عروبة القرآن، عنصر إيجابي أم سلبي

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث في محاور ثلاثة:

  • في خصائص اللغة.
  • وفي أن اللغة فعل وليست انفعالًا.
  • وفي أن عروبة القرآن عامل إيجابي وليست عاملًا سلبيًا.
المحور الأول: خصائص اللغة.

اللغة وسيلة التواصل بين المجتمع البشري، بل هي وسيلة تفكير أيضًا، حيث إن كثيرًا من المفاهيم يعبر عنها الإنسان ويفكر فيها بينه وبين نفسه عبر اللغة، كما أن اللغة وسيلة تواصل هي أيضًا وسيلة تفكير، فكثير من المفاهيم لا يستطيع الإنسان أن يفكر فيها إلا إذا كانت ضمن لغة يفهمها، اللغة هل هي أمر فطري أم أنها أمر اكتسابي؟ نأتي إلى ما يذكره «نعوم تشومسكي» عالم اللغويات في جامعة «إم آي تي» في الولايات المتحدة، يتحدّث عن خصائص اللغة:

الخصوصية الأولى: القدرات الثلاث.

اللغة تتضمّن ثلاث قدرات: القدرة على الترميز، والقدرة على التركيب، والقدرة على تفعيل الضوابط. القدرة على الترميز: الإنسان يجعل رموزًا للمفاهيم حتى يستطيع أن يعبِّر عنها، فالقدرة على الترميز هي التي تقود للغة، لأن هذه الرموز هي التي يضعها على المفاهيم ليقوم بالتعبير عنها. القدرة الثانية: القدرة على التركيب، الإنسان يقوم بوضع ضوابط لتركيب الجمل ولتركيب الكلمات، من خلال هذه الضوابط تتم عملية التركيب. وهناك قدرة على التفعيل، يعني بعد أن يضع الضوابط يكون ذا قدرة ذاتية على تفعيل على هذه الضوابط في مواردها.

الخصوصية الثانية: الفطرية.

يذكر «تشومسكي» أنَّ اللغة أمر جيني، يعني لم يكتسبه الإنسان وإنّما هو مدمج في فطرته، من جملة جينات الإنسان الجين اللغوي، لديه جين مسؤول عن هذا الدور، دور اللغة، فاللغة مدمجة في فطرته، مدمجة في جيناته، لا أنّ اللغة أمر اكتسابي، كيف؟ يقول لك: أولًا: القدرة على الترميز لا يحتاج أن يكتسبها الإنسان، هو بفطرته يرمّز في ذهنه للأشياء، حتى لو لم يعرف اللغة يضع رموزًا من ذهنه للأشياء التي حوله، وللمفاهيم التي يتلقاها. تأتي إلى القدرة على وضع الضوابط، ربما يقول الإنسان: نحن نرى البشر مختلفين في اللغات، كيف تصبح اللغة أمرًا فطريًا مع أن اللغات مختلفة، حتى قال القرآن الكريم: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ، اللغات مختلفة فكيف تكون فطرية؟

«تشومسكي» يقول: أصول اللغة هي مشتركة، جميع اللغات تشترك في أصول واحدة، كل لغة فيها فعل وفاعل ومفعول به وماض وحاضر ومستقبل وروابط، الأصول الأساسية للتركيب الكلامي موجودة في جميع اللغات، مما يكشف عن أنَّ هذه الأصول فطرية، وإلا لماذا اتفقت كل اللغات على هذه الأصول، أصول التركيب الكلامي؟ هذا دليل على أنَّ مبدأ اللغة - يعني مبدأ وضع الضوابط اللغوية - هو مبدأ جيني وفطري وليس مبدأ اكتسابيًا. القدرة الثالثة: القدرة على تفعيل الضوابط، تلاحظ الطفل بمجرد أن يبدأ ينطق لا تحتاج إلى أن تعلّمه كل كلمات اللغة العربية، أنت تعلمه بعض الكلمات، تقول له انطق هذا اللفظ كذا ولا تنطقه كذا، بعد ذلك هو بشكل ميكانيكي ذاتي يبدأ يبرمج ما حفظ ويطبّقه على الكلمات، هو بنفسه يفعّل الضوابط اللغوية على الكلمات التي ينطقها من دون حاجة إلى تعليم جديد، وهذا يعني أنّ القدرة على التفعيل أيضًا قدرة جينية وفطرية لدى الإنسان.

الخصوصية الثالثة: الانفجار اللغوي.

متى بدأت اللغة؟ توجد حفريات كتابية على أنَّ الكتابة موجودة منذ عشرة آلاف سنة، لكن لا توجد عندنا حفريات على اللغة ومصدر اللغة، لذلك عند المراجعة لتاريخ الإنسان نجد الإنسان الصنّاع يشبه الإنسان الحالي، كانت عنده بعض الحرفيات، بعض الصناعات، هذا الإنسان الصنّاع كان موجودًا قبل خمسة ملايين سنة، اكتشفوا في تركيبة دماغه مركز مسؤول عن القدرة اللغوية، معناه أنه كانت لديه القدرة، نطق أم لم ينطق هذا شيء آخر.

الإنسان «نيان درتال» كان موجودًا قبل 350 ألف سنة وانقرض قبل 24 ألف سنة، هذا ابن عم الإنسان الحالي، لا يشبه الإنسان الحالي تمامًا، نستطيع أن نقول أنه ابن عمّه، كانت حنجرته في أعلى العنق، يعني قدرته على الحديث والصوت صعبة، مثل الطفل أول ما يبدأ ينطق تكون قدرته صعبة، كذلك هذا الإنسان. إذن، اللغة لا نستطيع أن نحدّد مبدأ لها، ولكن نقول بأنَّ اللغة عاشت نوعًا من الانبثاق والانفجار، لا كما يقول الدراونة، الدراونة يقولون: اللغة تطور تدريجي، هذا العالم يقول: لا، كل الشواهد العلمية تؤكّد أنَّ اللغة انبثقت هكذا، يعني اجتمعت القدرات الثلاث، القدرة على الترميز، والقدرة على وضع الضوابط، والقدرة على تفعيلها، اجتمعت القدرات الثلاث عند الإنسان فتفعّلت اللغة عنده بشكل انبثاقي، كما يعبِّر عنه بالانفجار اللغوي، مثل الانفجار الكوني عندنا انفجار لغوي.

المحور الثاني: هل اللغة فعل أم انفعال؟

أحد الباحثين الإيرانيين يقول: القرآن صياغة من النبي وليس وحيًا باللفظ من الله، النبي استلهم بعض المضامين، استلهم بعض المعاني الإلهية، هذا مؤكد، وصل إليه المضمون الإلهي، لكن صياغة هذا المضمون جاء عبر لغة النبي، ثقافة النبي، هو قام بذلك، لماذا؟ لأنَّ اللغة قوة انفعالية، كيف ننسبها إلى الله؟ الإنسان لديه قوى انفعالية، مثل قوة الغضب، إذا أسيء للإنسان يغضب، هذا انفعال، كذلك قوة الشهوة، إذا تعرّض الإنسان لمغريات تثور شهوته، فهي قوة انفعالية، كذلك قوة الرقة، إذا رأى الإنسان مشهدًا مروعًا يرقّ قلبه، هذه القوى الانفعالية لا يمكن نسبتها إلى الله، لا يمكن أن نقول: الله يشتهي ويرق، نسبة القوى الانفعالية إلى الله تعني أنّ الله محدود، لأن المنفعل محدود، بينما الله وجود لامحدود، بما أنه وجود لامحدود فلا يمكن أن يكون منفعلًا لبعض الأشياء الأخرى، بل هو المؤثر وليس المتأثر. إذن، اللغة لا ننسبها إلى الله، لا نستطيع أن نقول لغة القرآن من الله، وأنّ القرآن كلام الله، لأن اللغة أمر انفعالي، والقوى الانفعالية لا يمكن نسبتها إلى الوجود اللامحدود، وهو الله عز وجل.

مناقشة هذه النظرية:

هذا الكلام غير صحيح، لماذا؟

أولًا: اللغة من مقولة الفعل وليس من مقولة الانفعال، اللغة هي متفرّعة على القدرة التفكيرية، أنت تملك قدرة على التفكير، من شؤون قدرتك على التفكير القدرة اللغوية، من أين جاءت القدرة اللغوية؟ من قدرتك على التفكير، ولذلك العلماء يقولون: حتى المجنون إذا كان يستطيع أن يتكلم فله نصيب من التفكير، أنت لا تستطيع أن تتكلم حتى تفكّر، لا تستطيع أن تتكلم كلامًا اختياريًا حتى تفكر ولو ثانية واحدة، الفكرة تأتي إلى ذهنك، الألفاظ المناسبة للفكرة تأتي إلى ذهنك ثم تتكلم، الكلام فرع التفكير لا محالة، إذن القدرة اللغوية من شؤون القدرة على التفكير، وبما أنّ القدرة على التفكير من مقولة الفعل، فعل يصدر من الإنسان، فكذلك اللغة، القدرة اللغوية من مقولة الفعل.

ثانيًا: لنفترض أنّ اللغة قوة انفعالية، النتيجة لا تتغير، لأن القرآن بحسب معتقدنا نحن الإمامية مخلوق كسائر المخلوقات، كما أنّ الله أبدع الإنسان، أبدع الملك، أبدع الكون، كذلك أبدع القرآن، القرآن مخلوق من المخلوقات، هذا القرآن بلفظه وصيغته مخلوق، يعني أبدعه الله وأحدثه، وليس القرآن قديمًا، القديم واحد وهو الله تبارك وتعالى، أما القرآن عندما يقول: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا فهذا لا يعني أنّ الله له لغة، الله ليس جسمًا حتى تكون له لغة ويكون له صوت، كلّم الله موسى يعني خلق الكلام عبر الشجرة فسمعه موسى ، ولذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ الله ليس عنده لغة وصوت حتى يكلمك أنت أيها البشر ﴿إِلَّا وَحْيًا يعني يوحي إلى قلبه ﴿أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ يعني يخلق كلامًا في جماد معين فتسمعه ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا يعني ملكًا من الملائكة ﴿فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا.

إذن القرآن محدَث، مخلوق، سواء اعتبرت اللغة من قوة الانفعال أو اعتبرتها من قوة الفعل، القرآن مخلوق، فلا يصحّ الاستدلال على أنَّ القرآن صياغة بشرية من قبل النبي، لماذا القرآن صياغة بشرية؟ لأنّ اللغة انفعال! فلتكن انفعالًا، هذا لا يدلّ على أنّ القرآن صياغة بشرية، لأن القرآن بالنتيجة مخلوقٌ من قبل الله تبارك وتعالى، ولذلك يقول القرآن الكريم: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ يعني القرآن محدث، ويقول في آية أخرى: ﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ.

المحور الثالث: عروبة القرآن.

القرآن نزل القرآن باللغة العربية، فهل عروبة القرآن عامل إيجابي أم هي عامل سلبي؟ هل هي بصالح الوحي أم ليس بصالح الوحي أن ينزل باللغة العربية؟

هنا الباحث الإيراني الدكتور «سروش» يقول: القرآن صياغة النبي، لأن القرآن يركّز الثقافة العربية، الأمثلة التي يطرحها القرآن عربية، ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ، ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً، ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، السراب والحمار والكلب والإبل كلها أمثلة عربية، الإبل يعيش في الجزيرة العربية، لا يعيش في أوروبا. أيضًا تأتي إلى الحيوانات والفواكه من اللغة العربية، القرآن يذكر الذئب والقردة والخنازير، ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً، كلها حيوانات تعيش في الجزيرة العربية. عندما يأتي إلى الفواكه يقول: ﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ، ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، يذكر الفواكه الموجودة في الجزيرة العربية، لا يذكر مثلًا البرتقال أو الكيوي، هذه لا تزرَع في الجزيرة العربية.

الثقافة التي يطرحها القرآن هي ثقافة عربية، عندما يقول: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، العرب هم الذين يعتقدون أنَّ الشيطان يمسّ الإنسان ويتلبّس بجسم الإنسان، فجاءت هذه الآية على طبق الثقافة العربية. حتى عدد الشهور، العرب يمشون على الهلال القمري، القرآن أيضًا قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ. حتى الجنة، الجنة القرآن يصوّرها تصويرًا عربيًا، ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ، هذا الإنجليزي ما هو ربطه بالخيام؟! العربي هو الذي يتوجه إلى حور مقصورات في الخيام، أو يقول: ﴿وَحُورٌ عِينٌ، العين جمع عيناء، العيناء هي المرأة التي يكون لعينها سواد، هذه نقطة جمال عند العرب، سواد العين، بينما هي ليست نقطة جمال عند قوميات أخرى.

إذن بالنتيجة: القرآن يركّز الثقافة العربية، لو كان القرآن صياغة من الله لما ركّز على الثقافة العربية، لركّز على الثقافة المشتركة بين المجتمعات البشرية، بينما القرآن يركّز على الثقافة العربية، هذا دليل على أنه من قبل النبي. ما هو جوابنا على هذه الفكرة؟ هنا عندنا عدة ملاحظات:

الملاحظة الأولى: لماذا نزل القرآن باللغة العربية ولم ينزل بلغة أخرى؟

القرآن لهداية البشر جميعًا، هو يقول: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وهو يقول: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ، القرآن كتاب هداية للمجتمعات البشرية، لكن بما أنَّ هناك قومًا من المجتمعات البشرية لا يمكن هدايتهم إلا إذا نزل القرآن بلغتهم، وإلا لا يهتدون، هنالك قوم من البشر لا يهتدون حتى ينزل القرآن بلغتهم وثقافتهم، فإذن القرآن نزل باللغة العربية باعتبار أنّ هناك قومًا لا يهتدون حتى ينزل القرآن بلغتهم وثقافتهم، وهؤلاء القوم كانوا يشكّلون ثلث العالم أيام نزول القرآن، وهم العرب، العرب لا يهتدون لولا أنّ القرآن نزل باللغة العربية.

هو القرآن الكريم نفسه يقول: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ، ويقول في آية أخرى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ، لا يعجبهم، أحضر لنا قرآنًا واضحًا مفصّلًا! ﴿أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. إذن، نزول القرآن باللغة العربية لا لأن النبي صاغه باللغة العربية، بل لأنّ القوم الذين احتضنوا النبي وكانوا ثلث العالم ما كانوا مستعدين للهداية لولا نزول القرآن بلغتهم وبثقافتهم.

الملاحظة الثانية: مقتضى الحكمة انسجام الهدف مع الوسيلة.

أنت عندما تؤسّس شركة لهدف تجاري معين، فلا بد من أن تختار الوسيلة المناسبة لتحقيق هذا الهدف، يعني تشكّل في الشركة برامج تؤدي إلى تحقيق الهدف، هذا مقتضى الحكمة، عدم الانسجام بين الوسيلة والهدف يعني نقض الغرض، نقض الغرض يتنافى مع الحكمة، لذلك لا بد من الانسجام بين الهدف والوسيلة. القرآن له هدفان رئيسيان:

الهدف الأول: انصهار النبي بالقرآن.

القرآن لم ينزل على النبي حتى يستمعه النبي ويبلّغه! النبي ليس ساعي بريد، ليس مجرّد وسيلة نقل، ليس مجرّد جهاز تعبّئه ليترجم! لم يكن النبي وسيلة نقل ولا ساعي بريد، الهدف من نزول القرآن عليه أن ينصهر النبي بالقرآن، أن يتحول القرآن جزءًا من شخصية النبي ، أن يصبح النبي قرآنيًا، القرآن يتحول إلى جزء من شخصية النبي، هذا هدف للقرآن الكريم، ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا الروح هي المفاهيم المجردة التي حملها القرآن إلى النبي ، أين نزلت؟ نزلت على قلبه، التعبير بالقلب دقيق، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ، لماذا قال على قلبك؟ يعني أنت لست ساعي بريد حتى تسمع من هذه الأذن وتبلّغ باللسان، بل المطلوب أن يعيش قلبك بالقرآن، أن ينصهر قلبك بالقرآن، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.

إذا كان الهدف من نزول القرآن انصهار النبي بالقرآن، فما هي الوسيلة المضمونة لتحقيق هذا الهدف؟ الوسيلة المضمونة أن ينزل القرآن بلغة النبي، لأنه لو نزل بلغة أخرى فإننا لا نضمن انصهاره مع القرآن، نحن لا نتحدث عن خصائص النبي التي نستفيدها نحن من الروايات، حتى نقول النبي هو أشرف من القرآن، هو أفضل من القرآن، هذا ما استفدناه من الروايات، نحن نتحدث بمنطق عقلي أمام من ينكر أنّ القرآن صياغة إلهية، ويدّعي أنّ القرآن صياغة بشرية محمدية، في مقابل هذه الدعوى نقول له: الهدف أن ينصهر النبي بالقرآن، حتى يتحقق هذا الهدف ما هي الوسيلة المضمونة؟ الوسيلة المضمونة أن ينزل القرآن بلغة النبي وبثقافة النبي، إذ لو نزل بلغة أخرى وبثقافة أخرى لم نضمن انصهار النبي بالقرآن وتفاعل النبي مع القرآن، إذن السر في عروبة القرآن أنّ المنزَل عليه هو إنسان عربي، فلكي نضمن انصهاره بالقرآن نزل القرآن بلغته وثقافته.

الهدف الثاني: انصهار القاعدة الشعبية بالقيادة النبوية.

يظهر من الآيات القرآنية أنَّ من الأهداف أن يكون النبي قيادة، المطلوب أن يكون النبي قيادة لا مجرّد مبلّغ كسائر المبلّغين، لاحظ هذه الآية: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ يعني هناك قائد وهناك قاعدة تدعم هذا القائد، ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، هناك هدف، أن يكون النبي قائدًا، والقيادة لا تتحقق بدون قاعدة، قاعدة شعبية، قاعدة اجتماعية، هذه القاعدة الشعبية الاجتماعية تكون معدَّة للتضحية والبذل والعطاء في سبيل القيادة، وإلا لا تتحقق قيادة، إذن الهدف أن يكون النبي قائدًا، والقيادة تحتاج إلى قاعدة، ولا يمكن أن يتحوّل العرب إلى قاعدة، ولا يمكن أن يتحوّل قوم النبي إلى قاعدة ما لم ينصهروا بالقرآن، وانصهارهم بالقرآن يتوقّف على نزول القرآن بلغتهم وثقافتهم، هذا هو السر.

ولذلك ترى القرآن بدأ بالعشيرة كقاعدة، قال: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، هذه أول قاعدة انطلق منها النبي، فنتج علي والحمزة وجعفر وأبو طالب، شكّلوا القاعدة الأولية لانطلاقة الدعوة، ثم اتسعت القاعدة لمكة ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا، ثم اتسعت القاعدة إلى العالم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، بما أنّ النبي قيادة والقيادة تحتاج إلى قاعدة، إذن النبي كان يحتاج في أول الدعوة إلى قاعدة، قاعدة تؤمن به، تنصره، تدعمه، فهذه القاعدة لم تكن قومه، العرب، أهل مكة، فما لم ينزل القرآن بلغتهم وثقافتهم لن تتشكل القاعدة، ولن تترتب القيادة، فيضيع الهدف القرآني الذي من أجله نزل القرآن.

الملاحظة الثالثة: محدودية الثقافة العربية في القرآن.

نحن عندما نقول: القرآن ركّز الثقافة العربية، هذا دليل على أنَّ القرآن من النبي لا من الله، فهل فعلًا القرآن ركّز الثقافة العربية؟ فلنأخذ نسبة، كم نسبة الثقافة العربية إلى الثقافة العامة؟ إذا جمعنا كلّ الآيات التي تحدّثت عن الثقافة العربية، تحدّثت عن أمثلة عربية، عن فواكه، عن حيوانات، لو جمعناها كلها فإنّها لن تشكّل ثلاثين آية، آيات القرآن الكريم 6223 على بعض الترقيمات، عشرين أو ثلاثين آية من 6223 آية هل هذا مؤشر علمي منطقي على أنَّ القرآن صياغة من النبي؟! لو كان حجم الثقافة العربية في القرآن حجمًا واضحًا، حجمًا معتدًا به، يشكّل 20% أو 30% مثلًا لقلنا هذا مؤشر على أنّ القرآن من النبي، لأنه يركّز الثقافة العربية، أما إذا كانت نسبة الثقافة العربية لا تصل إلى 2% فهذه لا تصلح بحسب دليل حساب الاحتمالات أن تكون مؤشرًا على أنّ القرآن صياغة النبي وليست صياغة إلهية.

الملاحظة الرابعة: الفرق بين النفس الأدبي القرآني والنبوي.

قراءة النفس الأدبي هي الفيصل الحاكم في هذه المسألة، كيف؟ في علم الأدب، حتى توثق النص تحتاج إلى قراءة النفس الأدبي، فمثلًا: إذا جاءتك هذه الأبيات منسوبة للمتنبي، قيل لك: المتنبي يقول في مدح الإمام علي :

وتركت    مدحي   للوصي   iiتعمّدًا
وإذا  استطال  الشيء  قام  iiبنفسهِ
  إذ   كان   نورًا   مستطيلًا  iiشاملا
وصفات ضوء الشمسِ تذهب باطلا

أنت عندما تقرأ هذه الأبيات كيف تثبت أنها للمتنبي؟ يعني تقارن بين النفس الأدبي لهذه الأبيات وبين النفس الأدبي لديوان المتنبي، نتيجة المقارنة تكتشف أن النفس واحد، والأسلوب واحد، إذن هذه طريقة لتوثيق النص، كل إمام من الأئمة له نفس أدبي، الإمام علي له نفس أدبي يتميّز به في خطب نهج البلاغة وأدعيته، الإمام الحسين له أدب نفسي آخر يتميز به في خطبه وأدعيته، الإمام زين العابدين له نفس ثالث في أدعيته الواردة، كل إمام له نفس أدبي يتميز به.

أيضًا النبي كان له نفس أدبي، النبي له كلمات، له خطب، له أحاديث، له نفس معيّن، إذا قارنا بين النفس الأدبي للنبي والنفس الأدبي للقرآن نجد اختلافًا شاسعًا، لا يلتقي النفس الأدبي مع النفس الأدبي للقرآن، لا من حيث الروح، لا من حيث الأسلوب، لا من حيث النسق، فمع اختلاف النسق الأدبي نكتشف أنّ القرآن ليس من صياغة النبي المصطفى ، وإنما هو وحي من الله عز وجل، لذلك قال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وقال في آية أخرى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، النفس الأدبي مهم في قراءة النصوص.

أضرب لك مثالًا: بعض الباحثين هو من الشيعة لكنه كتب عن خطبة الحسين التي قالها يوم خروجه من مكة، وقف على الصفا وقال: ”خُطَّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة“، قال: هذه لم تثبت للحسين، لأن المصادر القديمة - مثل الإرشاد للشيخ المفيد، والمناقب لابن شهرآشوب - ما نقلت هذه الخطبة، لو كانت للحسين لنقلتها أقدم المصادر، إذن هذه الخطبة لم يثبت أنها للحسين ، كيف نجيب؟ كيف نرد؟

أولًا: المصادر القديمة ما كانت تعتني بالتفاصيل، كانت تذكر رؤوس أقلام، حتى بالنسبة إلى سيرة النبي، أقدم المصادر كانت تنقل رؤوس أقلام عن سيرة النبي، عن سيرة المرتضى، عن سيرة الحسين، فلم تكن في مقام التفصيل والاستقراء حتى نستدل بسكوتها على أنّ الخطبة لم تثبت للحسين.

ثانيًا: تعدّد المصادر قرينة على صدور الخطبة، عندنا مصادر متعددة لهذه الخطبة، مثلًا: ابن نما الحلي في كتابه «مثير الأحزان»، «اللهوف» للسيد ابن طاووس، «كشف الغمّة» للأربلي الشافعي، «نزهة الناظر» للحلواني، «بحار الأنوار» للمجلسي، «العوالم» للبحراني، كلّ هذه الكتب نقلت الخطبة، مع أنّ أصحاب هذه الكتب متباعدون من حيث المكان، ولم تكن في تلك الأزمنة طباعة حتى يتناقلوا، أصحاب هذه الكتب مع تباعدهم من حيث المكان اتفقوا على نقل هذه الخطبة، هذه قرينة تؤدّي إلى الوثوق بصدور الخطبة عن الحسين .

ثالثًا: النفس الأدبي، قارن هذه الخطبة مع خطب الحسين، دع هذه الخطبة أمامك واقرأ خطب الحسين يوم عاشوراء، اقرأ دعاء الحسين يوم عرفة، تجد النفس الأدبي واحدًا، الأسلوب واحدًا، النسق واحدًا، كأن هذه الخطبة مع خطبة الحسين يوم عاشوراء وردتا في سياق واحد تمامًا، النفس الأدبي قرينة مهمة على الوثوق بالصدور، ولذلك نحن نتتبع كلمات الحسين ونقيسها على أوثق خطبة له، وهي خطابه يوم عاشوراء، هذا الخطاب الذي يهزّ المشاعر، يهزّ الضمير، يهزّ الفؤاد. العلائلي - الكتاب اللبناني المعروف - يقول: إذا وصلت إلى هذه الكلمة يرتعش مني الفؤاد، ما هي هذه الكلمة؟ ”إني زاحفٌ بهذه الأسرة مع قلّة العدد وخذلان الناصر“، ما هذا الإنسان الذي يزحف بأهله وذويه وأسرته كلها إلى الموت؟!

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
محمد المختار جوب
[ تياس السنغال ]: 13 / 9 / 2018م - 7:21 م
سماحة السيد نسأل الله أن يديم ظلكم الشريف . اللفة العربية هي اللغة الوحيدة القادرة على استيعاب الهداية القرآنية.