أصالة الصحة | الدرس 16

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين

التفصيل الثاني: من نسبه المحقق الأصفهاني إلى الشيخ الأعظم «قده» وهو التفصيل بين الشروط الشرعية والشروط العقلائية.

بدعوى: انه إذا كان منشأ الشك في صحة العقد هو الشك في شرط عقلائي فلا تجري أصالة الصحة، اما إذا كان منشأ الشك في صحة العقد هو الشك في الشرط الشرعي فهو مجرى لأصالة الصحة. مثلاً: إذا شُكَّ في العقد نفسه فقد يكون الشك في شرط في العقد وقد يكون الشك في شرط في العاقد، وقد يكون الشك في شرط في مورد العقد ومحله.

فلو كان الشك في شرط العقد نفسه، فإن كان الشرط في شرط شرعي كما إذا وقع الشك في صدور العقد بالعربية، عقد النكاح مثلاً، حيث يشترط في صحته شرعاً العربية، فإذا شككنا مثلاً في ان عقد النكاح هل صدر بالعربية أم لا؟ فهذا شك في شرط شرعي في نفس العقد، وهو مجرى لأصالة الصحة. اما إذا وقع الشك في شرط عقلائي في نفس العقد، كما إذا شككنا في أن العقد في ظرفه وقع غرريا أم لا؟ باعتبار ان مانعية الغرر بمعنى الخطر المالي شرط عقلائي في صحة العقد، فهنا لا تجري أصالة الصحة، وكذا كان منشأ الشك في الصحة الشك في شرط العاقد، فتارة نشك في أن العاقد عاقل أم لا؟ ذو ولاية على العقد أم لا؟ فهذا شك في شرط عقلائي في العاقد وليس مجرى لأصالة الصحة، وتارة نشك في ان العاقد بالغ أم لا؟ فهذا شك في شرط شرعي في العاقد وهو مجرى لأصالة الصحة.

وتارة يكون منشأ الشك في شرط في مورد العقد. فإن كان الشك في شرط شرعي كما إذا شككنا في ان المبيع كان خمراً أم عصيراً، كان عينا موقوفة أم ملكاً طلقاً، فهنا تجري أصالة الصحة. اما إذا كان منشأ الشك في الصحة الشك في شرط عقلائي في متعلق العقد كما إذا شك في المالية ان متعلق البيع هل كان ذا مالية أم لا؟ فهنا لا تجري أصالة الصحة.

وقد ذكر بعضهم أن اعتبار المالية في المبيع اعتبار عقلائي وليس اعتباراً شرعياً، هذه الدعوى تستند إلى ما ذكره في المصباح المنير: من ان المبيع تبديل مال بمال. فإن ما يتحدث عنه المصباح المنير هو البيع العقلائي لا البيع الشرعي، وبالتالي فتحديده البيع العقلائي من انه تبديل مال بمال دال على اعتبار المالية لدى المرتكز العقلائي في صحة البيع، وهذا ما اشكل عليه السيد الأستاذ «دام ظله» بحسب ما نقل عنه:

أولاً: بأن كتاب المصباح المنير ليس كتاباً لغوياً، وإنما ظاهر مقدمته وسياق كلامه انه في مقام شرح الالفاظ الغريبة التي وردت في بعض الكتب الفقهية للشافعي، فهو يبين ما هو المقصود من المصطلحات التي وردت في بعض الكتب الفقهية للشافعي وليس بصدد المعاني اللغوية للألفاظ بما هي.

ثانياً: ليس المال باصطلاح اللغوين، لو فرضنا كتاب المصباح من الكتب اللغوية فبمراجعة الكتب اللغوية الأخرى أن المال في مصطلح اللغويين كل ما يملكه الإنسان سواء كانت له قيمة سوقية أم لا؟ وبالتالي ما ذكر في الكتب اللغوية الأخرى من تفسير المال بالملك يصلح قرينة على ان مراد مصباح المنير من قوله: تبديل مال بمال، ليس هو اعتبار المالية لدى العقلاء بمعنى اعتبار ان يكون المبيع ذا قيمة سوقية، بل المراد بالمالية في كلامه بقرينة كلا غيره من اللغويين هو الملك، وبالتالي لا يصلح كلامه على الاستشهاد به على اعتبار المالية.

ثالثاً: إنّ ظاهر كلام المصباح المنير ولا اقل من احتمال ذلك: انه في مقام بيان البيع في بدو نشوه، بمعنى: أننا تارة نتحدث عما هو المفهوم اللغوي، أو ما هو المفهوم العرفي للبيع؟

وتارة نتحدث عن المصداق القائم للبيع عند العقلاء. فلو كان منظور كلام المصباح المنير لتعريف المفهوم اللغوي والعرفي للبيع وانه تبديل مال بمال فربما يقال حينئذٍ: بأن هذا دال على اعتبار المالية في البيع، ولكن عندما يقول بأن البيع لدى العقلاء في الفترات السابقة كان تبديلا ولم يكن تمليك عين بعوض، كما هو الآن، أي ان الصورة الفعلية لدى العقلاء عن البيع في أزمنة ما بعد اختراع النقود تختلف عن الصورة العقلائية للبيع عن أزمة ما بعد اختراع النقد، فالصورة العقلائية للبيع بعد اختراع النقود التي جعلها العقلاء واسطة في تبادل الأشياء هو تمليك عين بعوض. وأما قبل اختراع النقد كواسطة في تبادل الأعيان كان البيع عبارة عن تبديل مال بمال أي مبادلة عروض بعروض، فليس منظور كلام مصباح المنير ولا اقل من احتمال ذلك: تعريف مفهوم البيع لغة وعرفا، وإنما الاخبار عن المصداق العقلائي للبيع ما قبل اختراع النقد.

ومضافاً إلى ما ذكره السيد الأستاذ «دام ظله»: انه لو كان تعريف مصباح المنير أن البيع لغة وعرفا لدى العقلاء بما هم عقلاء هو عبارة عن تبديل مال بمال: فالشك في المالية مساوق للشك في أصل صدور البيع وعدمه لأن البيع متقوم عرفا بمالية العوضين، وبالتالي فعدم جريان أصالة الصحة في المقام لأجل عدم احراز الموضوع وهو البيع لا لأجل الشك في الصحة والفساد، فليس هذا من موارد الشك في الصحة كي نفصل بين الشرط العقلائي للصحة والشرط الشرعي.

النتيجة: هي ما ذكره المحقق الاصفهاني وغيره: انه تارة يكون مدرك أصالة الصحة هو سيرة المتشرعة، فيقال: بأن معقد سيرة المتشرعة عند الشك في الصحة هو ما إذا كان منشأ الصحة هو الشك في الشرط الشرعي، ولا نحرز اكثر من ذلك. وكذا إذا كان مدرك أصالة الصحة هو الاستناد لظاهر قوله في رواية حفص بن غياث: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» بناء على موضوعية لعنوان المسلمين وعدم النظر إليها على نحو الطريقية للسوق العقلائي، فحينئذٍ يقال: مقتضى هذا الذيل في رواية حفص بن غياث اختصاص أصالة الصحة بما إذا كان الشك ناشئا عن الشك في الشرط الشرعي. واما إذا كان مدرك أصالة الصحة حكم العقل بأنه لولا أصالة الصحة للزم اختلال النظام أو السيرة العقلائية على جريان أصالة الصحة فحينئذٍ لا وجه لتخصيصها بما إذا كان منشأ الشك في الصحة الشك في الشرط الشرعي.

التفصيل الثالث: هو التفصيل المنسوب إلى المحقق الثاني والعلامة «قده» وهو انه إن كان الشك في شروط العقد بما هو عقد كالشك في وقوع النكاح باللغة العربية أم لا؟ أو الشك في كون العقد غرريا في ظرفه أم لا؟ فهذا مجرى لأصالة الصحة. وأما إذا كان منشأ الشك في صحة العقد الشك في شرط في العاقد أم الشك في شرط في متعلق العقد فلا تجري أصالة الصحة حتى لو كان الشك في شرط شرعي.

وقد ذهب إلى هذا التفصيل العلمان المحقق النائيني والسيد الخوئي «قدس سرهما».

وهنا دليلان:

الدليل الاول: ما تعرض له المحقق النائيني «قده» كما في تقريرات بحثه: حيث أفاد: على ان الدليل على أصالة الصحة هو الإجماع والإجماع دليل لبي والقدر المتيقن من هذا الإجماع هو ما إذا وقع الشك في الصحة للشك في شرط من شرائط العقد.

وهنا عدة مناقشات لكلام المحقق النائيني «قده»:

الأولى: ما ذكره المحقق الاصفهاني في نهاية الدراية: من ان قصود معقد الإجماع غير ضائر بعد قيام السيرة العملية العقلائية على امضاء المعاملات المشكوكة وان كان منشأ الشك في شرط من شرائط العوضين أو المتعاقدين.

وهذا الاشكال كما هو واضح خروج عن مورد كلام المحقق النائيني حيث ان المحقق النائيني يرى ان المدرك التام لأصالة الصحة هو الإجماع لذلك قال: بأن القدر المتيقن من الإجماع هو فرض الشك في شرائط العقد دون شرائط المتعاقدين أو العوضين.

المناقشة الثانية: ما ذكره المحقق الاصفهاني أيضاً، حيث قال: ان الصحة والفساد وصفان للعقد على كل حال، سواء كان الشرط شرطاً في العاقد أو في العقد أو في العوضين فإن وصف الصحة إنما هو وصف للعقد نفسه، بمعنى ان أي شرط يعتبر في العاقد أو في العوضين فهو ليس شرط فيهما وانما هو شرط في صحة العقد، فيقال: يشترط في صحة العقد أمور، منها ما يرجع إلى نفس العقد ومنها ما يكون وصفا للعاقد ومنها ما يكون وصفاً للعوضين، وإلا فهذا الوصف للعاقد أو للعوضين هو بالنتيجة وصف لاتصاف العقد بالصحة، وليس شرطاً في اتصاف العاقد أو اتصاف العوضين بالصحة، فإذا كان شرطا مباشراً في اتصاف العقد بالصحة شمله معقد الإجماع، لأن معقد الإجماع الفقهي هو البناء على صحة العقد عند الشك فيه ومقتضى هذا المعقد هو جريان أصالة الصحة متى ما وقع الشك في اتصاف العقد بالصحة، سواء كان منشأ الشك في اتصاف العقد بالصحة وصفاً للعقد أو وصفاً للعاقد أو وصفاً للعوضين، فإنه مشمول لمعقد الإجماع لدى الفقهاء.

ولكن قد يقال: بأن المراجعة للتعبيرات الواردة في كلام الفقهاء تظهر انهم إذا كانوا يتحدثون عن العقد فيصفونه بالصحة والفساد، واما إذا كان يحدثون عن المتعاقدين فيصفونهما بالأهلية وعدم الأهلية، وإذا كانوا يتحدثون عن العوضين فيصفونهما بالقابلية وعدم القابلية.

فالمحقق النائيني يقول: صحيح ان هذه الشرائط وهو ما كان وصفا للمتعاقدين أو وصفا للعوضين، شرط شرعي في صحة العقد أي شرط شرطي في ترتب الأثر الفعلي على العقد، هذا لا نمانع منه.

إنما نحن نقول: لدينا معقد إجماع، وهو لدينا قام إجماع الفقهاء على صحة العقد عند الشك فيه، وهذا المعقد له قدر متيقن، والقدر المتيقن منه ما إذا وقع الشك في صحة العقد للشك في شرط من شروطه، للشك في شرط من شروط نفس العقد، نحن لا ندعي بأن ما كان وصفاً للمتعاقدين وما كان وصفاً للعوضين ليس شرطاً شرعياً في صحة العقد، بل هو شرط شرعي في صحة العقد، لكننا ندعي ان هذا المعقد له قدر متيقن، والقدر المتيقن منه: ما إذا وقع الشك في صحة العقد للشك في شرط من شروطه.

فإن قيل: ما هو منشأ شككم في إطلاق معقد الإجماع كي تقتصروا على القدر المتيقن؟

قلنا: بأن منشأ شكنا واحتمالنا أن مراد الفقهاء في قولهم بالبناء على الصحة عند الشك في الصحة أنهم يريدون ما إذا وقع الشك في صحة العقد للشك في شرط من شروطه منشأ احتمال انهم يريدون خصوص هذه الحصة انهم يعبّرون عن وصف العقد بأنه صحيح أو فاسد بينما يعبّرون عن وصف المتعاقدين أو وصف العوضين بالأهلية والقابلية. فاختلاف تعبيرهم أثار احتمال ان يكون معقد اجماعهم خصوص ما إذا وقع الشك في صحة العقد للشك في شرط من شروط نفس العقد. فتأمل.

المناقشة الثالثة: ما ذكره المحقق الاصفهاني: ان الدعوى المذكورة تبتني على انعقاد اجماعين قوليين: احدهما في باب العبادات، أي بناء على صحة العبادة عند الشك فيها. والآخر: في باب العقود والإيقاعات، أي انعقاد اجماع على صحة العقد والإيقاع عند الشك فيهما. وهذا مما لا اثر له. بلحاظ انه: معقد الإجماع الشك في صحة كل عمل ذي أثر سواء كان العمل عبادياً أم معاملياً، فلم يقم اجماع على الصحة في العقود كي يقال بأن ظاهر تعبيرهم بالبناء على الصحة في العقود عند الشك في الصحة الشك في صحة العقد الناشئ عند الشك في شرط من شروط العقد، لا يوجد هذا في كلمات الفقهاء، بل ما قام عليه اجماع الفقهاء ونقح معقد اجماعهم: هو البناء على الصحة عند الشك في عمل ذي اثر سواء كان عبادة أم معاملة.

ولكن قد يدعي المحقق النائيني: بأنه لا أرى وجود إجماع على صحة كل عمل ذي اثر. بل ما ثبت ليس بمقتضى تتبعي فتاوى الفقهاء هو قيام إجماعهم على صحة العقود والإيقاعات، وأما وجود إجماع على صحة كل عمل ذي اثر فهذا لم يثبت عندي، ولو فرض ثبوته في العبادات فهو بمعقد آخر. فتأمل.

المناقشة الرابعة: ما أشار إليه السيد الأستاذ «دام ظله» بأن القدر المتقين من معقد إجماعهم لم يحرز انه في خصوص شروط العقد بما هو عقد، فقد ذكر سيد العروة في ملحقات العروة بعض الشروط الراجعة للعوضين، كاشتراط ان يكون ملكاً طلقا، أو بعض الشروط الراجعة للمتعاقدين كاشتراط ان يكون البائع ذا ولاية على البيع ذكر بأن هذا مما قام عليه الإجماع، أي إذا شك في هذين الموردين فقد قام الإجماع على ترتيب أثر الصحة مع كون الشك شكا في شرط العاقد أو شرطا في العوضين.

فلم يحرز أن القدر المتيقن هو ما إذا كان الشك في الصحة ناشئا عن الشك في شرط من شروط العقد.

هذا الدليل الأول الذي استدل به على اختصاص أصالة الصحة بالشك في شروط العوضين.

يأتي الكلام عن الدليل الثاني الذي ذكره سيدنا الخوئي «قده» في مصباح الأصول.

والحمد لله رب العالمين.