الدرس 127

دوران الأمر بين التعيين والتخيير

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أن تقريرات السيد الشهيد «قده» مختلفة. قد أفاد في «مباحث الأصول» ما هو موافق لما نقلنا سابقاً عن سيد المنتقى «قده»: من أنه لا فرق بين المقام وبين باب الأقل والأكثر في الواجبات، فكما أنه إذا دار الواجب بين الأقل والأكثر فلا علم لنا بوجوب الأكثر وإنما نعلم باشتمال الأكثر على الواجب، لأن الواجب إما الأقل استقلالاً أو الأقل ضمنا، فلا علم بالأكثر، وإنما المعلوم هو الأقل إما استقلالا أو ضمنا، فمقتضى الاحتياط بعد الاشتغال هو الإتيان بالأكثر، إذ على كل حال يحصل به فراغ الذمة، وكذلك في محل الكلام، فإذا دار امر الحرام بين الأقل والأكثر فلا علم بحرمة الأكثر وإنما الذي نعلمه اشتمال الأكثر على الحرام، لا أننا نعلم بحرمة الأكثر، ومعنى أن الأكثر مشتمل على الحرام هو أن معلوم الحرمة هو الأقل، إذ لا ندري أن الأقل محرم استقلالا فيلزم تركه حتى من دون الأكثر أو انه محرم ضمنا فيلزم تركه بترك الاكثر، وبالتالي فمقتضى اشتغال الذمة بحرمة الأقل إما استقلالا أو ضمنا هو ترك الأقل من رأس.

وهذا الذي أفاده «قده» بحسب تقرير مباحث الأصول، محل تأمل بناءً على انحلالية الحرمة. فإنه بناء على انحلالية الحرمة فالمتصور حرمتان، حرمة نعلم بثوبتها ويكفي في امتثالها ترك احد الاجزاء، وحرمة مشكوكة، لا أننا نعلم بثوبتها، فما نعلم بثبوته وفعليته هو الحرمة في فرض الأكثر، هنا نعلم في هذه الحرمة، لكن الحرمة في فرض الأكثر يكفي في امتثالها ترك أحد الاجزاء، إذ متى ترك احد الأجزاء علم بالتخلص من هذه الحرمة، وأما ثبوت حرمة متعلقة في نفسه فهي مشكوكة بدواً، فليس هناك علم بحكم واحد، كما في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الواجبات، فإن هناك علما بوجوب واحد لا ندري انصب على الأكثر أم انصب على الاقل، فنقول قطعا انصب على الأقل اما استقلالا أو ضمنا ولا فراغ منه الا بإتيان الاكثر، أما هنا لا نعلم حرمة واحدة حتى نقول تلك الحرمة الواحدة انصبت على الأقل اما استقلالا أو ضمنا ولا فراغ منها الا بترك الاقل. بل نقول: ما نعلم بحرمته جزما هو الحرمة في مورد الاكثر، وهذه الحرمة التي في مورد الأكثر يكفي في امتثالها ترك احد الاجزاء، وأما ثبوت حرمة أخرى في الأقل فهو مشكوك.

لكن تقريره الآخر وهو «بحوث في علم الاصول» المتأخر زمانا اشكل على نفس الكلام المذكور في مباحث الاصول بإشكالين:

الإشكال الأول: انه لا يتصور الحرمة الضمنية اصلا، اصلا عنوان الحرمة الضمنية غير معقول، معقول الوجوب الضمني اما الوجوب الضمني امر غير معقول، والسر في ذلك: ان ما هو المعقول تعلق الحرمة بالمجموع من حيث هو مجموع الذي يكفي في امتثاله ترك احد الاجزاء، وأما إذا تعلقت الحرمة بالمركب فإن الحرمة تسري لكل جزء جزء بحيث يكون كل جزء محرما حرمة ضمنية هذا امر غير معقول، المعقول انصباب الحرمة على المجموع الذي يكفي في امتثاله ترك احد الاجزاء، اما سراية الحرمة لكل جزء جزء كما في الواجب بحيث يكون الجزء محرماً ضمناً هذا غير معقول، لأنه على فرض حرمة ضمنة يعني على فرض ان هناك حرمة تعلقت بالجزء، مثلاً: حرم تصوير ذوات الارواح بتمام البدن، فعلى فرض ان هذه الحرمة من المركب سرت إلى الأجزاء فالجزء محرّم ضمناً، فهذه الحرمة اما لا تقتضي شيئا أو تقتضي، إن كانت لا تقتضي شيئا فهذا خلف كونها حرمة، وإما ان كانت تقتضي، فإما ان تقتضي ترك الجزء لأنه محرم صار المبغوض الضمني اعظم من المبغوض الاستقلالي، لأنه لو كان المركب مبغوضا استقلالاً لكفى في امتثاله ترك احد الاجزاء ولا يلزم ترك كل جزء جزء، فلو كانت الحرمة الضمنية تقتضي كل جزء جزء لكانت اشد من الحرمة الاستقلالية، وهذا لا معنى له.

وإن كان يقتضي ترك المجموع من حيث هو مجموع، الذي يتحقق بترك احد الاجزاء فهذا خلف كونها حرمة ضمنية، لأن هذا معناه انصباب الحرمة على الجمع لا على كل جزء جزء. اذن بالنتيجة الحرمة الضمنية اصلا غير موجودة حتى يأتي هذا الكلام المذكور في مباحث الاصول من ان الأقل معلوم الحرمة اما استقلالا أو ضمنا، ابداً، إما المحرم الأكثر أو المحرم الاقل، لا ان الأقل معلوم اما استقلالا أو ضمنا، فإن الحرمة الضمنية اصلا امر غير معقول.

لكن هذا الذي افاده في البحوث من عدم معقولية الحرمة الضمنية غير تام. والسر في ذلك: ان هناك فرقا بين انصباب الحرمة على الجمع وانصباب الحرمة على كل جزء مشروطاً بالتعقب على نحو الشرط المتأخر، فتارة تنصب الحرمة على الجمع، يعني ما تبغضه أن تجمع بين هذه الأجزاء، فمصب الحرمة والمبغوضية نفس الجمع، ليس كل واحد منهما مبغوض عندي، المبغوض عندي الجمع بينهما. وتارة تنصب المبغوضية على كل جزء بشرط، هذا مبغوض يعقبه بقية الاجزاء وهذا مبغوض ان تعقبه بقية الاجزاء، فكل من الاجزاء مبغوض بشرط متأخر، كما قيل في الواجب الضمني. والثمرة التي تظهر، هناك عدة ثمرات:

انه لو المولى نهى العبد عن الوضوء وشرب الماء، قال لا تستخدم شيئين في الماء، أما الوضوء أو الشرب، اما ان تستخدم الماء في الوضوء أو أن تستخدم الماء في الشرب، الجمع بينهما مبغوض عندي، فتارة يكون مصب المبغوضية الجمع، المهم ان لا تجمع وإلا الوضوء في نفسه ليس مبغوضاً عندي، فلو اتى بالوضوء ثم اتى بعده بشرب الماء وقع الوضوء صحيحا، لأن المبغوضية لم تنصب على ذات الوضوء وإنما انصبت على الجمع، بينما لو قلنا بأن هناك مبغوضية ضمنية أي ان كلاً من الجزأين مبغوض إن تعقبه الآخر، الوضوء مبغوض إذا تعقبه شرب الماء، فإذا توضأ ثم شرب الماء وقع الوضوء نفسه مبغوضاً فوقع فاسداً.

فدعوى إنكار المبغوضية الضمنية من رأس غير صناعي.

الإشكال الثاني _الذي اورده على ما في مباحث الاصول_:

لو سلمنا ان هناك مبغوضية ضمنية إلا ان هذا المبغضوية الضمنية لا تدخل في العهدة اصلاً، فالعلم بأن الأقل محرم إما استقلالا أو ضمنا لا يترتب عليه قاعدة الاشتغال كما يترتب على الواجب، فهناك في الواجب إذا علمنا ان تسعة اجزاء من الصلاة واجبة قطعا، اما استقلالاً أو ضمناً، مقتضى قاعدة الاشتغال ان تأتي بالاكثر، لأن الأقل يقبل الدخول في العهدة، اما إذا علمت ان المحرم رمس تمام البدن أو رمس خصوص الرأس مثلاً؟

يقول: دعوى بأن رمس الرأس محرّم على كل حال إما استقلالا أو ضمنا، هذا الشق الثاني لا يدخل في العهدة، الذي يدخل في العهدة الحرمة الاستقلالية وهي مشكوكة، أنا لا ادري انه محرم استقلالاً لعل المحرم هو رمس تمام البدن، فالحرمة الضمنية التي تقطعون بها مما لا تدخل في العهدة حتى تكون مجرى لقاعدة الاشتغال. والسر في ذلك: ان ما يدخل في العهدة ما كان له امتثاله بإزائه، الحرمة الضمنية ليس لها امتثال بإزائها، لأنه لو كان المحرم هو رمس الرأس ضمناً يعني لكان المحرم هو رمس تمام البدن فيكون رمس الرأس محرّماً ضمناً، وإذا كان المحرم رمس تمام البدن فيكفي في امتثاله أحد الأجزاء. إذن رمس الرأس ضمنا ليس بإزائه امتثال، إذ ليس هناك امتثال الا بترك الاجزاء لا بترك احد الاجزاء لا بترك رمس الرأس في نفسه، إنما يتصور لرمس الرأس امتثال إذا كان محرما استقلالا والا إذا كان محرما ضمنا ليس بإزائه امتثال، بل الامتثال بإزاء حرمة المجموع الذي يكفي فيه ترك احد الاجزاء. فكيف يقول المولى يحرم عليك رمس الرأس ضمنا لكن امتثاله بأن تترك رمس الرجل، هذا لا معنى له! ليس بإزاء الحرمة الضمنية امتثال كي تكون داخلة في العهدة كي تكون موضوعاً لقاعدة الاشتغال، فعندما تقول بأنه أنا علمت بحرمة لهذا الرأس، اعلم بحرمة رمس الرأس اما استقلالاً إذن لابد من تركه من رأسه، أو ضمنا إذن يكفي ترك احد الإجزاء. يقال: اذن بالنتيجة احد الشقين ما دخل في العهدة، واذا علمت بحكم احد الشقين لا يدخل في العهدة، لم يكن هذا العلم مجرى لقاعدة الاشتغال، إذ مجرى قاعدة الاشتغال ان تعلم بحكم يدخل في العهدة على كل حال، وأنت لم تعلم بحكم يدخل في العهدة على كل حال، إذ لو كان المحرم هو الحرمة الضمنية لكان يكفي في الامتثال ترك احد الاجزاء.

فتلّخص بذلك: ان هذا ليس مجرى لقاعدة الاشتغال وبالتالي لا يتم الكلام المذكور في مباحث الأصول. وما ذكره في الاشكال الثاني متين بناء على القول بالانحلال.

المنشأ الأخير «الرابع» لوجوب الاحتياط في الأقل والأكثر في الواجبات هو: شبهة الغرض. بأن يقال: لمّا علمنا بوجوب علمنا بغرض، ولا ندري ان هذا الغرض يتأتى بتسعة اجزاء أم بعشرة اجزاء؟ فمقتضى شبهة الغرض ان نأتي بالأكثر حتى نستيقن حصول الغرض اللزومي للمولى.

هل هذا المنشأ يأتي فيما لو دار الامر بين الأقل والأكثر في المحرمات؟ بأن لا ندري هل المحرم تصوير تمام البدن أو خصوص الراس؟

نقول لا يأتي، لأنه ما دمتم تقولون بانحلالية الحرمة فأنتم تقولون بانحلالية الغرض، كما ان هناك حرمات هناك اغراض، اذن بالنتيجة علمنا بحرمة في الأكثر فعلمنا بترتب مفسدة على الأكثر وشككنا في حرمة للأقل فشككنا في وجود غرض في الاقل، فليس هناك علم بغرض واحد يشك في حصوله بالأقل أو الأكثر حتى يكون مقتضى قاعدة الاشتغال ان يؤتى بالاكثر، بل هناك أغراض، فهناك غرض معلوم في الأكثر ويكفي في تحصيله ترك أحد الاجزاء، وهناك غرض مشكوك في ترتبه على الأقل فتجري البراءة عنه، لا ان هناك علماً بغرض واحد يشك في حصوله.

فتحصّل بذلك: أننا لو قلنا بالاحتياط في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الواجبات لم نقل بالاحتياط في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحرّمات.

الدعوى العكس: لو قلنا بالبراءة عند دوران الامر بين الأقل والأكثر في الواجبات هل يلزم ان نقول بالبراءة في الأقل والأكثر في المحرمات أم لا؟

فقد أفاد السيد الشهيد «قده» أنه لا ملازمة، قد نقول بالبراءة عند دوران الامر بين الأقل والأكثر في الواجبات، لكننا في المحرمات نذهب للاحتياط. والسر في ذلك احد وجهين:

الوجه الاول: قال يمكن القول على مسلك العلية وهو مبنى العراقي بأن هناك علما اجماليا منجزاً لدوران المعلوم بالاجمال بين المتباينين. بيان ذلك: إذا دار الامر بين حرمة تصوير تمام البدن أو تصوير الوجه لا ندري هل المحرم تصوير تمام البدن أو تصوير الوجه؟

يقال: هنا علم اجمالي دائر بين متباينين، لأن عنوان الوجه مغاير مفهوما لعنوان مجموع البدن وإن كان بينهما في مرحلة الصدق أقل وأكثر، فبلحاظ مرحلة الصدق اقل واكثر أما بلحاظ عالم المفاهيم فهما متغايران. إذن لدينا علم اجمالي بحرمة اما للمجموع إما للوجه، فهي حرمة دائرة بين المتباينين، ومقتضى دوران المعلوم بالاجمال بين المتباينين هو المنجزية، فإن قلنا بالاقتضاء يمكن حل هذا العلم الاجمالي، بأن يقال: لا معنى للبراءة عن حرمة تمام البدن، لأن في تصوير تمام البدن مخالفة قطعية جزماً، فالبراءة عن تصوير تمام البدن مما لا اثر لها، فتجري البراءة عن تصوير الوجه بلا معارض فينحل العلم الاجمالي. بناءً على الاقتضاء.

وأما بناء على العلية، انتم تعلمون بحرمة دائرة بين متباينين والعلم الاجمالي بين المتباينين منجز، إذن بالنتيجة حتى لو قلنا بالبراءة في باب الأقل والأكثر في الواجبات نقول بالاحتياط في الأقل والأكثر في المحرّمات. ولكن هذا لا يتم بناء على الانحلال، فافهم وتأمل.

والحمد لله رب العالمين.