القضية المهدوية وقيام الدولة الخاتمة

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا

صدق الله العلي العظيم

ذكر عدةٌ من الكتّاب من المسلمين وغير المسلمين أنَّ الفكرة المهدوية فكرةٌ اخترعها المظلومون، الفئات المسلمة التي عاشت قرونًا من الظلم والاضطهاد والحرمان، من أجل أن تبعث الأمل في نفوس أبنائها، ومن أجل ألا يخيّم اليأس على قلوب معتنقي هذه المذاهب، اخترعوا فكرة المهدي المنتظر، ففكرة المهدي المنتظر فكرةٌ مخترعةٌ من أجل التخفيف عن المظلومين، ومن أجل رفع التوتر في أنفس المضطهدين والمحرومين، وإلا هي ليست فكرة واقعية يعضدها البرهان، وإنما هي فكرةٌ تحكي أملًا لكل مظلوم أو مضطهد أو محروم يعيش مأساة الظروف القاسية.

نحن في مقابل هذه الأطروحة نؤكّد أن المسألة المهدوية والدولة الخاتمة قضيةٌ يفرضها العقل، قضيةٌ يعضدها الدليلُ العقلي والدليلُ النقلي، ليست قضية الإمام المنتظر أو الدولة الخاتمة اخترعتها نفوس المظلومين، وإنما فرضها العقل والمنطق مع غمض النظر عن وجود الأدلة والروايات، ومن أجل تأكيد هذه النظرة نطرح ثلاثة منطلقات، هناك ثلاثة منطلقات - منطلقان عقليان ومنطلق نقلي - إذا تأملنا فيها نجد أنها تفرض علينا الإيمان بالقضية المهدوية شئنا أم أبينا.

المنطلق الأول: منطلق عقلي.

الدليل العقلي الذي فرض الإيمان بالدين هو الدليل العقلي نفسه الذي يفرض الإيمان بالمهدي المنتظر «عجل الله تعالى فرجه الشريف»، لا يمكن أن نتصوّر إنسانًا يؤمن بالدين ولا يؤمن بالإمام المنتظر، هما متلازمان، قضيتان متلازمتان، الدليل العقلي الذي يفرض على كل مسلم أن يؤمن بوجود دليل، هو نفس هذا الدليل يفرض على كل مسلم أن يؤمن بالقضية المهدوية. نحن عندما نرجع إلى كتب علم الكلام لدى المسلمين، ما هو الدليل العقلي على وجود دين؟ لو سأل شخص: ما هو الدليل على أن هناك دينًا، وأننا لا بد أن نعتقد بوجود الدين؟

الدليل العقلي الذي يطرحه علماءُ الكلام أنه لا إشكال في حاجة المجتمع البشري إلى نظام، لا يمكن أن يعيش المجتمع البشري من دون نظام عادل، من دون نظام محقّق للتوازن، المجتمع البشري في حاجة ماسّة إلى وجود النظام، هذا لا يشك فيه أحد، عندما يكون المجتمع البشري محتاجًا إلى وجود النظام، إذن لا بد لله أن يغطي هذه الحاجة، وأن يعطي للمجتمع البشري نظامًا يغطي حاجته إلى العدالة وحاجته إلى التوازن، لماذا لا بد من ذلك؟

المجتمع يحتاج إلى النظام، والله لا يعطيهم النظام، هذا غير معقول، عدم إعطاء النظام مع حاجة المجتمع إليه يرجع إما إلى الجهل وإما إلى العجز وإما إلى عدم الحكمة، لماذا الباري تبارك وتعالى لا يعطي المجتمع البشري النظامَ مع أنه محتاج إلى نظام عادل؟ عدم إعطائه النظام إما لأن الله يجهل حاجة المجتمع البشري، وهذا لا يتصوّر فيه تبارك وتعالى وهو العليم بكل شيء، فهذا العامل منتفٍ، وهو الجهل.

العامل الآخر: أن يكون عدم إعطاء النظام لعجزه تبارك وتعالى، هو يعلم بحاجة المجتمع، لكنه يعجز أن ينزل على هذا المجتمع نظامًا عادلًا، وهذا العامل أيضًا منتفٍ؛ لأنه تبارك وتعالى قديرٌ على كل شيء، فما الذي يمنعه من إنزال النظام؟!

العامل الثالث: أن يقال بأن الله يعلم بالحاجة، وهو قادر على تلبيتها، لكنه لا يلبيها بخلًا أو اعتباطًا، وهذا يتنافى مع حكمته تبارك وتعالى، فإن مقتضى الحكمة وضع الأشياء في مواضعها، فإذا كان المجتمع البشري محتاجًا إلى النظام، والله عالمٌ بهذه الحاجة، وقادرٌ على تلبيتها، وحكيمٌ في وضع الأشياء في مواضعها، إذن مقتضى علمه وقدرته وحكمته أن يعطي المجتمع البشري النظام، هذا دليل عقلي طرحه علماء المسلمين لإثبات وجود الدين، أنه لا بد من وجود دين؛ لأن عدم وجود الدين يعني إما الجهل بحاجة المجتمع البشري، أو العجز عن تلبية حاجة المجتمع البشري، أو عدم الحكمة، وكل الأمور منتفيةٌ في حق الباري تبارك وتعالى. إذن، العقل يفرض وجود دين، لا بد من وجود دين، لا بد من وجود نظام.

نفس هذا الدليل العقلي الذي يفرض علينا أن نؤمن بوجود نظام، أن نؤمن بوجود نظام، هذا الدليل العقلي يفرض علينا أن نؤمن بالمهدي المنتظر، لا يمكن التفكيك بين الأمرين، لماذا؟ قلنا: إنَّ المجتمع البشري أعطي نظامًا من قِبَل السماء، هذا النظام له هدف، ما هو هدف النظام؟

نحن نرجع إلى الآيات القرآنية التي تتحدث عن هدف النظام، لماذا يعطى المجتمع البشري نظامًا؟ يقول القرآن الكريم: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، يعني للعدالة، الهدف من إنزال النظام تحقيق العدالة، لا العدالة التي تخص مجتمعًا عربيًا أو مجتمعًا غير عربي، مجتمعًا مسلمًا أو مجتمعًا غير مسلم، بل العدالة للناس جميعًا، ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ولم يقل: ليقوم المسلمون، أو ليقوم المؤمنون، أو ليقوم العرب، بل قال: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي: لكي تتحقق العدالة في المجتمع البشري، الهدف من النظام تحقيق العدالة التامة الكاملة في المجتمع البشري، هذا هو الهدف من إنزال النظام.

وقال تبارك وتعالى في آية أخرى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، المقصود بدين الحق دين العدالة، دين هو الدين المحقّق للحقوق، ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. بما أن الهدف من النظام السماوي تحقيق العدالة، لا العدالة الناقصة، بل العدالة الكاملة، إذن العقل يقول، لا نحتاج إلى دليل آخر، العقل يقول: لا بد من وجود يوم تتحقق فيه العدالة التامة، فلو لم يكن ذلك اليوم موجودًا لكان تشريع السماء عبثًا ولغوًا؛ لأنه إلى الآن، منذ يوم نوح - وهي أول رسالة - إلى يومنا هذا لم تتحقق العدالة التامة، إلى الآن لم تتحقق العدالة التامة للمجتمع البشري كله، مع أن هذا هو الهدف من النظام، فإذا كان النظام السماوي عاجزًا عن تحقيق العدالة إذن تشريعه لغو.

أي نظام يفشل، نظام منذ يوم نوح إلى الآن ما حقّق شيئًا، منذ يوم نوح إلى الآن ما حقّق عدالة كاملة، إذن هذا نظام فاشل! النظام الذي يعجز عن تحقيق العدالة التامة، يعجز عن تحقيق أهدافه، نظام فاشل، وتشريع النظام الفاشل لغوٌ، واللغو لا يصدر من الحكيم، فكيف بالحكيم تبارك وتعالى؟! إذن، مقتضى حكمته تبارك وتعالى أن يهيّئ يومًا لتحقيق أهداف النظام، أن يعدّ يومًا لتحقيق الغرض من هذا النظام، أن يعدّ زمانًا تتحقق فيه كل أهداف السماء، فما لم يعد ذلك اليوم، وما لم يهيئ ذلك اليوم، فكل الرسالات منذ يوم نوح إلى يومنا هذا تكون عبثًا ولغوًا؛ لأنها لم تحقق أهدافها إلى هذا اليوم.

إذن، العقل نفسه يفرض علينا أن نؤمن بدولة عادلة ستأتي يومًا من الأيام، العقل نفسه يفرض علينا أن نؤمن بدولة خاتمة تتكفل تطبيق وتحقيق أهداف السماء، وأنه لا بد من يوم يتحقق فيه هذا الكلم القرآني الصادق: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، فالعقل نفسه يفرض علينا الإيمان بالقضية المهدوية.

المنطلق الثاني: منطلق عقلي آخر.

المنطلق العقلي الآخر هو الدليل العقلي الذي يفرض علينا أن نؤمن بوجود المعاد، لا يوجد مسلم لا يؤمن بيوم الآخرة، الدليل العقلي الذي يفرض علينا أن نؤمن بيوم المعاد - يوم الآخرة - نفسه يفرض علينا الإيمان بالمهدي المنتظر، لا يمكن لإنسانٍ مسلمٍ يؤمن بالآخرة ألا يؤمن بالمهدي المنتظر، هما قضيتان متلازمتان، لا بد من الإيمان بهما، وإلا الإيمان بأحدهما لا يمكن أن ينفك عن الإيمان بالآخر. نرجع هنا أيضًا إلى علماء الكلام، نقول لهم: ما هو الدليل العقلي على ضرورة وجود آخرة؟ لماذا لا تعيش الناس في هذه الدنيا الصالح صالحًا والفاسد فاسدًا وتنتهي الدنيا هكذا؟! ما هو الدليل العقلي الذي يفرض علينا أن نؤمن بوجود يوم أخروي، يوم معاد؟

يقول علماء الكلام: لو لم يكن هناك يوم معاد لكان وجود الحياة لغوًا، الحياة يصبح لا معنى لها، لا يمكن أن تكون الحياة حياة هادفة ما لم يكن هناك يوم معاد، وإلا تكون الحياة لغوًا؛ لأن هذه الحياة وُجِدَت وفيها ظالم وفيها مظلوم، فيها معتدٍ ومعتدى عليه، فيها من عاش وعُمِّر واستوفى طاقتَه في هذه الحياة، وفيها من عاش قليلًا فلم يستوفِ طاقته ولم يستوفِ مواهبه وقدراتِه في هذ الحياة.

إذن، لو انتهت الحياة بدون يوم آخر لكان وجود المظلوم فيها لغوًا، لكان وجود هذا الإنسان الذي عاش زمنًا قليلًا فلم يستوفِ طاقاتِه ولم يستوفِ قدراتِه ولم يستوف مواهبَه وجودًا لغوًا وعبثًا، إذن لكي تكون الحياة هادفة، لكي تكون الحياة متطابقة مع الحكمة، لا بد أن يكون هناك يوم آخر يعوَّض فيه المظلوم عن ظلامته، ويعوَّض فيه هذا الإنسان الذي عاش فترة قصيرة بما يعذّي مواهبَه وطاقاتِه وملكاتِه وقدراتِه. إذن، ما لم يكن هناك يوم معاد فالحياة لغوٌ، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ، لو لم ترجعوا لكان وجودكم عبثًا ولغوًا.

نفس هذا الدليل إذا تأملنا فيه يفرض علينا الإيمان بالمهدي المنتظر. هذا الوجود الذي نحن نعيش فيه، هذا الوجود بفضاءاته، بمجراته، بذراته، بجميع طاقاته، بجميع كنوزه، هذا الوجود الذي نعيش فيه، هناك منظوران لهذا الوجود: منظور مادي، وهو الذي يقول: وُلِدَت الحياة صدفةً وتنتهي صدفةً، هناك كوكبٌ اصطدم بالأرض فوُلِدَت الحياة بالصدفة، وسوف يأتي يوم يصطدم فيه كوكب آخر بالأرض وتنتهي الحياة! وُلِدت صدفةً وتنتهي صدفةً بدون أي شيء آخر.

هذا المنظور المادي يفشل ويحبط التجربة البشرية، لأن هذه التجربة البشرية، تجربة المخترعين والمكتشفين والعلماء والمخططين، سوف تكون فاشلة، ما دام الحياة وُلِدت صدقة وقد تنتهي في أي لحظة، يعني تنتهي كل هذه التجارب البشرية إلى هباء منثور، هذه التجارب العملاقة التي بذلها المجتمع البشري في سبيل اكتشاف الكون وفي سبيل السيطرة على الفضاء وفي سبيل التحكّم في مقاليد هذا الوجود، كل هذه التجارب قد تنتهي في لحظة واحدة، هذا يعني أنه يدخل عامل الإحباط وعامل اليأس إلى النفس البشرية؛ لأن تجربتها لن تكتمل، لن تصل إلى التجربة الكاملة؛ لأن الحياة وُلدت صدفة وستنتهي صدفة، إذن هذه التجارب العملاقة لن تصل إلى النتيجة المطلوبة، وستفشل وتنقرض يومًا من الأيام.

هذا المنظور المادي، منظور محبِط، منظور موجبٌ لليأس والإحباط للتجربة البشرية، لكن عندنا منظورًا آخر، وهو المنظور السماوي، المنظور السماوي الديني يقول: هذا الوجود وجودٌ هادفٌ، ما وُلِد صدفة ولن ينتهي صدفة، هذا الوجود وجود هادف، ما معنى وجود هادف؟ يعني هذا الوجود يسير نحو الكمال، لا يمكن أن تنقضي الدنيا حتى يتكامل هذا الوجود، لا يمكن أن تنقرض الدنيا حتى يحقّق هذا الوجود هدفه وكماله ونتائجه كلها، حتى تنتهي التجارب البشرية العملاقة إلى نتائج ملموسة، وإلى نتائج واضحة، ما لم تنتهِ هذه التجارب لن ينتهي هذا الوجود، هذا الوجود وجود هادف، كيف نثبت هذا؟

هذا الكون مليءٌ بالكنوز، مليءٌ بالطاقات، الإنسان ما زال في أول الطريق، الإنسان لم يكتشف من هذا الكون - من طاقاته، من فضاءاته، من مخبوءاته - لم يكتشف من هذا الكون إلا واحدًا بالمليار، ما زال الإنسان متقوقعًا في هذا الكوكب الصغير - وهو الأرض - وبما يحيط بهذا الكوكب الصغير، إذن لمن خُلِق هذا الوجود؟ ولمن خُلِقَت هذه الطاقات كلها؟ ولمن خُلِقت هذه الكنوز كلها؟ الكون يعيش بحرًا من الكنوز والطاقات، فلمن خُلِقت هذه الطاقات؟ إذا كانت ستنتهي صدفة وستنقرض صدفة إذن لماذا خُلِقت؟ خلقها سوف يكون لغوًا، رجعنا إلى إشكال اللغوية، رجعنا إلى محذور اللغوية.

هذا الوجود ما لم تُسْتَخْرَج كنوزه وطاقاته وتبنَ حضارته فسوف يكون وجوده لغوًا، لماذا هذا الوجود كله؟ لذلك القرآن ركّز على هذه النقطة، قال: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا، وقال في آية أخرى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، كل الكنوز خُلِقَت لكم، كل الطاقات خُلِقت لكم، الوجود بذراته ومجراته لكم. وقال في آية ثالثة: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا.

إذن، هذا الوجود خُلِق لكي يتحول إلى حضارة، ما خُلِق لكي ينقرض صدفة، ما خُلِق لكي يموت صدفة وتفشل التجربة الإنسانية، بل خُلِق هذا الوجود لكي يصبح حضارة كونية شاملة، حضارة تستوعب السماء كلها، حضارة تستوعب الطاقات والكنوز والبركات والمعادن، حضارة تستوعب كل آفاق الإنسان، خُلِق الوجود لكي يتحول إلى حضارة كونية عامة، وإلا لكان وجوده لغوًا وعبثًا، فمتى يتحول إلى حضارة؟ ومتى يتحول إلى حضارة كونية شاملة؟

إنه يوم المهدي المنتظر. إذن، الإيمان بالمهدي المنتظر إيمانٌ بنجاح التجارب البشرية، إيمانٌ بأهداف القرآن، إيمانٌ بهدفية الوجود، لا يمكن لإنسان أن يؤمن بأن هذا الوجود هادف ولا يؤمن بيوم المهدي المنتظر، معنى أن هذا الوجود الهادف، معنى أن هذا الوجود حياة هادفة خلقها الحكيم تعالى، معنى ذلك أنها لا بد أن تتحول إلى حضارة يومًا من الأيام، ولا يمكن أن يحصل هذا إلا على يد الدولة الخاتمة، دولة المهدي المنتظر «عجل الله تعالى فرجه الشريف».

وهذا ما أشارت إليه الآية القرآنية: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا، النفوذ بمعنى السيطرة، إذا استطعتم أن تسيطروا على السماوات والأرض، وتمسكوا بهذا الكون كله، وتحولوه إلى حضارة عامة، فافعلوا ذلك، ﴿فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ، معناه أن يوم النفوذ يومٌ سيتحقّق عندما يتوفّر ذلك السلطان، سلطان العلم والمعرفة، ليتحول هذا الوجود إلى حضارة. إذن، الدليل العقلي الذي فرض على المسلمين أن يؤمنوا بيوم معاد، وإلا لكانت الحياة لغوًا، هو نفس هذا الدليل يفرض على المسلمين أن يؤمنوا بيوم تتحقق فيه الحضارة الكونية، وذلك اليوم هو يوم المهدي المنتظر.

إذن، التجارب البشرية سوف تبقى وتستمر وتتلاقح وتنتج وتثمر، إلى أن تصبح حقائق علمية تزدهر بها الحضارة الكونية، بيد من بيده مقاليد الكون ومفاتيح الكون. لذلك، عندما نقرأ هذه الآية المباركة: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، آصف بن برخيا عنده علمٌ من الكتاب، والمقصود بالكتاب كتاب الكون، أسرار الكون، وليس المقصود بالكتاب كتاب التدوين، هناك كتاب تدوين وهناك كتاب تكوين، كتاب الكون يعني الكتاب الذي يحمل أسرار الطبيعة، وأسرار الوجود، وأسرار الحياة، هذا آصف بن برخيا حمل بعضًا من أسرار الطبيعة، فاستطاع أن يمسك بعرش بلقيس ويأخذه من اليمن إلى فلسطين.

فلا بد أن يأتي يوم بيد شخصٍ عنده علم الكتاب وليس علمًا من الكتاب، علم الكتاب كله، يعني علم أسرار الكون، علم كنوز الكون، علم مقاليد الكون، ليحوّل الكون إلى حضارة كونية شاملة، يتمتّع فيها الإنسان بكل مواهبه وطاقاته وقدراته، كما ورد عن النبي محمد : ”لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوّل الله ذلك اليوم، حتى يلي أمر الأمة رجلٌ من أهل بيتي، اسمه اسمي، يملأ الأرض قسطًا وعدلًا، كما ملئت ظلمًا وجورًا“.

المنطلق الثالث: منطلق نقلي.

المنطلق النقلي نستقيه من كتاب الله عز وجل من الآية التي افتتحنا بها: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا، هذه الآية القصيرة تحمل معاني عظيمة، هذه الآية القصيرة تتحدث عن معالم الدولة المهدوية، ما هي معالم الدولة المهدوية؟

المعلم الأول: المعلم الاقتصادي.

﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ، خلافة الأرض يعني الاقتصاد بيدهم، النظام الاقتصادي بيدهم، ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، ما معنى الوراثة؟ يعني اقتصاد الأرض سوف يكون بأيدي المؤمنين، بأيدي الصالحين، هذه الوراثة يتحدث عنها القرآن الكريم في آية أخرى: ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، خلافة الأرض بمعنى أن مقاليد الأرض بأيديهم، ومقاليد الأرض هي بركاتها وكنوزها وخيراتها، أي أن الاقتصاد بيدهم، الاقتصاد العالمي بيد المؤمنين الصالحين.

وهذا ما أشار إليه بعض علمائنا، منهم: السيد الشهيد السيد محمد باقر الصدر «قدس سره» في كتابه اقتصادنا، عندما تحدث عن المشكلة الاقتصادية، هل المشكلة الاقتصادية هي قلة روافد الطبيعة كما يراه النظام الرأسمالي، أم أن المشكلة الاقتصادية هي في الملكية الفردية، كما يراه النظام الاشتراكي، أم المشكلة الاقتصادية في الإنسان نفسه؟ هذا طبعًا يحتاج إلى بحث لا نريد أن ندخل فيه، ولكن إجمالًا نقول: الإسلام يرى المشكلة هي الإنسان، ليس هناك نقصٌ في روافد الطبيعة، وليس هناك مشكلةٌ في فتح الباب للملكية الفردية، المشكلة في الإنسان نفسه، الإنسان يعيش نزعتين: نزعة فردية، ونزعة اجتماعية، فإذا طغت إحدى النزعتين على الأخرى اختلّ التوازن، وإذا اختلّ التوازن حدثت المشاكل الاقتصادية.

مشكلة الاقتصاد تنبع من الإنسان نفسه، الإنسان متى ما طغت نزعته الفردية على نزعته الاجتماعية استبدّ بالثروات، فوُلِدت المشاكل الاقتصادية، ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى، إذن النظام الاقتصادي الذي سيكون في الدولة المهدوية نظامٌ يعالج الإنسانَ، إذا عولج الإنسانُ عولج الاقتصادُ، إذا استطاع النظام أن يجعل الإنسان إنسانًا متوازنًا، لا أن تطغى نزعته الفردية ولا أن تطغى نزعته الاجتماعية، كل نظام يستطيع أن يوجد ويخلق إنسانًا متوازنًا فهو يستطيع أن يخلق نظامًا متوازنًا، النظام تابعٌ للإنسان، المشكلة في الإنسان نفسه، فالنظام الاقتصادي المهدوي نظامٌ يعالج مشكلة الإنسان، يحدث توازنًا في كيان هذا الإنسان.

المعلم الثاني: المعلم الإعلامي.

﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، تمكين الدين ليس بالقوة ولا بالفتك، بل تمكين الدين سوف يكون بالبراهين العلمية، سوف يكون بالقناعة، سوف يكون بالرضا، سوف يكون من خلال الأدلة التي تبثها الدولة المهدوية، وهذا يعني أن الدولة المهدوية تعتمد إعلامًا مدروسًا معضدًا بالأدلة والبراهين العلمية، لتخاطب كل المجتمعات البشرية، لتقنعهم بالإسلام، وسوف يكون تمكين الدين تمكينًا اختياريًا نابعًا عن قناعة ورضا، ونابعًا عن اعتقاد وإقبال.

المعلم الثالث: المعلم الأمني.

﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا، قد يتصور الإنسان أن المقصود أنه لا أحد يخاف من الظلم! لا، دولة المهدي لا خوف، ليس لا خوف من الظلم فقط، بل لا خوف من شيء، كيف؟ علماء النفس يقولون: حاجات الإنسان الأساسية: حاجته إلى الغذاء، وحاجته إلى التعبير والتقدير، وحاجته إلى الأمن، الإنسان محتاج إلى الأمن، أي أمن؟ الأمن النفسي، ما لم يشعر الإنسان بالأمن النفسي لا يستطيع أن يبدع، لا يستطيع أن يعطي، لا يستطيع أن ينتج، الإنتاج متفرع على الأمن، الأمن النفسي يغذّي الإنسان بروح الإنتاج والعطاء والإبداع.

إذن، الحاجة إلى الأمن حاجة أساسية، لذلك تعنى دولة المنتظر بتغطية هذه الحاجة، حاجة الإنسان إلى الأمن النفسي. من المعالم الأساسية لدولته المهدوية أنه يغذي الحاجة إلى الأمن. الآن الإنسان في هذا العصر، عصر الفضاء، عصر التكنولوجيا، مع ذلك الإنسان في هذا العصر أشد خوفًا من إنسان أي عصر آخر، الإنسان في هذا العصر يخاف من الأوبئة، يخاف من الأمراض، يخاف من الكوارث الطبيعية، يخاف من الحروب، يخاف من الأسلحة الفتّاكة، إنسان هذا العصر يخاف من عدة عوامل، ومن عدة مناشئ.

الدولة المهدوية تتكفل معالجة العوامل كلها، بحيث لا يبقى عاملٌ يخيف الإنسان. الطبيعة مستقرة؛ لأن هناك نظامًا سماويًا حضاريًا يحكم حتى الطبيعة ويسيطر عليها، فعندما يقول الرسول: ”يملأ الأرض“ هذا تعبير دقيق، الإمام المهدي يملأ الأرض قسطًا وعدلًا لا بإقامة العدالة مع النفس فقط، بل العدالة حتى مع الطبيعة، مع طاقات الطبيعة، التنسيق بين طاقات الطبيعة، التنسيق بين كنوز الكون، بحيث لا تحدث كوارث، ولا تحدث مشاكل طبيعية، ستتم في دولته المهدوية، ”يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا“، لا كوارث، يؤمّن هذا العامل، ولا أمراض؛ لأنه يؤمّن المرافق الصحية الشاملة، لا كوارث، لا أمراض، لا حروب، لا مجاعات، جميع أسباب الخوف تنتهي وتختفي في دولته، ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا لا يوجد خوف أصلًا.

المعلم الرابع: المعلم الروحي.

﴿يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا، الإنسان سيتحول إلى عبادة، عندما يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ليس المقصود به أن تعبد الله كما نفعل نحن الآن في هذا الزمن، نعبد الله في فترة محددة، أوقات الصلوات، أوقات الصيام، وباقي الوقت قد لا نعبد الله فيه، نمارس أشياء أخرى، لا بد أن يأتي يوم يتحول فيه الإنسان إلى قطعة من العبادة، كل أعماله عبادة، كل حركاته عبادة، كل أنفاسه عبادة، كل ما يصدر منه عبادة، إذا اكتشف الإنسان الله في كل شيء أصبح يعبد الله في كل شيء، ما الذي يجعلنا نحن لا نعبد الله في كل شيء؟ لأننا لم نكتشف الله في كل شيء، من اكتشف الله في كل شيء فكل حركاته عبادة.

الإمام أمير المؤمنين علي يقول: ”ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله وبعده وفوقه وتحته وفيه“، أي أنني محاط بالآلاء الإلهية ومظاهر التجلي لله عز وجل في كل شيء، لذلك حتى نظرتي عبادة، حتى حركتي عبادة، حتى كلامي عبادة، لأنني محاط بمظاهر التجلي لله في كل ما هو حولي. الإنسان إذا وصل إلى حد اكتشف الله في كل ما حوله أصبح عابدًا لله في كل ما يصدر منه، ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

عندما يتحول الإنسان إلى عبادة يصبح محقّقًا للهدف القرآني، وهذا معلمٌ من معالم الدولة المهدوية، أن يتحول الإنسان إلى عبادة، يصبح الإنسان مخلوقًا إلهيًا، لا يرى إلا الله، هذا المخلوق الإلهي الذي يعبّر عنه سيد الشهداء أبو الأحرار الحسين : ”متى غبت حتى تحتاج“، أنت لم تغب عني، أنت حولي في كل شيء، ”متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟! ومتى كانت الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عينٌ لا تراك عليها رقيبًا، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من ودّك نصيبًا“.