التوفيق بين غيبة الإمام وفاعلية إمامته

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا

صدق الله العلي العظيم

هناك سؤالٌ يُطْرَح من قِبَل كثيرٍ من الباحثين، وهو أنَّ هناك تهافتًا وتناقضًا في الفكر الإمامي، فالفكر الإمامي يؤمن بقضيتين متناقضتين: الأولى هي أن الإمامة أصلٌ من أصول الدين، والثانية هي غيبة الإمام المنتظر «عجل الله تعالى فرجه الشريف»، لماذا هاتان القضيتان متناقضتان؟ عندما نسأل: لماذا الإمامة في الفكر الإمامي أصلٌ من أصول الدين؟

الجواب: لأن مبدأ الإمامة مبدأٌ يعالج حاجةً أساسيةً للإنسان، وهي الحاجة إلى القيادة، علماء الإمامية يقولون: السبب الذي اقتضى أن تكون النبوة أصلًا من أصول الدين هو نفسه اقتضى أن تكون الإمامة أصلًا من أصول الدين؛ لأن الإمامة امتدادٌ للنبوة، كما أن النبوة أصلٌ من أصول الدين لأن النبوة تعالج حاجةً أساسيةً لدى المجتمع الإنساني، وهي الحاجة إلى القيادة، وجود قيادة تتكفل فض الخصومات، رفع المنازعات، تطبيق النظام، إقامة العدالة. الحاجة إلى وجود القيادة العادلة حاجةٌ أساسيةٌ للمجتمع البشري، فكل مبدأ يغطي هذه الحاجة الأساسية فهو أصلٌ من أصول الدين.

بما أن النبوة قيادةٌ للمجتمع البشري، إذن النبوة أصلٌ من أصول الدين؛ لأنها تغطي حاجة أساسية للمجتمع الإنساني، وبما أن الإمامة امتدادٌ للنبوة إذن الإمامة قيادةٌ كما أن النبوة قيادة، كما أن النبوة أصلٌ من أصول الدين لأن الحاجة إلى القيادة حاجة أساسية، الإمامة أيضًا أصلٌ من أصول الدين. إذن، فكرة أصالة الإمامة، وأن الإمامة أصلٌ من أصول الدين، هذه الفكرة جاءت من الحاجة إلى القيادة، ومعنى ذلك أن الإمامة تساوي القيادة، فالإمام هو القائد، لأن الإمام هو الذي يلبي حاجةً أساسيةً لدى الإنسان، وهي حاجته إلى القيادة.

إذا كانت الإمامة تساوي القيادة، والحاجة إلى الإمامة نابعةٌ من الحاجة إلى القيادة، فكيف يجتمع ذلك مع إمام غائب؟! الإمام الغائب لا يستطيع أن يقود المجتمع البشري، الإمام الغائب لا يستطيع أن يلبّي حاجة أساسية لدى المجتمع الإنساني، ألا وهي الحاجة إلى القيادة، فإذا كانت الحاجة إلى القيادة هي التي جعلت الفكر الإمامي يؤمن بأن الإمامة أصل من أصول الدين، فكيف يلتقي ذلك ويجتمع ذلك مع إيمان الفكر الإمامي بإمام لم يكن قائدًا للمجتمع يومًا من الأيام؟ هو منذ طفولته غُيِّب واختفى عن الأنظار، وبقي غائبًا إلى يومنا هذا، فلم يمارس دورًا قياديًا يومًا من الأيام للمجتمع البشري، فكيف نجمع بين إمامته وبين غيبته؟ الإمامة تعني القيادة، والغيبة تعني عدم القدرة على مزاولة وممارسة القيادة، فهاتان فكرتان متهافتتان: فكرة أن الإمامة أصلٌ من أصول الدين لأنها عبارة عن القيادة، وفكرة أن الإمام غائبٌ لا يمارس أي دور قيادي للمجتمع الإنساني.

هذا هو السؤال المطروح، وللجواب عن هذا السؤال لا بد أن نتحدث في محورين:

  • المقوّمات والأدوار الرئيسة للإمام؟
  • الأدوار الكمالية التي يقوم بها الإمام؟
المحور الأول: مقومات منصب الإمامة.

الأدوار الرئيسة للإمام، الأدوار الأساسية التي بدونها لا يمكن أن يكون الشخص إمامًا، أدوار لا تنفك عنه، هي أدوار ثلاثة: الحجية، والهداية، وحفظ التشريع.

الدور الأول: الحجية.

عندما نأتي للنبوة: ما هو الدور الأساس للنبي، بحيث إذا لم يقم به لم يكن نبيًا؟ هل هو القيادة؟ لا، أغلب الأنبياء لم يكونوا قادة، أغلب الأنبياء لم تتوفر لهم القيادة، فقط موسى بن عمران في مدة زمنية قصيرة، والنبي محمد في عشر سنين من نبوته، وإلا باقي الأنبياء كانوا دعاة ولم يكونوا قادة للمجتمعات، باقي الأنبياء لم يؤسسوا حكومات، لم يؤسسوا أنظمة، لم يقودوا المجتمعات قيادة نظامية، وإنما كانوا دعاة، هل هذا يلغي نبوتهم؟ هل هذا يعني أن نرفع اليد عن نبوة الأنبياء لأنهم لم يمارسوا دور القيادة النظامية للمجتمع الإنساني؟!

لا، إذن ما هو الدور الأساس الذي تتقوّم به النبوة وتستند إليه النبوة؟ الدور الأساس هو الحجية، من أين نستكشف هذا الدور؟ من قوله عز وجل: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، لا تبقى حجة لأحد، وهذا الكلام يعني أمرين:

الأمر الأول: الهدف من بعثة الأنبياء والرسل وصول الدين إلى البشرية وصولًا يقينيًا، لأنه إذا كان المبلغ معصومًا سوف يكون وصول الدين إلى البشرية وصولًا مضمونًا، وصولًا يقينيًا، لا وصولًا ظنيًا، لا وصولًا متأرجحًا، ما دامت الوسيلة - وهي النبي المعصوم - وسيلةً معصومةً، إذن فسوف يصل الدين للبشرية وصولًا مضمونًا يقينيًا، الهدف من بعثة الأنبياء والرسل وصول الدين للبشرية وصولًا مضمونًا، وصولًا يقينيًا.

الأمر الثاني: بما أن النبي يحمل الدين، فليس لأحد حجة على الله، أنك خلقتنا ولم تنزل علينا دينًا، ولم تنزل علينا نظامًا، ببعثة الأنبياء تنقطع الحجة، ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، لا يمكن لأحد أن يحتج على الله بأنك لم تبعث لي من يوصل الدين إليَّ وصولًا يقينيًا مضمونًا، هذه الحجة تنقطع ببعثة الأنبياء والرسل، فالدور الأساس الذي يتحدث عنه القرآن للنبوة هو دور الحجية، من أراد الدين فهؤلاء هم حجج الدين، من أراد أن يصل إلى الدين وصولًا مضمونًا فهؤلاء هم روافد الدين، من أراد أن يتعرف على الدين تعرّفًا يقينيًا فهؤلاء هم منابع الدين، أقام عليهم حججًا توصلهم إلى الدين وصولًا مضمونًا، هذا هو الدور الأساس للأنبياء.

وهذا الدور يقوم به الأئمة من بعد الأنبياء، نحن عندما نقول: الإمام امتدادٌ للنبي، لأن الإمام امتدادٌ للنبي في دور الحجية، كما أن النبي وسيلةٌ لإيصال الدين إيصالًا مضمونًا، الإمام أيضًا لإيصال الدين للمجتمع البشري إيصالًا مضمونًا، فلا حجة للمجتمع البشري على الله، بعد أن نصب الله لهذا المجتمع رسلًا وأئمةً، فالدور المقوّم للإمام هو دور الحجية.

أنتم كما تعرفون أن الإسلام بما أنه نظام حياة، فهذا النظام الكامل لا يمكن أن يبلّغه النبي في ثلاث وعشرين سنة، لم تكن هذه المدة كافية لتبليغ النظام الإسلامي، إذن المجتمع البشري احتاج إلى أوصياء للنبي يكملون مسيرة التشريع وتبليغ التشريع، وقد يقول قائل: القرآن قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا، القرآن يصرّح بأن الدين اكتمل على عهد النبي ، فكيف تقولون بأن الأئمة يكملون الدين؟ طبعًا هذه الآية لها تفسيران:

التفسير الأول: أن إكمال الدين بإمامة علي ، فلولاها لكان الدين ناقصًا، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ لم أكمل تبليغ الدين، بل أكملت الدين بجعل علي إمامًا، فإن جعله إمامًا هو المكمِّل لهذا الدين ولهذا التشريع.

التفسير الآخر: فرق بين كمال الدين وكمال تبليغ الدين، الدين اكتمل في عهد النبي ، لكن تبليغه لم يكتمل، الدين اكتمل هذا شيء، وتبليغه اكتمل هذا شيء آخر، الدين كان كاملًا منذ عهد النبي ، إلا أن تبليغه كان يحتاج إلى مدد زمنية وظروف مناسبة للتبليغ، وقد توفرت هذه المدد والظروف المناسبة في عهد الأوصياء، أوصياء محمد .

ولذلك عندنا في الرواية عن الصادق : وإن عندنا الجامعة، قيل: وما الجامعة؟ قال: ”كتابٌ بإملاء رسول الله وخطّ علي بن أبي طالب، فيه جميع ما يحتاجه الناس من حلال وحرام حتى أرش الخدش إلى يوم القيامة“، يعني دين مكتمل أخذه عليٌ عن رسول الله ، وكان الأئمة يدًا بيد، كما ورد عن الإمام الصادق : ”فإنما هي أصول علم نتوارثها كابرًا عن كابرٍ عن محمد رسول الله“.

الدور الثاني: الهداية.

الآية المباركة قالت: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ، الإمامة تعني الهداية، والهداية يقسّمها علماؤنا إلى نوعين: هداية خلقية وهداية أمرية، وهذا التفريق ينشأ عن فرق قرآني بين عالم الخلق وعالم الأمر، القرآن الكريم يقول: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، هناك عالم خلق وهناك عالم أمر، عالم الخلق هو عالم المادة، عالم الأمر هو عالم الأرواح وليس عالم المادة، كل عمل يتصل بعالم الخلق يسمى عملًا خلقيًا، وكل عمل يتصل بعالم الأرواح يسمى عملًا أمريًا. القرآن الكريم من جهة يقول: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، جسد الإنسان من عالم الخلق، من جهة يقول: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ولم يقل: من خلق ربي، ولذلك يقول: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، إذن عندنا عالم خلق وعندنا عالم أمر.

نفس الشيء في الهداية، تنقسم إلى قسمين: هداية خلقية، وهداية أمرية. إذا كانت الهداية خطابًا يخاطب الأسماع، يخاطب الأجساد، فهي هدايةٌ خلقيةٌ، وهذا ما كان يقوم به النبي : ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، هذا تعبير عن الهداية الخلقية، خطاب يخاطب الأسماع، يخاطب الأجساد، فقد تتأثر به وقد لا تتأثر بهذا الخطاب، هذا يسمى هداية خلقية.

وعندنا هداية أمرية ليس لها علاقة بعالم الأجساد، الهداية الأمرية هي عبارة عن نور ينغرس في قلب الإنسان، من دون واسطة مادية، من دون واسطة جسدية، هذه الهداية التي هي عبارة عن نور ينغرس في قلب الإنسان تسمى هداية أمرية، لاحظوا القرآن الكريم عندما يقول: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ، هذه هداية أمرية، ينغرس النور في قلب الإنسان، هذه هداية أمرية وليست هداية خلقية، ﴿يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ، ويقول تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ.

إذن، عندنا هداية خلقية، وهداية أمرية. الإمام يقوم بكلا النوعين، يمارس كلا الوظيفتين، الإمام يهدي الخلق هدايةً خلقيةً، يخاطبهم، يوجههم، يأمرهم بالمعروف، ينهاهم عن المنكر، وهذا قد يحصل له وهو حاضر وقد يحصل له وهو غائب، كأي إنسان يمارس دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهناك هداية تختص بالإمام، لا يمكن أن يقوم بها غيره، وهي الهداية الأمرية، ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا، يعني هداية أمرية، هداية مرتبطة بعالم الأمر، أي أن للإمام ولايةً على النفوس من خلالها يستطيع أن يغرس نورًا في النفوس المهيّأة، ”أرواحكم في الأرواح، وأنفسكم في الأنفس“، لأنفسهم تأثير على النفوس، لأرواحهم تأثير على الأرواح، وإن لم تكن هناك وسائط مادية، وإن لم تكن هناك وسائطة جسمية، الإمام له الولاية أن يزرع نور الهداية في قلب الإنسان المؤمن المعدّ للهداية.

قد يستغرب الإنسان ويقول: صار الإمام إلهًا! من يقدر أن يغرس نور الهداية في قلب إنسان آخر صار إلهًا! نحن نقول: ماذا تقولون في إبليس؟! إبليس ليس إلهًا، ومع ذلك إبليس له الولاية على أن يزرع في قلوب الناس الوسوسة والميول نحو الانحراف، والقرآن الكريم يصرّح بأن لإبليس هذه القدرة، بأن لإبليس هذه الولاية، يقول القرآن الكريم: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ.

إبليس عنده عمل أمري، ليس عملًا خلقيًا، هذا العمل الأمري أنه يزرع الوسوسة في نفوس الناس، فكما أن لإبليس قدرة على أن يزرع الوسوسة في نفوس الناس من دون أن يكون إلهًا، الله أعطاه هذه القدرة، كذلك أعطى الإمام المعصوم قدرةً معاكسةً لقدرة إبليس، أنه يغرس نور الهداية في النفوس المعدّة للهداية من دون واسطة مادية أو جسمانية، وهذا لا يعني أن الإمام أصبح إلهًا؛ لأن هذه قدرةٌ مفاضةٌ عليه من قِبَل الله عز وجل، هو الله عز وجل الذي قال: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا.

الدور الثالث: حفظ التشريع.

التشريع قسمان: قسم ضروري، وقسم نظري، التشريع له ثوابت لا تتغير، حرمة شرب الخمر، حرمة الربا، وجوب الصلاة، وجوب الحج، هناك ثوابت لا تتغير في التشريع، وهناك نظريات تختلف باختلاف مباني الفقهاء وأفكار الفقهاء، ومدى قدرة الفقيه على تحديد الوظيفة، فقيه يفتي بنجاسة أهل الكتاب، فقيه يفتي بطهارتهم، فقيه يفتي مثلًا بأن الهلال يثبت برؤيته بالعين المجردة فقط، فقيه يفتي بأن الهلال يمكن أن يثبت برؤيته بالعين المسلحة وعبر الأجهزة، هذا تشريعٌ نظريٌّ، يعني يختلف باختلاف الفقهاء، وهناك تشريع ثابت.

وظيفة الإمام حفظ ثوابت التشريع، ثوابت التشريع لا تتغير ولا تزول، مهما جاءت تيارات فكرية تريد أن تغيّر حتى هذا الثوابت، ترى من الأمة مواجهة، ترى من الأمة مصادمة، لأنها تريد أن تتحفظ على الثوابت، وإن اختلفت في النظريات. ولذلك ورد عن النبي محمد : ”في كل خلفٍ من أمتي عدولٌ من أهل بيتي“، لا يمر جيل إلا وهناك مجموعة من أهل بيتي يتصدون للحفاظ على الثوابت، ”في كل خلفٍ من أمتي عدولٌ من أهل بيتي، ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين، وبِدَع المبطلين، وانتحال الغاوين“، لا يمر زمن إلا ويهيئ الله لهذا الدين من يحفظ ثوابته.

وهذا ما نطق به القرآن الكريم، حيث قال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، الذكر هو لوح التشريع، الذكر ليس هو القرآن الكريم، القرآن الكريم مصداق من مصاديق الذكر، الذكر هو لوح التشريع الذي منه نزل الزبور، منه نزل الإنجيل، منه نزلت التوراة، منه نزل القرآن، الذكر كتابٌ يجمع الكتب السماوية كلها، ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، هذا القرآن جاء من كتاب آخر، ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ، ذلك اللوح المحفوظ، ذلك الكتاب المكنون، هو الذكر، هو لوح التشريع، أنزله الله وتعهد بحفظه، وحفظه من خلال أهله، أي: هيَّأ له أهلًا يحملون هذا الذكر، ويتعهدون بحفظه، أي: حفظ ثوابته، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ.

أهل الذكر هم الأئمة الطاهرون ، هم المسؤولون عن حفظ ثوابت التشريع، وهذه مسؤولية يمارسها الإمام في حال غيبته. إذن، الإمامة لا تعني القيادة، بل الإمامة تعني أدوارًا رئيسية ثلاثة: الدور الأول: الحجية، الدور الثاني: الهداية الخلقية والأمرية، الدور الثالث: حفظ ثوابت التشريع، وهذه الأدوار يقوم بها الإمام سواء كان ظاهرًا أو كان غائبًا، ولذلك ورد عن الإمام علي : ”بلى لا تخلو الأرض من حجةٍ لله، إما ظاهرًا مشهورًا، أو خائفًا مغمورًا“، هذا الخائف أيضًا حجة، ذاك حجة وهذا حجة، كيف يكون حجة وهو غائب؟ لأنه يمارس أدواره، هو وسيلةٌ لإيصال الدين وصولًا يقينيًا، هذا الدور الأول، هو يقوم بالهداية الخلقية والأمرية، ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ، هو أيضًا يقوم بحفظ ثوابت التشريع من خلال شبكة الاتصالات التي ترتبط به، من خلالها يصل إلى الأمة، ويصل إلى أصحاب القرار في الأمة، ليتحفّظوا على ثوابت التشريع.

المحور الثاني: الأدوار الكمالية لمنصب الإمامة.

الدور الكمالي هو الدور المربوط بالفرصة، هو الدور الذي يرتبط بالظروف المناسبة والمعدّة له، مثلًا: إقامة دولة، هذه ليست دورًا أساسيًا للإمام، إنما هو دورٌ كماليٌّ، إذا سمحت الظروف بإقامة دولة أقامها، تصدي الإمام للقيادة الفعلية للمجتمع البشري دورٌ كماليٌّ وليس دورًا رئيسيًا للإمامة، إذا سمحت الظروف بأن يتصدى للقيادة الفعلية تصدى لها، ولذلك تجد الإمام أمير المؤمنين عليًا يقول: ”لولا حضور الحاضر“ الظروف تهيّأت أن أتصدى للقيادة وإلا فلا، ”لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم، ولا على سبغ مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولرأيتم دنياكم عندي أهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ونعيم يفنى ولذة لا تبقى؟!“.

الإمام أمير المؤمنين علي يقول: القيادة الفعلية شيءٌ مرتبطٌ بالظروف، بما أن الظروف سمحت لي بذلك، قامت الحجة عليَّ بوجود أنصار مستعدين لنصرتي في ذلك الوقت، من اليمن، من العراق، من خراسان، وُجِدَت أنصار معدّة لنصرته، قامت الحجة عليَّ بوجود أنصار، لذلك تصديتُ للقيادة الفعلية، وإلا الإمام أمير المؤمنين بقي خمسًا وعشرين سنة وهو يقول: ”فطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء“ ليس عندي أنصار ”أو أصبر على طخية عمياء، يشيب فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبًا“.

إذن، إقامة القيادة الفعلية دورٌ كماليٌّ يحتاج إلى ظروف، وكذلك إعزاز الدين كما قام به الحسين سيد الشهداء، وصلت الظروف في زمن يزيد بن معاوية إلى أن الإمام لو لم يبذل دمه لكان ذلك إذلالًا للدين، وصلت الظروف إلى هذا المستوى، أن إعزاز الدين يتوقف على بذل الدم، وأغلى دم وأطهر دم، فتصدى الإمام الحسين لبذل دمه، ”ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة؛ يأبى الله لنا ذلك، ورسوله، والمؤمنون، وجذور طابت، وحجور طهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإني زاحف بهذه الأسرة، مع قلة العدد، وخذلان الناصر“.