الدرس 80

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أنّ الأعلام «قده» فرّقوا بين باب الأقل والأكثر الارتباطيين، وباب الأقل والأكثر الاستقلاليين. فقالوا: بجريان البراءة في باب الأقل والاكثر الاستقلاليين وان اختلفوا في باب الاقل والاكثر الارتباطيين، فاذا شك في ان الزائد من صوم شهر رمضان هل هو عشرة أو عشرون فانهم يجرون البراءة عن الزائد عن المتيقن.

ولكن المحقق النائيني «قده» استثنى من ذلك موردين:

المورد الاول: ما إذا كان الدائر بين الاقل والاكثر ذا علامة، كما ذكر ذلك في «اجود التقريرات ج1، ص484»، وبيان مطلبه:

اذا كان الدائر ذا علامة كما إذا لم يدر المكلف انه مدين لزيد بعشرة أو مدين له بعشرين؟ الا ان هذا الدين مسجل في الدفتر بحيث لو رجع اليه لعلم ما هو مقدار الدين. فهنا إذا شك ودار امر الدين بين الاقل والاكثر مع انهما استقلاليان لكن لا تجري البراءة، وبيان ذلك:

اذا لم يكن للأقل والأكثر الاستقلاليين علامة كما إذا علم انه مدين لجماعة لعدة اشخاص لا يدري ان هؤلاء الذين هو مدين له خمسة أو عشرة، ثم علم تفصيلا بانه مدين لخمسة من الطلبة، فلا اشكال ان العلم الاجمالي الاول بأنه مدين لخمسة أو عشرة ينحل بعلم تفصيلي وهو انه مدين لخمسة من الطلبة وشك بدوي في اشتغال ذمته بمن هو اكثر فيجري البراءة.

اما إذا كان المردد بين الاقل والاكثر ذا علامة، أي علمت بانني مدين لزيد بخمسة أو عشرة في الدفتر، فهنا: لا تجري البراءة عن العشرة من دون الرجوع لما في الدفتر أو الاحتياط لدفع المقدار المتيقن به البراءة، ولو اجرى البراءة عن العشرة ثم تبين انه مدين بها لكان موردا لاحتجاج العقلاء لأنك كيف اجريت البراءة مع علمك ان دينك موجود في الدفتر بحيث لو رجعت اليه لانحل هذا العلم الاجمالي.

هذا ما افاده المحقق.

ويُعلّق على ذلك:

بأنه تارة: يكون الشك في المحصَّل، وتارة: يكون الشك في التكليف.

واذا كان الشك في التكليف فتارة يكون المدعى ان المانع من جريان البراءة كون الشك مقروناً للعلم الاجمالي، وتارة: يدعى ان المانع من جريان البراءة انصراف ادلة الاصول الترخيصية عن هذا المورد.

بيان ذلك: تارة: يكون للعلامة موضوعية، لا انه ملحوظة على نحو المشيرية، فاذا كان للعلامة موضوعية كان من موارد الشك في المحصل، مثلا: إذا دار امر دينه لزيد مدين لزيد بخمسة أو عشرة لكن من نقد معين، هل هو من الدولار هل أو من اليورو أو من نقد اخر؟ هنا في مثل هذا الفرض حيث ان العلامة ذات موضوعية في مقام البراءة لذلك لا تجري البراءة هنا عن الاكثر لأنها لا توجب احراز الفراغ من العنوان المحصل الا وهو عنوان ان يكون من ذلك النقد المجمل عنده.

وأما إذا افترضنا ان العلامة مجرد مشير لا اكثر، أي علمت بأن لزيد في ذمتي اما خمسة مليون تومان أو عشرة لكنها مسجلة في الدفتر، فتسجيلها في الدفتر ليس لها موضوعية في الفراغ وعدمه انما تسجيلها في الدفتر مجرد مشير لمقدار واقعي، فالتردد في ذلك المقدار الواقعي واما كونه في الدفتر مجرد عنوان مشير ليس الا.

فهنا في مثل هذا الفرض ما هو مدعى النائيني «قده»؟ هل يدعي ان المقام من موارد العلم الاجمالي أم يدعي انه وان كان من موارد الشك البدوي لكن ادلة الاصول منصرفة، فهنا دعويان:

الدعوى الاول: ان يقول النائيني «قده» هذا ليس من موارد الشك البدوي هذا من موارد الشك المقرون بالعلم الاجمال، فأنا لدي علم اجمالي باني مدين بخمسة أو عشرة.

فيجاب عن ذلك: انه ما دام في الدفتر مجدر مشير فلا قيمة له، أي ان العلامة نفسها هي مرددة بين الأقل والأكثر، نظير ان اعلم بأن آنية زيد نجسة، وآنية زيد مرددة عندي بين اثنين أو اربعة، ثم وجدت أو علمت بنجاسة إناءين هما لزيد. بعد العلم التفصيلي بنجاسة اناءين لزيد لا محالة ينحل العلم الاجمالي بعلم تفصيلي بمقدار متقين فتجري اصالة الطهارة في الباقي.

وكذلك مثلا: إذا علم تفصيلاً انه اتلف كيساً من الاموال لزيد، لكن لا يدري ما في الكيس كم؟ هل اتلف خمسة مليون هل اتلف عشرة مليون؟

هنا لديه علم تفصيلي بانه اتلف خمسة وشك بدوي في الاكثر، فهذه الموارد وجود العلامة وعدمها لا اثر له لانها مجرد مشير وما هو متردد فيه هو المقدار الواقعي والمقدار الواقعي له هو قدر متيقن فيجري البراءة عن الزائد ليس الموارد من موارد العلم الاجمالي.

الدعوى الثانية _ولا يبعد نظر النائيني لها لأنها تناسب مبناه_: ان يقول صحيح ان المورد من موارد الشك البدوي في الاكثر لكن، لنا مبنى ذكرناه في خاتمة البحث عن البراءة وهو:

هل تجري البراءة في الشبهات الموضوعية من دون فحص كما ذهب اليه السيد الخوئي؟ أو يفصل بين الموارد؟ فما اختاره النائيني هناك هو التفصيل، لا تجري البراءة الموضوعية من دون فحص مطلقا، وانما إذا كان جريانها ذا معرضية لمخالفة الواقع وكان الفحص من دون مؤونة فيتعين عليه الفحص، فلو كان فوق السطح في آخر الشهر وشكّ في بزوغ هلال شهر رمضان أم لا؟ هذه شبهة موضوعية، وبإمكانه ان يرفع طرف ويرى الهلال ولكنه قال تجري البراءة في الشبهات الموضوعية من دون فحص فاجرى استصحاب عدم دخول شهر رمضان وأفطر.

يقول المحقق النائيني هنا: هذا غير معذور لدى المرتكز العقلائي، باعتبار ان جريان الاصل الترخيصي في المقام ذو معرضية لمخالفة الواقع والفحص ليس ذا مؤنة بل ان يرفع راسه فقط لا اكثر من ذلك، ففي مثل هذه المورد تنصرف عنه ادلة الاصول العملية، باعتبار ان موضوع الاصول العملية من لم يعلم، وصدق ان هذا ممن لم يعلم مع ان التعلم لا يحتاج الى ثانية صدق خفي، فحيث ان صدق من لم يعلم عليه خفي انصرفت عليه ادلة الاصول العملية، فكذلك في المقام، حيث انه يدري لزيد دين عليه والدين مردد بين خمسة وعشرة لكنه مسجل في الدفتر، فإجراء البراءة عن اشتغال ذمته بالعشرة ذو معرضية لمخالفة الواقع، والمفروض ان الفحص لا يحتاج الى مؤونة بل يفتح الدفتر فيرى الدين، فحينئذٍ تنصرف عنه ادلة الاصول العملية، فالمحقق النائيني لا يرى ان هذا المورد استثناء من جريان البراءة في الاقل والاكثر الاستقلاليين، وإنما هو من صغريات مبناه في جريان الاصل الترخيصي في الشبهات الموضوعية، حيث قيّد الجريان بقيدين كما ذكرنا.

المورد الثاني: إذا كان لديه علم تفصيلي مسبق _وهذا لم يذكره النائيني في اصوله ولكن نقله الخوئي «قده» عن بحثه لا في كتبه في باب قضاء الفوائد، فذكره السيد الخوئي في موسوعته ج16 _: إذا كان لديه علم تفصيلي مسبق بأن كان عالما بأن الفائت عليه من الصلاة مقداره كذا ولكنه الآن نسي لا يدري ان عددها عشرة أو عشرون؟

فهنا يقول النائيني: لا تجري البراءة عن العشرين بعد ان كان له علم تفصيلي سابق بعدد الفوائد. أو كان علما بمقدار الدين لزيد ثم نسي وحيث انه نسي لا يمكنه اجراء البراءة. وبيان ذلك:

ذكر المحقق النائيني «قده» في اول مباحث البراءة: ان المنجزية في التكليف لا تنحصر في العلم بحيث ينحصر المنجز في العلم التفصيلي أو العلم الإجمالي، بل قد يكون المنجز قوة الاحتمال أو اهمية المحتمل، فمثلاً إذا حصل الشك البدوي في موارد النفوس أو الاعراض أو الاموال الخطيرة كان منجزاً، فلو شك ان هذه نفس محترمة أو نفس حربية أو هذا عرضه أو عرض شخص اخر؟ ففي مثل هذه الموارد وان كان الشك شكا بدوياً الا ان المحتمل مهم فأهمية المحتمل مانع من جريان دليل الاصل العملي الترخيصي. أو يكون المنجز قوة الاحتمال، كما إذا حصل له احتمال عرفي للتكليف قبل الفحص بالشبهات الحكمية، كما إذا احتمل ان التدخين حرام أو لا؟ فبما انه احتمال عرفي موهومة وقبل الفحص فأدلة الاصول منصرفة عنه.

ومن موارد الاحتمال المنجز ما إذا كان الاحتمال مسبوقا بعلم تفصيلي.

حيث يستمد هذا الاحتمال قوة من العلم التفصيلي السابق، فحيث ان لديه علما بأن دين زيد كذا، هذا كان في الصباح، ولكن بعد الغداء نسي مقدار الدين فأجرى البراءة عن الزائد، فحيث ان الاحتمال متقوم بعلم تفصيلي سابق فهذا الاحتمال منجز ومقتضى منجزيته عدم جريان البراءة عن الاكثر.

ولكن المناقشة حينئذ معه مناقشة مبنائية: كما ذكر سيدنا «قده» في نفس هذا البحث: إذا علم بمقدار الفوائد ثم نسي ذلك، فتارة يكون قاصرا وتارة يكون مقصرا، أي ان سبب النسيان تارة القصور وتارة التقصير، فاذا كان سبب نسيانه وذهاب علمه هو القصور، نسي قهرا لعيه، إذن فلا منجزية لهذا الاحتمال، لان المنجزية تدور مدار العلم والعلم قد انتفى فتجري البراءة، وما عدم جريان البراءة في الاحتمال قبل الفحص فلأجل أدلة وجوب التعلم، فإن اطلاق وجوب التعلم هو وجوب التعلم، هو الفحص، هذا هو المانع عن اجراء أدلة الاصول العملية الترخيصية في الاحتمال قبل الفحص، وإلا لا مانع ن جريانها. واما في موارد اهمية المحتمل فلولا ورود هذه الموارد المغلظة والمشددة لجرت أدلة الاصول العملية الترخيصية. إذن بالنتيجة في محل الكلام وان كان يعلم بعدد الفوائد سابقاً الا أن العلم زال فيجري البراءة عن الزائد ويقتصر على المقدار المتيقن.

نعم، قد يقال على ما اخترناه نحن في بحث الحجج، حجية خبر الثقة وحجية الظهور تبعا للمحقق الاصفهاني، حيث اخترنا هناك ان هذه الحجج ما لم يقم منشأ عقلائي على خلافها، فلو قام منشأ عقلائي على خلاف خبر الثقة فلم يحرز بناء العقلاء على العمل به، أو قام منشأ عقلائي على خلاف الظاهر فلم يحرز بناء العرف على هذا الظاهر وغير ذلك من الحجج. فهنا في المقام: لدينا حجة وهو اطلاق دليل الاصل العملي «رفع عن امتي ما لا يعلمون» لكن وردت رواية ضعيفة وهي رواية اسماعيل ابن جابر، في باب الفوائد: «عن أبي عبد الله : سالته الصلاة تجتمع عليّ فلا ادري؟ فقال: تحرى واقضها».

فهذه الرواية وان كانت ضعيفة السند بمحمد ابن يحيى المعاذي، ولكن يحتمل استناد المشهور اليها، حيث ان المشهور ذهب الى وجوب الاحتياط عند الشك في عدد الفوائد الفائتة، وحيث يحتمل احتمال المشهور اليه في الفتوى شكلّت منشئاً عقلائياً منعنا من الاخذ بإطلاق ادلة الاصول الترخيصية فليس السر ان الاحتمال المسبوق بعلم تفصيلي يكون منجزاً وإنما لوجود خصوصية في هذا المورد وهو مورد الفوائد من الصلاة.

وتارة يكون مقصراً: بمعنى انه قصر حتى نسي، هنا بما ان ادلة الاصول العملية واردة مورد الامتنان وليس مثل هذا مورداً للامتنان تكون منصرفة عنه بسياقها، هذا إذا كان مقصراً، اما إذا كان قاصرا هذا لا يعد منشأ عقلائياً على الخلاف، تجري البراءة في حقه الا في باب الفوائد لوجود هذه الرواية.

هذا تمام الكلام في جريان البراءة في الاقل والاكثر الاستقلاليين. وقد ظهر بذلك: انه لا استثناء في مورد من الموارد عن جريان البراءة في مثل ذلك. يأتي الكلام يوم السبت عن جريان البراءة في الاقل والاكثر الارتباطيين، تارة في الاجزاء. تارة في الشروط.

والحمد لله رب العالمين.