الدرس 128

دوران الأمر بين التعيين والتخيير

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أنه قد يقال حتى لو بنينا على جريان البراءة عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الواجبات فإنه يمكن البناء على الاحتياط عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحرّمات. والوجه في عدم الملازمة بين البابين: أن في الاحتياط في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحرمات منشأين:

المنشأ الأول: ما ذكره السيد الشهيد «قده»: من انه إذا دار الأمر بين حرمة تصوير الوجه أو تصوير تمام البدن فهذا من العلم الاجمالي بين المتباينين، لأن عنوان الوجه وعنوان تمام البدن أي مجموع البدن عنوانان متغايران مفهوما وان كان بينهما قلة وكثرة في مقام الصدق، فلأجل ذلك فالعلم الإجمالي بأحدهما علم بين متباينين فهو منجز على مسلك العلية.

ولكن ذكرنا فيما سبق: أن هذا لا يتم بناء على الانحلال الذي يراه، فإن العلم الاجمالي الدائر بين المتباينين إنما يكون منجزاً على مسلك العلية إذا كان المعلوم بالاجمال حكماً فعليا واحداً، وتردد بين المتباينين، واما إذا كان المعلوم بالاجمال منحلاً وجداناً إلى حكم فعلي في الأكثر وحكم مشكوك الفعلية في الأقل، فليس المقام من دوران الأمر بين المتباينين. والمفروض ان تصوير تمام البدن محرم حرمة فعلية تفصيلية، بينما تصوير الوجه مشكوك الحرمة فعلا فهو مجرى للبراءة، فحتى على مسلك العلية لا يكون هذا العلم الاجمالي منجزاً.

المنشأ الثاني: أن يصوّر علم اجمالي تدريجي كم صورناه في مسألة الأقل والأكثر في الواجبات وبين التعيين والتخيير الشرعيين.

وبيان ذلك: أن يقال: إذا علم المكلف انه يحرم عليه تصوير الوجه أو تصوير تمام البدن، فلديه علم اجمالي بأنه يحرم عليه تصوير الوجه وعلى فرض مخالفته وقيامه بتصوير الوجه فيحرم عليه تصوير بقية البدن بعد تصوير الوجه، أو يحرم عليه رمس الرأس فإن خالف فيحرم عليه رمس بقية البدن بعد رمس الرأس، فهنا علم اجمالي تدريجي منجز حيث ان البراءة عن حرمة تصوير الوجه معارضة بالبراءة عن حرمة تصوير باقي البدن على فرض ارتكاب تصوير الوجه.

ولكن أجيب عن منجزية هذا العلم بأحد وجوه ثلاثة:

الوجه الاول: أن يقال ان العلم الاجمالي إذا قام في احد طرفيه منجز تفصيلي جرى الاصل في الطرف الآخر بلا معارض، وهذ الوجه يوجب انحلال العلم الاجمالي حتى على مسلك العلية، فإن أصحاب مسلك العلية أيضاً يقولون: إذا قام منجز تفصيلي في أحد طرفي العلم الإجمالي جرى الأصل المرخص في الطرف الآخر، فاذا علم اجمالا بنجاسة احد الاناءين وقد قام خبر ثقة على نجاسة باء جرت أصالة الطهارة في الطرف الآخر بلا مانع. وفي المقام أحد الطرفين عليه منجز تفصيلي، لأنه اما يحرم تصوير الوجه أو تصوير تمام البدن، وتصوير تمام البدن مما علم حرته تفصيلاً، اذن ففي أحد الطرفين منجز تفصيلي ومع ذلك فلا يكون هذا العلم الاجمالي منجزا فتجري البراءة عن حرمة تصور الوجه بلا مانع.

ولكن هذا الوجه غير تام: إذ المراد بالمنجز التفصيلي ما كان قائما في رتبة سابقة على الارتكاب، كما إذا علم بحرمة إما صوم يوم عاشوراء، أو حرمة صوم الوصال، وقام خبر ثقة على حرمة صوم الوصال، فهنا يقال بأن العلم الاجمالي غير منجز لأنه قام منجز تفصيلي. فالمنجز التفصيلي هو عبارة عن قيام حجة وجدانية أو تعبدية على احد الطرفين مع غمض النظر عن ارتكابه، هذا يقال له منجز تفصيلي.

اما في المقام هو يقول: يحرم تصوير الوجه أو يحرم تصوير باقي البدن على فرض حرمة تصوير الوجه، فحرمة تصوير باقي البدن على فرض حرمة تصوير الوجه ليس منجزا سابقاً على العمل، وإنما هو علم بمخالفة قطعية بعد فرض العمل لا انه منجز تفصيلي في رتبة سابقة على العمل. ولذلك هذا العلم الاجمالي منجز وإن حصل ارتكاب لأحد الطرفين قبل العلم الاجمالي، مثلاً:

بعد ان صوّر الوجه حصل لديه علم اجمالي بأنه أما تصوير الوجه حرام أو تصوير باقي البدن، ما دام لهذا العلم الاجمالي أثر في الطرف الباقي فيكون منجزاً، مما يكشف «يعني وجدانية التنجز في المقام» عن عدم قيام منجز تفصيلي في هذا الطرف وإلا لم يكن فرق بين ان يحصل العلم قبل ارتكاب احدهما وإن يحصل العلم بعد ارتكاب احدهما.

إذن هذا الوجه وهو دعوى قيام منجز تفصيلي في احد الطرفين غير تام.

الوجه الثاني: ان يقال بأن البراء تجري عن حرمة تصوير الوجه بلا معارض «وهو يبتني على مسلك الاقتضاء» لأن جريانها في تصوير باقي البدن بعد تصوير الوجه يؤدي للعلم إلى المخالفة القطعية وهو قبيح، فبما ان البراءة في الطرف الثاني التدريجي وهو حرمة تصوير باقي البدن على فرض تصوير الوجه يؤدي إلى العلم بالمخالفة القطعية فلا يكون هذا الأصل جارياً، فتجري اصالة البراءة في الطرف الاول بلا معارض.

ولكن يلاحظ عليه كما قرر في الفقه: ليس العلم بالمخالفة القطعية محذوراً إنما المحذور في نفس المخالفة القطعية لا في العلم بالمخالفة القطعية، فالعلم بالمخالفة القطعية لا يمنع من جريان الاصل الترخيصي، مثلاً: إذا دارم الأمر بين مشكوك النجاسة ومشكوك الغصبية، مثلنا به سابقا: إذا لم يدري ان الف نجس أو ان باء مغصوب؟ احدهما، فهنا يقول الاعلام: بأن هذا العلم الإجمالي منحل لوجود خطاب مختصر في أحد طرفيه، باعتبار أن أصالة الحل في مشكوك النجاسة معارضة بأصالة الحل في مشكوك الغصبية، فتصل النوبة لأصالة الطهارة في مشكوك النجاسة وهو خطاب مختص. فيوجب فيوجب انحلال العلم الاجمالي.

ولكن لو فرضنا ان شخصا تناول مشكوك الغصبية فشربه، فبعد ان تناول مشكوك الغصبية فشربه هل يستطيع ان يقول: اذن لا تجري اصالة الطهارة في مشكوك النجاسة؟! لأنني لو أجريت اصالة الطهارة الآن في مشكوك النجاسة بعد ارتكابي لمشكوك الغصبية سوف تكون أصالة الطهارة في مشكوك النجاسة مؤدية للعلم بالمخالفة القطعية، لأن تناول مشكوك النجاسة بعد تناول مشكوك الغصبية تحصيل للعلم بالمخالفة القطعية، فهل يمنع العلم بالمخالفة القطعية جريان أصالة الطهارة في مشكوك النجاسة فيبقى العلم الإجمالي منجزاً؟

ليس كذلك، صحيح انك ارتكبت وتناولت مشكوك الغصبية، والآن لو تناولت مشكوك النجاسة حصل لك علم بالمخالفة القطعية، اجريت أصالة الطهارة أم لم تجري، أصالة الطهارة لا ربط لها في البين، انت على كل حال لو ارتكبت مشكوك النجاسة بعد ارتكاب مشكوك الغصبية حصل لك علم بالمخالفة القطعية، فجريان اصالة الطهارة في نفسه لا يؤدي إلى العلم، انما الذي يؤدي إلى العلم ارتكاب مشكوك النجاسة، والعلم بالمخالفة القطعية ليس محذورا في نفسه، فإذا لم يكن محذورا في نفسه تجري أصالة الطهارة في مشكوك النجاسة وتشربه بلا مانع. إذن مجرد العلم لا يمنع من جريان الاصل.

الوجه الثالث: ان جريان اصالة البراءة عن حرمة تصوير باقي البدن بعد تصوير الوجه لغو، لا من باب وجود منجز تفصيلي، لأنه لا يوجد منجز سابق، ولا من باب أن جريان الأصل يؤدي إلى العلم بالمخالفة القطعية، لأننا قلنا أن العلم بالمخالفة القطعية ليس محذوراً، وإنما من باب أن جريان اصالة البراءة عن تصوير باقي البدن بعد تصوير الوجه لغو، لأن تصوير الباقي بعد تصوير الوجه مخالفة قطعية موجبة لاستحقاق العقوبة، فأي اثر لجريان البراءة، صحيح ان البراءة لا تجري عن هذا المركّب، وإنما تجري عن المشكوك والمشكوك هو تصوير باقي البدن وانا ما زلت اشك، أي انني حتى بعد ارتكابي لتصوير الوجه ما زلت شاكاً في أن تصوير باقي البدن بعد تصوير الوجه حرام أم حلال؟ الشك ما زال موجودا فهي حرمة مشكوكة فلماذا لا تجري البراءة فيها؟

وأنا احتمل ان الشارع يقول لي أن علم بحرمة تصوير الوجه أو حرمة تصوير باقي البدن بعد تصوير الوجه فخالفت هذا العلم الإجمالي وخالفت تصوير الوجه أنا آمرك بالاحتياط بأن تجتنب تصوير البدن بعد تصوير الوجه، أو أرخص لك بأن اقول لك يجب الاحتياط بعدم تصوير الوجه فإن خالفت فأنت مرخص، هذا محتمل وهذا محتمل. فأنا صحيح بلحاظ الشك ما زلت مترددا حتى بعد تصوير الوجه، بلحاظ الحكم ما زلت شاكا حتى بعد تصوير الوجه، واحتمل انني بعد تصوير الوجه أن الشارع يقول لي احتط فلا تصور بقية البدن، أو يقول لي انت مرخص في تصوير باقي البدن بعد ان خالفت الاحتياط في الطرف الأول، كلا الأمرين احتملهما، إذن ما زلت شاكاً في الحكم، لكن هذا الشك في الحك ليس مبررا لجريان البراءة، فإن في جريانها الآن لغوا، لانني متى ما صورت باقي البدن بعد تصوير الوجه علمت باستحقاق العقوبة فلا أثر لجريان البراءة لأنها لا تؤمنني من العقوبة، فبما أنها ليست مؤمّنة من العقوبة جريانها لغو وإن كان هناك شك فعلي في حرمة تصوير باقي البدن بعد تصوير الوجه. ولذلك قلنا لا وجد منجز تفصيلي على هذا الطرف.

فإن قلت: بأنه يمكن علاج المشكلة بالتوبة، بأن يقال: بعد علم اجمالا اما بحرمة تصوير الوجه أو بحرمة تصوير باقي البدن بعد تصوير الوجه، إذا علم اجمالا بذلك فخالف العلم الإجمالي فارتكب تصوير الوجه، فيقول الان انا استطيع ان اتخلص من العقوبة، لأنه ان كان المحرم في حقي تصوير الوجه، فأنا الآن خالفت، فأتوب إلى الله توبة نصوحة، والتوبة مسقطة للعقوبة، وحرمة تصوير البدن بعد تصوير الوجه امر مشكوك فتجري البراءة، فبلحاظ الطرف الاول أؤّمن امن العقوبة عليه ببركة التوبة، وبلحاظ الطرف الثاني أؤمّن من العقوبة عليه ببركة جريان البراءة.

إذن ان كان المحرم في الواقع تصوير الوجه فلا عقوبة عليّ من جهته لأجل التوبة، وإن كان المحرم واقعاً تصوير باقي البدن بعد تصوير الوجه فالمفروض انه محرّم لم يصل أليّ فهو مجرى للبراءة، ومن استند إلى البراءة فلا عقوبة عليه. إذن استطيع ان اتخلص من هذه المسألة بالتمسك بالتوبة.

فلأجل ذلك تبقى المعارضة بين أصالة البراءة عن حرمة تصوير الوجه وبين أصالة البراءة عن تصوير باقي البدن بعد تصوير الوجه.

ولكن ذكرنا فيما سبق: لا نحرز شمول أدلة التوبة في فرض التجرّي بارتكاب احد طرفي العلم الإجمالي مشروطاً بجريان البراءة في الطرف الآخر. وبناء على ذلك: فالعلم الاجمالي في المقام غير منجز، لجريان البراءة عن حرمة تصوير الوجه بلا معارض، وبالتالي فلا يبقى فرق في المقام بين دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الواجبات والأقل والأكثر في المحرمات من حيث جريان البراءة. ألا إذا افترضنا تعدد الواقعة وقد سبق تصوير ذلك فيما مضى.

يأتي الكلام بعد العطلة «في شهر ذي القعدة» عن الأقل والأكثر في الشبهات الموضوعية، ثم شرائط جريان البراءة وما يمتد اليه البحث.

والحمد لله رب العالمين.