مبدأ العزة وصلح الإمام الحسن (ع)

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث عن محاور ثلاثة:

  • في بيان مفهوم العزة.
  • وفي بيان أقسام العزة.
  • وفي الربط بين صلح الإمام الحسن الزكي ومبدأ العزة.
المحور الأول: مفهوم العزة.

العزة بحسب استعمالات القرآن الكريم قد استعملت بعدة معانٍ:

المعنى الأول: العزة بمعنى الغلبة والنصر.

﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا، ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ بمعنى: تغلّب عليَّ في الخطاب، والعزيز: من كانت له الغلبة، ومن كان له النصر، ﴿يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ.

المعنى الثاني: العزة بمعنى ما يشقّ على النفس.

الشيء الذي يشقّ على النفس يقال له عزيز، مثلًا: الآية المباركة في قوله عز وجل: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، «عزيز عليه» أي: يشق على نفسه، يصعب على نفسه.

المعنى الثالث: العزة بمعنى الحمية.

﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ أي: في حمية وعصبية. فالعزة لها عدة معان منتزعة ومستفادة من خلال استعمالات القرآن الكريم، والمعنى المقصود في الآية المباركة - وهي قوله عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ - العزة بمعنى الغلبة وبمعنى النصر، أي: إن كان هناك منعةٌ وغلبةٌ حقيقيةٌ فإن الغلبة الحقيقية لله ولرسوله وللمؤمنين.

المحور الثاني: أقسام العزة.

عندما نريد أن نتأمّل في أقسام العزة وأنواعها فالعزة لها ثلاثة أنظار: العزة بالنظر الفقهي، والعزة بالنظر بالفلسفي، والعزة بالنظر بالعرفاني، ويمكن أن يتجلى لنا معنى العزة وحدودها بحسب اختلاف الأنظار، وبحسب اختلاف المقاييس.

المنظور الأول: المنظور الفقهي.

هل الموازين الفقهية ترى للعزة رتبةً أو عنوانًا يمكن أن يؤثر على حكم شرعي معين؟ نعم، يمكن ذلك؛ باعتبار أن العناوين المؤثرة في الأحكام الشرعية على قسمين: عناوين أولية، وعناوين ثانوية. ربما يكون الفعل الواحد ذا حكمين، فهناك بالعنوان الأولي له حكم، وبالعنوان الثانوي له حكم آخر، فمثلًا: صوم شهر رمضان بالعنوان الأولي واجب، بالعنوان الثانوي: لو كان صوم شهر رمضان مضرًا بالبدن ضررًا بالغًا لكان الصوم محرمًا، فالفعل الأول قد يتعنون بعنوانين، ونتيجة اختلاف العناوين قد يعرض عليه حكمان شرعيان.

العزة من العناوين الثانوية المؤثرة في الأحكام الشرعية أيضًا، فمثلًا: عندما نرجع إلى الكتب الاستدلالية الفقهية نرى أن الفقهاء يقولون: تشريح جسد الميت المسلم، إذا مات المسلم هل يجوز تشريحه أم لا؟ إما من أجل اكتشاف جريمة، إما من أجل اكتشاف وباء، إما من أجل إنقاذ نفس محترمة. تشريح جسد الميت المسلم بالعنوان الأولي حرام، لا يجوز؛ لأنه تصرفٌ في بدن الغير، والتصرف في بدن الغير غير جائز، كما ورد عن النبي محمد : ”إن حرمة المؤمن ميتًا كحرمته حيًا“، كما لا يجوز التصرف في أي شيء من كرامته، أمواله، جسمه، وهو حي، كذلك لا يجوز التصرف في جسمه وهو ميت.

التشريح بالعنوان الأولي حرام، لكن التشريح بالعنوان الثانوي جائزٌ، بل قد يكون واجبًا، كما لو توقف على تشريح جسد الميت المسلم اكتشاف الجريمة، أو اكتشاف الوباء، فإنه حينئذ يكون التشريح أمرًا لازمًا شرعًا؛ من أجل دفع الضرر عن المؤمنين، عن المجتمع الإسلامي. من العناوين الثانوية المسوّغة لتشريح بدن الميت المسلم ما عبّر عنه أحد أعلام الحوزة العلمية - المرحوم الشيخ حسين الحلي - بالعزة، عزة المجتمع الإسلامي.

بمعنى: في كثير من المجالات الطبية هناك حدودٌ شرعيةٌ، يحرم النظر، يحرم اللمس، يحرم النظر إلى جسم الأجنبية، يحرم لمس غير المماثل، يحرم تشريح بدن الميت المسلم، وأمثال ذلك من الأحكام الشرعية بالعنوان الأولي، الشيخ الحلي يقول: لو أننا منعنا المسلمين عن هذه الأمور بالعنوان الأولي سوف يبقى المجتمع الإسلامي محتاجًا إلى المجتمعات الأخرى؛ لأنه ما لم يعتمد المجتمع الإسلامي على نفسه في هذه المجالات، ما لم يكن المجتمع الإسلامي متضمنًا للكفاءات في مجال الطب وفي مجال الهندسة وفي مجال الرياضيات وفي مجال الفيزياء، ما لم يكن المجتمع متضمنًا للكفاءات، مستغنيًا بطاقاته وكفاءاته، فسوف يبقى محتاجًا إلى المجتمعات الأخرى، وحاجة المجتمع الإسلامي للمجتمعات الأخرى تتنافى مع مبدأ العزة، وقد قال الله عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.

إذن، عزة المجتمع الإسلامي عنوانٌ ثانويٌ له تأثيرٌ في الأحكام الشرعية، تشريح بدن الميت المسلم حرام بالعنوان الأولي، لكنه جائز إذا كان ذلك في طريق الحفاظ على عزة المجتمع الإسلامي. هذه هي النظرة الفقهية للعزة.

المنظور الثاني: المنظور الفلسفي.

المنظور الفلسفي يقرّر أن الصفات على قسمين: هناك صفات بالعرض، وهناك صفات بالذات. مثلًا: الماء يكتسب الحرارة بالعرض، بمعنى أننا إذا جعلنا الماء على النار اكتسب الحرارة من النار، فالماء في حد نفسه لا يتصف بالحرارة، وإنما يتصف بالحرارة بالعرض، يكتسبها من الجسم الحار، ألا وهو النار مثلًا، بينما النار حرارة بذاتها، لا أنها تكتسب الحرارة من معدن آخر، من جوهر آخر، فاتصاف الماء بالحرارة بالعرض، بينما اتصاف النار بالحرارة بالذات، فهناك فرق بين ما بالذات وما بالعرض.

الإنسان عالمٌ بالعرض؛ لأنه يكتسب علمه من منابع أخرى، لكن الله تبارك وتعالى عالمٌ بالذات، علمه عين ذاته، لا أنه يكتسب العلم من مصدر آخر، ومن رافد آخر. من هذا المنطلق أيضًا يكون للعزة انقسام: العزة بالعرض والعزة بالذات. العزة لكل المخلوقين هي عزة بالعرض وليست بالذات؛ لأن الإنسان بطبعه هو الفقر، هو التعلق، الإنسان في حد نفسه لا يمتلك أي حياة، وأي غنى، وأي وجود، فالإنسان في حد نفسه هو عين الفقر، عين الحاجة، عين التعلق بالله عز وجل، والله عز وجل في حد ذاته هو عين الغنى، عين الكمال، عين الوجود، فلا محالة عزة الإنسان عزة بالعرض، والعزة بالذات لله عز وجل. من هنا قالت الآية المباركة: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا، وقالت الآية الأخرى: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ.

المنظور الثالث: المنظور العرفاني.

العرفاء أيضًا يقسّمون العزة إلى عزة صورية وعزة حقيقية، كسائر الأوصاف والأعراض الأخرى التي تنقسم إلى صوري وحقيقي، فمثلًا: عندما نأتي إلى الصلاة، الصلاة لها مرتبتان: مرتبة صورية ومرتبة حقيقية. صلاتنا نحن صلاة المشغولين، من كان ذهنه مشغولًا برزقه، مشغولًا بمستقبله، مشغولًا بعياله، صلاته صلاة صورية، صلاة شكلية، مكونة من طقوس، ركوع وسجود وأذكار، أما الصلاة الحقيقية فهي الصلاة التي تعرج فيها الروح إلى ربها، ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، الصلاة الحقيقية هي التي يعبّر عنها القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.

كما أن الصلاة قسمان: صورية وحقيقية، العزة أيضًا قسمان: عزة صورية وعزة حقيقية. العزة الصورية هي عزة الثروة، عزة المنصب، عزة اللقب، من كانت له ثروة كان عزيزًا بين الناس لكنها عزة صورية، من كان له منصب كان عزيزًا بين الناس لكنها عزة صورية، من كان له لقب - عائلة - فهو عزيزٌ بين الناس إلا أنها عزةٌ صورية، كل هذه الصور والألوان من العزة هي عزة شكلية، ستفنى يومًا من الأيام، ستضمحل يومًا من الأيام، المنصب يذهب يومًا من الأيام، الثروة تذهب يومًا من الأيام، العائلة تنخفض كما ارتفعت يومًا من الأيام، كل هذه الصور هي عزة مؤقتة، عزة صورية.

العزة الحقيقية التي لا تنفصل ولا تنفك بل تبقى ثابتة - ليست متغيرة ولا مضمحلة - عزة الإيمان، وأما العزة الأخرى فهي أمر صوري، ولذلك يقول تبارك وتعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ.

وهنا ذكر الإمام الحسن الزكي مقياسًا للفرق بين العزة الصورية والعزة الحقيقية: ”من أراد عزًا بلا عشيرة، وهيبةً بلا سلطان، فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته“، العزة الحقيقية عزة الإيمان، المؤمن الثابت على مبادئه عزيزٌ، عزيز عند الله، وعزيز عند الناس، لأن الإنسان المبدئي محترمٌ عند الناس، هذا إنسان ثابت، هذا إنسان لا يتغير، هذا إنسان لا يتبدل، إنسان ثابت على مبادئه وقيمه، الإنسان المبدئي عزيز عند الله عزيز عند الناس أيضًا؛ لأنه إنسانٌ ثابتٌ على مبادئه وثابتٌ على قيمه ومواقفه.

من هنا، عندما نقرأ هذه الآية التي افتتحنا بها، نرى أن هذه الآية تربط بين العزة الحقيقية والإيمان، قوله عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ للمؤمنين لأنهم مؤمنون، أي أن العزة في الواقع هي للإيمان وليست لأشخاصهم، لأنهم مؤمنون اكتسبوا العزة، وقد قال تبارك وتعالى في آية أخرى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ، لاحظ الربط بين صدر الآية وذيلها، صدر الآية يتحدث عن العزة، ذيل الآية يشرح لنا ما هي العزة الحقيقية، وما هو المقياس في العزة الحقيقية، هل العزة الحقيقية بالثروة، بالمنصب، بالعائلة؟ لا، العزة الحقيقية بالكلم الطيب والعمل الصالح، هذا هو مقياس العزة الحقيقية، وهو ميزان العزة الملكوتية عند الله تبارك وتعالى.

المحور الثالث: الربط بين مبدأ العزة وصلح الإمام الحسن .

العزة الحقيقية هي للإيمان، الإيمان هو محور العزة، وهو مركز العزة، ولأجل ذلك فأعظم منصب يحمل الإيمان هو أعظم منصب يحمل العزة، كلما تسامى الإنسان في الإيمان تسامى في العزة، كلما ترقى الإنسان في الإيمان ترقى في العزة. من هنا، أعظم منصب في الإسلام لا بد من الحفاظ على عزته هو منصب الإمامة، منصب الإمامة هو منبع الإيمان، هو معدن الإيمان، وبما أن العزة للإيمان إذن فأعظم منصب لا بد من الحفاظ على عزته بين المسلمين هو منصب الإمامة.

من هذا المنطلق، انطلق الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة في الحفاظ على عزة منصب الإمامة. قد يتساءل الإنسان فيقول: كيف اختلف الأسلوب؟ كيف اختلف أسلوب الحسين عن أسلوب أخيه الحسن؟ الحسين اختار المواجهة، الحسن اختار الصلح، كيف اختلف الأسلوبان وهما إمامان ينطلقان عن مصدر واحد ومنهل واحد؟ وكما ورد عن النبي محمد : ”ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا“، فلم اختلف الأسلوب ومنبعهما واحد؟

إن المبدأ الذي حرّك الحسين هو المبدأ الذي صالح على إثره الحسن، ألا وهو مبدأ العزة، نفس المبدأ. الحسين رأى بيعته ليزيد بن معاوية المتجاهر بالفسق إذلالٌ، لا إذلال لشخصه، بل إذلالٌ لمنصب الإمامة، هذا المنصب العظيم إذلالٌ له بيعة الحسين ليزيد بن معاوية، فانطلاقًا من عزة منصب الإمامة، انطلاقًا من هذا المبدأ القرآني ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ رفض بيعة يزيد بن معاوية مهما كلّف الأمر، وقال: ”ألا وإن الدّعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة“، لا بد أن نحافظ على عزة منصب الإمامة، ”يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجذور طابت، وحجور طهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام“، وقال في يوم عاشوراء: ”والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد“.

إذن، المبدأ الحسيني الذي انطلق منه الحسين في حركته وثورته هو مبدأ العزة، نفس المبدأ هو منطلق الإمام الحسن، فكيف صار مبدأ العزة في صلح الإمام الحسن لمعاوية بن أبي سفيان؟ من الواضح أن الإمام الحسن تعرّض لمواجهةٍ ومعارضةٍ وهو حي، اعترض عليه بعض شيعته وهو في حياته، اعترضوا على صلحه لمعاوية بن أبي سفيان. دخل عليه عمرو بن الحمق الخزاعي معترضًا، ودخل عليه حجر بن عدي الثائر الشهيد متسائلًا ومستغربًا، ودخل عليه بعض الشيعة وقالوا له: ليتك متَّ يا حسن ولم تصالح معاوية بن أبي سفيان! ودخل عليه أيضًا بعض شيعته وقال: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين!

الإمام الحسن الزكي تلقى كل ذلك، وشرح لهم الأسباب بحسب الروايات الواردة عنه، ومن تلك الروايات هذه الرواية الشريفة التي تؤكّد لنا المنطلق الذي انطلق منه الإمام الحسن الزكي في صلحه معاوية بن أبي سفيان، ألا وهو مبدأ العزة، نفس المبدأ الذي انطلق منه الحسين . الحسن بن علي أدرك أنه لو خاض الحرب مع معاوية بن أبي سفيان بذلك الجيش الخائر الضعيف، لم تكن نتيجة الحرب شهادة الإمام الحسن، لو كانت النتيجة أن الإمام الحسن يستشهد لأقدم الحسن على خوض الحرب، كانت النتيجة - بحسب تحليل الإمام الحسن لذلك الواقع المرير - أسر الإمام الحسن.

كان معاوية يهدف لهذه الفرصة الذهبية، أن يقع الحسن أسيرًا بين يديه، كان معاوية يخطّط لهذا اليوم الذي يُرَى فيه سيدُ شباب أهل الجنة - ريحانة رسول الله، خليفة المسلمين بعد مقتل أبيه الإمام أمير المؤمنين علي - أسيرًا بين يدي معاوية، وأن تأسره شيعتُه، وأن يأسره بعضُ المقرّبين منه، لذلك بذل معاوية السبل والخطط الكثيرة في أن يقع الإمام الحسن في مصيدته، أغرى كثيرًا من الطامعين والانتهازيين بأسر الإمام الحسن ، وأن يسلّموه إلى معاوية سرًا، وكان يرغب معاوية أن تقع الحرب، كانت الحرب أمنتيه؛ لأن نتيجتها أن يقع الحسن أسيرًا لمعاوية بن أبي سفيان.

ولو وقع الحسن أسيرًا لكان الموقف إذلالًا لمنصب الإمامة لا يعادله إذلال، سيد شباب أهل الجنة، خليفة أمير المؤمنين، من بايعه المسلمون بالخلافة بعد شهادة أبيه الإمام أمير المؤمنين علي ، يقع أسيرًا بين يدي معاوية، سواء قتله معاوية أو عفا عنه، النتيجة واحدة، وقوعه أسيرًا بين يدي معاوية إذلالٌ لمنصب الإمامة، ولذلك فوّت الإمام الحسن الفرصة على معاوية، وسدّ الأبواب أمام هذا الهدف الذي كان يخطّط له معاوية بن أبي سفيان، وهو وقوع الحسن أسيرًا بين يديه.

ولذلك ورد في الرواية الشريفة: ”والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي“، أنا لا أُقْتَل، هم يريدون هذه النتيجة، ”والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي؛ حتى يدفعوني إليه سلمًا - أي: أسيرًا - فلئن أسالمه وأنا عزيز“ لاحظ مبدأ العزة، منطلق العزة الذي يركّز عليه، ”فلئن أسالمه وأنا عزيز أحب إليَّ من أن يقتلني وأنا أسير“، لو كان يقتلني في الحرب لكان ذلك مفخرةً وعزةً، أما أن يقتلني وأنا أسير فهذا إذلال، ”أو يمن عليَّ بالعفو، فتكون سُبَّةً على بني هاشم، لا يزال يمنّ بها معاوية وهو عقبه على الحي منا والميت“، معاوية أسير، معاوية طليق، وأبوه طليق، كلاهما وقعا أسيرين لرسول الله في يوم فتح مكة، فأطلقهما وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.

هذا الموقف لا يغيب عن معاوية، أنه في يوم من الأيام كان طليقًا للنبي، أسيرًا عفا عنه النبي ، فكان يهدف معاوية إلى تكرار هذه الصورة ولكن في ابن بنت رسول الله، في سبط رسول الله، أن يقع الحسن أسيرًا بين يديه، فيعفو عنه، فيكتسب الجو العام مع معاوية، يكتسب قلوب المسلمين إلى جانبه؛ لأن الحسن حاربه وهو مع ذلك عفا عنه وأطلق سلاحه، فهي على كل المقاييس في صالح معاوية. من جهة سيكتسب قلوب المؤمنين؛ لأنه عفا عن ابن بنت رسول الله، ومن جهة أخرى سيكون الحسن أسيرًا ذليلًا بين يدي معاوية، وهذا ما يطمح إليه معاوية، أن يُرَى سيد شباب أهل الجنة في هذا الموقف المُذِل.

من هنا، كان من منطلقات صلح الحسن لمعاوية الحفاظ على عزة منصب الإمامة وعدم إذلاله، وهذا يختلف عن بقية الأئمة، فمثلًا: الإمام زين العابدين أُسِر ووقع بين يدي يزيد بن معاوية، الإمام الكاظم كان سجينًا في سجن هارون الرشيد، لكن الموقعية تختلف، الإمام الكاظم والإمام زين العابدين وإن كانا في درجة الإمامة مساوين للإمام الحسن، الأئمة من حيث درجة الإمامة ومن حيث الحجية هم متساوون، ولكن لبعض الأئمة فضائل أخرى وموقعيات أخرى تميّزهم على الأئمة الآخرين، الإمام علي أفضل الأئمة، الحسن أفضل من الحسين، الحسين أفضل من أبنائه، كل ذلك يرجع إلى كمالات معينة حظي بها بعض الأئمة بالنسبة إلى البعض الآخر.

فالأئمة وإن كانوا متساوين من حيث الإمامة، ومن حيث الحجية، إلا أن الإمام الحسن الزكي كانت له موقعيةٌ في نفوس الأمة ليست للأئمة الآخرين، ليست للإمام زين العابدين والإمام الكاظم، فهو ريحانة رسول الله ومن نصّ عليه النبي المصطفى بقوله: ”الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة“، ولذلك الإمام الحسين يوم عاشوراء احتج بهذا الحديث؛ لأن هذا الحديث له موقعيةٌ في نفوس المسلمين، قال: ”أو لم يبلغكم قول رسول الله فيَّ وفي أخي الحسن: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟!“.

إذن، كان للحسن والحسين موقعيةٌ في نفوس الأمة أكثر من موقعية الأئمة الباقين، وإن كانوا متساوين في درجة الإمامة، فلأجل هذه الموقعية كانت أسر الإمام الحسن الزكي إذلالًا لمنصب الإمامة، وكانت بيعة الحسين بن علي ليزيد بن معاوية إذلالًا لمنصب الإمامة، فانطلق الحسن والحسين من منطلق واحد، وهو الحفاظ على عزة الإمامة الذي هو حفاظٌ على عزة المجتمع الإسلامي بأسره آنذاك، ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.

وإلا فالإمام الحسن ما صالح خوفًا ولا جبنًا، وهو أحد القادة في يوم صفين. الإمام الحسن الزكي كتب إليه معاوية بن أبي سفيان، بعد أن استتبت الأمور لمعاوية ظاهرًا كتب للإمام الحسن، قال: يا أبا محمد، أنا خيرٌ منك؛ لأن الناس أجمعت عليَّ ولم تجمع عليك! فكتب إليه الإمام الحسن : ”إنَّ الذين أجمعوا عليك بين مكرهٍ ومطيع، فأما المكره فهو معذورٌ في كتاب الله، وأما المطيع فهو عاصٍ لله، وأنا لا أقول: أنا خير منك؛ لأنه لا خير فيك؛ فلقد برّأني الله من الرذائل كما برّأك من الفضائل“.

إذن، الإمام الحسن الزكي لم يكن يعجزه منطق، ولم تكن تعييه حجة، بل كانت الحجة له، والمنطق له، فلم يكن صلحه لمعاوية خوفًا أو جبنًا أو خذلانًا أو تراجعًا، وإنما كان من منطق الحكمة والحفاظ على عزة منصب الإمامة وعزة المجتمع الإسلامي.

الإمام الحسن الزكي كريم آل البيت، حليم آل البيت، كان يأتيه شيوخ العشائر في ذلك الظرف، معاوية تعامل مع العراق معاملة التجويع، معاملة قطع الأرزاق، حارب العراق بعد مقتل الإمام علي في الأرزاق، في كل شيء يمت إلى الرزق، فجوّعهم وشرّدهم ونفاهم في كل قطر وفي كل جهة، لذلك كان المجتمع محتاجًا حاجة ماسة إلى من يقف إلى جانبه ومن يدعمه، فتصدّى الإمام الحسن لذلك المجتمع بكل ما عنده، كان يفد عليه شيوخ العشائر يطلبون منه النيل والعطاء، وكان يجزل لهم العطاء. وقف على باب بيته أحدٌ، قال:

لم   يخب   الآن   من   iiرجاك
أنت     جواد    وأنت    iiمعتمدٌ
لولا   الذي   كان  من  iiأوائلكم

 
ومن حرّك من دون بابك الحلقة
أبوك   قد   كان  قاتل  iiالفسقة
كانت   علينا  السماء  iiمنطبقة

أخرج الإمام إليه صرةً من الدراهم والدنانير، وناوله إياها، وقال: إني أستحي أن أرى ذل السؤال على وجهه، ثم قال:

خذها    فإني   إليك   iiمعتذرٌ
لو كان في سيرنا الغداة عصا
لكنَّ  ريب  الزمان  ذو  iiغِيَرٍ

 
واعلم  بأني  عليك ذو iiشفقةْ
كانت   سمانا  عليك  مندفقةْ
والكفَّ   مني   قليلةُ   النفقةْ

أقبل أيضًا محتاجٌ آخر، قال: أعطوه ما في الخزانة، قال: سدي هلّا انتظرت مسألتي وعرفت حاجتي؟! قال:

نحن   أناسٌ   نوالنا   iiخضلُ
تجود   قبل   السؤال   أنفسُنا
لو  علم  البحر  فضل  iiنائلنا

 
يرتع   فيه   الرجاءُ   iiوالأملُ
خوفًا على ماء وجه من يسلُ
لغاض    جدبًا   وإنه   iiخجلُ
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
الحاج مجيد الجرجيس
[ العراق ذي قار ]: 18 / 4 / 2018م - 10:16 ص
وفق الله القائمين على هذا العمل للخير دائما ونلتمس منهم أن تكون محاضرات السيد منير الخباز دامت بركاته في ملفات pdf حتى يسهل تحميلها لأننا نواجه مشكلة عدم ترتيب كلمات النص عند نسخها إلى word مع خالص دعائي بحسن العاقبة للجميع
تعليق الإدارة:
شكراً لكم .. يمكنكم كذلك عند اختيار أمر الطباعة فيتم حفظها بالصيغة المطلوبة