الدرس 126

دوران الأمر بين التعيين والتخيير

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أن المنشأ الثاني لوجوب الاحتياط عند دوران الامر بين الأقل والأكثر في الواجبات هو ما ذكره صاحب الكفاية «قده» من انه لا يتصور الانحلال، والسر في ذلك: أن العلم بتنجز الأقل على كل تقدير فرع تنجز الوجوب الواقعي على كل تقدير، لأن الأقل ليس واجبا آخر وراء الواجب الواقعي، فدعوى أن الأقل متنجز تفصيلا أي متنجز على كل تقدير متفرع على تنجز الوجوب الواقعي على كل تقدير، أي سواء كان متعلقا في الواقع بالأقل أو في الاكثر، فلو لزم من تنجز الأقل على كل تقدير عدم تنجز الأكثر بإجراء البراءة عنه لكان ذلك خلف الفرض، أو لكان مما يلزم من وجوده عدمه وهو محال. لذلك لا يعقل انحلال العلم الاجمالي بتنجز الأقل تفصيلا، وذكرنا في مورده أن كلامه إنما يتم بناءً على إنكار التوسط في التنجيز، وأما إذا قلنا بالتوسط في التنجيز فلا يرد إشكاله، والسر في ذلك: أن تنجز الأقل تفصيلاً فرع تنجز الوجوب الواقعي على كل تقدير. أما تنجز الوجوب الواقعي على كل تقدير لا يقتضي تنجزه ضمن الأكثر بل قد يتنجز الوجوب الواقعي ضمن الأقل وان كان في الواقع متعلقا بالاكثر، فيقال: لو خالف الوجوب الواقعي بترك الأكثر لم يكن مستحقا للعقوبة، ولكن لو خالف الوجوب الواقعي بترك الأقل لكان مستحقا للعقوبة.

فالنتيجة: لو انكرنا التوسط في التنجيز فلا انحلال في باب الأقل والأكثر في الواجبات، لكن هل يلزم منه ان لا انحلال في باب المحرّمات، لا انحلال في باب الواجبات لإنكار التوسط في التنجيز، ولكن هل أن انكار التوسط في التنجيز يستلزم عدم الانحلال في المحرمات أم لا؟

نقول لا يستلزم، إذ المفروض في المقام: ان هناك حرمتين لا حرمة واحدة، وهناك وجوب واحد لا وجوبان، فلأجل أن هناك وجوبا واحد لا ندري انه تعلق بالأقل أو تعلق بالأكثر وقلنا بأن هذا الوجوب الواحد اما متنجز أو غير متنجز، ولا يعلق التوسط في التنجيز، لذلك قلنا هناك لا يمكن أن يكون العلم التفصيلي بالأقل موجبا لتنجزه دون الأكثر لوجود وجوب واحد اما متنجز أو غير متنجز، وأما في محل كلامنا فالمفروض انحلال الحرمة بمعنى لكل مركب حرمة فاذا كان كذلك فالعلم التفصيلي بحرمة الأكثر موجب للانحلال لا محالة، فيقال: الأكثر مورد لحرمة فعلية حتماً ويشك في ثبوت حرمة أخرى متعلقة بالأقل لا في ضمن الأكثر وهي مجرى للبراءة، فلا ملازمة بين إنكار التوسط في التنجيز في الأقل والأكثر في الواجبات وإنكار الانحلال في الأقل والأكثر في المحرمات.

ولكن سيد المنتقى «قده» قال: إذا بنينا على الانحلال الحكمي المعبّر عنه بالتبعيض في التنجيز تجري البراءة في كلا البابين، ففي محل كلامنا وهو المحرمات نقول: ارتكاب الأكثر أي ارتكاب المجموع قطعا موجب لاستحقاق العقوبة، فليس مجرى للبراءة، بينما ارتكاب الأقل لا في ضمن المجموع نشك في استحقاق العقوبة عليه إذ لا نعلم بحرمته فتجري عنه البراءة. فبناء على قبول التبعيض في التنجيز والانحلال الحكمي، أي جريان البراءة في احد الطرفين دون الآخر يتم دون الآخر يتم ما ذكرتم، فنقول هناك: نعلم بأن ترك الأقل يوجب استحقاق العقوبة ونشك في ان ترك الأكثر يوجب استحقاق العقوبة فنجري البراءة عنه، وهنا نقول بالعكس: نعلم بأن في فعل الأكثر استحقاقا للعقوبة فلا تجري البراءة عنه، ونشك في أن فعل الأقل لا في ضمن الأكثر هل يوجب استحقاق العقوبة أم لا؟ نجري البراءة عنه.

أما لو انكرنا التبعيض في التنجيز، فإن مقتضى الاحتياط هو ترك الأقل رأساً، بأن يتركه لا في ضمن الأكثر ولا منفرداً، لابد من ترك الأقل رأساً، والسر في ذلك: أنه كما قلنا في الواجبات، يدور الواجب بين الأقل والاكثر، فإما الأقل واجب استقلالا وإما الأقل واجب ضمناً. فإذا دار الواجب بين الأكثر والأقل فالأقل حتماً واجب، إما استقلالا أو ضمنا، فمقتضى العلم التفصيلي بوجوب الأقل اما استقلالا أو ضمنا، ان لا مجال الا لفعل الاقل. لا يمكن ترك الاقل. وهنا ايضا نقول نفس الشيء، إذا علمنا بحرمة المركب اما الكل أو البعض، فالأقل اما محرم استقلالا أو محرم ضمنا، بالنتيجة الأقل محرم على كل حال اما استقلالا أو ضمنا، فبعد حرمة العلم التفصيلي بحرمة الأقل اما استقلالا أو ضمنا، اذن لا مجال الا لترك الاقل، كما ان هناك العلم التفصيلي بوجوب الأقل اما استقلالا أو ضمنا افضى لأنه لا مجال الا لفعل اقل هنا ايضا العلم التفصيلي بأن الأقل محرم أم استقلالا أو ضمنا يفضي إلى انه لا مجال الا إلى ترك الأقل، لا انه فقط يجتنب ترك الأكثر ويمكن فعل الاقل، بل لا مجال الا لترك الاقل. فاذا انكرنا التبعيض في التنجيز فهنا مقتضى الاحتياط ان يترك الأقل من رأس أي لا يأتي بشيء.

ويلاحظ على ما افيد:

أنه إذا علمنا بوجوب الأقل إما استقلالا أو ضمنا فمن الواضح انه لا فراغ الا بإتيان الاقل، اما إذا علمنا بحرمة الأقل اما استقلالا أو ضمناً، فإن كان المحرم استقلالاً فلابد من تركه، اما إذا كان المحرم الأقل ضمنا فلابد من ترك المجموع، فإن معنى الحرمة الضمنية هي ترك المجموع، فرق بين الحرمة الاستقلالية والحرمة الضمنية لا معنى عقلا للحرمة الضمنية الا حرمة فعل هذا ضمن المجموع، لأن معنى الضمنية هو المشروطية بأن يكون المحرم ليس هو الأقل بل المحرم الأقل المشروط بالبقية، هذا معنى الحرمة الضمنية، فاذا كان معنى الحرمة الضمنية هو حرمة الأقل بشرط البقية لا حرمة الأقل في نفسه فكيف يقتضي العلم بالحرمة الضمنية ترك الأقل في نفسه على كل حال، إذن بالنتيجة نحن نقول: دعوى لما علمنا بحرمة الأقل اما استقلالا أو ضمنا انه لابد من ترك الأقل على كل حال هذه ليست تامة، بل لما علمنا بأن الأقل محرم اما استقلالا أو ضمنا قلنا لا شك في ان الاتيان بالأكثر ارتكاب للمحرم، وأما ارتكاب الأقل في نفسه فهو مشكوك بدواً فهو مجرى للبراءة لا انه لابد من ترك الأقل على كل حال، فالعلم التفصيلي بحرمة الأقل لا يفضي إلى لزوم ترك الأقل على كل حال.

المنشأ الثالث: ما ذهب اليه صاحب الفصول «قده» من ان الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني، فلما اشتغلت الذمة بواجب مردد بين الأقل والأكثر فمقتضى الفراغ اليقيني هو الإتيان بالاكثر، هل هذا الكلام يمكن قوله هنا؟ أي ان مقتضى الاشتغال اليقيني هناك أي في دوران الامر في الواجبات هو فعل الاكثر، فهل مقتضى الاشتغال اليقني هنا «في دوارن الامر في المحرمات» هو ترك الأقل على كل حال؟ ربما يقال بذلك.

لكن المحقق العراقي «قده»، في نهاية الافكار «ج3، ص400» قال: لا، حتى لو قلنا بأن مقتضى قاعدة الاشتغال هناك هو الاتيانب الأكثر لا نقول بأن مقتضى قاعدة الاشتغال هنا ترك الاقل، والسر في ذلك:

أنه إذا كان المحرم هو المركب فلا يتحقق عصيانه الا بفعل جميع اجزاء المركب، لأن المفروض ان المحرم هو المركب، إذن لا يتحقق عصيانه الا بفعل جميع اجزائه، وما لا يتحقق عصيانه الا بفعل جميع اجزائه تتحقق اطاعته بترك جزءه، فإنه يكفي في ترك المجموع ترك جزئهن فمتى ما ترك جزءاً ولو الجزء الأخير امتثل المحرم، إذ المحرم المنصب على المركب عصيانه بفعل الجميع، إذن اطاعته بترك بعض، فبناء على ذلك نقول: إذا دار الامر بين الأقل والأكثر في المحرمات إذن العصيان المتيقن الفعل الأكثر فالطاعة بترك الباقي لا بترك الأقل، بينما هناك إذا دار الامر بين الأقل والأكثر في الواجبات، العصيان يتحقق بترك الأقل فالاطاعة بفعل الاكثر.

فإن قلت: بالنتيجة هو يعلم بحرمة الأقل فمقتضى العلم بحرمة الأقل ترك الأقل.

قلت: مصب الحرمة المركب أي مصب الحرمة المجموع من حيث كونه مجموع، ومتى كان مصب الحرمة المجموع من حيث كونه مجموع يحصل العلم بالامتثال بترك المجموع، العلم بحرمة المجموع يقتضي العلم بحصول الامتثال بترك بعض. إذ يكفي في ترك المجموع ترك البعض. بخلاف ما ذكرناه هناك في مسألة الواجبات، فإنه إذا علم بالمجموع من حيث هو مجموع، إذن العلم بوجوب المجموع من حيث هو مجموع يقتضي ان لا علم بالامتثال الا بإتيان المجموع، وأما العلم بحرمة المجموع من حيث هو مجموع فيقتضي العلم بحصول الامتثال بترك جزء والشك في حرمة البقية فيكون مجرى للبراء.

ولكن السيد الشهيد «قده» تقريره في مباحث الاصول اختلف عن تقريره في بحوث علم الأصول: ففي المباحث: اشكل على العراقي ولم يقبلك كلامه وقوّى كلام صاحب الفصول فقال: بناء على مسلك صاحب الفصول من ان مقتضى الاشتغال اليقيني بالواجب المردد بين الأقل والأكثر الفراغ اليقيني بإتيان الأكثر ومقتضى الاشتغال اليقيني بالحرام المردد بين الأقل والأكثر الفراغ القيني بترك الاقل، هذا الذي ذكره صاحب الفصول هو الصحيح وليس ما ذكره المحقق العراقي «قده» والسر في ذلك:

انه في المقام: إذا علمنا بأن هناك محرما اما في الأقل أو في الأكثر فإنه إذا علمنا بوجوب محرم اما في الأقل أو في الأكثر فلا محالة لا يمكن حصول الفراغ «فراغ الذمة» من ذلك المحرم المردّد بما هو مردد إلا بترك الاقل. لأن ما تعلق به الاشتغال هو نفس ما يتعلق به الفراغ، فما تعلق به الاشتغال في باب الواجب واجب مردد بين اقل واكثر فلا يحصل الفراغ من الواجب المردد بما هو مردد الا بإتيان الاكثر، هنا علمنا بحرام مردد بين الأقل والأكثر فلا يحصل الفراغ من الحرام المردد بما هو مردد إلا بترك الأقل. إذ على تقدير أن المحرم هو الأكثر فقد امتثلناه، وعلى تقدير ان المحرم هو الأقل فقد امتثلناه، إذن بالنتيجة لا يمكن حصول الفراغ هنا الا بترك الأقل في نفسه. كما ذكر صاحب الفصول، وكما ذهب اليه سيد المنتقى «قده» من ان مقتضى الاحتياط هو ترك الأقل.

ولكن هذا الكلام هل ينسجم مع دعوى الانحلال التي يسلم بها السيد الشهيد في الحرمة الفعلية، أي ليس هناك حرمة واحدة مرددة، بل هناك حرمات، فهل ينسجم ما افاده في مباحث الاصول مع ما يراه في انحلال الحرمة في مرحلة الفعلية أم لا؟

سيأتي الكلام عنه غداً إن شاء الله والمقارنة بين التقريرين.

والحمد لله رب العالمين.