التدين رسالة وعطاء - علي الخنيزي مثالا

شبكة المنير

بسم الله والصلاة الزاكية على المصطفى والهداة من عترته

غَالهُ الخَسْفُ في ربيعِ شبابِهْ

كَانَ لوناً مِنَ الضُّحَى iiوَرحِيقاً

بَسْمةٌ   لِلوَفاءِ   في   وَجْنَتَيْهِ



 
فَتوارى   كالَبْدرِ  عن  أحبابِهْ

مِنْ  عَبِيْرِ النَّدَى ومِنْ iiأطيَابِهْ

وَخُشوعُ السَّمَاءِ في iiمِحْرابِهْ

عرج الشاب الطاهر علي زكي الخنيزي من الأفق الأرضي إلى ملكوت السماء وسدرة المنتهى، وترك حسرة في قلوب عارفيه حيث كان رسالة ولائية حية، ولوحة خلقية جذابة، فكان رحيله محطة للذكرى، وقراءة حقيقة التدين بعين صافية.

إن التدين الصادق يستبطن معالم جوهرية:

أحدها: إن التدين ليس عفة، وذكراً، ومحراباً فقط، فتلك مرتبة من مراتب التدين، وليست هي تمام التدين، وإنما التدين حركة فاعلة من الدعوة والهداية، ونشر الفكر الديني بأساليب جذابة، عبر عنها القرأن الكريم ب ”التواصي“، قال عز وجل: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ العصر، آية 3، وقال: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ آل عمران، آية 104، فليس من سمات المتدين الريادي السكون والجمود، وكأن التدين ثوبٌ مفصلٌ على المتدين دون غيره، وعطرٌ لا رائحة له، وقلبٌ لا نبض فيه، بل هو دورٌ فاعل، وحركةٌ من التواصل الاجتماعي، والعطاء المتجدد.

وثانيها: إن التدين رصيدٌ اجتماعيٌّ ثرٌّ، وشبكة واسعة من العلاقات المتواصلة والمتمازجة، تجعل من المتدين مظهراً للرحمة الإلهية للآخرين، في خلقه، وتواضعه، وعطائه. ففيه روح المبادرة، والضمير الحي، والبذل السخي، وكسر الأنانية النفسية بالغيرية الإيثارية، وهذا ما أشار إليه الذكر الحكيم: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ آل عمران، آية 159، وقال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ الحشر، آية 9، وعبر عنها الرسول الأعظم ، بقوله: «أفاضلكم أحسنكم أخلاقاً الموطّؤون أكنافاً الّذين يألفون ويؤلفون وتُوطّاً رحالهم» الكافي ج2 ص102. فليس التدين مظهراً للتجهم والجفوة، ولا أنانيةً تتقوقع في خدمة الذات، والأهل، دون المبالاة بآلام الآخرين وقضاياهم، مع القدرة على التنفيس عنهم.

ثالثها: إن هناك ظاهرة مؤسفة من قبل بعض من ينسب نفسه لعالم التدين؛ وهي تصنيف الناس على أسس اجتماعية، أو فكرية، فهناك من هو من العائلة المرموقة، ومن هو من العائلة المغمورة، وهناك من هو على وفاق معنا في النهج والخط، ومن هو على خلافنا، ومن هو المتدين، ومن هو غير المتدين، ويوزع الاحترام على ضوء اختلاف الطبقة الاجتماعية، أو على ضوء التوافق الفكري وعدمه، أو على ضوء الظهور بمظهر التدين وعدمه.

لكن التدين الصافي من الشوائب هو قطعة من القلب الطاهر النقي، الذي يتعامل مع جميع الطبقات بلغة واحدة، ومع جميع المختلفين معه في النهج والخط، والمتفقين معه بروح التعاون في سبيل مجتمع دينيٍّ متطورٍ أكمل، ما دام الآخر غير مبتدعٍ في الدين، ولا مروجٍ للمنكر، ولا مكابر عن الحقائق الساطعة، قال عز وجل: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ المائدة، آية2.

ومن أبرز ملامح التدين؛ التفاعل مع المتدين بتشجيعه على نقل نور التدين لغيره، والتعامل مع غير المتدين بجذبه من خلال الخلق السامي لكوكبة المتدينين، فالاختلاف في النهج لا يبرر التطاول والقطيعة، قال تعالى: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا الحجرات، آية 12، وعدم ظهور الآخر بمظهر التدين لا يسوغ الاحتقار والتهميش، ما دام قابلا للجذب، قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ النحل، آية 125، وقال عز وجل: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ آل عمران، آية 134، وورد عن الإمام أبي عبدالله الصادق : «كُونُوا دُعَاةً لِلنَّاسِ بِالْخَيْرِ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ لِيَرَوْا مِنْكُمُ الِاجْتِهَادَ والصِّدْقَ والْوَرَعَ» الكافي ج2 ص105، وقد أوصى الهداة الطاهرون بحسن التعامل مع المختلف معنا في المذهب، فكيف بمن هو منا وإن اختلف في بعض النهج، حيث ورد عن الصادق : «فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِه وصَدَقَ الْحَدِيثَ وأَدَّى الأَمَانَةَ وحَسُنَ خُلُقُه مَعَ النَّاسِ قِيلَ هَذَا جَعْفَرِيٌّ فَيَسُرُّنِي ذَلِكَ ويَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْه السُّرُورُ وقِيلَ هَذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ» الكافي ج2 ص 636.

إن تلك المعالم المشرقة تجلت في الفقيد الغالي رحمه الله، وجعلته قدوة لغيره من شبابنا الأعزاء، حيث كان طاقةً فياضة بالتواصل مع الشباب، من مختلف الطبقات والمستويات، مشغوفاً بنشر الهداية، حريصاً على غرس روح التدين والالتزام في نفوس الآخرين، صريحاً شفافاً في طرح ملاحظاته، طاهر القلب، مغموراً بمحبة المؤمن الآخر، من أي نهجٍ كان أو جهةٍ، مصداقاً للآية الكريمة: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ الحشر، آية 10، ومن أهم المعالم التي تميز بها: روح الولاء الحسيني، والعشق الفاطمي، الذي كان يتجسد في مشاركاته الرثائية المؤثرة، فكان مثالاً لمن أحيى أمر آل محمد، فقد ورد عن الإمام الرضا : «من جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب» البحار، ج1 ص 199.

نسأل الله تعالى أن يبصرنا بحقيقة الدين، وأن يجزل على الفقيد وافر الرحمة والرضوان، وأن يجبر قلوب أهله ومحبيه، بالصبر والسلوان، والحمد لله رب العالمين.

السيد منير السيد عدنان الخباز
الجمعة 11/ 11 / 1433هـ