القرآن وتعدد القراءات

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا

صدق الله العلي العظيم

حديثنا انطلاقًا من الآية المباركة في محورين: في ضرورة تعدد القراءات، وفي انسجام الذكر الحكيم مع نظرية تعدد القراءت.

المحور الأول: ضرورة تعدد القراءات.

هل الوجود الواحد يقبل القراءات المتعددة أم لا؟ كل موجود نضع أيدينا عليه هل يقبل تفسيرات متعددة وقراءات متعددة أم لا؟ الموافق للفطرة الإنسانية، والموافق لمنطق الوجود أن كل موجود يقبل القراءات المتعددة، لأن الوجود يحمل ألوانًا مختلفة، ويحمل زوايا متعددة، ونتيجة لتعدد ألوان الوجود وتنوع زواياه فمن الطبيعي أن يكون للوجود الواحد تفسيرات متعددة وقراءات متعددة.

حتى أبين هذا الموضوع بشكل واضح أتعرض لما يذكره الفلاسفة من أن كل موجود يقبل نوعين من القراءة: قراءة ملكية، وقراءة ملكوتية، ما هو الفرق بينهما؟ هذا الكون الذي نعيش فيه يتضمن عنصرين: عنصرًا ملكيًا، وعنصرًا ملكوتيًا، العنصر الملكي هو العنصر المادي، كل موجود له أبعاد، طول، عرض، عمق، زمن، هذه الأبعاد تشكّل العنصر الملكي للموجود، والعنصر الملكي أشار إليه القرآن الكريم بقوله: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، أما العنصر الملكوتي فهو عبارة عن العنصر المعنوي والغيبي من كل شيء، كل شيء له عنصر مادي، له عنصر معنوي تجريدي، فالعنصر التجريدي يسمى بالعنصر الملكوتي.

مثلًا: الصلاة التي نصليها، هذه الصلاة لها عنصر ملكي مادي، وهو عبارة عن حركة الركوع والسجود والذكر والقراءة، ونفس هذه الصلاة لها عنصر ملكوتي، عنصر معنوي تجريدي، وهو ما يعبر عنه القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، تأثير الصلاة في الردع عن الفحشاء والمنكر هو العنصر الملكوتي للصلاة، إذن الصلاة لها عنصر ملكي مادي، لها عنصر ملكوتي، وقد أشار القرآن الكريم إلى العنصر الملكوتي بقوله: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.

بما أن لكل شيء ملكًا وملكوتًا، عنصر مادي وعنصر تجريدي، إذن كل شيء يقبل قراءتين، يقبل تفسيرين، تارة نقرؤه من خلال عنصره الملكي، تارة نقرؤه من خلال عنصره الملكوتي، إذن الموجود الواحد يتحمل قراءتين، ويتحمل تفسيرين.

مثلًا: أنت عندما تأخذ كتابًا ورقيًا معينًا، هذا الكتاب الورقي يمكن أن تقرأه بقراءتين: قراءة مادية ملكية، كم عدد أوراق الكتاب؟ ما هو نوع الخط في الكتاب؟ ما هو نوع طباعة الكتاب؟ هذه كلها نسميها قراءة ملكية، قراءة مادية، ويمكن أن تقرأ الكتاب بنوع آخر من القراءة، ما هو مضمون الكتاب؟ ما هو الهدف من تأليف هذا الكتاب؟ ما هي الآثار الإيجابية أو السلبية التي تترتب على قراءة هذا الكتاب؟ كتاب واحد يمكن أن تقرأه تارة بقراءة مادية، وتارة بقراءة معنوية، تارة بقراءة ملكية، وتارة بقراءة ملكوتية، تنوع القراءتين للموجود الواحد أمر تقتضيه طبيعة الوجود، طبيعة الوجود تقتضي تعدد الألوان، تعدد الزوايا، تعدد الجهات، ونتيجة تعدد الألوان يتحقق تعدد القراءة.

لذلك، الفلاسفة يقولون: من الضروري لكل إنسان أن يقرأ الموجودات بنوعين من القراءة: قراءة ملكية، وقراءة ملكوتية. مثلًا: عندما نأتي لهذا الكون، كيف نقرأ هذا الكون؟ تارة نقرؤه قراءة ملكية مادية، نأتي لما تطرحه الفيزياء، الثابت الكوني ما هو؟ هل الثابت الكوني يقتضي أكوانًا متعددة أم كونًا واحدًا؟ هذه قراءة مادية، ما هو مقدار المسافة بين الأرض والشمس؟ ما هو مقدار الغلاف الجوي المحيط بالأرض؟ هذه كلها قراءات مادية ملكية.

لكن عندما نأتي للقراءة الملكوتية، القراءة الملكوتية تقول: إن للكون أبعادًا أربعة، عليك أن تقرأه من خلال هذه الأبعاد الأربعة، البعد الأول: هل لهذا الكون مبدأ أم لا؟ هل لهذا الكون مبدأ حكيم أم لا؟ هذا البعد الأول، مبدأ الكون، البعد الثاني: هل أن هذا الكون يشتمل على نوعين من الوجود، وجود مادي ووجود مجرد، أم يشتمل على نوع واحد؟ هذا بعد ثان، البعد الثالث: هل أن وجودات الكون متناثرة مستقلة أم مترابطة؟ هل الكون أسرة واحدة يكمل بعضها بعضًا، أم جزر مستقلة لا تلتقي ولا تترابط؟ البعد الرابع: هل أن مسيرة الكون مسيرة هادفة واعية، أم مسيرة بلا هدف؟

هذه الأسئلة الأربعة لا تستطيع أن تكتشفها من علم الفيزياء، تحتاج إلى علم آخر، تحتاج إلى قراءة أخرى، وهو علم الفلسفة، علماء الفيزياء يجيبك عن القراءة المادية، يجيبك عن القراءة الملكية، أما القراءة الملكوتية، هل للكون مبدأ؟ هل مسيرة الكون هادفة؟ هل الكون مجرد ومادي؟ هذه الأسئلة المتعلقة بالقراءة الملكوتية يجيب عنها علم الفلسفة، وليس علم الفيزياء. إذن، هذا الوجود الذي نحن نعيش فيه له ألوان متعددة، فيمكن قراءته بقراءات متعددة، قراءة ملكية، قراءة ملكوتية، كما مثلنا.

نأتي إلى مثال ثالث حتى تتضح الفكرة: الإنسان، كيف نقرأ الإنسان؟ نأتي مثلًا إلى زاوية محددة من الإنسان، دماغ الإنسان، الدماغ تارة نقرؤه قراءة ملكية مادية، وتارة نقرؤه قراءة ملكوتية، كيف؟ الدماغ يتكون من أربعة فصوص: فص جبهي، هذا الفص فيه مركز الحركة، حركة الإنسان، فص جداري، هذا الفص فيه مركز الإحساس بالرسائل، استقبال الرسائل من الجسم، فص صدغي، هذا الفص مسؤول عن الشم، الذوق، السمع، فص مؤخري، هذا الفص مسؤول عن الإبصار، حركة الإبصار لدى الإنسان.

عندما تقرأ الدماغ من خلال أن هذا الدماغ يتكون من فصوص أربعة، من أجزاء أربعة، لكل جزء مهمة، لكل جزء دور ووظيفة، هذه تسمى قراءة ملكية، قراءة مادية، أما عندما تسأل: هل الإدراك شيء مجرد أم شيء مادي؟ أنا الآن أدرك، أنت الآن أمامي، تسمع المحاضرة، المعلومات تدخل في ذهنك وتدركها، إدراكك للمعلومات، هل هذا شيء مادي، أم شيء مجرد عن المادة؟ هل الإدراك مجرد أم الإدراك المادي؟ من الذي يجيب عن هذا السؤال؟ لا يجيب عنه علم الفيزياء ولا علم الطب، هذا يجيب عليه علم الفلسفة، لا تجيب عليه القراءة الملكية، بل تجيب عليه القراءة الملكوتية، تحتاج إلى علم آخر، يركز هل أن الإدراك وجود مادي أم وجود مجرد؟

نأتي إلى الفلاسفة، الفلاسفة يقولون: كل مادي يقبل الانقسام، لا يوجد شيء مادي لا يقبل الانقسام، كل شيء مادي تضع يدك عليه من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة من الجسيمات تحت الذرية، أي شيء مادي هو يقبل الانقسام، يقبل الانقسام إلى جزأين، هل الإدراك يقبل الانقسام؟ حتى نتعرف أن الإدراك مادي أم غير مادي، لا بد أن ندرس الإدراك من هذه الناحية: هل إدراكي للفكرة، إدراكي للمعلومة، هل هذا الإدراك يقبل الانقسام؟ هل تستطيع أن تقول: هذا الإدراك له فوق، له تحت، له يمين، له شمال، أم هو لا يقبل الانقسام؟ إذا لم يقبل الانقسام فهو ليس شيئًا ماديًا، بل هو مجرد.

إذن، نريد أن نقول أن تعدد القراءات - قراءة ملكية، قراءة ملكوتية، قراءة فيزيائية، قراءة فلسفية - للوجود الواحد أمر طبيعي يفرضه الوجود، الوجود يقول لك: أنا متعدد الألوان، متعدد الجهات، فاقرأني بقراءات مختلفة، وفسّرني بتفسيرات متعددة. اتضح هذا المحور، ذكرناه كمقدمة للمحور الثاني.

المحور الثاني: انسجام القرآن الكريم مع القراءات المتعددة.

هل القرآن الكريم يقبل القراءات المتعددة أم لا؟ هل يمكن أن نفسر الآية الواحدة بتفسيرات متعددة، نقرؤها بقراءات مختلفة كسائر الموجودات؟ نحن افترضنا أن كل موجود تستطيع أن تقرأه قراءات متعددة، لأن الوجود يحمل ألوانًا متعددة، هل القرآن الكريم يقبل قراءات متعددة، يقبل تفسيرات متعددة، أم لا؟ هذه نظرية تعدد القراءات للنص الواحد. نحن أمام مقالتين:

المقالة الأولى: أن القرآن لا يقبل إلا تفسيرًا واحدًا؛ لأن الله تبارك وتعالى قصد من الآية معنى واحدًا، كل آية لها معنى واحد عند الله عز وجل، بما أن المتكلم - وهو الله - قصد من الآية معنى واحد لا معاني متعددة، إذن إن وصلنا إلى ذلك المعنى أصبنا، وإلا أخطأنا، فليس للآية إلا تفسير واحد وقراءة واحدة؛ لأنها معناها عند الله واحد.

المقالة الأخرى: القرآن يقبل تفسيرات متعددة، يقبل قراءات متعددة، لماذا؟ هذه النظرية ترجع إلى نظرية أسبق منها، إلى نظرية أكبر من هذه النظرية، ما هي؟ النص عمومًا، ليس القرآن فقط، أي نص لغوي، المسألة ترتبط بعلم اللغة، كل نص، أي نص لغوي، عربي، إنجليزي، فرنسي، أي نص كان، كل نص هل له تفسير واحد أم له تفسيرات متعددة؟

لا يوجد تفسير واحد للنص، لأن النص أساسًا ليس له معنى واحد، النص في حد ذاته لا معنى له، النص إذا جرّدته عن ثقافة القارئ لا معنى له؛ لأن النص صامت، والصامت لا يفسّر نفسه، الصامت لا يشرح نفسه، النص صامت، القرآن، الحديث، كلام أي فيلسوف، كلام أي متكلم، هذا نص، النص في حد ذاته وجود صامت لا يفسر نفسه، لا يقرأ نفسه، إذن النص ليس له معنى في حد ذاته، إنما النص له معانٍ عديدة بتعدد الثقافات، كل قارئ يستطيع أن يقدر النص من خلال ثقافته، بمقتضى ثقافته، لماذا النص ليس له معنى في حد ذاته؟

يقولون لك: هل تستطيع أن تفهم كلامًا بدون ثقافة؟ تحضر إنسانًا عاش في الأدغال ومغارات الجبال، لا يحمل أي ثقافة، تحضره وتقرأ عليه نصًا، هل يستطيع أن يفهمه؟ لا يستطيع أن يفهمه، لأنه ليس له ثقافة مسبقة، هو ليس عنده مفاهيم حتى يفهم، لا بد أن تكون له مفاهيم مسبقة ليقرأ النص من خلال المفاهيم التي في ذهنه فيفهم النص.

هذا دليل على أن النص ليس له معنى في حد ذاته، معنى النص بالثقافة التي يحملها قارئ النص، معنى النص بالمفاهيم التي يحملها قارئ النص، ليس عندنا معنى سابق، معنى في رتبة سابقة، فهم النص ومعناه يتبع ثقافة من يقرأ النص ومن يقوم بتحليله. كذلك القرآن الكريم، القرآن الكريم نص صامت، ليس له معنى في حد ذاته، كل يستطيع أن يقرأه من خلال ثقافته التي يحملها، فتختلف القراءات نتيجة اختلاف الثقافات، ثقافات القرّاء.

التوفيق بين النظريتين:

نطرح الآن مقالة توفيقية بين هاتين النظرتين، النظرة التي تقول: ليس للقرآن إلا تفسير واحد، والنظرة التي تقول: القرآن له تفسيرات متعددة كأي نص لغوي آخر، تفسيراته بثقافات قرائه، نطرح مقالة توفيقية، نقول: من الطبيعي أن كل كلام يقصد به المتكلم معنى معينًا، سواء كان معنى واحدًا أو معاني متعددة، بالنتيجة هو قصد معنى، حسب النظام اللغوي في كل لغة، إذا نرجع لما يذكره علماء الاجتماع.

علماء الاجتماع يقولون: اللغة ميثاق، حاجة المجتمع البشري للتفهيم والتفهم، حتى أفهمك وتفهمني، حاجة المجتمع البشري للتفهيم والتفهم فرضت على المجتمع البشري أن يخترع اللغة، اللغة جاءت لتلبية حاجة المجتمع للتفهيم والتفهم، عندما اخترع المجتمع البشري اللغة، كل قوم اخترعوا لهم لغة، حتى يتم التفهيم والتفهم بين أبناء المجتمع يحتاجون إلى ميثاق، وهو: إذا قلنا لفظ ماء فنحن نقصد ذلك الجسم السائل، إذا قلنا لفظ أرض فنحن نقصد التراب الذي نعيش عليه، ميثاق بين أبناء المجتمع، متى ذكر اللفظ الفلاني فالمقصود المعنى الفلاني، بما أن المجتمع اتفق على هذا الميثاق فقلت: شربت ماء، أنت نتيجة معرفتك بالميثاق الاجتماعي تعرف معنى كلمة شربت، وتعرف معنى كلمة ماء.

إذن، اللغة ميثاق اجتماعي بني على تعاقد أبناء المجتمع على استخدام ألفاظ معينة لمقاصد معينة، فبناء على هذا الميثاق لا يقول لك قائل: والله أنا أتكلم عن كلام ولكن ليس له معنى! بما أنك تكلمت بكلام، وهذا الكلام طبق الميثاق الاجتماعي يعني مضامين معينة، إذن أنت تقصد تلك المضامين المعينة، مقتضى الميثاق الاجتماعي أن لكل نص مقصودًا معينًا عند من تكلم بهذا النص، وعند من تحدث بهذا النص، هذا بناء على الميثاق الاجتماعي.

الله تبارك وتعالى عندما أنزل القرآن باللغة العربية، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، الله أنزل القرآن باللغة العربية وهو يعلم بالميثاق اللغوي العربي، وأن لكل كلمة معنى معينًا، إذن هذا القرآن له مقاصد معينة في حد ذاتها قصدها من تكلم بها، وهو الباري تبارك وتعالى.

أقسام اختلاف القراءات:

بعد أن فهمنا هذه النقطة، نأتي إلى تعدد القراءات: اختلاف القراءات على نوعين: اختلاف إيجابي، واختلاف سلبي، ما هو الفرق بينهما؟ كل الموجودات تارة تختلف اختلافًا ضديًا، وتارة تختلف اختلافًا نوعيًا، مثلًا: الشوك والورد، هذا اختلاف سلبي، لا يجتمع الشوك مع الورد، اختلاف الشوك الذي يؤذي البدن والورد الذي ينعش البدن، هذا اختلاف سلبي، اختلاف ضدي، كاختلاف العلم والجهل، اختلاف الشجاعة والجبن، هذا اختلاف ضدي، اختلاف سلبي. بينما اختلاف الورود، هذا ورد من بيئة معينة، وهذا ورد من بيئة ثانية، وهذا ورد من بيئة ثالثة، هذا الاختلاف اختلاف إيجابي، اختلاف نوعي.

إذن، الاختلاف على نوعين: اختلاف سلبي على نحو المضادة، واختلاف إيجابي على نحو التكامل، كل وجود يكمل الوجود الآخر، القراءات أيضًا للقرآن على قسمين، هي صحيح مختلفة، لكن تارة يكون اختلافها إيجابيًا، كل قراءة تكمل الأخرى، كل قراءة تفتح زاوية من الزوايا لا تقرؤها القراءة الأخرى، إذا كان اختلاف القراءات للقرآن الكريم، اختلاف التفسيرات للقرآن الكريم اختلافًا إيجابيًا، فأهلًا ومرحبًا.

وهذا موافق لنظرية البطون، نظرية البطون الواردة عن النبي محمد : ”إن للقرآن ظهرًا وبطنًا، وإن للقرآن سبعين بطنًا“، المعنى الواحد للآية قد تكون له أبعاد متعددة، وزوايا متنوعة، فتستطيع أن تقرأ هذه الآية من عدة زوايا وأبعاد، وهذا اختلاف إيجابي بين القراءات، وهذا الاختلاف منسجم مع طبيعة القرآن الكريم، كما ورد عن النبي . كيف نقرأ القرآن قراءات مختلفة، ونفسره تفسيرات متعددة، وكل هذه التفسيرات مقبولة، لأنها اختلافها اختلاف إيجابي، يكمل بعضه بعضًا؟ حتى تتضح الفكرة نضرب عدة أمثلة:

المثال الأول: آية خلق الإنسان من سلالة من طين.

عندما نأتي إلى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، كيف نقرأ هذه الآية؟ هنا قراءة لغوية، هنا قراءة فلسفية. القراءة اللغوية للآية، يأتيك اللغوي ويقرأ الآية قراءة حرفية، يقول لك: هذه الآية تقول بأن الجنين مر بمراحل، مرحلة النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ثم العظام، ثم الجسد المتكامل، هذه هي القراءة اللغوية للآية، قراءة حرفية تعتمد على الظهور اللغوي للآية المباركة.

الفيلسوف لا تقنعه هذه القراءة، يقول لك: هذه الآية تتحدث عن بعد ثانٍ، تتحدث عن عالم آخر، هذه الآية تتحدث عن الحركة الجوهرية، ما هي الحركة الجوهرية؟ دخلنا في عالم آخر، في بحث آخر. الحركة أقسام: قد تكون حركة أينية مكانية، شخص يتحرك من ذلك المكان إلى هذا المكان، هذه نسميها حركة أينية، وقد تكون الحركة حركة كيفية، حركة الموجود من صفة إلى صفة، هذه التفاحة تكون بلون في بداياتها، ثم تصبح بلون ثان، ثم تصبح بلون ثالث، تنتقل من اللون الأخضر إلى اللون الأصفر الباهت إلى اللون الأصفر الفاقع، هذا الانتقال من لون إلى لون، لكن ليست حركة مكانية، التفاحة ثابتة في مكانها، وإنما حركة كيفية، من صفة إلى صفة، من لون إلى لون.

عندنا قسم ثالث: الحركة الجوهرية، وهي حركة الوجود في صميم نفسه، الوجود هو يتحرك في داخله، تحرك الوجود في داخله يسمى حركة جوهرية، مثاله البذرة، البذرة تأخذها، تضعها في التراب، تضع معها سمادًا، تسقي البذرة ماء، البذرة لا تقف، بل تتحرك، لكن كيف تتحرك؟ تتحرك في داخلها، البذرة تتضمن حياة متحركة، ليست مثل الحجر، الحجر لا يتضمن حياة متحركة، حياة الحجر حياة جامدة، البذرة تضمن حياة متحركة، فهي تتحرك في صميم ذاتها، تتحول إلى جذور، تتحول إلى ساق، تتحول إلى شجرة، تتحول إلى ثمرة، كل هذه الحركة كانت في البذرة، فالبذرة خرجت من عالم الإجمال إلى عالم التفصيل، كانت بذرة صغيرة، أصبحت شجرة مثمرة، هذه الشجرة أين كانت؟ كانت في البذرة، هذه الشجرة بثمارها، بأوراقها، بغصونها، كانت مختصرة في هذه البذرة الصغيرة.

أنت الآن تختصر كتبًا، تختصر مكتبة ضخمة فيها آلاف الكتب في سي دي، في رابط معين، كذلك هذه الشجرة المثمرة كلها كانت مختصرة في بذرة صغيرة، فالبذرة تحركت في داخلها من الإجمال إلى التفصيل، وتحولت إلى شجرة مثمرة، هذه تسمى الحركة الجوهرية.

نفس الكلام في الإنسان، الإنسان مثل الشجرة تمامًا، هذا الإنسان العملاق، عملاق في جسده، عملاق في فكره، عملاق في قوته، هذا الإنسان العملاق أين كان؟ كان مختصرًا في نطفة، هذا الإنسان كله كان في نطفة صغيرة، كان مختصرًا في تلك النطفة. الإمام أمير المؤمنين يقول: ”ما لابن آدم والفخر؟! وإنما أوله نطفة، وآخره جيفة“، ”أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو ما بينهما يحمل العذرة“، هذا الإنسان كله كان نطفة، كيف خرج من النطفة وصار إنسانًا؟ عبر الحركة الجوهرية، نفس هذه النطفة تحركت داخلها حركة صميمية إلى أن تحولت إلى إنسان متكامل، هذه تسمى الحركة الجوهرية.

إذن، الآية لا تتحدث عن مضغة وعلقة، هذا حديث لغوي، الآية تتحدث عن معنى آخر أعمق من ذلك، وهو الحركة الجوهرية، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، هو من أول يوم إنسان، هذه النطفة إنسان، ولذلك يقول الفقهاء: لا يجوز إسقاط النطفة الملقحة، النطفة التي تلقحت وعلقت بجدار الرحم، بمجرد أن تعلق في جدار الرحم صارت إنسانًا لا يجوز إسقاطه إلا في حالات معينة، هذا إنسان، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ.

إذن، الفيلسوف يقرأ الآية غير القراءة اللغوية، يقول لك: هذه قراءة تشير إلى الحركة الجوهرية، التي هي قانون فلسفي، تعددت القراءات لآية واحدة، وهذا التعدد تعدد إيجابي، كل قراءة تكمل الأخرى، ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا.

المثال الثاني: آية تسبيح المخلوقات.

نأتي إلى مثال آخر: نقرأ قوله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، ما هو معنى تسبيح الأشياء؟ أنت تمر على الشجرة، هل الشجرة تسبح؟! هل سمعت شجرة تسبح؟! اللغوي كيف يقرأ الآية؟ والفيزيائي كيف يقرأ الآية؟ اللغوي عندما يقرأ الآية يقول: تسبيح الأشياء عبارة عن دلالتها على عظمة الله، الشجرة تدل على عظمة الله، السماء، المجموعات الشمسية تدل على عظمة الله، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إذن الشجرة تدل على عظمة الله، الشمس تدل على عظمة الله، هذه الدلالة هي التسبيح، هذه القراءة اللغوية للتسبيح.

نأتي إلى القراءة الفيزيائية: الفيزيائي يقول: لا، الشجرة تسبح، ليست دلالة، بل تسبح، الاكتشافات العلمية أثبتت أن للنبات إحساسًا، النبات يشعر، له شعور، له إحساس، وأن الشجرة ليس فقط لها شعور، بل تشعر بالمحيط الذي حولها، كيف تشعر الشجرة بالمحيط الذي حولها؟ الدراسات أثبتت أن اليرقات إذا هاجمت الشجرة، جاءت اليرقات لتأكل من الشجرة، الشجرة تشعر باليرقات المهاجمة، فتبعث روائح جذابة للدبابير، حتى تأتي الدبابير لتأكل اليرقات وتخلص الشجرة منها، نبات عنده شعور، شعر بهجوم، وبعث رسالة إلى طرف معين لينصره وليعينه، وجاء المعين - وهو الدبابير - أكلت اليرقات وخلصت الشجرة من هذه المشكلة، شعور ودخول في معركة واستعانة بالغير وانتصار على الغير.

بل مجموعة من الأخصائيين في مجال التخدير، يخدرون الإنسان، يكتشفون الجهاز العصبي للإنسان، يخدرون الشجرة، يكتشفون الجهاز العصبي للشجرة، يقولون: كما أن للإنسان جهازًا عصبيًا، للنبات جهاز عصبي يمكن اكتشافه من خلال التخدير. أنت عندما تقرأ هذه الظاهرة، وعندما تسمع هذه الاكتشافات، تصدق بأن للشجرة لغة، وأن للشجرة تسبيحًا، كما أن للإنسان تسبيحًا، ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.

المثال الثالث: آية السر وأخفى.

أدخل معك في مجال علم النفس، كيف نقرأ القرآن من خلال مجال علم النفس؟ اقرأ قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، اسأل نفسك: ما هو الشيء الذي هو أخفى من السر؟ ما هو الشيء الأخفى من السر؟ عندما يأتي اللغوي ويقرأ الآية يقول: هناك سر وهناك سر السر وهناك سر السر السر السر، وهكذا، هذا معنى السر وأخفى.

لكن عالم النفس، علم النفس فيه مدرسة سلوكية، فيه مدرسة استبطانية، نأتي إلى المدرسة الاستبطانية، تقسّم القوى عند الإنسان إلى «هو» و«أنا» و«أنا الأعلى»، «هو» قوة الذاكرة التي تختزن المعلومات، «أنا» العقل الواعي، أنا واعٍ لك وأنت واعٍ لي، وعندنا قوة ثالثة: «الأنا الأعلى»، وهي عبارة عن العقل الباطن، العقل الباطن هو الذي ترتسم فيه الميول والأحاديث الخفية، كيف؟

مثلًا: إذا تريد أن تكتشف إنسانًا، تريد أن تكتشف ميوله، تريد أن تكتشف أحاديثه الخفية، تخضعه لتنويم مغناطيسي، إذا أخضعته لتنويم مغناطيسي فقد العقل الواعي، وبدأ يتحرك العقل الباطن، فقد الأنا وتحرك الأنا الأعلى، العقل الباطن بدأ يتحدث، ولهذا كثير من المجرمين يكتشفون جرائم عن هذه الطريقة، ينوّم مغناطيسيًا، يبدأ الحديث معه، يبدأ يتحدث عن جرائمه ويتحدث عن قضاياه، لم؟ لأن العقل الواعي غاب، وجاء دور العقل الباطن، كل إنسان له عقل واعٍ وله عقل باطن.

عالم النفس عندما يريد أن يقرأ هذه الآية المباركة: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى يقرؤها بحسب ثقافته في علم النفس، يقول: ما هو أخفى من السر هو مخزونات العقل الباطن، وهذا ما أشار إليه الإمام أمير المؤمنين: ”ما أضمر شيء في قلبه شيئًا إلا وظهر على قسمات وجهه أو فلتات لسانه“.

نتيجة البحث:

إذن، نريد أن نقول: تعدد القراءات للآية الواحدة مع أن لها معنى معين في علم الله عز وجل أمرٌ جميلٌ جدًا، إذا كان تعددها إيجابيًا يكمل بعضها بعضًا، كل قراءة تقرأ الآية من زاوية معينة، وهذا هو المنسجم مع نظرية بطون القرآن.

أما إذا كان اختلاف القراءات اختلافًا سلبيًا، كل قراءة تناقض الثانية، تفسيران لآية واحدة متناقضان، كل تفسير ينقض الآخر، ينفي الآخر، هل نقبل التفسيرين معًا؟ إذا كانت كلتا القراءتين تعتمد على عناصر موضوعية من الآية نفسها لا مانع من ذلك، وهذا هو اختلاف الفقهاء، فمثلًا: عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا، يأتي قسم من الفقهاء ويقول: هذه الآية تدل على نجاسة المشركين، أن المشركين لهم نجاسة مادية بدنية، إذا مسست يد المشرك برطوبة مسرية عليك أن تطهر يدك، هذا تفسير موجود عند قسم من الفقهاء.

تأتي إلى تفسير آخر، يقول لك: لا، هذه الآية لا تدل على النجاسة البدنية، بل تدل على النجاسة المعنوية، إنما المشركون نجس لأن الشرك في حد ذاته نجاسة معنوية، قذارة معنوية، فالآية لا تدل على النجاسة البدنية، تدل على النجاسة المعنوية، هاتان قراءتان مختلفتان متباينتان، لكن نقبلهما معًا إذا كانت كل قراءة تستند إلى عناصر موضوعية من ضمن الآية الواحدة.

الخلاصة هي أن تعدد القراءات للآية الواحدة هو مقتضى التدبر في القرآن، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا، إن كان التعدد إيجابيًا فهو موافق لنظرية البطون، ومن المحتمل أن يكون للآية معان عديدة في آن واحد، وإن كان التعدد سلبيًا بحيث يكون اختلاف القراءتين اختلافًا سلبيًا فنقبلهما، بمعنى أن كل قراءة إذا كان لها عناصر موضوعية تستند إليها فهذه القراءة معذرة لصاحبها، لا أن كلتا القراءتين صحيحة، إذا كان الاختلاف إيجابيًا فكل القراءات صحيحة، أما إذا كان الاختلاف سلبيًا فهناك قراءة مخطئة وهناك قراءة صحيحة، لكن كلتيهما معذرة لقارئها إذا استند إلى عناصر موضوعية من ضمن الآية المباركة.

وهذا لا يختص بالقرآن، حتى أقوال المعصومين، حتى أفعال المعصومين، يمكن أن تقرأ بقراءات متعددة، يمكن أن تتناول بتفسيرات متعددة، صلح الحديبة يمكن أن تقرأه بأكثر من قراءة، موقف الإمام علي في صفين تستطيع أن تقرأه بأكثر من قراءة، حركة الحسين بن علي تستطيع أن تقرأها بأكثر من قراءة، ولذلك عندنا قراءات متعددة لحركة الحسين، البعض يقول: حركة الحسين دفاع عن النفس، البعض يقول: حركة الحسين رفض للذل، البعض يقول: حركة الحسين مشروع إصلاحي، البعض يقول: حركة الحسين ثورة على الظلم، كل واحد يقرأ ثورة الحسين من ناحية ومن زاوية، تعدد القراءات لثورة الحسين منهج علمي إيجابي.