدينا طرفان متعارضان، طرفٌ يدلّ بإطلاقه على أنّ من رأى النجاسة في الصلاة فهي مبطلة، وهو صحيح محمد بن مسلم، وطرفٌ يدلّ بإطلاقه على أنّ رؤية النجاسة في الصلاة غير ضائر كموثّق داود بن سرحان ورواية عبد الله بن سنان. فهل يُجمع بينهما - سؤال عرفي - بمفهوم التعليل في صحيح زرارة، حيث قال «لأنّك لا تدري لعلّه شيءٌ أُوقع عليك، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا»، فيُقال: ما دلّ على البطلان ناظرٌ لفرض العلم بأنّه لم يُوقَع عليه، وما دلّ على الصّحّة ناظرٌ لفرض احتمال أنّه أُوقع عليه. أم يُجمع بينهما بصدر حسنة محمد مسلم «قال: قلت له: الدّم يكون في الثوب عليّ وأنا في الصلاة، قال: إن رأيتَه وعليك ثوبٌ غيره، فاطرحه وصلِّ في غيره، وإن لم يكن عليك ثوب غيره، فامضِ في صلاتك ولا إعادة عليك»، فيُقال بأنّ صدر هذه الرواية شاهد جمعٍ بين الطائفتين، فالطائفة الدالّة على أنّ رؤية الدم أثناء الصلاة مانعٌ، بأن يقال إنّ ما دلّ على البطلان ناظرٌ لفرض إمكان ثوب آخر، وما دلّ على المضيّ وعدم الإعادة ناظرٌ لفرض أن لا يوجد له ثوبٌ غيره. ولكنّ هذا الحمل قد يُقال بأنّه حَملٌ على فرد نادر، وهو أن يُحمَل ما دلّ على الصّحّة بأنّه في فرض أن لا ثوب له إلّا هذا النّجس، بحيث لا يمكن استبداله ولا تطهيره في أثناء الصلاة. أو يُجمع بينهما بذيل حسنة محمد مسلم، الّتي فصّلت بين الدّم المعفوّ والدّم غير المعفوّ «قال: وما لم يزِدْ على مقدار درهم - بناءً على نسخة الشيخ التي نقلها عن الكليني - فليس بشيء، رأيتَه قبل أو لم ترَه. وإن كنتَ رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم - إلى أن قال - فأعدْ»، فيُقال: بأنّ ما دل على البطلان كصحيحة محمد بن مسلم السابقة ناظرٌ لفرض أنّه أكثر من الدرهم، وما دلّ على الصحّة وهو موثّق داود بن سرحان ورواية عبد الله بن سنان ناظرٌ لكون المقدار درهمًا أو أقلّ، فتصلح حسنة محمد بن مسلم شاهدًا للجمع بينهما. ولكنّ ذلك أيضًا غير تامّ، والوجه في ذلك: أولًا: بأنّ رواية عبد الله بن سنان لا يمكن حملها على فرض الدّم الأقلّ من الدرهم، لاحظوا الرواية «إن رأيتَ في ثوبك دمًا وأنت تصلّي، ولم تكن رأيتَه قبل ذلك فأتمّ صلاتك، فإذا انصرفت فاغسله»، هذا لا يمكن حمله على الدّم الأقلّ، لأنّه إذا كان بمقدار الدّم أو أقلّ فهو معفوٌّ عنه في الصلاة، فلا حاجة إلى غسله بالنسبة إلى الصلوات الباقية «فإذا انصرفت فاغسله». إذًا حمْل ما دلّ على الصّحّة، وهو رواية عبد الله بن سنان على أنّ الدّم بمقدار درهم أو أقلّ هو حملٌ غير عرفيّ لأنّه يقول فاغسله، وهذا يعني أنّه غير معفوّ عنه. وأمّا بالنّسبة إلى موثّقة داود بن سرحان، فقد يُقال: إذًا لماذا لا يمكن هذا الحمل في موثّقة داود بن سرحان، بأن يُقال: إن قوله في هذه الموثّقة «في الرجل يصلّي فأبصر في ثوبه دمًا، قال: يُتمّ» تُحمَل على ما إذا كان الدّم بمقدار الدّرهم، ويرتفع التنافي بينها وبين صحيحة محمد بن مسلم الذي قال «لا يؤذنه حتّى ينصرف». قلنا: لكن لا يرتفع التعارض، يبقى التعارض بين صحيح محمد بن مسلم وبين رواية عبد الله بن سنان، فارتفاع التعارض بين موثّق داود وصحيح محمد بن مسلم بحمل موثّق داود على الدّم المعفوّ عنه لا يرفع التّعارض بين رواية عبد الله بن سنان وصحيح محمد بن مسلم، فيبقى التعارض بينهما. فنحن محتاجون إذًا إلى الجمع بين الطّائفتين بالتّعليل، بمفهوم التعليل الوارد في صحيحة زرارة «لأنّك لا تدري لعلّه شيءٌ أُوقع عليك، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشّكّ». ثانيًا: إنّ حسنة محمد بن مسلم مضطربة المدّ، فلاحظ هذه الحسنة «قال: قلتُ له: الدّم يكون في الثّوب عليّ وأنا في الصلاة، قال: إن رأيتَه وعليك ثوب غيره، فاطرحه وصلِّ في غيره»، وظاهرها أنّ رؤية النجاسة غير مُبْطلة، غاية ما في الأمر يبدّل. «وإن لم يكن عليك ثوب غيره، فامضِ في صلاته ولا إعادة عليك»، أي أنّ صلاته أيضًا صحيحة، غاية ما في الباب، الفرق بين الصورتين أنّ هناك لا تصحّ الصلاة في الأجزاء الباقية إلّا بالتّبديل، وهنا حيث لا يوجد ثوب غيره، فتصحّ صلاته. ولذلك لا يصلح صدر الرواية شاهد جمعٍ بين الطائفتين المتعارضتين، لأنّ صدر الرواية دالٌّ على صحّة الصلاة في ما مضى على كلّ حالٍ، كان له ثوب غيره أم لم يكن. ثم قال: «ما لم يزدْ على مقدار الدّرهم» أي أنّ هذا التفصيل بين أنّ له ثوب أو ليس له ثوب هذا إذا لم يزد على مقدار الدّرهم «وما كان أقل من ذلك فليس بشيء». إذًا، ما لم يزد على مقدار الدرهم، ففيه تفصيلٌ. إن كان له ثوبٌ غيره لم تصحّ الصلاة في الباقي، وإن لم يكن له ثوبٌ غيره صحّت الصلاة في الباقي. هذا في هذه النسخة التي نقلها صاحب الوسائل عن الكافي. ثم قال «وما كان أقلَّ من ذلك - يعني أقلّ من الدّرهم - فليس بشيء رأيته قبل أو لم ترَه»، أي أنّ ما كان أقلّ من الدّرهم، إنّما يختلف عن مقدار الدَرهم في أنّه رآه أو لم يرَه فقط، وإلّا فهما على حدٍّ سواء بالنسبة إلى الصلاة في الأجزاء الباقية، ولذلك قال بعد ذلك «وإن كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم، فضيّعت غسله، فصلّيت فيه صلاةً كثيرةً، فأعدْ ما صلّيت فيه»، فهل العبرة بالصلاة الكثيرة أو الصلاة القليلة؟ فالرواية مشتملة على ما يُحتمل دخلُه في صحّة الصلاة، وهو أنّه صليت فيه صلاةً كثيرة أو لم تصلّ، إن صلّيت فيه صلاة كثيرة فأعدْ، وإلّا فلا تُعد وإن كنتَ رأيتَه من قبل وضيّعته، مع ذلك تصحّ صلاتك ما لم تصلِّ فيه صلاةً كثيرة، وهذا لا يمكن الجمع بينه وبين دعوى عدم الصحّة ما إذا كان بمقدار الدرهم بالنسبة للأجزاء الباقية. مضافًا إلى أنّ هناك نسخة أخرى، وهي الابتداء بالواو، حيث قال «فامضِ في صلاتك ولا إعادة عليك» ثم قال: «وما لم يزدْ على مقدار الدّرهم، فليس بشيء، رأيتَه قبل أم لم ترَه» وهذا يكون أنسب بالتفصيل في الرواية، وأكثر انسجامًا معها. فالمتحصّل أن الصحيح ما ذكره سيدنا «قده» من صحّة الصلاة في صورتين: الصورة الأولى: أن يعلم بالنّجاسة ويحتمل طروّها حين الالتفات، والثانية: أن يعلم بالنّجاسة في أجزاء سابقة، ولكن يحتمل أنّ النّجاسة وقعت أثناء الصلاة لا حين الشروع، وأمّا إذا أحرز أنّ النجاسة من حين الشروع، فلا دليل على صحّة الصلاة. ندخل الآن في تفريع جديد، وهو ما إذا صلّى في النجاسة ناسيًا، أي أنّه كان عالمًا بالنّجاسة فنسيها فصلّى، والكلام في مقامين: تارةً ما هو مقتضى القاعدة، وأخرى ما هو مقتضى النصوص العامّة والخاصّة. أمّا ما هو مقتضى القاعدة، فقد ادُّعي كما في عدّة من الكلمات، بأنّ مقتضى القاعدة صحّة صلاة الناسي، وذلك لوجوه ثلاثة: الوجه الأول: أنّه لا يمكن تكليف الناسي بالصلاة في الثوب الطاهر، لأنّ الناسي لا يمكن بعثه، فحيث أنّ الناسي غير قابل للانبعاث، فالأمر بالصلاة بالثّوب الطاهر غير شامل للنّاسي واقعًا، فإذا لم يكن شاملًا له واقعًا، فصلاته في الثّوب النّجس صحيحة. الوجه الثاني: أن يُقال: إنّ النّاسي إذا صلّى في الثّوب النّجس، لأنّه لا يحتمل نجاسته، فصلاته في الثّوب النّجس من مصاديق الاضطرار، أي من صلّى في النّجس اضطرارًا. وبما أنّ الأمر الاضطراريّ يُجزي عن الأمر الاختياريّ، كما لو صلّى بتيمُّم مثلًا، فإنّ صلاته صحيحة حينئذٍ، فالنّاسي من مصاديق المضطرّ. الوجه الثالث: أن يُقال: مقتضى حديث الرفع «رُفع عن أمّتي النّسيان» أنّ شرطيّة طهارة السّاتر مرفوعة في حقّ النّاسي بمقتضى حديث الرفع، فإذا كانت الشّرطيّة مرفوعةً في حقّه، إذًا فصلاته في الثوب النجس صحيحة، هذا هو مقتضى القاعدة. والجواب عن ذلك بأنّه: تارةً يُفترَض أنّ النّسيان مستوعبٌ للوقت، وتارة يُفترَض أنّه غير مستوعب. فلو فرضنا أنّ النسيان مستوعبٌ للوقت، بمعنى أنّه لم يتذكّر حتى مضى الوقت، فصلّى في الثوب النجس ولم يتذكّر حتّى مضى الوقت، فحينئذٍ لا يشمله حديث الرفع، كما لا يشمله مسألة استحالة التكليف للنّاسي، كما لا يشمله إجزاء الأمر الاضطراريّ عن الأمر الاختياريّ، والوجه في ذلك: أمّا عدم شمول الأول، وهو أن يُقال بأنّ النّاسي غير قابل للتكليف، فنحن نسلِّم بأنّ هذا النّاسي غير قابل للتكليف، أي من صلّى في الثوب النجس ناسيًا، واستوعب نسيانه الوقت كله، فهذا غير مكلّف واقعًا بالصلاة بالثّوب الطاهر، لكنّ هذا لا يستلزم وجود أمرٍ بالصلاة بالثّوب النّجس، فعدم تكليفه بالصلاة في الثّوب الطاهر لأنّه غير قابل للانبعاث لا يعني أنّ الأمر بالصلاة على نحو اللابشرط، بحيث تكون صلاته في الثّوب النّجس صحيحةً فلا قضاء عليه، لا ملازمة بين الأمرين. سقط عنه التّكليف بالصلاة في الثوب الطاهر، لأنّه ناسٍ، أمّا أنّ هناك أمرًا بالصلاة على نحو اللابشرط في حقّه فهذا هو الكلام. وأمّا الثاني: وهو أن يُدّعى أنّ حديث الرفع يشمله، نعم حديث الرفع يشمله «رُفع عن أمّتي النسيان»، ومقتضى شمول حديث الرفع أنّ شرطيّة الطهارة شاملة له، لكن كما قلنا سابقًا، بأنّ ارتفاع الأمر بالمركّب لا يستلزم أمرًا بالباقي، فالأمر بالصلاة المتقيِّدة بثوب طاهر قد ارتفع عنه بمقتضى حديث الرفع. وأمّا الأمر بالصلاة في الباقي، أي الأمر بالصلاة على نحو اللابشرط، فهذا لا يثبته حديث الرفع، بل نحتاج إلى دليل آخر. وأمّا دعوى أنّه مضطرّ، والاضطراريّ يُجزي عن الاخياري، فقد ذكر هذا في ما سبق بأن هذا يتوقَف على وجود أمر بالفرد الاضطراري، كما لو قال صلِّ بتيمُّم، فيُقال: مقتضى الإطلاق المقامي للأمر بالصّلاة بالتيمّم أن لا إعادة عليه، لأنّه لو كان عليه إعادة أو قضاء لنبّه الإمام على ذلك، فأمره بالفرد الاضطراريّ من دون تنبيه على الإعادة أو القضاء دالٌّ على الإجزاء. وأمّا إذا لم يوجد أمرٌ بالفرد الاضطراريّ، غاية ما في الأمر أنّه نسي أن يمتثل الأمر بالفرد الاختياريّ، واعتبرنا النّاسي عقلًا من مصاديق المضطرّ، فمجرّد كونه عقلًا من مصاديق المضطرّ لا يعني أنّ هناك أمرًا توجّه بالفرد الاضطراريّ كي يُتمسّك بالإطلاق المقامي لذلك الأمر، وتكون نتيجة الإطلاق المقامي هي صحّة صلاته. هذا كله بالنسبة للنسيان المستوعب، وأمّا غير المستوعب فيأتي الكلام.

والحمد لله رب العالمين