الدرس 139

الطولية بين العلوم الإجمالية

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ذكرنا في ما سبق أنّ سيدنا «قده» في «مصباح الأصول» فصّل بين صور ثلاث، إذ تارةً تكون الملاقاة متأخرةً عن العلم بالنجاسة ذاتًا ومعلومًا، وتارةً تكون الملاقاة مقارنةً للنجاسة المعلومة معلومًا - أي بحسب العلم -، سواءً كانت مقارِنةً لها ذاتًا، أو متأخرةً عنها ذاتًا.

وتارةً تكون الملاقاة متأخرةً عن العلم بالنجاسة من حيث المعلوم، وإن كانت متقدمة عليها من حيث الذات، وقد أفاد بأنّه متى ما كانت الملاقاة متأخرةً عن النجاسة المعلومة من حيث كونها معلومة، أي من حيث كون الملاقاة معلومة، هي متأخرة عن النجاسة المعلومة، فهنا لا يكون العلم الإجماليّ بالملاقاة متنجزًا، لأنّ الطرف الآخر قد تنجّز بمنجز سابق. وفي كلامه «قده» ملاحظتان:

الملاحظة الأولى أشبه بالفنية، حيث إنّه «قده» عندما تعرّض للصورة الأولى، وهي ما إذا كانت الملاقاة متأخرةً ذاتًا وعلمًا، كما إذا علم بنجاسة «أ» أو «ب»، ثم بعد ذلك حصلت الملاقاة وعلم بها، فالملاقاة هنا متأخرة ذاتًا وعلمًا. فهنا أفاد «قده» بأنّ: العلم الإجمالي الثاني، وهو العلم إما بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر، ليس بمنجز، وعلّل عدم المنجزية، بأنّ العلم إما بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر، ليس علمًا بتكليف فعليّ على كل تقدير، إذ على تقدير أنّ النجاسة في الملاقي، فهو علمٌ بتكليف فعلي، وأما على تقدير أنّ النجاسة في الإناء الآخر، فهذا التكليف قد صار فعليًّا من العلم الإجمالي الأول.

وظاهر هذا التعليل، أنه يرى الانحلال الحقيقي في العلم الإجمالي، لأنّ فقدان المنجز للشرط يعني الانحلال الحقيقي، حيث يعتبر في أصل منجزية العلم الإجمالي أن يكون المعلوم تكليفًا فعليًّا على كل تقدير، ففي فرض العلم الإجمالي المتأخر ذاتًا ومعلومًا، ليس هناك علمٌ بتكليف فعليٍّ على كل تقدير. إذًا فالانحلال - أي انحلال العلم الإجمالي - انحلال حقيقي، بمعنى أنه لم يتنجز من الأساس، لفقدان شرط المنجّزية.

ولكنه في الصورة الثانية والصورة الثالثة، عندما جاء لتعليل المنجزية وعدمها، علّلها بالمعارضة بين الأصول أو عدم المعارضة، وهذا ظاهرٌ في الانحلال الحكمي، حيث قال بأنّ الملاقاة إذا كانت متأخرةً معلومًا، وإن كانت من حيث الحصول متقدمة على النجاسة، ولكن من حيث العلم هي متأخرة، فهنا أفاد بأنّه: إذا علمنا بنجاسة «أ» أو «ب»، ثمّ علمنا بملاقاة الثوب ل «أ» منذ يوم الخميس، أي أنّ الملاقاة سابقة حصولًا، ولكنها متأخرة علمًا.

فهنا قال: بأنّ العلم الإجمالي الثاني، وهو العلم إمّا بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر، غير منجَّز، لعدم تعارض الأصول، حيث إنّ أصالة الطهارة أو استصحاب الطهارة في الطرف الآخر وهو «ب»، قد سقط بالمعارضة في العلم الإجمالي الأول، وبعد سقوطه بالمعارضة، إذًا تجري أصالة الطهارة أو استصحاب الطهارة، في الملاقي الذي تحت يده بلا معارض. فالسر في عدم منجزية العلم الإجمالي الثاني هو عدم المعارضة، وهذا يعني أن الانحلال حكمي. فالجمع بين التوجيهين غير فني، فهو إما أن يرى ما يراه شيخه المحقق النائيني، من أن السر في عدم المنجزية أنّ التكليف ليس فعليًّا على كل تقدير، فهذا يعني الانحلال الحقيقي، ولا تصل النوبة لتوجيه المسألة بعدم التعارض.

وإما أن لا يرى ذلك فلا وجه لهذا التعليل، فالجمع بين التعليلين في كلامه، لا على سبيل التنزّل، حيث لم يقل «لو تنزّلنا عن التعليل الأول فالنوبة تصل إلى لتعليل الثاني»، ليس فنيًّا.

الملاحظة الثانية: ما ذكره السيد الشهيد «قده» بزيادة تقريب منّا، وهو أنّه: إذا حصل العلم الإجمالي الثاني، فإمّا أن لا يبقى العلم الإجمالي الأول أو يبقى.

مثلًا، إذا علم إجمالًا بنجاسة إمّا الإناء الأبيض أو الإناء الأحمر، ثمّ بعد ذلك علم بوقوع قطرة بولٍ جديدة إمّا في الأحمر أو في الأًصفر، فحصل علمٌ إجماليٌّ جديد، بمعنى أن المعلوم بهذا العلم متأخرٌ ذاتًا وعلمًا، فهنا في مثل هذا الفرض، سوف يكون العلم الإجمالي الثاني منجَّزًا، سواءً قلنا بمسلك العلّية أو قلنا بمسلك الاقتضاء.

أما على مسلك العلّية، فنحن نسأل: هل أنّ العلم الإجمالي الأول تبخّر بعد حصول العلم الإجمالي الثاني أو ما زال باقيًا؟ فإذا كان يفترض أن العلم الإجمالي الأول، وهو نجاسة الأبيض أو الأحمر، قد انقرض بعد العلم الإجمالي إمّا بنجاسة الأحمر أو الأصفر، فإن العلم الأول قد تبخر وانقرض. إذًا مقتضى ذلك، أن لا يكون الأحمر متنجزًا بالعلم الإجمالي الأول، لأنّ التنجّز يدور مدار العلم حدوثًا وبقاءً، فإذا افترضنا أن العلم الإجمالي الأول قد انتهى وانقضى، فالتنجز به لا بد أن ينقضي أيضًا، فالتنجز تابعٌ للعلم من حيث الفعليّة. مع أنّه افترض أن الإناء المشترك متنجز بالعلم الإجمالي الأول. وإذا قلنا بأنّ العلم الإجمالي الأول باقٍ، فالعلم الإجماليّ الأول باقٍ إلى حين حصول العلم الإجمالي الثاني، قد افترض السيد «قده» أنّ الإناء المشترك، وهو الإناء الأحمر متنجزٌ بالعلم الأول لا بالعلم الثاني، وهو العلم إما بنجاسة الأحمر أو الأصفر، وهذا ترجيحٌ بلا مرجّح. إذ بعد فرض تعاصر العلمين، وكون كلٍّ منهما في نفسه صالحًا للمنجزية، فالتنجز بالأول دون الثاني، فقط لأنّ الأول سابقٌ زمانًا، ترجيحٌ بلا مرجّح بنظر العقل. بل كما أنّ العلمين لو حدثا في زمان واحد لكانا منجِّزين، أي أنّ النجاسة تتنجّز بكليهما، كذلك إذا تعاصرا بعد ذلك، وإن كان أحدهما سابقًا زمانًا، فإن التنجز يستند إلى مجموع العلمين، أمّا أن يستند إلى السابق دون اللاحق، مع صلاحيّته في نفسه للمنجزية، فهو ترجيح بلا مرجح. هذا بناءً على مسلك العلّية.

وأمّا بناءً على مسلك الاقتضاء، المنوط فيه المنجّزية بتعارض الأصول، فنقول: إنّ السيد «قده» أفاد بأنّ: أصالة الطهارة قد سقطت في الإناء الأحمر بالمعارضة في العلم الإجمالي الأول، فلا تنهض من جديد لمعارضة أصالة الطهارة في الإناء الأصفر، فتجري في الإناء الأصفر بلا معارض.

ولكن يلاحظ عليه أنّ: دليل أصالة الطهارة، أو استصحاب الطهارة، له إطلاقٌ أفراديٌّ، وإطلاق أحواليّ، فمقتضى إطلاقه الأفراديّ، أنه يجري في الإناء الأحمر من حيث هو، مع غمض النظر عن ملاحظة الأطراف الأخرى، ولكن إذا نظرنا لإطلاقه الأحوالي، فله إطلاقان أحواليّان، إطلاقه بلحاظ جريانه في الإناء الأبيض، أي هل يجري في الإناء الأحمر حتى مع جريانه في الإناء الأبيض أم لا؟ هذا إطلاقه الأحواليّ الأول.

وإطلاقٌ أحواليّ آخر، وهو: هل يجري في الإناء الأحمر حتى مع فرض جريانه في الإناء الأصفر بعد حصول العلم الإجمالي الثاني؟ فنقول بأنه: الإطلاق الأفراديّ لجريان أصالة الطهارة في ذات الإناء الأحمر لا مانع منه، لأنّ جريانه في نفسه ليس فيه محذور، بمقتضى إطلاق دليل الأصل، وإنما الكلام في إطلاقه الأحوالي، فنقول: جريانه في الإناء الأحمر، حتّى مع فرض جريانه في الإناء الأبيض بلحاظ العلم الإجمالي الأول قد سقط، نتيجة أن جريانه في كليهما ترخيص بالمخالفة القطعية، لكنّ سقوط إطلاقه الأحواليّ بهذا اللحاظ لا يعني سقوط إطلاقه الأفراديّ، بحيث لا ينهض للمعارضة مع جريانه في الإناء الأصفر، إذًا، فالإطلاق الأفرادي باقٍ.

فإذا حصل العلم الإجمالي الثاني، وهو أنّه بعد ساعة علم بوقوع قطرة بول جديدة إمّا في الإناء الأحمر أو في الإناء الأصفر، فنقول: مقتضى بقاء الإطلاق الأفراديّ في الإناء الأحمر أن يُسأل: هل له إطلاق أحواليّ يشمل جريانه في الإناء الأحمر حتى مع فرض جريانه في الإناء الأصفر أم لا؟ نقول: لا، هذا الإطلاق الأحوالي منتفٍ، نتيجة أنّ جريانه في كليهما ترخيص في المخالفة القطعية. فقول السيد بأنّ أصالة الطهارة قد سقطت في الإناء الأحمر منذ زمن سابق، فلا تنهض للمعارضة. ممنوع بأنّ الساقط هو الإطلاق الأحواليّ بلحاظ الإناء الأبيض، لا أنّ الساقط أصل الإطلاق، فلا يمنع أن نقول «يُسأل بعد ذلك: هل له إطلاق أحوالي بلحاظ جريانه في الإناء الأصفر أم لا؟».

إذًا فأصالة الطهارة في الإناء الأحمر معارِضة لأصلين للطهارة في الإناء الأبيض والأصفر، وإن كان ذلك على فترتين، فهي معارضة لأصالة الطهارة في الإناء الأبيض في فترة العلم الإجمالي الأول، وهي معارِضة لأصالة الطهارة في الإناء الأصفر بعد حصول العلم الإجماليّ الثاني. فتلخّص بذلك أنّه على مبانينا، من التفكيك بين الإطلاق الأفراديّ والإطلاق الأحواليّ، لا يتمّ كلام سيدنا «قده»، ويكون العلم الإجمالي الثاني غير منحلٍّ لا حقيقةً ولا حكمًا.

نعم، على مبنى من يرى أن إطلاق دليل الأصل مقيّد لبًّا بعدم المعارِض، كما لا يبعد استفادته من بعض كلام سيدنا «قده»، فبناءً على ذلك، بمجرّد أن حصل له المعارض في العلم الإجماليّ الأول قد انتفى الإطلاق، حيث إنّ أصل الإطلاق في دليل الأصل مقيّد بعدم المعارض، فبعد حصول المعارض له في العلم الإجمالي الأول، لم يبقَ له إطلاق حتى يكون معارِضًا للأصل الترخيصيّ في العلم الإجمالي الثاني، فتجري أصالة الطهارة في الإناء الأصفر بلا مانع. ولكن هناك تفصيلٌ سيأتي بحثه وتعميقه في مُلاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة، من جملة تنبيهات بحث العلم الإجماليّ، وهو أنّه: تارةً يكون العلم الإجماليُّ الثاني مستقلًّا عن الأول، وتارةً يكون متولّدًا منه، فإذا كان العلم الإجمالي الثاني مستقلًا عن الأول، كما مثلًا: إذا علم إجمالًا بأنّه إمّا فاتته صلاةٌ، وكان ذلك اليوم آخر يوم من شعبان، فيجب عليه قضاؤها اليوم، أو أنّه فاته صومٌ من شهر رمضان السابق، فيجب عليه قضاؤه هذا اليوم، لأنّ هذا اليوم آخر يوم من شعبان، فصوم هذا اليوم قد تنجّز بعلم إجمالي.

ثمّ علم أنّه نذر هذا اليوم نذرًا، ولكن لا يدري أنّه نذر الصدقة أم نذر صوم هذا اليوم، فالعلم الإجمالي الثاني مستقل عن الأول، فإنّ منشأ الأول الفوت، ومنشأ الثاني النذر، وبينهما طرفٌ مشترك وهو صوم هذا اليوم، فهل يجب عليه صوم هذا اليوم بالعلم الإجماليّ الأول وهو الناشئ عن الفوت، أو يجب عليه صوم هذا اليوم بالعلم الإجماليّ الثاني، وهو الناشئ عن النذر. فهنا ربما يقال بأنّ العلمين متنجّزان على مسلك السيد الشهيد، غير متنجزين على مسلك سيدنا الخوئي «قده»، إذا كان العلم الإجماليّ الثاني متأخرًا ذاتًا وعلمًا.

أما إذا كان العلم الإجماليّ الثاني متولّدًا عن الأول، كما في باب الملاقاة، فإنه إذا علم بنجاسة إما «أ» أو «ب»، ثم لاقت يده «أ»، فحصل له علم إجمالي جديد، إما بنجاسة يده لأنّها لاقت «أ»، أو بنجاسة «ب»، فالعلم الإجماليّ الثاني متولّد عن الأول - وهو ما عبّر عنه المحقق النائيني بالسبق الرتبي -. فهنا العلم الإجماليّ الثاني، ذهب جمعٌ، منهم السيد الأستاذ، بأنّه فرقٌ بين العلم الإجماليّ المستقلّ والعلم الإجمالي المتولّد، ووجه الفرق يبتني على المنجّزية للعلم الإجمالي، حيث سبق أن بحثنا بإسهاب، هل أنّ منجّزية العلم الإجماليّ عقليّة أو عقلائيّة.

فإذا قلنا بأنّ المنجزية عقليّة، فلا فرق بينهما، وأمّا إذا قلنا بأنّ المنجّزية عقلائية، كما هو مسلك السيد الأستاذ، فحينئذ يقال: إنّ بناء العقلاء على منجّزية العلم، فرع بنائهم على أنّه علمٌ إجماليٌّ آخر، كي يكون منجِّزًا مستقلًّا في عرض منجّزية العلم الإجمالي الأول، وهذا لم يحرَز من بناء العقلاء، بأن يقال: إن العقلاء يرون العلم الثاني، وهو العلم إمّا بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر علمًا إجماليًّا آخر - أي سببًا آخر -، كي يكون منجّزًا في عرض منجّزية الأول. فحيث لم يُحرز - أو أُحرز العدم - بناؤهم على سببيّةٍ أخرى، أو علم إجماليٍّ آخر، كي يكون منجّزًا مستقلًا في عرض العلم الإجماليّ الأول، إذًا، فلا منجّزية للعلم الإجماليّ الثاني. وبالتالي نقول بأنّ: ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة مجرىً لأصالة الطهارة أو البراءة.

والحمد لله رب العالمين