الدرس 139

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ذكرنا في ما سبق، أنّ الدليل الثالث، الذي استدُلّ به على التفصيل بين من تذكّر النجاسة وهو في الوقت فيُعيد، ومن تذكر النجاسة خارج الوقت فلا قضاء عليه، هو رواية علي بن مهزيار، التي قال فيها «كتب إليه سليمان بن رشيد يخبره أنّه بال في ظلمة الليل..» إلى آخر الرواية، باب 42 من أبواب النجاسات، الحديث 1. وقلنا بأنّ هذه الرواية أصبحت محلّ إشكال متنًا وسندًا.

أمّا متنًا، فلما ذكره جمعٌ من فقهائنا، بأنّ مفاد هذه الرواية أن من تنجّست يده، ثمّ تنجّست سائر أعضائه بملاقاة الماء لنجاسة اليد، حيث إنّه توضّا بالماء الذي لاقى اليد المتنجسة بالبول، فإن وضوءه صحيح، غاية ما في الباب أنّه صلى بنجاسة، وبما أنّ النجاسة منسيّة، فإن تذكرها بعد خروج الوقت لا قضاء عليه، وإن تذكرها في الوقت أعاد. وهذا محل إشكال، باعتبار أن المتنجّس منجِّس، فإذا افترضت الرواية أن اليد تنجست بالبول، ثم إن المكلف توضأ بماء قليل، فمقتضى ذلك أن يتنجّس الماء بملاقاة اليد المتنجسة بالبول، إذ المفروض أن البول لا تزول نجاسته بمرة واحدة، كي يقال بأنّ ماء الوضوء طهّره.

إذًا فاليد باقيةٌ على النجاسة، ومقتضى ذلك تنجُّس ماء الوضوء، ومع تنجُّس ماء الوضوء، بمقتضى أنّ المتنجّس يتنجّز، كيف يصحّ وضوؤه؟ مع أنّه يعتبر في صحة الوضوء طهارة الأعضاء، بل حتى لو تنازلنا عن ذلك، وقلنا أن المتنجِّس لا ينجِّس، مع ذلك فإنّ يده كانت متنجسة، فقد توضّأ مع كون كفّه متنجسًا. لذلك، حاول جمعٌ من الأعلام، ومنهم سيدنا «قده» الجواب عن هذه المشكلة في الرواية، فهنا أجوبة ثلاثة:

الجواب الأول: ما أفاده سيدنا «قده» في ص 228 من الجزء الثالث من موسوعته الشريفة، بأنّ هذا مبنيٌّ على التسليم بكبرى أن المتنجس ينجِّس، ولعلّ هذه الرواية من الروايات الدالة على عدم الكبرى، وأن المتنجس لا ينجِّس، فلا وجه لدعوى أنّ الرواية مغشوشةٌ - كما عبّر السيد الإمام في الخلل -، أو أنّ الرواية مضطربة متنًا - كما عبّر غيره -، لمجرّد أن الرواية تتنافى مع كبرى أن المتنجّس ينجس، فلعلّ هذه الكبرى غير مسلّمة، وهذه الرواية من أدلّة عدمها. فقال في ص 228: إن قوله يجب القضاء خارج الوقت، ولم يحكم ببطلان الوضوء، بل عدّ الرجل ممّن صلّى بوضوء، ويجب الإعادة في الوقت، لانكشاف أن صلاته وقعت مع النجس في الوقت، صريحٌ في أنّ المتنجّس غير منجِّس.

فإن قلت: بأنّ المشكلة أكبر من ذلك، وهو أنّه كانت يده متنجّسة، مع غمض النظر عن مسألة أنّ المتنجِّس ينجِّس أم لا، فأجاب بأنّه: من الذي يقول باشتراط طهارة أعضاء الوضوء؟ فقال: بأنّ ما ذُكر مندفع بأنّ اشتراط طهارة أعضاء الوضوء ممّا لم يردْ في دليل، غير أنّهم اعتبروها - يعني الطهارة شرطًا في صحة الوضوء، من باب أنّ المتنجِّس كالنّجس، فقالوا: إذا كانت بعض أعضاء الوضوء متنجّسة، وبما أنّ الملاقي للمتنجِّس يتنجّس، فالنتيجة سوف يكون ماء الوضوء متنجّسًا، فلا يصحّ الوضوء، لا لأنّه يُشترَط طهارة الأعضاء، بل لأنّ ماء الوضوء قد تنّجس بملاقاة النجس. فقال: غير أنّهم اعتبروها شرطًا في صحّته نظرًا إلى أنّ المتنجِّس كالنّجس منجِّس عندهم، فإنّ نجاسة المحلّ حينئذٍ تسري إلى الماء، وطهارة الماء شرطٌ في صحّة الوضوء، فإذا أنكرنا منجّسيّة المتنجّس، وقلنا بأنّ هذه الكبرى غير مسلّمة، والرواية من أدلّة عدمها، فلا يبقى موقع لاشتراط الطهارة في أعضاء الوضوء، إذ لا دليل عليها إلا ذلك، لأنّ الماء على ذلك لا ينفعل بملاقاة العضو المتنجّس، ومع طهارة الماء لا مناص من الحكم بصحّة الوضوء. نعم يبقى المحلّ نجسًا، فيكون قد صلّى في النجس، فإن تذكّر في الوقت أعاد، وإن تذكّر بعد الوقت لم يقضِ.

فالإنصاف أنّ الصحيحة ظاهرة الدلالة على المدّعى، ويؤكّد ذلك أنّ الإمام قال «يعيد الصلاة التي صلّاها بهذا الوضوء»، فقيّد المسألة بهذا الوضوء، حيث قال : «فإن حقّقت ذلك - أي تيقّنت أنّ اليد أصابتها النجاسة - كنتَ حقيقًا أن تعيد الصلوات اللواتي كنت صلّيتهنّ بذلك الوضوء بعينه، ما كان منهنّ في الوقت، وما فات فلا إعادة عليك»، فلماذا ركّز على الوضوء الأول، بحيث لو صلّى صلوات بوضوءٍ آخر من دون أن يطهّر يده، فإنّ صلاته صحيحة، حتّى في الوقت، فلا يعيد، قال: والوجه في ذلك، أنّه بهذا القيد قد خرجت الصلاة الواقعة بالوضوء الثاني أو الثالث، فلا يجب إعادتها ولا قضاؤها، وهذا لا يصحّ إلا إذا قلنا بأنّ المتنجس لا ينجِّس، لأن يده المتنجّسة لو كانت منجِّسة لما أصابها، لأوجبت تنجّس الماء الأول، فإذا تنجّس الماء الأول تنجّست جميع أعضاء الوضوء، ولا بدّ معه من الحكم ببطلان صلاته بوضوء آخر، سواءً صلّى بهذا الوضوء الأول أو بغيره، لأنّ أعضاء وضوئه المتنجّسة، بسبب الوضوء الأول باقيةٌ على نجاستها، ولم يقع عليها مطهّر، فمقتضى ذلك بطلان صلاته وإن صلّى بوضوء آخر.

إلّا أنه، لما كان المتنجّس غير منجّس، لم يتنجّس ماء الوضوء الأول، وإنّما تنجّس خصوص الكفّ فقط، فإذا صلّى بهذا الوضوء، فهو ممّن صلى مع النجاسة، وإن كان وضوؤه صحيحًا، فيأتي التفصيل فيه، أنّه إن تذكّر في الوقت أعاد، وإن تذكّر بعد الوقت لم يقضِ. وأمّا لو توضّأ وضوءًا ثانيًا فلا إشكال في صحّة صلاته، لأنّ النجاسة التي في يده زالت بالوضوء الثاني، حيث إنّ المطهِّر للبول يحتاج إلى مرتين، فبالوضوء الأول والوضوء الثاني، زالت النجاسة، فحينئذٍ يكون إذا صلّى بوضوء آخر، فتكون صلاته صحيحة، لعدم نجاسة يده، وإلّا فالوضوء صحيحٌ على كلّ حال. فتفصيل الإمام بين الوضوء الأول والوضوء الثاني بالنظر إلى هذه الجهة، وهي أنّه إن صلّى بالوضوء الأول، فوضوؤه صحيح، غاية ما في الأمر صلّى مع النجس، بينما إذا توضّأ مرة أخرى، فصلاته صحيحة بلا كلام، لأنّ نجاسة يده عن طريق البول قد زالت بالوضوء الثاني.

وأما يده المتنجّسة، فللقطع بطهارتها، لأنّه غسلها مرتين، حيث توضأ مرتين أو أكثر، وهذا بخلاف الصلوات اللواتي صلاها بذلك الوضوء بعينه، لأنّ النجاسة البولية لا ترتفع بغسل يده مرةً واحدة، فإذا صلّى مع نجاسة بدنه فلا محالة يحكَم بوجوب إعادتها في الوقت، فالصحيحة غير قابلة للمناقشة في دلالتها.

إلا أن يقال: إن كلامه الأخير، حيث قال: ويؤكد ذلك تفصيل الإمام بين الوضوء الأول والوضوء التالي، حيث إنّه في الوضوء الأول، وإن صحّ الوضوء، إلا أنّ النجاسة ما زالت باقية في اليد، وحينئذٍ تكون المشكلة في أنّه صلّى مع نجاسة يده، بخلاف ما لو توضّأ وضوءًا ثانيًا، فإنّه صلّى مع طهارة يده.

لكن قد يقال: لو بنينا على أن المتنجِّس ينجِّس، فتنجّس الماء الذي توضّأ به في الوضوء الأول، فغايته أنّ أعضاءه أصبحت متنجِّسة، وبجريان ماء الوضوء الثاني، طهُرت نجاسة يده لتكرّر الماء، وطهرت أعضاء وضوئه بجريان ماء الوضوء الثاني، فهو محصّل لطهارة الأعضاء، ومحقّق للوضوء في آن واحد، فلعلّ المنظور في التفصيل بين الوضوء الأول والوضوء الثاني هو هذا، أي أنّ الوضوء الأول باطل، والوضوء الثاني هو الصحيح، لا أنّ المنظور في التفصيل هو أنّ الوضوء الأول صحيح، والنجاسة باقية، وطهرت بالوضوء الثاني، فلا بدّ أن نضمّ إلى كلامه أنّ الإمام حكم بالإعادة في الوقت دون خارجه، ولو كان الوضوء باطلًا، لكان مقتضى ذلك عدم التفصيل بين الوقت وخارجه، وأنَّ عليه أن يعيد صلاته على كلّ حال. فالقرينة على صحّة وضوئه الأول، هو تفصيل الإمام بين الإعادة في الوقت وخارجه، وليس القرينة على صحّة وضوءه الأول هو أنّ المتنجّس غير منجِّس.

الجواب الثاني: وهو ما ذكره السيد الصدر «قده» في الجزء الرابع من بحوثه على العروة، ص 218، قال: إنّ التفصيل في هذه الرواية بين الوقت وخارجه، ليس مبنيًّا على أنّ المتنجِّس لا ينجِّس، بل حتى لو قلنا بأنّ المتنجِّس ينجِّس، فيمكن أن يُقال بهذا التفصيل، والوجه في ذلك أنّ المكلّف بالنسبة لنجاسة كفّه قد صلّى في نجاسة منسيّة، وبالنسبة لباقي أعضائه قد صلّى بنجاسة مجهولة لا بنجاسة منسيّة، إذ المفروض أن المكلف لا يدري أن المتنجِّس ينجِّس، ولأجل ذلك دهن وجهه ويديه، ثم توضَّأ، ثمّ صلّى، ولو كان عالمًا بأنّ المتنجِّس ينجِّس لما صلّى بهذا الوضوء.

فظاهره أنّه صلّى بنجاسة مجهولة، فلأجل ذلك صحّ وضوؤه، غاية ما في الأمر أنّه صلّى بنجاسة منسيّة بلحاظ كفّه، فهنا فصّل بين الوقت وخارجه، فلا يصحّ الإشكال على الرواية، بأنّ الرواية في حكمها بصحة الوضوء خالفت كبرى أنّ المتنجِّس ينجِّس، لأنّه يُقال بأنّ الرواية في حكمها بصحّة الوضوء والصلاة، لم تنافِ تلك الكبرى، وإنّما صحّ لأجل الجهل بالنجاسة، أي أنّ النجاسة المجهولة غير ضائرةٍ بصحّة الوضوء وصحّة الصلاة بمقتضى حديث «لا تُعاد الصلاة». فهل هذا الكلام في محله؟ ولكنّ ما أفاده «قده» محلُّ تأمُّل:

أولًا: من أنّ ما أفاده إنّما يصلح مبرّرًا للتفصيل بين الوضوء الأول والوضوء الثاني، أي أنّه إنّما تصحّ الصلاة بالوضوء الثاني، باعتبار أنّه بلحاظ الوضوء الثاني صلّى بنجاسة مجهولة، وأمّا بلحاظ الوضوء الأول، فالمفروض أنّ نجاسة كفّه منسيّة وليست مجهولة، وليست المسألة مرتبطة بتنجيس المتنجّس، فحينئذ لا بد من علاج هذه النقطة، التي تصدّى سيدنا «قده» لعلاجها، وأنّه لا علاج لها إلا إنكار كبرى شرطيّة طهارة الأعضاء في صحّة الوضوء.

وثانيًا: إنّ كلامه مبنيّ على أنّ الجهل بالحكم غير ضائر، لأنّ مفروض المسألة هو الجهل بالحكم لا بالموضوع، أي أنّ المكلَّف عندما توضّأ مع نجاسة يده كان يجهل كبرى أنّ المتنجِّس لا ينجِّس، فالجهل بالحكم وليس جهلًا بالموضوع، فيبتني كلامه على شمول «لا تعاد» أو النصوص الخاصة، لما إذا أخلّ بالسنة عن جهلٍ بالحكم، ولا بدّ أن يقال بأنّ الجهل أيضًا قصوريّ، وإلا إذا بنينا على أنّ «لا تعاد» لا تشمل الجهل التقصيريّ، فالمسألة محلُّ إشكال. هذا كلُّه من ناحية الدلالة. وأمّا من ناحية السند، حيث إنّه قال: «كتب إليه سليمان بن رشيد - ولم يصرِّح بمن كُتب إليه - يخبره» ثم قال: «فأجابه بجواب قرأتُه بخطّه»، فهل أنّ جهالة سليمان بن رشيد غير ضائرة؟ لأنّ عليّ بن مهزيار شهد بأنّه قرأ الخطّ، وهل أنّ الرواية تُعدُّ عن الإمام المعصوم، لأنّ علي بن مهزيار لا يروي إلّا عن المعصوم.

والحمد لله رب العالمين