الإمام علي (ع) وَ دولة الإنسان

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا انطلاقًا من الآية المباركة في محاور ثلاثة:

المحور الأول: الفرق بين العلم الحصولي والعلم الحضوري.

الإنسان له روافد ثلاثة يستقي منها المعلومات، ويكتسب منها الأفكار: العقل، والحس، والوجدان. هناك معلومات يقتنصها الإنسان من خلال حركة العقل، ومن خلال التحليل العقلي، كالمعلومات الرياضية، كالمعلومات الفلسفية، التي تصل إلى الإنسان عبر حركة العقل، وهناك معلومات تصل إلى الإنسان من خلال الحواس الخمس، كعلم الإنسان بحرارة الجو، كعلم الإنسان بما يحدث حوله من مرئيات ومسموعات ومشمومات، فإنها إنما تصل إليه عن طريق الحواس الخمس.

وهناك معلومات يكتسبها الإنسان من خلال وجدانه، من خلال رافد الوجدان، الإنسان يعلم بفرحه لأنه يشعر بالفرح، ويعلم بحزنه لأنه يشعر بالحزن، الإنسان يعلم بأنه جائع إذا شعر بوجدانه بالجوع، ويعلم بأنه حزين إذا شعر بوجدانه بالحزن، ويعلم بأنه يحب أباه وأمه لأن وجدانه يشهد بذلك، ويعلم بأنه يبغض عدوه لأن وجدانه يشهد بذلك، الوجدان رافدٌ من روافد المعلومات. أي المعلومات أصدق، وأي المعلومات يقينًا، وأقوى صدقًا، من هذه الروافد الثلاثة: هل المعلومات العقلية، أم المعلومات الحسية، أم المعلومات الوجدانية؟

أصدق المعلومات وأشدّها يقينًا هي المعلومات الوجدانية، المعلومات العقلية قد تقترن مع الشك، قد تقترن مع احتمال الخطأ والصواب، المعلومات الحسية قد تقترن مع لونٍ من التشكيك لدى الإنسان، لكن المعلومات التي لا يخالطها شكٌّ ولا يخالطها ريبٌ ولا يتردد الإنسان فيها هي المعلومات الوجدانية، المعلومات التي يشعر بها الإنسان من خلال وجدانه.

من هنا، ذكر الفلاسفة أن العلم على نوعين: علم حصولي، وعلم حضوري. العلم الحصولي هو الذي يحصل عليه الإنسان بواسطة، أي: هناك واسطة بينه وبين المعلومة، سواء كان الواسطة عقلًا أو كانت الواسطة حسًّا، هذه معلومات حصولية. هناك معلومات يعلم بها الإنسان بلا واسطة، المعلومة بنفسها عنده، بدون واسطة، المعلوم حاضر بنفسه لدى العالم بدون واسطة، ألا وهي المعلومات الوجدانية، المعلومات الوجدانية معلومات حضورية، علم حضوري لا حصولي؛ لأنه لا واسطة بين العالم والمعلوم، الفرح بنفسه موجود عند الإنسان بدون واسطة، الجوع، العطش، الحزن، الفرح، بنفسه حاصلٌ لدى الإنسان بلا واسطة.

أما اعتقاد الإنسان بأن محمّدًا خاتم الأنبياء والمرسلين، فهذا المعلوم ليس حاضرًا بنفسه، وإنما هو بواسطة مقدمات وتحليلات عقلية، سلكها الإنسان حتى وصل إلى هذه المعلومة، المعلومات الوجدانية علمٌ حضوريٌّ؛ لأن المعلوم حاضر بنفسه عند العالم بلا واسطة، بخلاف المعلومات العقلية والحسية، فإن هناك واسطة بين الإنسان وبين المعلومة، ونتيجة وجود الواسطة قد يقترن هذا العلم بلون من الشك وبلون من التردد والارتياب.

ولذلك علماء العرفان قسّموا العلم بنفس التقسيم ولكن باصطلاحات أخرى، فقالوا بأنَّ العلم على نوعين: اكتسابي وشهودي، والعلم الشهودي هو ما يشهده الإنسان في داخل نفسه وفي أفق نفسه من فرح أو حزن أو ألم أو ما شابه ذلك، العلم الوجداني أصدق العلم وأكثر العلم يقينًا.

المحور الثاني: علاقات الإنسان الثلاث.

وجدان الإنسان ساق الإنسان إلى أن يقيم علاقات ثلاثًا: علاقة مع السماء، وعلاقة مع الطبيعة، وعلاقة مع أخيه الإنسان. كل إنسان فهو يدور في حلقة هذه العلاقات الثلاث؛ لأن هذه العلاقات الثلاث منبعها الوجدان، مركزها الوجدان، الإنسان إنما انفتح وانطلق لهذه العلاقات الثلاث من خلال نداء وجدانه، الوجدان هو الذي دفع بالإنسان إلى هذه العلاقات الثلاث، كيف ذلك؟

أول شيء يشعر به الإنسان بوجدانه علمًا حضوريًا شهوديًا هو الشعور بأن هناك قوةً وراءه، وأنه يلجأ إلى تلك القوة في حال ضعفه، في حال محدوديته، في حال سقمه، في حال أي عرض أو طارئ يطرؤ عليه. الإمام الصادق سأله أحد أصحابه، قال له: دلني على الله، أنا لا أريد مسائل وتحليلات عقلية وبراهين، لا أريد هذا، أريد أن تدلني على الله بدلالة وجدانية. فقال له الإمام الصادق : هل ركبت البحر؟ قال: نعم، قال: هل صادف أن غرق بك السفين؟ قال: نعم، قال: هل صادف أن لم يكن لك منقذ؟ قال: نعم، قال: حينئذ عندما شعرت بأن لا منقذ لك أين توجه قلبك؟ في تلك اللحظة الحرجة، أي إنسان، حتى لو كان ملحدًا، حتى لو كان إنسانًا لا يعترف بشيء، في تلك اللحظة الحرجة عندما يواجه شبح الموت، وعندما يواجه خطر الموت، وعندما يعلم أن لا منقذ، في تلك اللحظة أين توجه قلبك؟ قال: توجّه قلبي إلى شيء شعرت بأنه هو القادر على أن يخلصني، قال: ذلك هو الله.

الإنسان بوجدانه في حال الضعف، ربما الإنسان في حال الكبرياء، الإنسان إذا ملك المال، وملك القوة، وملك الجاه، وملك المنصب، يتسانى هذا الشعور الوجداني، لأنه يشعر بأنه قوي، وأنه غني، وأنه لا يحتاج إلى شيء، ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى، ولكن في حالات الضعف وفي حالات الانهيار وفي حالات شعور الإنسان بأن لا ملجأ إليه، عنده وجدان يدله على الله، على أن هناك قوةً هي الوحيدة القادرة على أن تبدل ضعفي بالقوة، وأن تبدل مرضي بالصحة، وأن تبدل جهلي بالعلم، وأن تبدل موتي بالحياة، قوة هي المدد، وهي العطاء، وهي الرافد الذي يرفدني في كل آن وفي كل لحظة.

فوا عجبًا كيف يعصى الإله
وفي   كل  شيء  له  iiآيةٌ
  أم   كيف   يجحده  iiالجاحدُ
تدل    على    أنه    iiواحدُ

الوجدان يقودك إلى السماء، فتقيم علاقة مع السماء، ولذلك علاقة الإنسان بالسماء أقدم علاقة على الأرض، جميع المؤرخين، جميع علماء الجيولوجيا عندما اكتشفوا الآثار اكتشفوا أن أقدم علاقة هي علاقة الإنسان بالسماء، علاقة نبعت من وجدان الإنسان. والوجدان قادك إلى العلاقة مع الأرض، الإنسان من الأرض، فيشعر بالأرض، فيميل إلى الأرض بوجدانه، القرآن الكريم يشير إلى هذه العلاقة الوجدانية بين الإنسان وبين الأرض: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا، لأنكم تشعرون أنكم منها لذلك تقيمون علاقة معها، لأنكم تشعرون أنها أمكم لذلك تقيمون حضارة عليها. يقول الشاعر:

بلادٌ بها نيطت عليَّ iiتمائمي   وأول أرضٍ مسّ جلدي ترابُها

شعور الإنسان بالتربة وأنه منها يجعل علاقة وجدانية بينه وبين هذه الأرض، بحيث يقيم علاقةً مع الأرض، وعلاقةً مع الطبيعة، هذه هي العلاقة الثانية. وكذلك علاقة الإنسان بالإنسان، الإنسان عنده شعور وجداني أن هناك من يحتضنه، أن هناك من يغدق عليه المحبة والعطف والحنان، أن هناك من يسكن إليه، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، إذن الوجدان قاد الإنسان إلى أن يقيم علاقةً مع أخيه الإنسان، المؤمن من يألف ويؤلف كما ورد عن النبي محمد ، ”أفاضلكم أحاسنكم أخلاقًا، الموطّؤون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون“.

المحور الثالث: دمج العلاقات الثلاث في محور واحد.

هذا هو المحور الأهم، فلاحظوه بدقة. الإنسان قاده الوجدان - الذي هو أصدق روافد المعلومات - إلى أن يقيم علاقات ثلاثًا: علاقة مع السماء، وعلاقة مع الأرض، وعلاقة مع أخيه الإنسان، فكيف يتعامل الإنسان مع هذه العلاقات الثلاث؟ إذا نظرت للإنسان العادي الذي يمتلك مؤهلات عادية ترى أن هذا الإنسان لا يستطيع أن يتعامل مع العلاقات الثلاث على نحو الاندماج وعلى نحو الوحدة، الطبيعي في الإنسان أن يتعامل مع العلاقات الثلاث بشكل منفصل، وبشكل مستقل، يعني يتعامل مع علاقته مع السماء منفصلًا عن علاقته مع الأرض، وعلاقته مع الأرض منفصلًا عن علاقته مع أخيه الإنسان، الإنسان لأنه محدود التفكير، محدود القدرات، محدود الطاقات، لا يستطيع عادة، لا نقول دائمًا، لا يستطيع عادة أن يوحّد العلاقات الثلاث، كما يقول الفلاسفة: أن يتعامل معها على نحو الكثرة في الوحدة، يعني أن يذيب العلاقات الثلاث في بوتقة واحدة، في محور واحد، في نقطة واحدة.

عادة الإنسان إذا توجّه إلى الله انفصل عن عالم الطبيعة، وانفصل عن أخيه الإنسان، وربما يصبح إنسانًا راهبًا، ويصبح إنسانًا متبتلًا في محرابه، يذهل عن علاقاته الأخرى، وإذا توجّه إلى العلاقة مع الأرض شغله إعمار الأرض وشغلته الحضارة وشغله الاقتصاد وشغلته هذه الأمور عن علاقته حتى مع أهله، عن علاقته حتى مع أطفاله، عن علاقته حتى مع السماء، وربما إذا توجّه للعلاقة مع المجتمع قد تشغله العلاقات الاجتماعية وتذهله العلاقات الاجتماعية حتى عن العلاقة مع ربه، وحتى عن العلاقة مع السماء.

طبيعة الإنسان إذا استغرق في علاقة كانت على حساب علاقة أخرى، طبيعة الإنسان أن يتعامل مع العلاقات الثلاث بشكل مستقل، بشكل منفصل، هذه علاقة لها وقت، بعض الناس يقسمون أوقاتهم، يقولون: هذا الوقت للسماء، لربي، وهذا الوقت للعمل، وهذا الوقت لزيارة الأصحاب والأصدقاء، يقسّم وقته تبعًا للعلاقات الثلاث؛ لأنه لا يستطيع أن يجمع بين العلاقات الثلاث في محور واحد، فيتعامل مع العلاقات الثلاث بشكل استقلالي، بشكل انفصالي.

أما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كيف تعامل مع العلاقات الثلاث؟ علي برهن لنا أنه يمكن دمج العلاقات الثلاث في علاقة واحدة، يمكن ربط العلاقات الثلاث في بوتقة واحدة، يمكن إذابة العلاقات الثلاث في محور واحد، وهذا هو الإعجاز الذي برهن عليه علي بن أبي طالب ، إذابة العلاقات كلها في محور واحد، ألا وهو محور الكمال، ما معنى محور الكمال؟

كل إنسان يحب الكمال، الإنسان لماذا يحب العلم؟ لأن العلم كمال، يحب الصحة لأن الصحة كمال، يحب الثروة ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا لأن الثروة كمال، كل ما هو كمال يعشقه الإنسان، فما يعشقه الإنسان هو الكمال، معشوقه الأول هو الكمال، ولأجل أن الإنسان يحب الكمال يحب كل ما هو مظهر من مظاهر الكمال. علي يقول: المحور واحد، وهو الكمال، والعلاقات الثلاث تدور حول هذا المحور، أنا أرتبط بكل علاقة من هذه العلاقات الثلاث بمقدار ما ترتبط بالكمال، أنا أتعلق بربي لأن علاقتي بربي كمال، وأتعلق بالطبيعة وأتعلق بأخي الإنسان إذا كان في إطار الكمال، وإذا كان في محور الكمال.

علي دمج العلاقات الثلاث في محور واحد، وهو محور الكمال، وبرهن على أن الإنسان يمكن أن يجمع بين العلاقات الثلاث في وجدان واحد، وفي عمل واحد، وفي لحظة واحدة. علي توجه إلى العلاقة مع الله لأن العلاقة مع الله كمال، كمال روحي، لذلك كان يقول: ”ركعة لي في دنياكم أحب إلي من الجنة وما فيها“، الركعة لقاء مع حبيبي ومحبوبي الأتم، ولقاء المحبوب أهم عندي من أي شيء، لأن لقاء المحبوب كمال روحي، لأن العلاقة مع الله كمال كان علي يصرف ثمان ساعات في العلاقة مع السماء، يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكان علي بن الحسين زين العابدين وسيد الساجدين إذا أراد أن يسير وأن يقتدي بجده أمير المؤمنين يقول لابنه الباقر: ناولني صحيفة أعمال جدي أمير المؤمنين، فإذا ناوله إياها بكى زين العابدين وقال: من يقدر على عبادتك يا أمير المؤمنين؟!

علي استغرق في علاقته مع السماء، وذاب في علاقته مع السماء، لكن لا على حساب العلاقات الأخرى، علاقته مع السماء بمقدار الكمال بما هي كمال، لذلك علي وهو في علاقته مع السماء يدمج علاقته مع الإنسان، يدمج علاقته مع المجتمع في إطار علاقته مع السماء.

يقول أبو ذر الغفاري «رضي الله تعالى عنه»: رأيتُ بهاتين وإلا عميتا وسمعتُ بهاتين وإلا صمتا رسولَ الله يقول: ”علي قائد البررة، علي قاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله“، وذلك إن سائلًا أتى مسجد رسول الله ، فلم يكن عند الرسول ما يعطيه، فأومأ إليه علي بخنصره وهو راكع، فأخذه السائل واشترى بثمنه طعامًا له، فسمع رسول الله ، فقال: ”اللهم إني أخي موسى سألك، وقال: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي فأنزلت عليه: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا، وأنا أسألك: رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيرًا من أهلي، عليًا اشدد به أزري“، فما أتم كلامه حتى نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ.

ما شغلته علاقته بالسماء عن علاقته بأخيه الإنسان، لأنه جمع العلاقتين في محور واحد، ألا وهو محور الكمال، وتوجّه إليهما معًا في لحظة واحدة، لأنهما مظهران من مظاهر الكمال.

يسقي  ويشرب  لا تلهيه سكرته
أطاعه  سكره  حتى  تمكن  iiمن
  عن النديم ولا يصحو من الكاسِ
فعل  الصحاة  فهذا أعظم الناسِ

علي لم تكن علاقته بالأرض على حساب علاقته مع السماء، علي والحرب قائمة على قدم وساق، والحرب تخدم علاقته بالأرض، لأن الحرب ومواجهة الأعداء والقضاء على إرهابهم ينشر الأمن وينشر الاستقرار على الأرض، فكانت علاقته بالحرب كان علاقةً بالأرض، لكن هذه العلاقة لم تشغله عن علاقته بالسماء، وقف يصلي والسهام تنفذ إليه، فقالوا: يا أبا الحسن، أهذا وقت صلاة؟! قال: وعلام نقاتلهم؟! إنما نقاتلهم لأجل الصلاة. نحن لا نجعل علاقة على حساب علاقة أخرى، نحن نجمع بين العلاقات في محور واحد، وفي إطار واحد.

وتعال إلى علاقته مع الأرض ومع الطبيعة: علي كان إنسانًا يزرع الحضارة، ويبذل بذورها في الأرض، علي بنفسه كان يحرث الأرض، وبنفسه كان يعمر الأرض، وبنفسه كان يقوم بذلك، كما ذكرت لكم فيما مضى: لما قسّم رسولُ الله الفيءَ، وأعطى قسمًا من الأرض الواسعة لعلي بن أبي طالب، فتوهم المسلمون أن عليًا يبني قصورًا على الأرض، أو أن عليًا يقسّم الأراضي ثم يبيعها بالملايين، أو أن عليًا ينعم بخراج هذه الأرض نائمًا على الوسادة الناعمة! لا، علي زرع الأرض إلى أن أورقت وأعشبت، ووصل حاصل الأرض أربعين ألف دينار سنويًا في ذلك الزمان، كما ينقل أحمد بن حنبل في مسنده، ومع ذلك لما بلغت الأرض رونقها وريعانها قال: ”بشّر الوارث؛ إنها صدقةٌ بتّة بتلاء لا توهَب ولا تباع ولا تورَث، إنها صدقةٌ لحجيج بيت الله، ولعابري سبيل الله“.

علي علاقته مع الأرض في إطار علاقته مع أخيه الإنسان، علاقته مع الأرض في إطار علاقته مع السماء، ما جعل علاقة على حساب علاقة أخرى. وتعال إلى علي في علاقته مع أخيه الإنسان: ربما إذا سمع الإنسان أن عليًا كان شديدًا في الحق، ”علي مع الحق والحق مع علي“، لا تأخذه في الله لومة لائم، كان صلبًا لا يلين، ربما يتوهم الإنسان أن عليًا ما كان عطوفًا، وما كان رحيمًا، وما كان يملك مشاعر إنسانية فيّاضة ومترفة، ولكن عليًا صورة أخرى، ولكن عليًا صورة إنسانية أخرى عما يتوهمه الإنسان، هناك مظهران أكّد عليهما عليٌ من خلال تأكيده على إنسانية الإنسان.

المظهر الأول: التركيز على دولة الإنسان.

علي ما دعا إلى دولة تفرض الدين بالقوة، علي ما دعا إلى دولة تفرض أفكارها بالقوة، علي ما دعا إلى دولة مستبدة، علي دعا إلى دولة تحترم الإنسان، وتكرّم الإنسان بما هو إنسان، تقيم وزنًا للإنسان بما هو إنسان، علي دعا إلى دولة الإنسان، ومارس دولة الإنسان. الآن نحن عندما نقرأ لائحة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة التي تنادي بالمبادئ الإنسانية العامة، الإنسان بما هو إنسانٌ مع غض النظر عن دينه أو عرقه أو لونه أو جنسه متساوي مع أخيه الإنسان في تمام الحقوق، وفي تمام الوظائف، الإنسان بما هو إنسان له الحقوق، هذا ما تنادي به لائحة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة.

العلمانيون الذين يدعون إلى دولة تجعل الميزان للإنسان لا للدين يقولون: لا يصح تفضيل إنسان على آخر لدينه أو للونه أو لجنسه أو لعرقه، هذه الألوان الاثنية والدينية والعرقية لا دخل عليها في حقوق الإنسان وفي كرامة الإنسان، الإنسان بما هو إنسان يتساوى مع غيره، ولا يفضل على غيره بشيء من هذه الألوان، وبشيء من هذه الرتوش. كل هذا الذي تدعو إليه الدولة العلمانية، أو تدعو إليه لائحة حقوق الإنسان، دعا إليه علي بن أبي طالب قبل 1300 سنة، وكرّسه على الأرض، وطبّقه على الأرض.

علي انطلق من المبدأ القرآني، القرآن نادى بذلك قبل الإمام علي ، القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ، لم يقل المسلمين ولا المسيحيين ولا فلان، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا، علي بنفس المنطلق طبّق دولة الإنسان في زمانه، علي يكتب إلى مالك الأشتر عندما ولّاه مصرَ، يقول له: ”وأشعر قلبكَ الرحمةَ للرعية، والرفق بهم، واللطف إليهم، ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا يغتنم أُكُلَهم؛ فإن الناس صنفان: إما أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق“، هذا إنسان مثلك، حتى لو لم يكن على دينك، هذا إنسان مثلك، فله حقوق متساوية مع الإنسان الآخر الذي يختلف معه في الدين.

وهذه المقالة ضُمِّنت لائحة حقوق الإنسان للأمم المتحدة؛ لأنها أول مقالة في تاريخ الإنسان تتحدث عن مبدأ الإنسانية، علي مارس ذلك، ليس مجرد كلام يقوله، مارس ذلك على الأرض. رأى نصرانيًا يسأل الناس، قال: ما هذا؟ قالوا: هذا نصراني كبر وعجز وصار يتسول، قال: استخدمتموه حتى إذا كبر وعجز تركتموه يتكفف الناس؟! أعطوه من بيت مال المسلمين. هذا بيت مال المسلمين، ليس بيت مال الكافرين، لكن عليًا يقول: الناس متساوية في نظري، ولذلك قال: أعطوه من بيت مال المسلمين، فكان يعطى راتبًا ومعاشًا من بيت مال المسلمين لأنه إنسان يعيش في دولة الإنسان، في دولة علي بن أبي طالب .

المظهر الثاني: التدريب العملي على الإحساس بالإنسانية.

نحن مع الأسف ليس عندنا تدريب عملي، بلا فرق بيني وبينكم، بلا فرق بين العلماء والجهلاء، كلنا ليس عندنا تدريب عملي يومي على الإحساس بإنسانية الإنسان. أنتم لاحظوا مؤسسات التبشير المسيحي، عندما يريدون أن يصنعوا مبشِّرًا يبشر بالمسيحية فإنهم يخضعونه يوميًا لتدريب عملي يحسّسه بإنسانية الإنسان، هذا الذي يراد أن يصبح مبشِّرًا يدخل المصحات، مصحات مرضى البرص، ومصحات مرض الجذام، ومصحات الأمراض المقززة، ومصحات الأمراض المنفرة، يدخل هذه المصحات، يجلس فيها شهورًا أو سنينًا ليتعلم كيف يتعامل مع الإنسان، يتعلم كيف يتعامل مع هذا المريض المصاب بمرض الجذام أو المصاب بمرض البرص، أو المصاب بأي مرض مقزز آخر. يضغط على نفسه، يعوّد نفسه، يطوّع نفسه، أن يتعامل مع هذه الحالات معاملة إنسانية.

نحن نحتاج إلى التدريب العملي اليومي أو الأسبوعي أو الشهري، الذي يحسّسنا بالإنسان الآخر، يحسّسنا بضعف الإنسان الآخر، يحسّسنا بحاجة الإنسان الآخر، نحن نعيش في بيوت مترفة، ونعيش في ثراء واسع، ونعيش وننام على الوسادة الناعمة، نعم نسمع أن هناك فقراء ومساكين ومرضى، لكننا لا نشعر بلسعة الفقر التي يشعرون بها؛ لأننا لا نخضع لتدريب عملي يحسّسنا بهم.

علي بن أبي طالب كان يوميًا يمارس تدريبًا عمليًا، وهو خليفة المسلمين، قائد الأمة الإسلامية، يمارس تدريبًا عمليًا يربطه بالإنسان الآخر، لما فرغ الحسن والحسين «عليهما السلام» من دفن الإمام أمير المؤمنين، ورجعا، مرّا على كوخ كان به إنسان شيخ مقعد مريض، ترفّقا بحاله، سألهما: لقد كان يأتيني رجلٌ ينظّفني، يسقيني، يطعمني، يلاطفني، يخفّف عليَّ، وإني افتقدته منذ أيام، ولا أعرف من هذا الرجل؟ قالوا: صفه لنا، قال: طوله كذا، عرضه كذا، وجهه كذا، صفاته كذا، كلامه كذا، حكمه كذا... قالوا: ذلك والله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

يحمل بنفسه جراب الطعام، يدور به على فقراء الكوفة، كي يتباشروا ويقولوا: جاءنا صاحب الجراب. عليٌ بنفسه يمارس تدريبًا عمليًا، يعلّمنا درسًا تربويًا، أن نمارس تدريبًا عمليًا يحسّسنا بلسعة الألم الذي يعيشه الإنسان الآخر. الحسن بن علي يمر على فقراء يأكلون كِسَر الخبز اليابسة، يقولون: تعال وتغدَ معنا، يقول: إن الله لا يحب المتكبرين، يجلس على مائدة الفقراء، يأكل معهم، كدرسٍ تربويٍّ لنا، ألا نستعلي ولا نشمئز من أن نختلط بالفقراء، ونأكل طعامهم، ونستقي من شرابهم، حتى نشعر بحاجتهم وبأوضاعهم.

عليٌ علاقته مع أخيه الإنسان جسّدها لنا عندما كان يقول: ”لو شئت لاهتديت الطريق“، الثروة أستطيع أنا الحصول عليها، وأحصل عليها بطرق مباحة أيضًا لا بطرق محرمة، أنا لي ميادين أستطيع من خلالها أن أكتسب الثروة، ”لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، أو يقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعل باليمامة أو بالحجاز من لا عهد له بالشبع ولا طمع له بالقرص، أأبيت مبطانًا - هذا إحساس بالإنسان الآخر - وحولي بطون غرثى وأكباد حرى؟! أأقنع من نفسي أن يقال لي أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر؟!“.

وحسبك داءً أن تبيت ببطنةٍ   وحولك  أكبادٌ تحنُّ إلى القدِّ

”والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة، ما فعلت“، علاقته مع الإنسان علاقة الحنان، علاقة العطف، علاقة الرأفة، لكن لم تكن على حساب علاقته مع السماء، جمع بين العلاقتين في عمل واحد، هو يقول: ”لقد جاءني أخي عقيل، ومعه أبناؤه، شعث غبر، كأنما سوّدت وجوههم بالعظلم - هؤلاء أبناء أخي الخليفة - وقد استماحني صاعًا من بركم «يريد صاعًا واحدًا زيادة فقط»، فأحميتُ له حديدةً على النار وأدنيتها منه، ففزع منها، قلتُ: عقيل، أتفر من نار أوقدها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه؟!“، أمير المؤمنين علاقته مع أخيه عقيل، علاقته مع أبناء أخيه علاقة حيوية، لكن لا على حساب علاقته مع السماء، بل في إطار علاقته مع السماء، وضمن علاقته مع السماء.

”والله لو كان المال لي لساويتُ بينهم، فكيف والمال مال الله؟!“. أمير المؤمنين يقول لقنبر خادمه: اشتر لي بهذه الدراهم ثوبين، يشتري له ثوبين، يلبس ثوبًا ويعطي خادمه نفس الثوب ليلبسه، يقول: يا أمير المؤمنين، أنا خادم لك، فكيف ألبس الثوب الذي تلبسه أنت وأنت خليفة المسلمين؟! قال: مه! لقد ورد عن رسول الله : ”إن الأب واحد، والأم واحد، أطعموهم مما تطعمون، واكسوهم مما تلبسون“.

عليٌ دمج العلاقات الثلاث - العلاقة مع السماء، والعلاقة مع الأرض، والعلاقة مع أخيه الإنسان - في محور واحد وفي مركز واحد، ألا وهو طلب الكمال، والسعي نحو الكمال. ويحدّثنا عنه ضرار عندما دخل على معاوية بن أبي سفيان، قال: صف لي عليًا، قال: أعفني، قال: لا أعفيك حتى تصف لي عليًا. وصفه ضرار شخصًا يجمع العلاقات الثلاث في يوم واحد في عمل واحد في لحظة واحدة في طريق واحد ومحور واحد.

قال: إن أبيت إلا أن أصفه فأقول: ”كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول عدلًا، ويحكم فصلًا، كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يحاسب نفسه إذا خلا، ويقلّب كفيه على ما مضى، كانت تتفجر الحكمة من جوانبه، وينطق العلم من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته، يعظّم أهل الدين، ويتحبّب إلى المساكين، يدنينا منه إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع دنوه منا وتحننه علينا لا نكلمه هيبةً له، فإذا تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، لا يطمع القوي في ظلمه، ولا ييأس الضعيف من عدله، ولقد رأيتُه ليلةً من لياليه“، ليالي الحروب التي كان يخوضها، ولكن ما كانت تؤثر عليه ف يعلاقته مع الله، ”ولقد رأيتُه ليلةً من الليالي، وقد مثل في محرابه، قابضًا على لحيته، يتململ تململ السليم وهو يقول: إليكِ يا دنيا، غرّي غيري، إليَّ تشوفتي، أما إليَّ تطلعتي؟! لقد بنتكِ ثلاثًا لا رجعة لي بعدها؛ فعمركِ قصيرٌ، وعيشكِ حقيرٌ، وخطركِ كبيرٌ، آهٍ من قلة الزاد، وبُعْد السفر، ووحشة الطريق“.

عليٌ يعلّمنا كيف نفكّر في طول الطريق، وكيف نفكّر أن نتزوّد لذلك الطريق، وكيف نفكّر في سفرنا هذا، السفر الطويل الذي ينتظر كل إنسان منا، الإنسان إذا وُضِع في قبره التفت إلى ثلاثة: إلى أمواله، وإلى أولاده، وإلى أعماله، يلتفت إلى أبنائه، يقول: أبنائي ربيتكم، فما تعطوني؟ يقولون: نشيعك إلى قبرك، ونواريك في حفرتك. ويلتفت إلى أمواله وثروته، يقول: ماذا تعطيني؟ فتقول ثروته: سترة بيضاء تواري بها عورتك. ثم يلتفت إلى عمله ويقول: أما أنت، فماذا تعطيني؟ فيقول: أنا صاحبك في قبرك، وقرينك عند نشرك، أنا الذي أصاحبك، فإن كان من أهل الجنة فروحٌ وريحان، وإن كان من أهل الجحيم فتعسًا وبؤسًا لأصحاب الجحيم.