الخلل الواقع في الصلاة

الدرس 136

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ما زال الكلام في من صلّى بالنّجس عن نسيان، وقلنا بأنّ الكلام تارةً في مقتضى القاعدة، وأخرى في مقتضى النصوص. وقلنا بأنّه بحسب مقتضى القاعدة تارةً يكون المنظور النسيان المستوعب، وتارةً يكون المنظور النسيان غير المستوعب، وقد مرّ الكلام في الفرض الأول، وهو النسيان المستوعب، وأمّا الفرض الثاني وهو النسيان غير المستوعب، فإن مقتضى القاعدة فيها عدم الاجتزاء في الصلاة، والسر في ذلك: أن ما أمر به لم يتعلق النسيان به، وما نسيه لم يتعلق الأمر به، وبيان ذلك: إنّنا لو سلّمنا أنّ مقتضى إطلاق حديث الرفع، حيث قال «رفع عن أمّتي النسيان» سقوط التكليف المنسيّ، فحينئذ يقال: بأنّ حديث الرفع مورده ما إذا تعلّق النسيان بنفس ما تعلق به التكليف، كي يقال بأن التكليف المنسي ساقط بحديث الرفع. وفي محلّ كلامنا، إذا نسي وصلى في النجس، ثم تذكر والوقت ما زال باقيًا، فما نسيه هو الفرد، والفرد لم يتعلّق به الأمر، وما تعلّق به الأمر، وهو طبيعيّ الصلاة بين الحدّين، الزوال والغروب، لم ينسَه لأنّ المفروض أنّه تذكر والوقت ما زال باقيًا. فبما أنّ ما نسيه غير ما كُلّف به، فلا يكون هذا النسيان مشمولًا لحديث الرفع. هذا كله بالنظر لمقتضى القاعدة، أي أنّ مقتضى القاعدة عدم الاجتنزاء بصلاته. وأمّا مقتضى النصوص، فالنصوص على قسمين: النصوص العامّة والنصوص الخاصّة الواردة في فرض النسيان. أما بلحاظ القسم الأول، فمقتضى القاعدة صحة صلاته، لأنّ حديث «لا تعاد» وهو نص عام، دالّ على أن من أخلّ بشرطية الطهارة فصلاته صحيحة، فإن قوله «لا تعاد الصلاة إلا من خمسة» ظاهرٌ بأنّ الإخلال بشرطية الطهارة عن عذر غير موجب لفساد الصلاة، سواءً كان العذر جهلًا أو نسيانًا، فمن صلّى في الثوب النجس نسيانًا، فهو مشمول بحديث «لا تعاد». لو لم نناقش في ذلك بما ناقشنا به سابقًا، من أنّ عنوان الطهور في الخمسة محتمَل الشمول للطهارة الخبثية، وبالتالي فالتمسّك بالحديث في محل الكلام تمسّك بالدليل في الشبهة المصداقية. وأما بالنسبة إلى القسم الثاني، أي النصوص الخاصة الواردة في باب النسيان، فالطوائف هنا خمس طوائف، يعني ينبغي تقسيمها إلى خمسة، على خلاف ما صنع سيدنا «قده»: الطائفة الأولى: ما دلّ على بطلان صلاته إذا صلّى في الثوب النجس مطلقًا، من دون تفصيل بين فرض الجهل أو فرض النسيان. ومن هذه الطائفة حسنة محمد بن مسلم السابقة «قال: وإن كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم، فضيّعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة، فأعد ما صلّيت فيه». ومن هذه الطائفة مصححة الجعفيّ «عن أبي جعفر ، قال: في الدم يكون في الثوب إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة، وإن كان أكثر من قدر الدرهم، وقد رآه فلم يغسل حتى صلّى، فليعد صلاته»، فإنّ مقتضى إطلاق هذه الروايات عدم الفرق بين أن يكون قد صلّى فيه جاهلًا أو ناسيًا أو متعمًّدًا. متى ما رأى النجاسة ولم يغسل الثوب وصلّى فإنّ صلاته فاسدة. الطائفة الثانية: ما دلّ على البطلان في فرض النسيان مطلقًا أيضًا، أي سواءً كان النسيان عن قصور أو تقصير. ومن هذه الروايات صحيحة زرارة «قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره، أو شيء من مني، فعلّمت أثره، إلى أن أُصيب له الماء، فأصبتُ، وحضرت الصلاة، ونسيت أنّ بثوبي شيئًا وصلّيت. ثم إني ذكرت بعد ذلك. قال: تعيد الصلاة وتغسله». ومن هذه الطائفة صحيحة عبد الله بن أبي يعفور في حديثٍ: «قال: قلت لأبي عبد الله : الرجل يكون في ثوبه نقَط الدّم لا يعلم به، ثم يعلم فينسى أن يغسله فيصلي، ثم يذكر بعدما صلّى، أيُعيد صلاته؟ قال: يغسله ولا يعيد صلاته، إلّا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعًا، فيغسله ويعيد الصلاة»، فإن مقتضى إطلاق هذه الطائفة، أنّ من صلى في النجس نسيانًا فصلاته فاسدة، من دون فرق بين أن يكون النسيان عن قصورٍ أو تقصير. الطائفة الثالثة: ما دلّ على الصحّة في فرض النسيان مطلقًا، وهي صحيحة العلاء «عن أبي عبد الله ، قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه الشّيء ينجّسه، فينسى أن يغلسه فيصلي فيه، ثم يذكر أنه لم يكن غسله أيعيد الصلاة؟ قال: لا يعيد، قد مضت الصلاة وكُتبت له» فمقتضى إطلاق هذه الرواية صحّة صلاة من صلى في الثوب النجس نسيانًا عن قصور أو تقصير. الطائفة الرابعة: ما ورد في من صلّى في النجس نسيانًا عن تقصير، وهي موثّقة سُماعة «قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يرى في ثوبه الدم، فينسى أن يغسله حتى يصلي، قال: يعيد صلاته كي يهتمّ بالشيء إذا كان في ثوبه عقوبةً لنسيانه» إلى آخر الرواية. فإنّ ظاهرها أنّ الأمر بالإعادة إنما هو عقوبة لنسيانه، ومقتضى مناسبة الحكم للموضوع أن يكون مورد الرواية النسيان عن تقصير. الطائفة الخامسة: ما ورد في باب الاستنجاء بالخصوص، أي من نسي أن يستنجي فصلّى، وهي موثّقة عمّار: «قال سمعت أبا عبد الله يقول: لو أنّ رجلًا نسي أن يستنجي من الغائط حتّى يصلّي، لم يُعد الصلاة»، فمقتضى إطلاق هذه الرواية أن من نسي الاستنجاء وصلّى فإنّ صلاته صحيحة من دون تفصيل، فالكلام فعلًا في تنقيح الجمع بين هذه الطوائف، فنذكر هنا أمرين: أمّا بالنسبة للطائفة الخامسة، فهي خارجة، والسرّ في ذلك أنها معارَضة في نفسها، أي أنّ الروايات الواردة في من نسي الاستنجاء وصلّى هي متعارضة في حدّ ذاتها، فلا تنهض بالمعارضة مع بقية نصوص الباب، حيث إنّ موثّقة عمّار معارَضة بصحيحة عمرو بن أبي نصر «قال: قلت لأبي عبد الله أبول وأتوضّأ وأنسى استنجائي، ثم أذكر بعدما صلّيت، قال: اغسل ذكرك وأعد صلاتك ولا تُعد وضوءك»، فإنّ ظاهرها أنّ من نسي الاستنجاء وصلّى، فإنّ صلاته فاسدة، ومقتضى تعارض هذه الطائفة خروجها عن معارضة طوائف الباب، فينحصر الحديث في البحث عن طوائف الباب. الأمر الثاني: إنّ المتعارض من الطوائف الأربع هو الطائفة الثانية الدالّة على بطلان الصلاة في فرض النسيان مطلقًا، والطائفة الثالثة الدالة على صحة الصلاة مطلقًا ومن دون تفصيل، فما هو وجه الجمع بين الطائفتين؟ ذكر في المقام وجوه: الوجه الأول: ما أشار إليه سيد المستمسك «قده» من أنّ مقتضى الجمع بين الطائفتين حمل ما دلّ على الأمر بالإعادة على الاستحباب، بمقتضى قرينيّة النص على الظاهر، فإنّ ما دل على عدم الإعادة، وهو صحيح العلاء، حيث قال «لا يعيد قد مضت الصلاة» صريحٌ في صحّة صلاته، وما دلّ على الإعادة، كصحيح عبد الله بن أبي يعفور، حيث قال «يغسله ويعيد» ظاهرة في لزوم الإعادة، فمقتضى قرينيّة الصحيح على الظاهر حمل الأمر بالإعادة في الطائفة الثانية على الاستحباب. لكنّ سيدنا «قده» ص 343 من الجزء الثالث قال: إن هذا الجمع غير تامٍّ لوجوه: أولًا: قال بأنّ: رفع اليد عن ظهور أحد الدليلين بصراحة الآخر، إنّما هو في الدليلين المتكفّلين للأمر المولويّ، فلو كان الأمر بالإعادة أمرًا مولويًّا، لصحّ حمله على الاستحباب بقرينة صراحة الآخر، كما إذا دلّ أحدهما على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، ودلّ الآخر على النهي عنه، فبصراحة كل منهما يرفع اليد عن ظاهر الآخر. وأما في الدليلين الإرشاديين، فلا وجه لهذا الجمع بوجه، حيث إنهما متعارضان تعارضًا مستقرًا، لإرشاد أحدهما إلى فساد الصلاة عند نسيان النجاسة، وإرشاد الآخر إلى صحتها، فحالهما حال الجملتين الخبريتين إذا أخبرت إحداهما عن الفساد والأخرى عن الصحّة، فلو قال الإمام «يصحّ صلاته» و«تبطل صلاته»، هل يمكن الجمع بينهما بحمل «تفسد صلاته» على الاستحباب؟ لا إشكال أنّ هذا الجمع غير عرفيّ، فكذلك الأمر في المقام. لكنّ هذا الكلام منه «قده» محلُّ تأمُّل نقضًا وحلًّا، أمّا نقضًا، فلما ذكره نفسه ص 327 من هذا الكتاب، قال: فالصحيحتان، وهما صحيحة وهب بن عبد ربه «عن أبي عبد الله في الجنابة تصيب الثوب ولا يعلم بها صاحبه، فيصلّي فيه، ثم يعلم بعد ذلك، قال يعيد» وموثّقة أبي بصير «عن أبي عبد الله، سألته عن رجل صلّى وفي ثوبه بول أو جنابة، قال: علم به أو لم يعلم فعليه إعادة الصلاة». ويقابلهما صحيحة محمد بن مسلم «ذكر المني فشدّده، فجعله أشدّ من البول، ثم قال: إن رأيت المني قبل أو بعدما تدخل في الصلاة، فعليك الإعادة، وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته فلا إعادة عليك». فالصحيحتان تدلّان على الإعادة، وصحيحة محمد بن مسلم تدلّ على عدم الإعادة في فرض الصلاة فيه عن جهل، فعلّق سيدنا «قده» على ذلك في ص 327، قال: فالصحيحتان تعارضان صحيحة محمد بن مسلم، والصحيح حمل الروايتين على استحباب الإعادة، والحكم بعدم وجوبها لا في الوقت ولا في خارجه، ولذلك احتاط الماتن بالإعادة في الوقت. مع أنّ لسان الإرشاد واحدٌ في تلك الصحاح وفي هذا المورد من محلّ كلامنا. وأمّا حلًّا، فإنّ كلامه تامٌّ فيما لو لم يُحتمَل التكليف، أي لو لم يكن عندنا إمارةٌ عقلائيّة على احتمال التكليف، يعني أن يكون الأمر بالإعادة أمرًا مولويًا تكليفيًا، لقلنا بأنّ الروايتين ظاهرتان في الإرشاد، إحداهما إرشادٌ إلى الصحة، والأخرى إرشادٌ إلى الفساد، فالجمع بينهما بالحمل على الاستحباب غير عرفي، وأما إذا قام منبّه عقلائي على أنّ الأمر تكليفٌ مولويّ، فيتولّد احتمال التكليف احتمالًا عرفيًا، وبالتالي مع احتمال التكليف احتمالًا عرفيًا، فالحمل على الاستحباب عرفي. وفي المقام مقتضى موثقة سُماعة، التي قالت «يعيد صلاته كي يهتمّ بالشيء إذا كان في ثوبه عقوبةً لنسيانه»، فإن ظاهر موثقة سماعة أن الأمر بالإعادة أمر مولويٌّ تكليفيّ «يعيد صلاته كي يهتمّ بالشيء إذا كان في ثوبه عقوبةً لنسيانه». ومفاد موثقة سماعة منبّه ولّد أن يكون احتمال التكليف في الأمر بالإعادة احتمالًا عرفيًّا، فما دام احتمال التكليف احتمالًا عرفيًّا، فالجمع بين الطائفتين بحمل الأولى على الاستحباب، وهو ما دل على البطلان دون الثانية، ليس منافيًا لما ذكره. قال: وثانيًا: إنّ قوله في موثقة سماعة «يعيد صلاته كي يهتمّ بالشيء إذا كان في ثوبه عقوبة لنسيانه» غير قابل للحمل على الاستحباب، فإنّ العقوبة لا تناسب الاستحباب. الوجه الثالث في المناقشة، قال: إن الأخبار المذكورة فصّلت بين الجاهل والناسي، وقد مضى أنّ الجاهل يُستحبُّ في حقّه الإعادة، يعني الموضع الذي ذكر فيه الحمل على الاستحباب، فإذا قلنا أنّ مفاد هذه الأخبار استحباب الإعادة، لم يبقَ فرقٌ بين الجاهل والناسي، وهذا يتنافى مع ظهور الأخبار بالتفصيل بينهما. إذًا، ظاهر هذه الأخبار التي بأيدينا أنّ هناك تفصيلًا في الوظيفة بين الناسي والجاهل، وسبق أن ذكرنا في ص 327 أن الجاهل يستحبّ له إعادة الصلاة، فلو حملنا الأخبار التي بأيدينا على استحباب الإعادة أيضًا، لم يبقَ فرقٌ بين الجاهل والناسي، أي أن صلاة الجميع صحيحة، ويستحبّ للجميع الإعادة، فلم يبقَ فرقٌ بينهما، وهذا يتنافى مع سياق الأخبار التي بين أيدينا منافاة واضحة، حيث إنّ ظاهرها أنّ هناك فرقًا في الحكم والوظيفة بين الجاهل والناسي. وهذا الكلام إنّما يتمّ لو ورد الدليل الدالّ على استحباب الإعادة في الجاهل، لو كان عندنا رواية قالت «من صلّى جاهلًا بالنجاسة يستحبّ له الإعادة»، لقلنا بأنّ حمل الروايات الدالة على الإعادة في المقام على الاستحباب لازمه عدم الفرق بين الناسي والجاهل، وهو مرفوضٌ عرفًا. أما دعوى استحباب الإعادة في الجاهل لم يأتِ لأنّ رواية وردت في ذلك، بل بمقتضى الجمع بين الروايات، أي أن السيد ما ارتكبه هنا ارتكبه هناك تمامًا، وهو وجود طائفتين متعارضتين، فحمل الطائفة الدالة على الأمر بالإعادة على الاستحباب، كما فعل السيد الحكيم في المقام. فلم ترد عندنا رواية تدل على أنّ من صلى في النجاسة جاهلًا يستحبّ له الإعادة كي يكون هذا أمرًا واضحًا، وبالتالي لو حملنا الروايات في المقام على استحباب الإعادة لم يبقَ فرقٌ بين الجاهل والناسي، وإنّما هذا المدعى وهو استحباب الإعادة في حق الجاهل نتيجة جمع بين رواياتٍ مطلقة، كالروايات التي هي في محل كلامنا. مضافًا إلى أنّ الروايات الواردة في محل كلامنا أيضًا لم ترد في الناسي، وإنّما السؤال وقع عن النسيان، لا أن عنوان النسيان ورد في جواب الإمام، أي أنّ السائل سأل عن فرض من صلى في النجس ناسيًا، فأجاب الإمام تارةً بأنّه يعيد وأخرى بأنه لا يعيد. فلو كان وردت عندنا روايتان، إحداهما تدلّ على استحباب الإعادة في الجاهل، والأخرى تدلّ على وجوب الإعادة في الناسي بعنوان أنه ناسي، وقلنا حينئذٍ لو حملنا الرواية الدالة على الإعادة في حقّ الناسي بما هو ناس على الاستحباب، لم يبق فرقٌ بين الناسي والجاهل، وهذا خلف ما هو ظاهر الروايات. أما إذا كانت المسألة هي مقتضى الجمع بنظره بين الروايات، فهذا لا يؤدي إلى التنافي، بحيث يكون إشكالًا على الجمع الذي أشار إليه سيد المستمسك «قده».

والحمد لله رب العالمين