الفتوحات الإسلامية والعولمة

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

صدق الله العلي العظيم

إنّ أبرز صفة تعامل الله بها مع خلقه هي صفة الرحمة، فوجود الخلق رحمة، ورزقهم رحمة، وبقاؤهم رحمة، وجميع النعم التي أسبغها الله عليهم رحمة، فالله تبارك وتعالى تعامل مع خلقه بصفة الرحمة، ولأجل ذلك ذكر جملة من المفسّرين أنّ وجه الله هو الرحمة، مثلًا عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، ما هو وجه الله؟ هل لله وجه؟ وجه الله هو الصفة التي تعامل الله بها مع خلقه، وهذه الصفة التي تعامل الله بها مع خلقه هي صفة الرحمة، فوجه الله هو رحمته بعباده، ورحمته بمخلوقاته.

وهذه الرحمة التي هي وجه الله نوّعها القرآن الكريم إلى قسمين: رحمة رحمانية ورحمة رحيمية، قال تبارك وتعالى: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هناك رحمة رحمانية، وهناك رحمة رحيمية، الرحمة الرحمانية هي الرحمة العامة لجميع الموجودات، ما من موجود برأه الله وخلقه الله إلا وأسبغ عليه قسطًا من الرحمة، ونصيبًا من الرحمة، قال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر، وقال تبارك وتعالى: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، كل مخلوق أعطي وجودًا وأعطي هداية، يعني أعطي رحمة، هذه هي الرحمة الرحمانية.

الرحمة الرحيمية هي الرحمة الخاصة، ليست رحمة عامة لكل الوجودات، ولكن رحمة خاصة، ما هي هذه الرحمة الخاصة التي وهبها الله للمؤمنين، أو وهبها الله للداعين، كما قال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، ما هي هذه الرحمة الخاصة التي وهبها الله للعقلاء من هذه الموجودات كلها؟

الرحمة الخاصة هي محمد ، الله تبارك وتعالى خلق إنسانًا، وهو محمد بن عبد الله، وأودع فيه أعظم رحمة، وأودع في قلبه أكبر طاقة من الرحمة والصبر والإرادة، فكان رسول الله قطعة من الرحمة، قطعة من الحنان، قطعة من العطف، لذلك ذكره الله تعالى بقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، وقال تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، النبي هو الرحمة، هو الرحمة الرحيمية.

من هنا نطرح هذا التساؤل لنجيب عنه في هذه الليلة، نحن سنتكلم عن نقطة محددة في هذه الليلة، هل أن الفتوحات الإسلامية التي جرت بعد وفاة رسول الله كانت تنسجم مع الرحمة؟ هل كانت تنسجم مع مبدأ الرحمة؟ هل كانت تنسجم مع ما وصف الله به رسوله، حيث قال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؟ فهل الرحمة للعالمين تقتضي الغزو واحتلال الأراضي وقتل الرجال وسبي النساء، أم أن الفتوحات التي جرت لا تنسجم مع مبدأ الرحمة، وخلق الرحمة؟ إذن، حديثنا عن نقطة محددة، وهي الفتوحات الإسلامية التي حصلت بعد رحيل النبي المصطفى .

حديثنا حول الفتوحات الإسلامية بعد رحيل النبي المصطفى، في زمان النبي المصطفى كل حروب النبي كانت دفاعية، معركة بدر كيف حصلت؟ النبي رأى قريشًا قد استولت على أموال المهاجرين الذين خرجوا من مكة إلى المدينة، استولت قريش على أموالهم وأملاكهم وبيوتهم، فأراد النبي أن يقتص لهم ما سُلِب منهم، فأمر المسلمين بأن يعترضوا قافلة أبي سفيان الخارجة من مكة إلى الشام ليأخذوا منها عوض ما سلبته قريش من أموال المسلمين المهاجرين، من هنا قام المشركون بردة فعل، وهجموا على المسلمين في بدر، فكانت المعركة الأولى، فهي معركة دفاعية، وعقب المشركون بمعركة أحد، فكان دور الرسول دورًا دفاعيًا في معركة أحد.

وهكذا كانت حروب الرسول دفاعية، ولكننا نتكلم عن الحروب التي بعد رحيل المصطفى . هنا محاور ثلاثة أتعرض لها حول الفتوحات الإسلامية:

المحور الأول: تعريف العولمة.

العولمة مصطلحٌ بشّر به المفكّرون الغربيون، ما هو المقصود بمصطلح العولمة الذي بشّر به بعض المفكرين الغربيين؟ هنا اتجاهان في تحديد مصطلح العولمة:

الاتجاه الأول: توحيد الثقافة والاقتصاد والقانون.

مارتن ألبيرو هو الذي تحدث عن مصطلح العولمة، قال: العولمة هي مجموعة عمليات تجعل العالم كله قرية واحدة، كيف نجعل العالم كله قرية واحدة؟ نحتاج إلى ثلاثة عناصر: عولمة اقتصادية، وعولمة ثقافية، وعولمة قانونية.

العنصر الأول: العولمة الاقتصادية.

من حق كل شخص يملك رأس مال أن ينتج أي إنتاج، ومن حقه أن يوزع إنتاجه في أي بقعة من بقاع العالم، ومن حقه أن يستهلك أي منتج تخرجه الشركات وتبدعه، إذن لكل فرد الحرية في الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، وهذا يعني أن العالم يتحول إلى سوق واحدة، وهذا ما يعبر عنه بالعولمة الاقتصادية.

العنصر الثاني: العولمة الثقافية.

من حق كل أحد أن يتبنى أي فكرة، ومن حق كل أحد أن يروّج لفكرته، وليس من حق أحد أن يمنع عن ترويجه فكرته، أي إنسان يريد أن يذهب إلى الشرق الأوسط، أو الشرق الأدنى، أو أفريقيا، في أي مكان، يريد أن يقترح فكرة، يروّج لها، يدافع عنها، له الحرية في ذلك، ليس من حق أحد منعه عن ترويج أفكاره، إذن نتيجة ذلك سوف يتحول العالم إلى عالم ثقافي واحد، هذه العولمة الثقافية.

العنصر الثالث: العولمة القانونية.

لا بد أن يكون لدول العالم كلها قانون واحد يحكمها، وهذا القانون الواحد مدعم بنظام جزائي من تخلف عن القانون وتمرد عليه يعاقب، ولأجل ضمان تنفيذ القانون لا بد من قوة عسكرية مشتركة بين دول العالم تسهم في تطبيق القانون وفي المعاقبة على من يتمرد على القانون، هذه عولمة قانونية. إذا تمت العناصر الثلاثة تحول إلى قرية واحدة، هذا هو معنى مصطلح العولمة، وهذا ما يبشّر به بعض المفكرين الغربيين.

الاتجاه الثاني: غربنة العالم وأمركته.

في مقابل هذا الكلام، يوجد اتجاه آخر، فوكوياما صاحب كتاب نهاية التاريخ الذي نادى بصراع الحضارات، هو أمريكي لكن أصله ياباني، قال: أنا لا أنادي بتحويل العالم إلى قرية واحدة كما عليه الاتجاه الأول، بل أنا أدعو إلى غربنة العالم وأمركته، أنا أدعو إلى هيمنة الحضارة الغربية فقط وفقط، لا يسمح لأي حضارة أخرى بالسيطرة على العالم، نحن ندعو إلى أمركة العالم، أي: إلى غلبة وهمينة الحضارة الأمريكية على العالم كله، هذا الذي طرحه فوكوياما، لماذا؟ طرحه لمبررين:

المبرر الأول: أن المبادئ التي تحملها الحضارة الغربية هي أفضل مبادئ على الأرض كلها، ومن أجل ذلك يجب أن تكون الغلبة للحضارة الغربية، ما هي المبادئ؟ الرأسمالية والعلمانية واللبرالية، ثلاثة مبادئ، الرأسمالية في مجال الاقتصاد، بما أن الاقتصاد الرأسمالي الذي يعتمد على فتح باب الملكية الفردية على مصراعيها قد أثبت نجاحه، وقد أثبت أرباحًا هائلة للمجتمع البشري، إذن الاقتصاد الرأسمالي مبدأ لا يرفع اليد عنه.

المبدأ الثاني: العلمانية، الغرب نجح في فصل الدين عن الدولة، الغرب نجح في إبعاد الكنيسة عن السلطة، الكنيسة لله والسلطة للمجتمع، الدين لله والحكم والسلطة لصندوق الاقتراع والانتخاب، هذا معنى العلمانية، العلمانية فصل الدين عن الدولة، الدين لله والدولة للمجتمع عبر صناديق الاقتراع، بما أن هذا المبدأ نجح في الحضارة الغربية وأثبت جدارته، إذن هو مبدأ يجب طغيانه على العالم كله.

المبدأ الثالث: اللبرالية، وهي مرتبطة بحريات الأفراد، لكل فرد الحرية في أن يقول ما يشاء، وأن يفكر فيما يشاء، وأن يفعل ما يشاء، المهم ألا يعارض حرية الآخرين، هذا معنى اللبرالية، اللبرالية تعني الحرية، لكل فرد الحرية في فكره، في طقوسه، في كلامه، في سلوكه، ما لم يعارض حرية الآخرين.

فالحضارة الغربية تتمتع بثلاثة مبادئ: رأسمالية في الاقتصاد، علمانية في الحكم، لبرالية في حريات الأفراد، بما أن هذه المبادئ الثلاثة أثبتت نجاحها، إذن الحضارة الغربية هي أرقى حضارة وأفضل حضارة، فهي الحقيقة بأن تكون هي المهيمنة على العالم كله، وهذا هو معنى العولمة، الدعوة إلى أمركة العالم وغربنته.

المبرر الثاني: غلبة حضارة على حضارة أخرى تحتاج إلى ثلاث قوى: قوة عسكرية وقوة ثقافية وقوة اقتصادية، من يملك القوى الثلاث؟ الحضارة الغربية، الذي يمتلك القوة العسكرية والقوة الاقتصادية والقوة الثقافية هو الحضارة الغربية، إذن هي الحضارة الحقيقة بالهيمنة على العالم كله، فهذا هو معنى العولمة الذي دعا إليه فوكوياما.

المحور الثاني: ما هي النظرية التي تطرحها الحضارة الإسلامية؟

هل الحضارة الإسلامية تدعو إلى العولمة بالمعنى الأول، أو العولمة بالمعنى الثاني، أم أنها تدعو إلى فكرة أخرى؟ ما هي الفكرة التي تدعو إليها الحضارة الإسلامية؟

الفكرة التي تدعو إليها الحضارة الإسلامية حوار الحضارات وليس صراع الحضارات، حوار الحضارات وليس هيمنة حضارة على أخرى، وليس أمركة العالم ولا غربنته، ما يدعو إليه الإسلام هو حوار الحضارات، لماذا؟ لدليل عقلي، ودليل نقلي.

الدليل الأول: الدليل العقلي.

عندما ندعو إلى أمركة العالم، نجعل العالم كله يصبح حضارة أمريكية، أو حضارة أوروبية، أو يجب أن يتوحد العالم كله في حضارة واحدة اقتصادية ثقافية قانونية، هذا إلغاء للإبداع، إلغاء لإنسانية الإنسان، إنسانية الإنسان تساوي الإبداع، الإنسان لماذا يتميز على المخلوقات الأخرى؟ ما هي ميزة الإنسان على الجن، على الملك، على الحيوان؟ ميزة الإنسان أنه يمتلك القدرة على الإبداع والابتكار، ميزة الإنسان أن لديه قدرة إبداعية.

بما أن الإنسان يمتلك القدرة الإبداعية، إذن الإنسان الشرقي يستوحي من بيئته الشرقية فنونًا إبداعية خاصة، والإنسان الإفريقي يستوحي من بيئته فنونًا إبداعية خاصة، والإنسان الهندي والإنسان الفارسي والإنسان المصري والإنسان الأوروبي... كل إنسان قادر على أن يصنع من بيئته التي عاشها وألفها فنونًا إبداعية خاصة.

فإذا قلنا: يجب أن تكون الحضارة واحدة، ويجب أن يتوحد العالم تحت حضارة واحدة، أو دعونا إلى أمركة العالم، فمعنى ذلك إلغاء الإبداع لدى الإنسان، فمعنى ذلك إلغاء الطاقات والقدرات البشرية في كل بيئة بحسبها، وإلغاء الإبداع والطاقات البشرية ظلمٌ، والظلم قبيحٌ، فالعقل يرفض هذا المنطق، منطق هيمنة الحضارة الواحدة على كل الحضارات، هذا يرفضه العقل والمنطق، لأنه يتضمن ظلمًا وقتلًا وخنقًا للقدرات الإبداعية لبني البشر.

إذن الذي ندعو إليه هو حوار الحضارات، أن تجتمع القدرات الإبداعية من كل مجتمع بحسبه وتتلاقح هذه الطاقات وتتلاقح هذه القدرات لتنتج لنا فنونًا عديدة وحضارات شامخة متعاونة متلاقية.

الدليل الثاني: الدليل النقلي.

نرجع إلى دستورنا، القرآن الكريم يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، نحن جعلناكم شعوبًا فلماذا تريدون أن تصبحوا شعبًا واحدًا؟! نحن جعلناكم شعوبًا، خلقناكم في بيئات مختلفة، لكل بيئة إبداع خاص، لكل بيئة لون خاص، لكل بيئة عقل خاص، جعلناكم شعوبًا وقبائل لا لتتحاربوا ولا لتتنازعوا، بل لتعارفوا، التعارف يعني حوار الحضارات، التعارف يعني تلاقح الطاقات والقدرات، كل بيئة تقدم إبداعاتها وطاقاتها للبيئة الأخرى، فيحصل من ذلك تلاقح في الطاقات والقدرات، ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، وقال في آية أخرى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. إذن، ما يدعو إليه الإسلام هو حوار الحضارات، وليس صراع الحضارات، وليس العولمة بمعنى هيمنة حضارة على حضارة أخرى.

المحور الأخير: الحديث عن الفتوحات الإسلامية.

عندما نأتي ونفتح هذا الملف يأتيك كلام المستشرقين وبعض المفكرين الغربيين، يقولون: الفتوحات الإسلامية كلها ظلم وسرقة وابتزاز وإبادة للحضارات الأخرى، لكن هذا الذي ينتقد الفتوحات الإسلامية هو من جهة أخرى ينادي بأمركة العالم، ينادي بغربنة العالم، ما هو الفرق بين الفكرتين؟!

إذا كانت الفتوحات الإسلامية ظلمًا وإبادة للحضارات الأخرى، إذن الدعوة إلى أمركة العالم وغربنة العالم أيضًا ظلم وإبادة للحضارات الأخرى، لا فرق بين الفكرتين أبدًا، لا يصح أن تنتقد الفتوحات الإسلامية ومن جهة أخرى تدعو إلى العولمة، وتدعو إلى أمركة العالم أو غربنة العالم، كلا الفكرتين من وادٍ واحد، كلا الفكرتين يرجعان إلى أصل واحد، باء تجر وباء لا تجر! لا يصح.

نحن ما رأينا في الفتوحات الإسلامية التي حصلت بعد رحيل المصطفى ؟ هنا أيضًا يوجد اتجاهان: الاتجاه المؤيد للفتوحات، والاتجاه المعترض على الفتوحات، وأنا لا أتحدث عن أقلام أخرى، بل أتحدث عن أقلام من داخل البيت الشيعي، توجد أقلام تؤيد الفتوحات الإسلامية، وتوجد أقلام تعارض الفتوحات الإسلامية، أنا أتكلم عن اتجاهين في الجسم الشيعي، في الميدان الشيعي.

الاتجاه الأول: الاتجاه المؤيد.

يقول: أنا مع الفتوحات الإسلامية، كانت الفتوحات حضارة وعظمة وشموخًا للدولة الإسلامية، لماذا؟ الأئمة من أهل البيت أيّدوا هذه الفتوحات ودعموها وأمضوها، ما هو الدليل على ذلك؟ يقول: أنا عندي دليلان على أن الأئمة دعموا هذه الفتوحات.

الدليل الأول: أن الأئمة كانوا يدعون للمحاربين، افتح الصحيفة السجادية، صحيفة الإمام زين العابدين ، تجد من أدعية الصحيفة السجادية الدعاء لأهل الثغور، الإمام زين العابدين يدعو في محرابه لأهل الثغور المقاتلين، إذن الأئمة يدعمون القتال، والدليل على ذلك دعاء الإمام زين العابدين لأهل الثغور.

الدليل الثاني: أن الأئمة امتلكوا جواري، كانت عندهم جوارٍ، الإمام الصادق عنده جارية، الإمام الكاظم عنده جارية، بل الأئمة تزوجوا جواري، الجارية يعني المرأة الرقيق، المرأة المسترقة، هذه المرأة الرقيق من أين جاءت؟ من الحروب، الحروب بين المسلمين وبين غيرهم هي التي أفرزت سبايا من النساء، وجيء بالنساء السبايا إلى البلاد الإسلامية، وتحولت السبايا إلى رقيق، إلى جوارٍ تباع وتشترى.

والأئمة من الناس الذين اشتروا هذه الجواري وتزوجوها، وعندما يشتري الإمام الجارية فمعنى ذلك أنه يمضي القتال، لأن هذه الجارية جاءت من القتال، لو كان الإمام معترضًا على القتال لما اشترى الجواري، شراء الإمام للجواري إمضاء منه للحروب التي جرت بين المسلمين وغيرهم. إذن بالنتيجة: هذه الفتوحات حظيت برضا الأئمة وإمضائهم ودعمهم.

الاتجاه الثاني: الاتجاه الرافض.

الاتجاه الرافض للفتوحات الإسلامية ينطلق من آيتين قرآنيتين: قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، الإسلام أدلته واضحة لا تحتاج إلى أن تفرض على الناس، لماذا تفرض الدين على الناس؟! البراهين واضحة، والآية الأخرى: ﴿اِدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وحتى أثبت لك أن الفتوحات الإسلامية - خصوصًا في عهد الأمويين والعباسيين - لم تخضع لرضا الأئمة ولا لإمضائهم، وكانت ظلمًا واحتلالًا، أتعرض لأمرين:

الأمر الأول: مناقشة أدلة الاتجاه الأول.

إن دعاء الإمام زين العابدين لأهل الثغور لا ربط له بالفتوحات، أهل الثغور من هم؟ أهل الثغور هم المدافعون عن حريم المجتمع الإسلامي، هؤلاء لم يكونوا يقاتلون، بل كانوا مرابطين للدفاع عن الكيان الإسلامي، فهناك فرق بين القتال وبين الدفاع عن حريم الكيان الإسلامي، كان الكيان الإسلامي محاطًا بجنود مجهولين، وظيفتهم المرابطة والدفاع عن هذا الكيان، قال تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا، المسملون مأمورون بالصبر والمصابرة - يعني كل واحد يوصي الآخر بالصبر - والمرابطة، المرابطة تعني الحراسة، أن تحرس كيانك، أن تحرس مجتمعك، بل ورد عن الإمام الصادق : ”اصبروا وصابروا ورابطوا على ولاية أمير المؤمنين“.

إذن، أهل الثغور هم المرابطون المدافعون عن كيان الإسلام، وليس أهل الثغور المهاجمين والمحتلين لدول أخرى باسم الفتوحات الإسلامية، فلا يصح الخلط بين الأمرين، بين دعاء الإمام زين العابدين لأهل الثغور، وبين إمضاء الفتوحات الإسلامية.

وأما شراء الأئمة لبعض الجواري، الجارية لا ينحصر سببها في الحرب، كون الرجل عبدًا أو كون المرأة أمة لا ينحصر سببه في القتال والحرب، بل له أسباب شرعية أخرى، فمجرد أن الإمام - لا أريد التعرض لهذا البحث لأنه بحث فقهي - يشتري جارية أو يشتري عبدًا، هذا لا يعني أن الإمام أمضى القتال، فهناك أسباب شرعية للشراء غير القتال، ولذلك لا ملازمة بين الشراء وإمضاء القتال.

الأمر الثاني: الروايات الدالة على عدم الإمضاء.

الآن أقرأ لك روايات أهل البيت، وتستشف منها أن القتال لا يجوز إلا بإشراف من الإمام المعصوم، ما لم يكن بإشراف من الإمام المعصوم فالقتال غير شرعي، والفتوحات غير شرعية، والإمام لا يشرف على قتال إلا إذا كان قتالًا دفاعيًا، كما كان الرسول المصطفى محمد ، عندما نأتي إلى الروايات نستشف منها أن لا قتال إلا بإذن الإمام، ولا فتوحات شرعية إلا بإمضاء الإمام، والإمام متى يمضي القتال؟ إذا توفرت فيه الشروط بحيث أصبح قتالًا دفاعيًا لا هجوميًا. أقرأ لك هذه الروايات من الجزء التاسع من كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي، وهي على أربع طوائف، أربعة أصناف.

الطائفة الأولى: ما دلّ على اشتراط القتال بإذن الإمام.

الحديث الثالث من الباب الأول من أبواب الأنفال، عن معاوية بن وهب: قلتُ لأبي عبد الله الصادق : السرية يبعثها الإمام فيصيبون غنائم، أنأخذ من هذه الغنائم؟ قال : ”إن قاتلوا عليها مع أمير أمّره الإمام“ لا بد أن يكون الأمير تحت إمرة الإمام، والإمام ينصرف إلى الإمام الحق، وهو الإمام المعصوم، ”إن قاتلوا عليها مع أمير أمّره الإمام عليهم أخرج منها الخمس لله وللرسول، وقسّم بينهم ثلاثة أخماس، وإن لم يكونوا قاتلوا عليها بأمره كان ما غنموه للإمام“، هذه الغنيمة لا يجوز لهم التصرف فيها، بل يرجعون أمرها للإمام، لأنها غنيمة غير شرعية.

لاحظ أيضًا حديث 16 من نفس هذا الباب، عن العباس الرواق، عن رجل، عن أبي عبد الله : ”إذا غزا قومٌ بغير إذن الإمام فغنموا كانت الغنيمة كلها للإمام“، ليس لهم الحق أن يتصرفوا فيها، ”وإذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان للإمام الخمس“.

الطائفة الثانية: ما دلّ على علم الشيعة بلاشرعية الفتوحات.

الطائفة الثانية عندما تتأمل فيها تجد أن الشيعة في أزمنة الأئمة كانوا يعرفون القضية، يعلمون أن القتال غير شرعي، ولذلك كانوا يستأذنون الأئمة في أي شيء يترتب على القتال، لاحظوا هذه الروايات الشريفة: معتبرة الحلبي، حديث 8، باب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، عن أبي عبد الله الصادق في الرجل من أصحابنا يكون في إيوانهم - أي: شخص من الإمامية يعمل في ديوان بني أمية - ويكون معهم، فيصيبون غنائم، أي أنهم يعطونه شيئًا من هذه الغنائم، فماذا يصنع؟ قال: ”يؤدي خمسنا“، لا يحل له أن يتصرف فيما وصل إليه من الغنائم حتى يخرج الخمس، هذا معناه أن الشيعة كانوا يراجعون الأئمة في تصرفاتهم، كانوا يعرفون أن قتال الأمويين والعباسيين ليس شرعيًا، ولذلك كانوا يراجعون الأئمة في مثل هذه التصرفات.

الطائفة الثالثة: ما دلّ على استشكال الشيعة في أموال الحكومات.

وهي أعظم من تلك الطائفة، الشيعة في زمان بني أمية وبني العباس ابتلوا بالحكومات آنذاك، كيف يتصرفون؟ فإما أن يعملوا عند الحكومات، والعمل عندهم محرم، أو لا يعملوا، فمن أين يأكلون ويحصلون على لقمة الرزق وقد حاصر بنو أمية وبنو العباس الشيعة في أرزاقهم؟! فكان بعضهم يعمل عند الحكومات آنذاك، ثم يأتي إلى الإمام ويقول له: أنت طهرني، أنا عملت عندهم، وحصلت على أرباح، طهرني منها، خلصني منها.

أقرأ لك بعض الروايات التي تفهم منها أن الشيعة كانوا يعرفون أن العمل لدى الحكومات الأموية والعباسية كان عملًا محرمًا، لأن هذه الحكومات بنيت على باطل، وما بني على باطل فهو باطل، أقرأ لك هذه الروايات: حديث علباء الأسدي، قال: دخلت على أبي جعفر - الإمام الباقر - فقلت له: إنّي ولّيت البحرين - صرت واليًا على بلاد البحرين - فأصبتُ بها مالًا كثيرًا، واشتريت متاعًا، واشتريت رقيقًا، واشتريت أمهات أولاد، وولد لي، أولادي من الجواري، والجواري من الولاية، والولاية من حكومة ظالمة، أولادي من امرأة، وهذه المرأة اشتريتها بأموال مغصوبة من حكومة ظالمة، فكيف أتخلص من الموضوع؟!

قال: وهذا خمس المال، جئت لك بالخمس، جلبت لك خمس أرباحي، فقال الإمام: ”أما إنه كله لنا“، ليس الخمس فقط، كل الأموال ليست لك، هذه للإمام، لا بمعنى أنها ملك شخصي للإمام، بل بمعنى أن الولي عليها هو الإمام، الولاية عليها للإمام وليست لك، هذه أموال مغصوبة، وأنت تتبخر بأنك جئت بالخمس؟! [............] قبلت منك ذلك، ”وقد حللتك من أمهات أولادك ونسائك وما أنفقت“، لأن الرجل تاب، الإمام قال له: حللت لك، وأعظم من ذلك قال: ”وضمنت لك علي وعلى أبي الجنة“.

رواية أخرى شبيهة بهذه الرواية، عن أبي سيار مسمع بن عبد الملك، قلت لأبي عبد الله الصادق : إني ولّيت الغوص، في زمن بني أمية ولاية الغوص بيدي، فأصبت 400 ألف درهم، وقد جئت بخمسها، وكرهت أن أحبسها عنك وأعرض لها، وهي حقك الذي جعل الله لك في أموالنا، فقال : ”وما لنا للأرض وما أخرج الله منها إلا الخمس؟! يا أبا سيار، الأرض كلها لنا، فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا“، هذه الأنفال، كل الثروات والمعادن هي ملك للدولة، والدولة يرأسها الإمام المعصوم، إذن كل هذه ترجع للإمام المعصوم، قلت له: أنا أحمل إليك المال كله، فقال لي: ”يا أبا سيار، قد طيّبناه لك وحللناك منه، فضمّ إليك المال، وكل ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون“.

الطائفة الرابعة: ما دلّ على أن الأرض ملك لمنصب الإمامة.

الروايات التي تقرّر أن الأرض ثرواتها ومعادنها ملك لمنصب الإمامة، ملك للدولة التي يرأسها الإمام ، مثلًا: رواية حفص البختري عن أبي عبد الله: ”الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، أو قوم صالحوا، أو قوم أعطوا بأيديهم، وكل أرض خربة، وبطون الأودية“، كل هذه أراضٍ استراتيجية، هذه الأراضي الاستراتيجية لمن؟ ”فهو لرسول الله ، وهو للإمام من بعده“، ليس ملكًا شخصيًا للإمام، ”يضعه حيث يشاء“، يعني هو الولي على التصرف فيه.

نتيجة هذه الطوائف:

انتهينا من هذه الروايات، فما هو الملخص؟ المخلص أن القتال غير مشروع إلا بإذن الإمام، وأن الفتوحات التي جرت حيث لم تخضع لإشراف من الأئمة الطاهرين «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين» لم تكتسب الشرعية، ولأجل ذلك لا يمكن أن يدان بها الإسلام، يأتي أي قلم ويكتب: الإسلام دين السيف، الإسلام دين الاحتلال، الإسلام دين الغزو، الإسلام دين الإرهاب؛ لأن هذا الدين الإسلامي قد احتل جزءًا من أوروبا، جزءًا من أفريقيا، جزءًا من الهند، جزءًا من الصين، باسم الفتوحات! الجواب: إن هذه الفتوحات لم تخضع لإشراف الإمام المعصوم، فليست فتوحات شرعية، فلا يمكن أن يدان بها الإسلام.

الأئمة تعاملوا بمنطق الرحمة، كما افتتحنا بالآية نرجع إليها: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، النبي كان رحمة بالعالمين، ومقتضى الرحمة أن يدعوهم للإسلام بأسلوب الرحمة، وهكذا كان الأئمة الطاهرون يدعون الناس إلى سبيل الله وإلى سبيل الصلاح بأسلوب الرحمة لا بأسلوب القهر والغلبة.

الإمام الحسين لم يبدأ أحدًا بقتال، وإنما كان يتعامل بمبدأ الرحمة، الحسين بن علي لم يدخل الكوفة غازيًا، ولا مهاجمًا، ولا محتلًا، وإنما جاء إلى الكوفة بأسلوب الرحمة، بعث إليهم سفيره مسلم بن عقيل.