الدرس 72

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال البحث في الأمر الثالث من الجهة الرابعة: ومحصّل ذلك:

أنه إذا كان المانع من صحة الصلاة عقلياً، فهل يمكن التمسّك بالعام لإثبات عدم وجود المانع أم لا؟

حيث أفاد الأعلام ومنهم سيدنا الخوئي «قده»: بأنه لا فرق بين المانع الشرعي المانع العقلي. في أن تنقيح النتيجة يتوقف على الأصل العملي لا على الأصل اللفظي.

بمعنى: إذا شككنا في ثوب المصلي هل انه مما يؤكل أو مما لا يؤكل، أو شككنا في ثوب المصلي انه من الحرير أو لا؟ إذا كان المصلي رجلاً؟ أو شككنا في ثوب المصلى من الذهب أو لا على فرض كونه رجلاً، ففي هذه الامثلة هل يصح التمسك بالعام في الشبهة المصداقة وهي أن نتمسك بقول المولى: صلي متسترا، فإن مقتضى اطلاق «صل متسترا» انه يجوز للمكلف أن يصلي في اي ساتر ولو كان مشتبها بين كونه مأكول وغير مأكول، حريراً أم لا. فهنا افاد الاعلام بأنه لا مجال للتمسك بالدليل في الشبهة المصداقية، فإن قوله: صلي متسترا، قد تعقّبه دليل منفصل، وهو: «لا تصلي في الحرير» فبما انه تعقبه دليل منفصل صار العام: صل في ساتر ليس بحرير. وبما ان الموضوع «صلي في ساتر ليس بحرير» والمفروض أنّ المكلّف يشك أن هذا الساتر حرير أم لا؟

فلا يمكنه التمسك بالعام لكونه تسمكاً بالدليل في الشبهة المصداقية. ولكن إذا كان المانع عقليا لا شرعيا، بمعنى ان الدليل على المنع هو حكم العقل ولم يرد دليل شرعي يدل على المنع، فمثلاً: كون الثوب ملك الغير، هذا لم يقم دليل على اشتراط ان يكون الساتر ليس ملك الغير، وانما حكم العقل بأنه لو تستر المكلف بملك الغير دون إذنه لكان هذا الستر مجمعا للأمر والنهي، فهو مطلوب لكونه سترا للعورة في الصلاة، ومنهي عنه لكونه غصباً، وبما أنه لا يعقل اجتماع الامر والنهي في وجود واحد، إذ لا يعقل ان يكون هذا الستر مصداقا للمأمور به ومصداقا للمنهي عنه، والنهي مقدم على الامر عند اجتماعهما لكون النهي شموليا والامر بدليا. فلا محالة النهي فعلي، وبما أن النهي فعلي والمنهي عنه لا يصلح أن يكون مصداقاً للمأمور به، فلا محالة يكون ما هو المأمور به الصلاة في ساتر ليس غصبياً، فإذا شككنا في أن هذا الساتر انه غصبي أم لا؟

فيقول الاعلام: لا يصح التمسك بالعام وهو «صل متستراً»، لان الساتر تقيد بأن لا يكون غصبياً، فالتمسك في العام في مثله تسمك بالدليل في الشبهة المصداقية. وإن كان الدليل على هذا التقيد ليس شرعيا بل هو حكم العقل بأن المنهي عنه لا يكون مصداقاً للمأمور به. إذن بالنتيجة: بعد حكم العقل أن المنهي عنه لا يعقل ان يكون مصداقا للمأمور به فالساتر تقيد بأن لا يكون غصبياً، ومع الشك في الموضوع لا يمكن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فنرجع إلى الاصل العملي.

لكن صاحب الكفاية وتبعه المحقق الاصفهاني «قده» في «نهاية الدراية، ج2، ص456» حيث أفاد هناك: بأن المانع العقلي يختلف عن المانع الشرعي، ولأجل ذلك في المانع الشرعي نحتاج إلى التشبث بالأصل العملي، والا لا يمكننا التمسك بالعام لكونه تمسكاً بالدليل في الشبهة المصداقية. أمّا المانع العقلي لا نحتاج إلى التوصل بالأصل العملي بأن نستصحب مثلا عدم كونه ملكا للغير، على نحو استصحاب العدم الازلي. أو كان سابقا من المباحات العامة التي لم تكن ملكا لأحد، الآن حيث كان ورقا في شجرة، الآن لا ادري انه ملك للغير أو لا، استصحب الان على نحو العدم المحمولي لا على نحو العدم الازلي. فيقول المحقق الاصفهاني: لا حاجة إلى الوصول إلى الاستصحاب، ولا تصل النوبة إلى الأصل العملي، وهو استصحاب عدم كونه ملكاً للغير، بل يصح التمسك بالدليل اللفظي نفسه لنفي الشبهة، وهو قوله: «صل في ساتر».

وبيان ذلك: أفاد «قده» أن العام له دلالتان: دلالة على عدم المنافاة، ودلالة على عدم وجود المنافي. فإذا قال المولى: اكرم كل فاطمي، فهذا العام لو خلّي ونفسه مضافاً لمدلوله المطابقي وهو وجوب اكرام كل فاطمي له مدلولان التزاميان: أحدهما: أن لا يوجد عنوان يقتضي عدم وجوب اكرام الفاطمي، لان ظاهر قوله: اكرم كل فاطمي أن تمام الموضوع لوجوب الاكرام كونه فاطمياً، وأنّ الفاطمي علّة تامّة لوجوب اكرامه، وهو دال بالدلالة الالتزامية على ان لا عنوان منافي لهذا العنوان للأمر بإكرامه.

المدلول الالتزامي الثاني: أنه كما لا منافاة جعلا لا منافي خارجا، أي كما انه في لوح الجعل قبل عالم الخارج، ليس الا كون الفاطمي موضوعا للأمر بالإكرام، يعني لا يوجد قيد، كما انه يكشف عن ان الموضوع في عالم الجعل هو الفاطمي من دون أي قيد وهذا المدلول الالتزامي، كذلك يكشف انه في الخارج ايضا لا يوجد ما يمنع من الامر بإكرام الفاطمي.

فلا منافاة جعلا ولا منافي خارجاً، ولذلك أمرتك بإكرام كل فاطمي. لو كان هناك منافي خارجي لم امرتك بإكرام كل فاطمي. فالأمر بإكرام كل فاطمي دال دلالتين التزاميتين على ان لا عنوان في عالم الجعل يمنع، ولا يوجد منافٍ في الخارج يمنع، ولذلك القى المولى العام على نحو العموم.

فإذا جاء المخصص: فتارة يكون المخصص لفظياً، كما إذا قال المولى: بعد هذا العام لا تكرم الناصبي منهم ولو كان فاطمي. فيقول المخصص اللفظي ايضا له دلالتان، كما ان العام له دلالتان المخصص اللفظي له دلالتان، مضافاً لمدلوله المطابقي، حيث إن قوله: «لا تكرم الناصبي منهم» يدل بالمطابقة أن الناصبي لا امر بإكرامه، ويدل بالالتزام دلالتين: إحداهما: أن الفاطمية ليست علة تامة للإكرام، بل الفاطمية بقيد عدم الناصبية، فبهذه الدلالة الالتزامية الاولى ضرب المخصص الدلالة الالتزامية الأولى على العام حيث كان العام يدل بالدلالة الالتزامية على الفاطمي في لوح الجعل علّة تامة من دون قيد، لكن الدلالة الالتزامية الاولى للمخصص أن ليست الفاطمية علّةً تامّة.

ودلالة التزامية أخرى: على وجود النصب خارجاً، فليس قوله: «لا تكرم الناصبي منهم» مجرد كلام وساكت عمّا في الخارج، بل قوله «لا تكرم الناصبي منهم» يدل على أن الفاطمي ليست علّة تامة. هذا كلام يتحدث عن عالم الجعل، ولكنه يدل ايضا على وجود الناصبي خارجاً، إذ لو لم يكن فيهم ناصبي لكان بيان ذلك من قبل المولى لغواً. فلو علم المولى ان لا ناصبي في الخارجي، كل الفاطميين منزهون عن النصب، فحينئذ لا معنى لان يقول: لا تكرم الناصبي منهم، فصدور هذا المخصص من المولى دالٌّ على منافاة النصب للأمر بالإكرام، ودالٌّ على وجود الناصبي خارجاً. ولأجل ذلك يحصل التعارض بين العام والخاص، حيث إن العام يقول: لا يوجد خارجاً ما ينافي وجوب اكرام كل فاطمي، فإذا شككنا في ان هذا الفرد الخارجي ناصبي أم لا؟ لا يمكننا ان نتمسك بالعام في دلالته على عدم وجود ناصبي لقيام حجة على خلافه وهو وجود الناصبي في الخارج.

أما إذا كان المخصص لبيّاً: فالمخصص اللبي تنعقد له الدلالة الاولى دون الثانية. فإن المولى إذا قال: اكرم كل فاطمي كرامةً للبتول ولم يقل المولى لي شيئا، ولكن انا في عقلي اقول لا يعقل ان يأمرني بإكرام الناصبي منهم، إذ الامر بإكرام الفاطمي كرامة للبتول فكيف يشمل من كان ناصبياً؟! فعقلي حكم بذلك.

فيقول المحقق الاصفهاني: فإذا كان المخصص لبيا وهو حكم العقل بأن الناصبي لا امر بإكرامه فغاية ما يحكم به العقل ان الفاطمي لا تكفي للأمر بالإكرام من دون ان يدرك العقل ان هناك ناصبي في الخارج أم لا؟!.

إذ غاية ما يدركه العقل انا لا يصدق عقلي ان الناصبي يشمله الامر بالإكرام. أما هل هناك ناصبي في الخارج أم لا؟ فهذا امر لا يقرره العقل. إذن فالمخصص اللبي لا يمس مسألة الوجوب الخارجي ولا يتعرض له بشيء. فلأجل ذلك: نتمسك بالعام، إذ المفروض ان العام يقول: اكرم كل فاطمي، وهذا فاطمي، فإذا شككنا في انها ناصبي أم لا؟ فحيث ان الخاص لم يدل على وجود ناصبي في الخارج، بينما قوله: اكرم كل فاطمي، دال على أن لا امر في الاكرام خارجاً، فمقتضى هذه الدلالة الإلتزامية الثانية التمسك بهذا العام في الشبهة المصداقية للناصبي، فلا تصل النوبة للأصل العملي بأن يقال: هذا عندما كان طفلا لم يكن ناصبيا فهو الآن ليس ناصبيا، لا نحتاج إلى الاصل العملي، بل يكفينا الاصل اللفظي وهو عموم العام.

والمقام من هذا القبيل، ففي محل الكلام حيث قال المولى: «صل في ساتر طاهر»، و«صل في ساتر طاهر» ليس مفاده _بسحب تعبير المحقق الاصفهاني_ حكما جهتياً، بمعنى أنه ليس مفاد قوله: «صل في ساتر طاهر»، يعني صلي في الساتر من حيث الطهارة فقط، لا من جميع الحيثيات، هذا ليس مفاده، هذا معناه انه حكم جهتي حيثي، وهو ليس كذلك، بل مفاد قوله «صل في ساتر طاهر» أنه حكم فعلي، أي لك أن تصلي في أي ساتر طاهر ولا تتوقف، فهو يدل دلالتين التزاميتين: إحداهما ان الساتر الطاهر تمام الموضوع في عالم الجعل، وان لا يوجد ما ينافي الصلاة في الساتر الطاهر خارجا.

فإذا جاءنا مخصص لفظي، وقال لنا: لا تصلي فيما لا يؤكل، فإن هذا المخصص اللفظي له دلالتان: بأن موضوع الصحة ليس الطهارة وحدها، بل الطهارة بقيد: أن لا يكون مما لا يؤكل، وأيضاً لو كان المخصص لفظي لدلّ على أن ما لا يؤكل موجود خارجاً، إذ لولا وجوده لما بنّبه المولى على وجوده خارجاً. هذا إذا كان المخصص لفظياً.

أمّا إذا كان المخصص عقلياً، فإن المولى لم يقل شيئاً بل قال «صل في ثوب طاهر» ولكن عقلي القاصر أدرك أن الثوب المغصوب لا يعقل ان يكون مصداقا لما هو المأمور به، وهو الصلاة في ثوب طاهر، المولى لم يقل ولكن انا قلت لا يعقل، فغاية ما حكم به العقل هو: أنه ليست الساترية والطهر موضوعا للصحة بل بقيد وهو ان لا يكون مغصوبا، اما انه هناك مغصوبا في الخارج أم لا، فإن الحكم لا يدل عليه، فإذا شككت في أن هذا الساتر الورقي المأخوذ من ورق الشجر هل هو ملك الغير أم لا؟ فحينئذٍ لا احتاج ان اجري استصحاب عدم كونه ملك الغير، بل يكفيني قول المولى صل في ساتر طاهر، بمقتضى دلالته على ان لا منافي في هذا العام خارجاً.

ولكن سيدنا الخوئي «قده» وتلامذته أفادوا: بأن هذا الكلام غير صحيح ولا يمكن ان ينبغي صدوره من امثالهم كصاحب الكفاية والمحقق الاصفهاني، والسر في ذلك: ان المناط في المنكشف لا على الكاشف فإن اختلاف الكاشف من كونه لفظيا تارة وعقليا اخرى لا اثر له على المطلب في شيء. وبالتالي فبما ان المخصص هو خروج العنوان المنكشف واقعا، فسواء كان الدال على هذا الخروج لفظاً أو كان الدال على هذا الخروج عقلاً النتيجة واحدة، فكما أنه إذا قال لنا المولى: «صل في ثوب طاهر» أو بعد قوله «اكرم كل فاطمي» قال لنا: «لا تصلي فيما لا يؤكل» و«لا تكرم الناصبي منهم» كشف لنا الدليل اللفظي أن الخارج عن العام ثبوتاً وواقعاً هو ما لا يؤكل لا العلم بما لا يؤكل، نفس ما لا يؤكل خارج، لا العلم به، فإذا كان الخارج عن العام نفس عنوان ما لا يؤكل لا محالة سوف يكون موضوع العام هو الساتر الذي ليس مما لا يؤكل، لانه بعد ان خرج الخاص وهو ما لا يؤكل، فإما ان يكون العام وهو «صل في ثوب طاهر» بالنسبة إلى الخاص اما لا بشرط وهو خلف التخصيص، أو بشرط شيء وهو اشد محذوراً، أو بشرط لا وهو المطلوب. فتعين ان يكون موضوع العام: الساتر الذي مما ليس مما لا يؤكل. هذا إذا كان الكاشف لفظياً. وكذلك إذا كان الكاشف لبياً كالعقل، حيث ان العقل مدرك، إذ ما دام دور العقل دور الادراك والكشف لا دور التأسيس والصنع اذن العقل ادرك ان المنهي عنه لا يكون مصداقا للمأمور به فادرك العقل ان هناك عنوانا خرج عن العام وهو عنوان المغصوب، فالخارج عن العام هو المغصوب لا ما علم انه مغصوب، إذ ليس العقل الا مجرد كاشف، وبالتالي قد انكشف بحكم العقل ان موضوع العام «صل في ثوب طاهر» مقيد واقعاً وثبوتاً بأن لا يكون مغصوباً.

إذ يأتي الكلام: ان نسبة العام إلى المغصوب اما لا بشرط وهو خلف ادراك العقل خروجه، أو بشرط شيء وهو أشد، أو بشرط لا، وهو المطلوب. فتعين ان يكون موضوع العام الثوب الذي ليس بمغصوب، فإذا شككنا في ان هذا الثوب مغصوب؟ فقد شككنا في الشبهة المصداقية لموضوع العام نفسه، فكيف نتمسك بالدليل لإثبات موضوع نفسه. فهذا التفريق بين المانع اللفظي والمانع اللّبي، أو المانع الشرعي والمانع العقلي ما كان يتوقع صدوره من هؤلاء المحققين.

والحمد لله رب العالمين.