الصدفة وقانون السببية

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ

صدق الله العلي العظيم

هناك فكرةٌ طرحها عدّةٌ من الباحثين، وهي فكرة الاستغناء عن الخالق، ومحصّل هذه الفكرة أنّنا إذا تأمّلنا في ظواهر الوجود رأينا أنّ كلّ وجود يخضع لقانون واضح لا يتخلّف ولا يختلف، وبالتالي فهو لا يحتاج إلى فرضية وجود خالق. مثلًا: عندما نلاحظ ظاهرة المطر، قد يكون الناس قبل عقودٍ من السنين يتوهّمون أنّ ظاهرة المطر هي بعملٍ مباشرٍ من الملائكة، فيستدلّون بهذه الظاهرة على وجود الله، على وجود خالق، بينما بعد التطوّر العلمي اكتشف الإنسان أنّ ظاهرة المطر ظاهرةٌ تسير وفق قانونٍ ثابتٍ، بعامل أشعّة الشمس يتبخّر ماء البحر، والبخار يتحوّل إلى سحاب، والسحاب بحكم الرياح يرجع فيفيض ماءً، فهناك حركةٌ دوريةٌ متتابعةٌ تسير وفق قانون ثابت لا تحتاج معها إلى فرضية وجود خالق.

مثال آخر: ظاهرة الخسوف والكسوف، كان الناس قبل عقود يتصوّرون أنّ الظاهرة اختلالٌ في الكون، فكانوا يخافون منها، ويتضرّعون إلى الخالق عز وجل، وبعد التطور العلمي اكتشف الإنسان أنّ الخسوف والكسوف ظاهرة طبيعية جدًا، مثلها مثل ظاهرة الليل والنهار تمامًا، أي أنّ هذه الظاهرة تسير وفق قانون واضح، ومع رجوعها لقانون واضح لا حاجة إلى فرضية وجود الخالق. وكذلك نموّ الإنسان في رحم أمّه يخضع لقانون، ونموّ النبات يخضع لقانون، وكلّ موجود في حياته واستمراره يخضع لقانون، وبناءً على ذلك فإذا كانت الظواهر الوجودية تخضع لقوانين متحكّمة في مسيرتها، فلا توجد حاجة إلى أن نفترض خالقًا مدبّرًا وراء هذه الظواهر، لأنها بالنتيجة ترجع إلى قوانين ثابتة.

نحن أمام هذه الأطروحة، وأمام هذه الفكرة، نطرح ثلاثة أسئلة لنجيب عنها:

  • السؤال الأول: هل في هذا العالم - عالم الوجود - دلائل على وجود مصمِّم حكيم، أم لا؟
  • السؤال الثاني: هل احتمال وجود هذا الكون بدقائقه على سبيل الصدفة احتمالٌ علميٌّ، يعني احتمال له وزنٌ علميٌّ، أم لا؟
  • السؤال الثالث: هل يمكن استغناء هذا الكون بظواهره ووجوداته المتنوّعة عن فرضية الخالق الحكيم، أم لا يمكن؟
المحور الأول: هل هناك دلائل في هذا الكون الوسيع على وجود مصمِّم حكيم؟

هنا تصميم، لكن هل هذا التصميم يدلّ على وجود مصمِّم حكيم، أم لا؟ نقول في الجواب: نعم، هناك دلائل متعدّدة إذا تأمّلناها بدقّة وموضوعية حكت لنا عن وجود مصمِّم حكيم، نتعرّض لعدّة أمور تتضمّن هذه الظواهر.

الأمر الأول: كيف توصّل العلماء إلى نظرية الانفجار؟

تعرفون أنّ «هابل» اكتشف قانون التوسّع في الفضاء، وأنّ الفضاء في استمرار متّصل بالتوسّع والتمدّد، الفضاء ليس ثابتًا، بل هو في حالة تمدّد وتوسّع، وهذه النظرية - نظرية التمدّد الفضائي - أشار إليها القرآن الكريم قبل 1400 سنة، حيث قال: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ، ولم تكن العرب تفهم آنذاك معنى كلمة ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ. نظرية التمدّد في الفضاء قادت العلماء إلى نظرية الانفجار العظيم، لأنّهم لمّا رأوا أنّ الفضاء في حال تمدّد بدؤوا بحساب عمر الكون، بدؤوا بحساب من آخر نقطة إلى أوّل نقطة، كم عمر الكون؟ فرجع الحساب إلى البداية، كم عمر الكون؟ عمر الكون بحسب التقريب لا بحسب الدقّة ما يقرب من 14 مليار سنة، ويُحْتَمَل استمرار هذا الكون الذي نعيش فيه إلى ما يقرب 16 مليار سنة آتية، يعني نحن إلى الآن لم نطوِ النصف من عمر الكون.

الأمر الثاني: كيف تمّ الانفجار العظيم في هذا الكون؟

حصل الانفجار، ونتيجته تكوّنت الجسيمات الصغيرة، وهذه الجسيمات تكتّلت بعامل الجاذبية، ونتيجة تكتّلها تولّدت المجرّات، والمجرّات ولّدت الشموس، ومن الشموس تولّدت الكواكب، ومن تلك الكواكب كوكب الأرض الذي نعيش عليه، هذا الكوكب الذي أصبح مهدًا للتفاعلات الكيميائية التي هي عنصرٌ ضروريٌ للحياة، متى بدأ ذلك؟ ما يقدّر بثلاثة مليار و500 سنة، بدأت هذه التفاعلات الكيميائية المولّدة للحياة على الأرض. الإنسان كيف؟ متى بدأ؟ أحدث إنسان يقدَّر عمره بمئتي ألف سنة، ولعلّه أبونا آدم الذي أشار إليه القرآن الكريم بقوله: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ.

طبعًا نحن عندما نذكر الآيات نقول: أشارت، ولا نقول أنه المعنى المقصود من الآية، لعلّ للآية معانٍ أخرى، لعلّ الآية يُكْتَشَف معناها بمرور الزمن، نقول إشارة، ولعلّ نظرية الانفجار ما أشارت إليه الآية المباركة: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ. «ستفين هوكنغ» يقول: نقطة التفرّد، يعني هذه الطاقة المختصرة التي يعبَّر عنها بنقطة التفرّد، منها انطلق الانفجار العظيم لهذا الوجود كلّه.

الأمر الثالث: كيف حدث هذا الانفجار؟

حدث في جزء من الثانية، إذا أردنا أن نقرّب زمن الانفجار ووقت الانفجار، نقول: 10^ - 35 إلى 10^ - 45 من الثانية، يعني حتى كلمة لحظة لا تعبّر عنها، كلمة لحظة لا تعبّر عن هذا الزمن الدقيق، ولعلّ في الآيات القرآنية إشارة إلى ذلك، أنا دائمًا أربط المعارف المادية بالمعارف الفلسفية، كما تحدّثت في الليلة السابقة، أنّ قراءة الكون تحتاج إلى رافدين: قراءة ملكية، يعني قراءة مادية، وقراءة ملكوتية، أي قراءة فلسفية. عندما نأتي إلى القراءة الفلسفية، حتى نتحدث عن هذا الزمن الدقيق، نرى القرآن الكريم يقول: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، ما معنى هذا؟

الفلاسفة يقولون: هناك عالم خلق وهنالك عالم أمر، عالم الخلق ما يحتاج إلى مادّة ومدّة، كل شيء يحتاج إلى مدّة ومادّة فهو خلق، الشجرة تحتاج إلى مادة ومدة، إذن الشجرة خلق، جسم الإنسان يحتاج إلى مادة ومدة، إذن جسم الإنسان خلق، كل ما يحتاج لمدة ومادة فهو خلق، وعندنا قسم من الموجودات يوجد دفعة واحدة بلا مادة ولا مدة، يعني خارج عن إطار الزمن، موجود يوجد خارجًا عن إطار الزمن، يوجد بلا مادة ومدة، هذا الموجود يسمّى عالم الأمر، القرآن الكريم أشار إلى العالمين بقوله: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ، وقال: ﴿وَمَا أَمْرُنَا ولم يقل: وما خلقنا، خلقنا يحتاج إلى مدّة، خلق السماوات في ستة أيام، خلق الجنين في تسعة أشهر، الخلق يحتاج إلى مدّة، لكن أمرنا لا يحتاج إلى مدة، ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. إذن، القرآن الكريم أشار إلى هذا الزمن اللحظي في انفجار هذا الكون الذي أشرنا إليه.

الأمر الرابع: كيف تكوّن الكون من الانفجار؟

بعد أن حصل الانفجار، وُجِدَت لدينا مادّة ومادّة مضادة، طبعًا الآن في زماننا لا توجد مادّة مضادة، إنما نقصد بداية انفجار الكون، مليار وواحد مادة ومليار مادة مضادة، اصطدمت المادتان، كل منهما أفنى الآخر، تولّد من هذا الفناء لكلّ منهما أقوى طاقة نووية في هذا الكون، وما عندنا الآن من الطاقات الموجودة في هذا الكون هي واحد من مليار من الطاقة الأساسية، ما عندنا من طاقة هو واحد من مليار من تلك الطاقة الأساسية، طبعًا أنا عندما أذكر لك أرقامًا فإنّك تستطيع أن ترجع إلى الكتب المعنية، «براين قرين» عنده عدّة كتب في الأكوان وفي الفيزياء، يمكن أن تقرأ كتبه، تجد كثيرًا من هذه الأرقام مسجّلة ومثبتة.

ومن هذه الطاقة تكوّنت الذرّات، ومنها تكوّنت الحياة، لاحظ المعادلة الدقيقة، حتى تكتشف هل هنالك مصمم أم لا يوجد مصمم، مليار وواحد لا مليار، ويقابله مليار وليس أقل ولا أكثر، لكي يحصل التصادم وولادة الطاقة النووية، لكي تحصل ولادة هذه الطاقة لا بد من هذين، مليار وواحد من المادة ومليار من المادة المضادة، لو لم تتحقق هذه المعادلة لما تحقق الفناء وولادة الطاقة، لا بد من هذه المعادلة.

الأمر الخامس: مقدار الثابت الكوني.

إذا أردنا أن نسجّل رقمًا للانفجار، نريد أن نقيس هذا الانفجار برقم معين، لو أردنا أن نحدّد رقمًا لهذا الانفجار العظيم، ما هو الرقم المناسب؟ نضيف هذا الرقم إلى المتر المربع، عندنا متر مربّع، ما يعدّ مقياسًا للانفجار بالنسبة لهذا المتر المربّع كم؟ نجد أنّ هذا الرقم كما يحدّده العلماء عبارة عن 10^ - 52 من المتر المربع، يعني هذا المتر المربع لو مددناه وجعلناه بحجم الأرض، يصبح الثابت الكوني - وهو مقياس هذا الانفجار - نسبته إلى الأرض كنسبة حبّة رمل. إذن، الرقم المعادل أو الذي نقيس به الانفجار، وهو ما يسمّى بالثابت الكوني، هذا الرقم نسبته إلى المتر المربع 10^ - 52. هذا الرقم يتحدّث عن معادلة دقيقة.

إذن، أمامنا معادلتان، وهما لا تكشفان عن مصمم حكيم! حدثتا هكذا لوحدهما! معادلتان دقيقتان جدًا حتى يتولّد الانفجار، المعادلة الأولى كما قلنا مليار وواحد من المادة مقابل مليار من المادة المضادة، لولا هذا العدد لما حصل هذا الاصطدام وتوليد الطاقة، المعادلة الأخرى الثابت الكوني يعادل 10^ - 52، لو زاد عن ذلك لانكمش الكون ولم تكن هناك أي حياة، ولو نقص عن ذلك لتمدّد الكون وتبعثر ولم تولد فيه أيّة حياة، إذن من أجل ولادة الحياة في هذا الكون لا بدّ من التحفّظ على هاتين المعادلتين الدقيقتين اللتين تكشفان عن مصمِّم حكيم، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.

الأمر السادس: علاقة الحديد بالانفجار.

كلكم تقرؤون قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ، كثير من الناس يتصوّر أنّ الحديد من الأرض، الحديد يستخرَج من الأرض! لا، الأرض لا تنتج حديدًا، الأرض بمكوناتها الأصلية لا تنتج حديدًا، والشمس التي تسطع على الأرض لا تصنع حديدًا، إذن الحديد جاء من الخارج، الحديد جاء إلى الأرض من خارج الأرض، هذه نظرية حديثة، لكن القرآن أشار إليها، ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ولم يقل أنّ الحديد يستخرَج، ﴿فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ، ما هو معنى هذه الكلمة؟ يقول لك: بأس شديد يعني الحديد يصنَع منه السيوف، السكاكين، الجسور، هذا بأس! صناعة الجسور والسيوف والأسلحة، هذا بأس شديد! لكن الموضوع أعمق من هذا، لاحظ كيف يفتح العلم آفاقًا لفهم القرآن الكريم، كيف يفتح العلم آفاقًا للقراءة الملكية لهذا الكون، البأس الشديد أعظم من ذلك، كيف أعظم من ذلك؟

هذه شمسنا التي نراها، قبل هذه الشمس الشمس البدائية، الشمس التي تكوّنت من المجرّات، الشمس البدائية التي تكوّنت من المجرّات كم تعادل من هذه الشمس التي نحن نراها؟ مليار، الشمس البدائية بالنسبة لشمسنا التي نراها مليار، هذه الشمس واحد من مليار من الشمس البدائية، الشمس البدائية التي كانت تصدِّر هيدروجين وهيليوم كيف انفجرت بحيث تكوّنت هذه الشموس والكواكب؟ بعنصر الحديد، يعني الحديد مثل الفيروس، يعرض على الشمس فيمرّضها ويوجب اضطرابها، هذا الحديد، هذا العنصر الذي نحن نظن أنه سيف أو جسر، هو أعمق من هذا، هذا العنصر الذي تولّد نتيجة تصاعد ما تنتجه الشمس البدائية، تولّد عنصر الحديد، عرض على الشمس البدائية فأوجب انفجارها، ﴿فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ لأنه لولاه لما انفجرت الشمس التي تعدل مليار شمس من شمسنا الحاضرة. إذن، حتى يتحقق انفجار الشمس الأولى وتتكون لدينا العناصر الثقيلة التي هي أثقل الحديد، حتى يتحقق هذا الانفجار نحتاج إلى طاقة أعظم من طاقة الشمس التي تعادل مليارًا من شمسنا الحاضرة، وتلك الطاقة هي عنصر الحديد، ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، أفلا يدلّ هذا على مصمِّم حكيم؟!

الأمر السابع: محورية الماء.

عندما نأتي للماء الذي هو عنصرٌ ضروريٌّ للحياة، كيف يتكوّن الماء؟ ذرتان من هيدروجين وذرة من أكسجين يحصل بينهما تفاعل كيميائي فيتكون الماء، ومنه تتولد عناصر الحياة، يقول القرآن الكريم: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ.

الأمر الثامن: عالم الإنسان.

الأحماض الأمينية عنصرٌ أساسٌ وضروريٌّ للحياة، حياة الإنسان على هذه الأرض، كيف؟ أوضّح لك هذه النقطة. الأحماض الأمينية التي وُلِدَت وتكوّنت قبل 3 مليار و500 سنة، وهذه الأحماض الأمينية نسبتها في الإنسان كم؟ كل إنسان عنده أحماض أمينية، كم نسبة الأحماض الأمينية في الإنسان؟ بعبارة أخرى: كم نسبة الأحماض الأمينية في الجينوم البشري، الخارطة الجينية للإنسان؟ الأحماض الأمينية في الجينوم البشري للإنسان مليار مليار حمض أميني، ومنها تتكوّن الخلية، والخلية التي تنتج بروتينات، هذه الخلية تحمل في طيّاتها نواة تسمّى الشفرة الوراثية DNA، الشفرة الوراثية هي نواة الخلية التي تسكن ضمن هذا المليار من الأحماض الأمينية في الخارطة الجينية للإنسان. هذا العالم، هذا الإنسان الذي يقول عنه الإمام أمير المؤمنين... طبعًا نحن ليس القرآن فقط يدلّنا على العلم، حتى كلمات أبي الحسن أمير المؤمنين ترشد إلى حقائق كونية، الإمام أمير المؤمنين علي يقول:

أتحسب  أنك  جرمٌ صغيرٌ   وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ

أنت تضمّ مليار حمض أميني، كل هذا يتضمنه كيان الإنسان وهيكل الإنسان، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ. الذرّات كوّنت الجزيئات، الجزيئات كوّنت الخلايا، الخلايا كوّنت الأنسجة، الأنسجة كوّنت الأعضاء، الأعضاء كوّنت الأجهزة، جهاز هضمي، جهاز تنفسي، جهاز الإحساس، إلى أن أصبح الجسم إنسانًا متكاملًا، ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ.

إذن، بهذا العرض الذي عرضناه تبيّن أنّ هناك دلائل واضحة على وجود مصمِّم حكيم، وضع معادلات من أجل ولادة هذا الكون بكنوزه وطاقاته وخيراته، ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.

المحور الثاني: هل احتمال نشأة الكون صدفة احتمال علمي؟

هل نستطيع أن نعتبر كل الذي ذكرناه أنه قد حدث صدفة؟ كل هذه المعادلات والتخطيطات، كلها صدفة؟ هل احتمال الصدفة احتمال علمي؟ بمعنى أنّ علماء الفيزياء الدقيقين المنصفين يجعلون هذا الاحتمال - وهو احتمال الصدفة - احتمالًا معتدًّا به، أم لا؟ أنت عندما تراجع دليل حساب الاحتمالات، اقرأ كتاب «الأسس المنطقية للاستقراء» للسيد الشهيد السيد محمد باقر الصدر «قدّس سرّه الشريف»، مقياس الاحتمال بين صفر إلى واحد، كم يعادل احتمال الصدفة من هذا المقياس؟ أن نقول هذا الكون وُلِد صدفة، كم مقدار هذا الاحتمال؟ العلماء قاسوا، قالوا: إذا قلنا أنه وُلِد صدفة، فاحتمال الصدفة 1 على عشرة أس سالب من 500 صفر، احتمال موهوم جدًا، ضئيل، لا يلتفت إليه الإنسان بطبعه، بينما احتمال ولادة هذا الكون من خالقٍ مدبّرٍ حكيمٍ واحد، ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، هكذا أتوا ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يعني صدفة، أم هم الخالقون؟!

طبعًا هنا أنا أريد أن أشير إلى نقطة، أنا وجدت بعض الباحثين من الإخوة المسلمين يقول بأنّ ما ذكره «ستفين هوكنغ» أنّ الكون وُلِد من لاشيء، هذا مطابقٌ تمامًا لما ورد في الآيات والروايات الشريفة، أنا أقول: لا، هذا خطأ في التعبير، نحن عندما نراجع خطبة الزهراء ، الزهراء امرأة عالمة، تتكلم عن علم، لا تتكلم عن فراغ، الزهراء في خطبتها تقول: ”ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كوّنها بقدرته، وذرأها بمشيئته“، تعبير الزهراء تعبير دقيق، قالت: ابتدع الأشياء لا من شيء، ولم تقل: ابتدع الأشياء من لا شيء، هناك فرق بين العبارتين، عندما نقول: ابتدع الأشياء من لا شيء، يعني العدم ولّد وجودًا، هو عدم محض، كيف يولّد وجودًا؟! لو قلنا وُلِد من لا شيء معناه أنّ العدم أنتج وجودًا! هذا غير ممكن.

حتى نظرية الانفجار العظيم، هناك نقطة تفرّد، هناك طاقة انفجرت، وُلِد هذا الكون، إذن هناك طاقة، هذه الطاقة من أين أتت؟ من لا شيء؟! الزهراء قالت: هذه الطاقة التي نسمّيها نقطة التفرد ومنها تولّد الانفجار العظيم لم تأتِ من لا شيء، بل أتت لا من شيء، بمعنى أنّ هذه الطاقة استندت إلى حياة لا حدّ لها، وقدرة لا حدّ لها، ولا علم لا حدّ له، وهو ما نسمّيه الله جلّ جلاله، الله جلّ جلاله ليس جسمًا ولا إنسانًا ولا مخلوقًا، الله قوّة تمتلك الحياة والعلم والقدرة التي لا حدّ لها ولا أمد لها، إذن هذه الطاقة وهذه النقطة التي نعبّر عنها بنقطة التفرّد والتي منها انفجر الكون وانطلق الكون، هذه النقطة لم تأتِ من لا شيء، وإنما سبقتها حياةٌ لا أمد لها، وهي الله عز وجل، فهي أتت لا من شيء كان قبلها، لا أنها أتت من لا شيء، فرق بين التعبيرين، الله عندما خلق هذه الطاقة لم يخلق قبلها شيئًا، خلقها لا من شيء، لا أنه خلقها من لا شيء، العدم لا يولّد وجودًا.

إذن، احتمال الصدفة، واحد يقول: والله هذا الكون أتى صدفة! هذا كأنه يقول: دع قلمًا على الطاولة، ودع أمامه ورقة بيضاء، وتأتي إليه بعد خمس دقائق، وترى صدفة أن القلم كتب قصيدة رائعة! احتمال على سبيل الصدفة تحرك القلم على الورقة، واحتمال على سبيل الصدفة بدأ يخط الحروف، واحتمال على سبيل الصدفة صادفت الحروف بيتًا من الشعر، واحتمال على سبيل الصدفة صارت قصيدة، واحتمال على سبيل الصدفة صارت قصيدة رائعة، كل ذلك صدفة! هل تقبل ذلك؟!

أو كما يمثّل بعض علماء الفيزياء، أضرب لك مثالًا أوضح: شخص يخرج أثناء المطر، أثناء نزول الصواعق البرقية، شخص يخرج أثناء نزول المطر من البيت، نحتمل أنه يصاب بصاعقة برقية 250 مرة متتالية، هذا الاحتمال بعيد جدًا، هذا خلاف نصف ساعة يصاب بمئتين وخمسين صاعقة برقية متتالية دون غيره من الناس، هذه الصواعق تترك الناس كلها وتأتي له هو! احتمال أن يصاب بمئتين وخمسين صاعقة برقية متتالية على سبيل الصدفة، هذا الاحتمال أقوى من احتمال أن يولَد الكون كله على سبيل الصدفة. إذن، احتمال الصدفة ليس احتمالًا ذا وزنٍ علمي.

المحور الثالث: هل يمكن الاستغناء عن فرضية الخالق؟

نرجع إلى أصل الفكرة، لما دخلنا الموضوع قلنا: قد يقول قائل: لا نحتاج إلى فرضية الخالق، كل موجود يرجع إلى قانون، ظاهرة المطر ترجع إلى قانون، ظاهرة الخسوف والكسوف ترجع إلى قانون، ظاهرة نمو الإنسان ترجع إلى قانون، ظاهرة نمو النبات ترجع إلى قانون، كل موجود يرجع إلى قانون، فلا نحتاج إلى فرضية خالق، كل شيء يمشي بقانون! هذا نتيجة عدم فهم لمبدأ العلية، ولذلك نحن نقول: نحتاج دائمًا للقراءة الفلسفية، ولا تكفي القراءة المادية، نرجع إلى القراءة الفلسفية، ما هي علاقة المعلول بالعلة؟ حاجة المعلول إلى العلة حاجة ذاتية وليست حاجة حدوثية، ما هو معنى حاجة ذاتية؟

أشرح لك بالمثال، المثال يوضّح، نأتي إلى هذا الضوء، هذا الضوء يستند إلى الطاقة الكهربائية، علاقة الضوء بالطاقة علاقة المعلول بالعلة، علاقة الأثر بالمؤثر، هل يمكن أن يستغني الضوء عن الطاقة لحظة واحدة؟ مستحيل، لأن الضوء في حدّ ذاته محتاج إلى الطاقة، لو انفصلت عنه الطاقة الكهربائية لحظة واحدة انعدم الضوء، هكذا علاقة الوجود بالله عز وجل، علاقة الضوء بالطاقة الكهربائية، لا يستغني لحظة واحدة، علاقة المعلول بالعلة نابعة عن حاجة ذاتية، أصلًا وجود المعلول يحتاج في صميم ذاته في كل آن في كل لحظة إلى وجود علته، كل هذا الوجود الذي تراه أنت بقوانينه وظواهره كله وجود، والوجود في صميم ذاته يحتاج إلى موجد، وحاجة الوجود إلى الموجد في كل آن تتجدد، وفي كل لحظة تتجدد.

وبعبارة أخيرة: كما يقول الفلاسفة: الوجود هو الربط لا شيء له الربط، العبارة دقيقة، يعني الآن مثلًا تأتي إلى ضوء الشمس، عندنا شمس وعندنا ضوء للشمس، نسبة ضوء الشمس للشمس عين الربط، ضوء الشمس هو عين الربط والتعلق بالشمس، بحيث لو أزيلت ولو لحظة يزول الضوء. الوجود كله نسبته إلى الله كنسبة الضوء إلى الشمس، هو عين الربط، عين التعلق، بحيث لو انفصل عنه لحظة واحدة لانتهى وتبخّر، هو عين الربط، لا شيء له الربط. وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ أنت عين الفقر، عين الحاجة، ﴿أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ.

كلما تعمّق في معرفة الخالق والوصول إلى الخالق تعالى يقينه بالله تبارك وتعالى. علماؤنا يقسّمون اليقين إلى علم اليقين، عين اليقين، حق اليقين، صدق اليقين. هذه المراتب كل مرتبة تتكلم عن درجة من درجات العلم، العلم درجات، علم الإنسان بالله يتصاعد إلى درجات، الدرجة الأولى: علم اليقين، أن يعلم أنّ لهذا الكون خالقًا مدبرًا. الدرجة الثانية: عين اليقين، بمعنى أن يشعر الإنسان شعورًا، نحن ما وصلنا إلى درجة الشعور، ما زلنا في درجة التفكير فقط، يعني نؤمن بفكرنا أنّ للكون خالقًا، لكن إذا وصلت إلى درجة الشعور تشعر بمدد الخالق في قلبك، في سلوكك، في جوارحك، إذا وصلت إلى درجة الشعور بمدد الخالق جلّ وعلا وصلت إلى درجة عين اليقين.

وأمّا إذا تعالى العلم وكبر العلم ووصلت إلى درجة لا ترى شيئًا لا وترى الله حاضرًا فيه، كما عبّر الإمام أمير المؤمنين علي : ”ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قلبه وبعده وفوقه وتحته وفيه“، يعني أنا لا أرى إلا الله، أنتم ترون سماء وأرضًا وبشرًا، أنا لا أرى هذه الألوان والكثرات، بل لا أرى إلا الله، إذا وصل إلى هذه الدرجة فقد وصل إلى درجة حقّ اليقين. الإمام الحسين في دعاء يوم عرفة يعبّر عن هذه الدرجة: ”أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت“ أنا ما غبت عني، أنت حاضر عندي دائمًا، ”متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟! ومتى كانت الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عينٌ لا تراك عليها رقيبًا، وخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من ودّك نصيبًا“.

وتأتي الدرجة الأخيرة: مرتبة صدق اليقين، أن ينعكس حقّ اليقين في عملك وسلوكك، فإذا انعكس حقّ اليقين في سلوكك وصلت إلى مرتبة صدق اليقين، من الذي عبّر عن هذه المرتبة؟ أنت في كلّ سنة في أيام عاشوراء تسمع إنسانًا عبّر عن هذه المرتبة، ”تالله إن قطعتمُ يميني، إني أحامي أبدًا عن ديني، وعن إمامٍ صادقِ اليقينِ“، أنا أدافع عن إمام وصل إلى مرتبة صدق اليقين.