كلمة سماحة السيد | مهرجان أبطال كربلاء

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد عن الرسول الأعظم أنه قال: ”حسينٌ مني وأنا من حسين، أحبَّ الله من أحبَّ حسينًا، وأبغض الله من أبغض حسينًا، حسينٌ سبطٌ من الأسباط“

صدق الرسول الكريم

انطلاقًا من هذا الحديث النبوي الشريف نتحدث في محورين بهذه المناسبة العظيمة ميلاد أبي الأحرار الحسين بن علي «صلوات الله وسلامه عليه وآله».

المحور الأول: بيان المسانخة بين النور المحمدي والنور الحسيني.

إنَّ النبي الأعظم عندما يقول: ”حسين مني وأنا من حسين“ فإنَّ هذا التعبير يشير إلى المسانخة بين هذين الوجودين، عندما يقال: فلانٌ مني وأنا منه، فمعناه أن هناك مسانخةً واتحادًا بيننا وبين هذين الطرفين، ”حسين مني وأنا من حسين“ أي: بين النبي الأعظم وبين الحسين بن علي تسانخٌ استوجب أن يستخدم النبي هذا التعبير، وهذه المسانخة بين هذين النورين تتجلى لنا في موردين:

المورد الأول: مورد الحركة الجوهرية للدين.

الأشياء كلها تعيش الحركة، قد تعيش الحركة المكانية، وقد تعيش الحركة الجوهرية. الإنسان عندما يأتي من الخارج إلى داخل المسجد فهو يمارس حركة، لكنها حركة مكانية، أما الإنسان الذي يتعلم ويستقي المعلومات لينتقل من معلومات إلى أخرى، ومن نتائج إلى أخرى، فهذه الحركة التي يمارسها الذهن بين المعلومات هي حركة جوهرية، جوهر الروح يتحرك من حالة الجهل إلى حالة العلم، لا أنه يتحرك حركة مكانية، وإنما يتحرك حركة في صميم وجوده، فهو يتحرك من حالةٍ إلى حالة، وهذا ما يعبّر عنه بالحركة الجوهرية.

وكما أن الإنسان يعيش ألوانًا وأصنافًا من الحركة، فإن الدين أيضًا عاش ألوانًا وأصنافًا من الحركة، الدين الإسلامي أيضًا عاش حركة جوهرية في صميمه، بمعنى أن هذا الدين انتقل من مرحلة إلى مرحلة انتقالًا جوهريًا وجذريًا على يد شخصين: النبي محمد والحسين بن علي . النبي الأعظم نقل الدين لا بالحركة المكانية من مكة إلى المدينة، وإنما نقل الدين بحركة جوهرية في صميم هذا الدين من الوجود الروحي إلى الوجود التنظيمي. كان الدين عقيدةً تعيش في نفوس المؤمنين عندما كانوا في مكة المكرمة، والنبي الأعظم نقل هذا الوجود إلى أن أصبح الدين دولةً وقانونًا وتشريعًا ومصدرًا لتنظيم الحياة، فالدين انتقل في حركة صميمية عبر وجود النبي من حالة إلى أخرى.

والحسين نقل الدين بحركة جوهرية من حالة الأخذ إلى حالة العطاء. المؤمنون يتعاملون مع الدين بلغة الأخذ، المؤمن يصلي كي يأخذ من الصلاة حالة الخشوع والطمأنينة والسكينة، المؤمن يتصدق، المؤمن يصوم، كي يأخذ من الدين الثواب والأجر والمصالح التي ترجع إلى ذاته. الحسين بحركته عاش الدين حركةً جوهريةً في صميمه، حيث نقل الدين في نفوس المؤمنين من حالة الأخذ إلى حالة العطاء، الحسين قال: أنا لا آخذ من الدين، بل أعطي الدين، أعطي الدين دمي، وأعطي الدين الغالي والنفيس، وأعطي الدين التضحية والفداء وسائر المبادئ المتحركة ضمن إطار الدين، الحسين بحركته التضحوية نقل الدين من حالة الأخذ إلى حالة العطاء، إلى حالة البذل، إلى حالة التضحية.

الحسين وجده رسول الله «صلى الله عليهما وآلهما» تمثّلا وتسانخا في صفة، ألا وهي هذه الصفة: الانتقال بالدين من خلال حركتهما حركة جوهرية من حالة إلى حالة أخرى، ومن وجود إلى وجود. الدين ليس شيئًا غير هذا الوجود الحي الذي يعيش في النفوس، وهذا الوجود إذا تطور من حال إلى حال فقد عاش هذا الوجود حركةً جوهريةً تمت ونمت وأورقت على يد هذين القائدين العظيمين: محمدٍ والحسين.

المورد الثاني: الجاذبية الدعوية.

عندما نقرأ شخصية النبي ، فالنبي كانت له عدة صفات، كان نبيًا إمامًا معصومًا وسائر الصفات الأخرى، لكن هناك صفةً هي تعتبر من مقوّمات شخصية النبي ، ألا وهي صفة الجاذبية الدعوية. لماذا خُلِق النبي؟ خُلِق لكي يكون داعية، ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، النبي خُلِق لكي يكون داعية، ولأنه خُلِق لهذا الهدف جُهِّز من قبل الله لأجل هذا الهدف، جُهِّز بأجهزة تتناسب وتتناغم مع هذا الهدف.

إذن فالنبي من صفاته وسماته التي جُهِّز بها والتي تتقوّم شخصيته بها الجاذبية للآخرين؛ لأن الدعوة تحتاج إلى عنصر الجاذبية، لأن أخذ الأمة وأخذ المجتمع البشري إلى حظيرة الإيمان يحتاج إلى جاذبية، خُلِق النبي جذّابًا، خُلِق النبي وهو يمتلك عناصر الجاذبية، النبي جذّابٌ في شكله، جذّابٌ في لسانه، جذّابٌ في سلوكه، جذّابٌ في خلقه، جذّابٌ في تواضعه، جُهِّز بروح الجاذبية من مختلف أنحائه، ومختلف تفاصيل حياته، ليكون النبي قطعةً من الداعوية والجاذبية، ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، أنت قطعةٌ من الداعوية والجاذبية، لقد جُهِّزَت بهذه الأجهزة لتكون مصدرًا للداعوية نحو الدين، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ.

وهذه الجاذبية التي تمثّلت وتجسّدت في شخصية النبي الأعظم امتدت بصورة جلية واضحة في الحسين بن علي . الحسين شخصيةٌ جذّابةٌ، بتمام أنحائها، وتمام تفاصيلها، بل هي امتدادٌ لجاذبية النبي الأعظم ، ولأجل هذا التسانخ في الجاذبية قال النبي الأعظم: ”حسين مني وأنا من حسين“، لأن الحسين جذّاب لذلك ”أحب الله من أحب حسينًا، وأبغض الله من أبغض حسينًا“.

المحور الثاني: علاقة الجاذبية الحسينية بالشعائر.

انطلاقًا من هذه النقطة - وهي الجاذبية المحمدية الحسينية التي تمتّع بها الحسين بن علي - نقول: جاذبية الحسين لم تقتصر على حياته عندما كان يعيش بين الناس، وإنما امتدت جاذبيته لما بعد شهادته، ”إن لجدّي الحسين حرارةً في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدًا“، الإيمان يعني الجاذبية الحسينية، الجاذبية الحسينية استمرت لما بعد شهادة الحسين، وتستمر إلى يوم القيامة، فهي امتدادٌ للجاذبية المحمدية.

الجاذبية الحسينية تتمثّل في الشعائر، هذه المجموعة من الشعائر التي يمارسها الحسينيون هي لونٌ من جاذبية الحسين، الشعائر الحسينية هي صورةٌ من صور جاذبية الحسين ، الشعائر تدخل تحت إطار الجاذبية الحسينية، وهنا نريد أن نتحدث عن الشعيرة الحسينية ومدى جاذبيتها للمجتمع البشري، لنعرف كي تكون الشعيرة الحسينية مظهرًا وامتدادًا لجاذبية الحسين .

علماء الاجتماع يقولون: لكل منهج عنصران: لغة ومضمون، اللغة عنصر متحرك، والمضمون عنصر ثابت. الدين أيضًا له عنصران: عنصر لغة، وعنصر مضمون، المضمون ثابت، اللغة كائنٌ متحرّكٌ يتغيّر، المضمون القرآني واحد، لكن هذا المضمون القرآني قد تصوغه باللغة العربية، قد تصوغه باللغة الإنجليزية، قد تصوغه باللغة الفرنسية، اللغة تتغير لأنها عنصر متحرك، لكن المضمون عنصر ثابت.

لأجل ذلك، بما أن هناك فرقًا بين العنصرين، فالأول - وهو عنصر اللغة - عنصر متحرك يقبل التغير، والثاني - وهو عنصر المضمون - عنصر ثابت، فلنرجع إلى الشعيرة الحسينية: الشعيرة الحسينية أيضًا ذات بعدين: لغة ومضمون. مضمون الشعيرة الحسينية مضمونٌ ثابتٌ، الشعيرة الحسينية مضمونها جاذبية المجتمع البشري نحو مبادئ الحسين ، التي هي مبادئ السماء، التي هي مبادئ الإسلام، هذا المضمون ثابت. أما اللغة: لغة الشعيرة الحسينية قد تتغير، قد تتطور؛ لأن اللغة تدور مدار المضمون، المضمون هو الجاذبية، فعلى اللغة أن تنسجم مع الجاذبية في كل جيل، وفي كل مرحلة، لا بد أن تكون اللغة لغة جذّابة، لا بد أن تكون اللغة لغة أخّاذة، لا بد أن تكون اللغة منسجمةً ومتناغمةً مع المضمون، مضمون الشعيرة، ألا وهي الجاذبية نحو مبادئ الحسين وقيمه .

عندنا شعائر ثابتة وردت في النصوص، لا مجال لتغييره أو تبديلها، وعندنا شعائر ترجع إلى قسم اللغة، وبما أنها من قسم اللغة فهي تحتاج إلى أن تتطور بمرور الزمن، وتحتاج إلى أن تنمو بمرور الزمن، لكي تنسجم مع طبيعة مضمون الشعيرة، ألا وهو الجاذبية نحو مبادئ الحسين . قضية الحسين قد نصوغها بلغة عاطفية، وهذه لغة، وقد نصوغها بلغة عقلية، وهذه لغة، وقد نصوغها بلغة تمثيلية، وهذه لغة، اللغة تختلف، والمضمون واحد، فلا بد للغة أن تنسجم مع مضمون الشعيرة.

ومن هنا نقول: هناك لمسةٌ في حركة الحسين لا توجد في حركة أخرى، وعلينا أن نبرز هذه اللمسة في حركة الحسين ، حركة الحسين سبقتها حركات وثورات، ولحقتها حركات وثورات، ما هو الفرق بين ثورة الحسين وغيرها من الثورات؟ الفرق بين ثورة الحسين وغيرها من الثورات النفحة الإنسانية، أن ثورة الحسين تستبطن النفحة الإنسانية التي لا توجد في غيرها من الثورات، وهنا أذكر لك ثلاثة جوانب تتميز فيها ثورة الحسين عن غيرها من الثورات، ليستبين لنا مدى النفحة الإنسانية في ثورة الحسين .

الجانب الأول: لغة التخيير.

كل ثورة تطغى على المجتمع بالإقحام القهري، عندما تقوم ثورة في أي منطقة من مناطق العالم فإن التيار الثوري يفرض على المجتمع رؤيته، يفرض على المجتمع نظريته، يضطر باقي المجتمع إلى أن يداري هذا التيار الثوري، وألا يعترض عليه، كي لا يسحق من قبل هذا التيار، كل ثورة تفرض على المجتمع رؤيتها من خلال الإقحام، من خلال أن التيار الثوري يفرض على المجتمع أن يمشي معه، وإلا سُحِق من يعارض هذا التيار.

أما ثورة الحسين فقد اتسمت منذ أول يوم بلغة التخيير لا بلغة الإقحام، الحسين قال: أنا ثائر، لكن ثورتي ثورة تخييرية، لا أفرض على أحد فكري، ولا أفرض على أحد منهجي، ولا أفرض على أحد أطروحتي، ولذلك إلى ليلة العاشر من المحرم، وهي ليلة حصاد الثورة الحسينية، قال: ”أصحابي هذا الليل قد غشيكم“، أنا ليس عندي إقحام، ليس لدي تيار ثوري يفرض على المجتمع رؤيته ونظريته، أنتم بالخيار إلى آخر لحظة، ”أصحابي هذا الليل قد غشيكم، فاتخذوه جملًا، وليأخذ كل رجل منكم يد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم، فإن القوم لا يريدون غيري، ولو ظفروا بي للهوا عن غيري“. الحسين أراد أن يبيّن أن الثورة الحقيقية ما كانت نابعة من القناعة الذاتية، لا ما كانت نابعة مع المماشاة والمداراة للتيار الثوري الذي يقحم المجتمع في نظريته، الحسين يقول: أنا بالخيار، وثورتي بالخيار.

الجانب الثاني: الثورة والأحلام الوردية.

كل ثورة تقوم يقوم قائدها وينادي المجتمع بالأحلام الوردية، إذا ثرتم معي فستحصلون على كذا وكذا من المناصب ومن الثروات ومن كشف الكربات ومن ومن ومن... إلخ، دائمًا القائد كي يحمّس المجتمع نحو قيادته الثورية، يمنّي المجتمع بالأحلام الوردية والأمنيات، حتى ينهض المجتمع معه.

أما الحسين فقال: ليس لدي أحلام وردية، وليس لدي أمنيات، وليس لدي ما يُطْمَع فيه، ليس أمامي إلا الشهادة، ”ألا فمن كان فينا باذلًا مهجته، موطنًا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإني راحل مصبحًا إن شاء الله“، فكانت قيادته وثورته تختلف عن غيرها من الثورات؛ لأنها لم تستخدم أسلوب الأحلام الوردية، وإنما استخدمت لغة الواقع: ليس أمامنا إلا الموت والشهادة.

الجانب الثالث: الشفافية.

عندما نقارن بين ثورة الحسين وغيرها من الثورات: كل ثورة لها منظّرون ولها منفّذون، والمنظّرون عادة في كل ثورة لهم برنامج مخفي وبرنامج مظهر للناس، البرنامج المخفي لا يعرفه إلا اثنان أو ثلاثة من المنظرين، والبرنامج الذي يظهر للناس هو الذي يتشدق بها الثائرون والمتعاطفون والمتفاعلون مع الثورة.

أما الحسين فليس له ظاهر وباطن، وليس له برنامج مخفي وبرنامج ظاهر، الحسين منذ أول يوم واقعه ظاهره وظاهره باطنه، ”إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردَّ على هذا فالله يحكم بيني وبين القوم بالحق؛ إنه خير الحاكمين“.

تميزت ثورة الحسين على غيرها من الثورات، بالجانب والعنصر الإنساني، ولذلك علينا - نحن الحسينيين، نحن أصحاب الشعائر الحسينية، نحن أبناء المنابر والمآتم، نحن أبناء الحسين - أن نركز على اللمسات والنفحات الإنسانية في حركة الحسين . إبراز النفحات الإنسانية في حركة الحسين هو تطويرٌ للغة الشعائر الحسينية، التركيز على النفحات الإنسانية في حركة الحسين تطويرٌ للغة الخطاب الحسيني، تطويرٌ للغة الشعائر الحسينية، ولأذكر بعض الجوانب، هناك عدة ملامح للعنصر الإنساني النقي الطاهر في حركة الحسين.

الملمح الأول: القيادة الأبوية.

الحسين قاد الثورة، ولكنه ما قادها وهو يعيش في برج عالٍ، قادها وهو مع الثائرين منذ أول المعركة إلى آخرها، الحسين قاد الثورة قيادةً أبوية. محمد بن الحضرمي كان له ولد قد أسر في الغزو، فالتفت إليه الحسين ، وقال: يا بن الحضرمي، بلغني أن ابنك أسير، فأنت في حل من بيعتي، واذهب لفك أسر ولدك. قال: لا والله لا تطاوعني رجلاي أن أخذلك يا بن بنت رسول الله وأنت في هذا اليوم. فقام الحسين ليبيّن أن القيادة ليست قيادة أنانية لا تفكر إلا في ذاتها، بل هي قيادة أبوية تعيش آلام هؤلاء الثائرين ومعاناتهم وهمومهم. وهبه خمس حلل ثمينة ليبيعها ويفك بثمنها أسر ولده، ليبيّن له أنت معنا ونحن معك، وليس هناك قائد ومقود، بل هناك أبوة وأخوة دينية وإنسانية، وهذا من العناصر الإنسانية في ثورة الحسين .

الملمح الثاني: تجسيد الهدف تجسيدًا عمليًا.

الحسين لم يطرح أهدافًا وابتعد عنها، بل جسّدها بنفسه تجسيدًا عمليًا. الحسين يقول لجون مولى أبي ذر: أنت إنما لحقتنا طلبًا للعافية، وحيث حلَّ بنا ما حل، فأنت في حل منا. قال: لا والله يا سيدي، إن لوني لأسود، وإن ريحي لنتن، وإن حسبني للئيم، فمُنَّ عليَّ بالشهادة حتى يختلط دمي بدمائكم آل بيت محمد. وعندما سقط جون صريعًا على الأرض، جسّد الحسين هدفه تجسيدًا عمليًا، من أهداف الثورة الأخوة الإسلامية، من أهداف الثورة الأخوة الإنسانية، أراد الحسين أن يجسّد الهدف وهو في المعركة، فجلس ووضع خده على خد جون مولى أبي ذر وقال: اللهم بيّض وجهه، وطيّب ريحه، واحشره مع محمد وآله الطيبين الطاهرين. وإذا بجون يبتسم ويقول: من مثلي والحسين بن علي يضع خده على خدي؟! الحسين يجسّد الهدف الذي ينادي به تجسيدًا عمليًا، لا أنه مجرد هدف نظري يطرحه الحسين ، وهذا ملمح من ملامح العنصر الإنساني في ثورة الحسين .

الملمح الثالث: المبدئية.

كثير من الثوار، وكثير من القادة، عنده الغاية تبرر الوسيلة، المهم أن تنجح الثورة، من الممكن أن يستخدم وسائل لا يراها مشروعة قبل أن يثور، لكنه يراها مشروعة بعد أن دخل في نطاق الثورة، أما الحسين فهو مبدئي إلى آخر لحظة، وليس لديه ما يسمى بأن الغاية تبرّر الوسيلة، بل لا بد أن تكون الوسيلة مبدئية كالغاية أيضًا. الحسين خرج من مكة، كان بإمكانه أن يطلق ثورته من مكة، ولو أطلقها من مكة لكان ذلك أكثر أمنًا، وربما كان أكثر صيتًا، وأكثر رواجًا؛ لأنها انطلقت من سبط رسول الله من البيت الحرام، لكن الحسين قال لأخيه محمد بن الحنفية: ”إنني أخشى أن تستباح به حرمة الكعبة“. ليس عندي الغاية تبرر الوسيلة، أنا أحافظ على المقدسات.

الحسين في يوم عاشوراء، والحرب قائمة، يقول: قولوا لهؤلاء القوم يمهلوننا بعض الوقت حتى نصلي لربنا، المسألة مسألة صلاة، هذه المعركة لأجل الصلاة، فلا بد أن نجسّد الهدف في خضم المعركة، كما قال أبوه الإمام أمير المؤمنين : علام نقاتلهم؟! إنما نقاتلهم لأجل الصلاة.

الملمح الرابع: النبل الإنساني.

النبل بمعنى أن تتعامل حتى مع أعدائك بلغة إنسانية، بلغة نقية. الحسين كان كذلك، الحسين يجتمع مع عمر بن سعد، وينصحه في التراجع عن المعركة، مع أن الحسين يدري أن عمر بن سعد لو تراجع لن تتغير المعركة، سيؤتى بشخص ربما يكون أشد وأعظم من عمر بن سعد، وهم جاهزون، كالشمر بن ذي الجوشن وغيره، جاهزون للقيادة لو تنحى عمر بن سعد، الحسين يدري أن عمر بن سعد لن يغيّر من وضع المعركة شيئًا، لكن النبل الذي يعيش في داخل الحسين اقتضى أن يستدعي عمر بن سعد لينصحه ويقول له: ارجع عن هذا الأمر، قال: أخاف أن تُهْدَم داري، قال: أنا أبنيها لك، قال: أخاف أن تؤخذ أموالي وأملاكي، قال: أنا أعوّضها بمالي في المدينة.

الحسين أراد أن يفهّم الأجيال بأنَّ هذه الثورة إنسانية، تعيش على القيم الإنسانية، تعيش على المثل الإنسانية، التركيز على هذه الملامح للعنصر الإنساني في حركة الحسين وفي ثورة الحسين هو أداةٌ من أدوات تطوير لغة الخطاب الحسيني، لكي تنسجم اللغة مع المضمون، لكي تكون اللغة محققة ومجسدة للجاذبية الحسينية، التي هي امتدادٌ لجاذبية النبي محمد ، والتي أشار إليها النبي الأعظم في قوله: ”حسين مني وأنا من حسين“.