الروح الانسانية في الفلسفة وَعلم النفس

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث في محورين:

  • في تحليل مفردات الآية.
  • وفي بيان حقيقة النفس الإنسانية.
المحور الأول: تحليل مفردات الآية.

الآية المباركة تتضمّن مفردتين: المفردة الأولى هي الروح، والمفردة الثانية هي الأمر، فما معنى كل من المفردتين؟

المفردة الأولى: الروح.

ما هي الروح في القرآن الكريم؟ الروح أطلقها القرآن الكريم على عدّة موارد:

المورد الأول: مخلوق أعظم شأنًا من الملائكة، القرآن الكريم عندما يقول: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ، الروح غير الملائكة، ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، الروح غير الملائكة، ورد في الروايات الشريفة: الروح مخلوق أعظم شأنًا من الملائكة.

المورد الثاني: القرآن يطلق الروح على جبرئيل ، وهو من الملائكة، مثلًا: في قوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ، روح القدس والروح الأمين جبرئيل .

المورد الثالث: أنّ القرآن يطلق الروح على بعض الأنبياء، مثل عيسى، يعبّر عن عيسى بأنه روح الله، القرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، عيسى بن مريم روحٌ من الله عزّ وجلّ.

المورد الرابع: أنّ القرآن الكريم يسمّي نفس القرآن روحًا، يعبّر عن القرآن نفسه بأنه روح، يعبّر عن الوحي بأنه روح، يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا يعني إلهام بدون واسطة، يكلمه بالوحي يعني يلهمه، ﴿أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ يعني واسطة، ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، موسى نودي من الشجرة، سمع صوتًا من الشجرة، هذا معنى من وراء حجاب، ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا إما إلهامًا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولًا، يعني ينزل عليه ملكًا، ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ يعني يوحي الملك بإذن الله ﴿مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ يعني يا رسول الله أنت أعطيناك الأقسام الثلاثة، أوحينا إليك عن طريق الإلهام، أوحينا إليك عن طريق جسم خارجي، أوحينا إليك عن طريق إرسال رسول، وهو جبرئيل، ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا، ما هو الروح الذي أوحاه الله إلى النبي؟ القرآن، لأن الملك لا يوحى، الملك واسطة في الوحي، الذي يوحى هو القرآن، هو الكتاب السماوي، ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا، إذن القرآن يسمّي القرآن نفسه بأنه روح، يعبّر عن الوحي بأنه روح.

المورد الخامس: أنّ القرآن يطلق كلمة الروح على الإيمان الذي يغمر قلوب المؤمنين والأنبياء، القرآن يقول عن عيسى بن مريم: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، ويقول عن المؤمنين: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ.

إذن كلمة الروح في القرآن أطلقت على موارد متعددة، يجمع هذه الموارد كلها عنوان الحياة، الروح تساوي الحياة، الروح هي الحياة، لكن الحياة لها مصاديق، حياة ملائكية، جبرئيل روح، حياة إيمانية ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، حياة وحيانية ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا، الحياة لها مصاديق، لها موارد، لها مجالات متعدّدة، الروح هي الحياة، لكن تبعًا لاختلاف مصاديق الحياة واختلاف موارد الحياة تلاحظ القرآن أحيانًا يطلق الروح على جبرئيل لأنه مصدر حياة، يطلق الروح على القرآن لأنه مصدر حياة، يطلق الروح على عيسى بن مريم لأنه مصدر حياة، يطلق الروح على الإيمان لأنه مصدر حياة، إذن الروح هي الحياة، وما ذكره القرآن موارد ومصاديق للحياة.

المفردة الثانية: الأمر.

﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، ما هو معنى كلمة أمر؟ دعني أشرح لك بصورة واضحة. كل موجود مادي، كل مخلوق أنت تعيشه يتألف من صفتين: صفة وجود وصفة إبداع، صفة تسوية وصفة نفخ، دعني أبين لك بالمثال. مثلًا أنا عندما أريد أن أرسم لوحة زيتية على الحائط، أجمع الألوان والأصباغ والمواد ثم أقوم بوضعها بشكل هندسي دقيق، المرحلة الأولى أن أضع الألوان والمواد بشكل هندسي دقيق على الحائط، هذا الوضع يسمّى عملية تسوية، يسمّى عملية خلق، لكن أنا أحتاج إلى مرحلة ثانية، وهي التي تسمّى سر الصنعة، سر المفتاح، كما يقولون: سر المفتاح في مفتاح السر، المرحلة الثانية هي اللسمات الأخيرة، أضع لمسات فنية على اللوحة تجعل اللوحة جذّابة، تجعل اللوحة زاهية، تجعل اللوحة معبّرة عن فكري، معبّرة عن مشاعري، معبّرة عن موهبتي الفنية.

إذن، اللوحة مرّت بمرحلتين: المرحلة الأولى تسوية، التسوية هي هندسة المواد والأصباغ، والمرحلة الثانية مرحلة نفخ، نفخت في اللوحة من فكري، نفخت في اللوحة من مشاعري، نفخت في اللوحة من موهبتي الفنية، فأصبحت اللوحة تعكس موهبتي وفنّي وإبداعي، إذن اللوحة مؤلفة من عنصرين: عنصر تسوية، وعنصر نفخ.

العنصر الأول - وهو الهندسة - خلق، والعنصر الثاني أمر، العنصر الأول ملك، العنصر الثاني ملكوت، دعنا نطبّق هذا المعنى على إبداع الله تبارك وتعالى. الله عندما يوجد المخلوق، الإنسان مثلًا، القرآن يقول: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، سوّى الإنسان، يعني شكّل الصورة، صورة الإنسان، شكّل الجسم، شكّل هذا الجسم الإنساني، سوّاه، شكّل الجسم، أعطاه الصورة المادية، أعطاه الهيئة المادية، لمّا سوّاه جاءت المرحلة الثانية، نفخ فيه، هذه النفخة نفخة الحياة، هذه النفخة كلمة الإبداع، هذه النفخة كلمة الإيجاد، فالإنسان يتكوّن من عنصرين: عنصر تسوية وعنصر نفخ، ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي.

هذان العنصران، عنصر التسوية يسمّيه الله خلقًا، لأنّ عنصر التسوية يحتاج إلى مدّة ومادة، لا يتشكّل جسم الإنسان إلا بمدّة ومادة، ولكن العنصر الثاني وهو نفخ الحياة، يعطي الجسم نفخة من الحياة، يعطي الجسم بصيصًا من النور، يعطي الجسم رشحة من الشعاع، هذا العنصر الثاني يسمّيه القرآن أمرًا لا خلقًا، لأن هذا العنصر الثاني لا يعتمد على مادة ولا على مدة، العنصر الثاني دفعي لحظي، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ، نفخة الحياة أمر. التسوية - يعني الصورة المادية التي أعطيت أنت إياها - ملك، ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، ونفخة الحياة التي وُهِبَت لك ملكوت، قال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، الآية تفسّر الآية التي قبلها، ما هو معنى كن فيكون؟ يعني نفخة الحياة، نفخة الحياة هي الملكوت، ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، فأنت أيها الإنسان مؤلف من عنصرين: ملك، وهي صورتك المادية، ملكوت، وهي نفخة الحياة، أنت مؤلف من عنصرين: تسوية، وهي صورتك المادية، نفخ، وهي الروح التي وُهِبَت لك، أنت مؤلف من عنصرين: خلق، وهي صورتك المادية، أمر، وهي نفخة الحياة التي أعطيت لك.

إذن، عندما نرجع إلى الآية التي افتتحنا بها: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، القرآن يذكر كلمة روح دائمًا، والكتب السماوية تكرّر كلمة الروح، فتساءل المسلمون: ما هي الروح؟ ما هي الروح التي هي أعظم الملائكة؟ ما هي الروح التي تؤيّد المؤمنين والأنبياء يا رسول الله؟ قال: ليست هي من الأجسام حتى تكون من عالم الخلق، حتى تكون تسوية، حتى تكون ملكًا، بل هي من عالم الأمر، من عالم الملكوت، الروح نفخة الحياة، فهي ملكوت وهي أمر وهي نفخ، لذلك قال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وليس من خلق ربي، من أمره، ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ أنت تريد أن تتصوّر الروح كيف هي، حدودها، حجمها، مقدارها، لا تستطيع أن تتصور، فقط تستطيع أن تتصور أنّ الروح وجود من عالم الأمر، من عالم الملكوت، يحمل نفخة الحياة، هذا الذي تستطيع أن تتصوره عن الروح، لا تستطيع أن تتصور أشياء أكثر من ذلك، ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.

المحور الثاني: حقيقة النفس الإنسانية.

النفس غير البدن، بدني غير نفسي، هذا بدني، لكن نفسي شيء آخر غير بدني، والقرآن أيضًا يؤكد على أنّ النفس غير البدن، القرآن عندما يتحدث عن فرعون يقول: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ولم يقل بنفسك، لأن نفسه ما نجت، نفسه قبضت، ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً، ويقول القرآن الكريم في آية أخرى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا، يعني أنت متوفى، كل ليلة الإنسان يتوفى، لأن وقت النوم وقت وفاة، الله يتوفى الأنفس في حالتين: ﴿يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا هذا واضح، ﴿وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ متى يتوفاها إذا هي لم تمت؟ ﴿فِي مَنَامِهَا يعني يتوفاها في منامها، يتوفى الأنفس يعني يستوفيها، يستوفي النفس فتصعد إلى الملكوت الأعلى، بعد أن يستوفي النفس والإنسان لا زال نائمًا ماذا يحصل؟ ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ التي حان أجلها تمسَك، لا ترجع، ﴿وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، إذن النفس غير البدن، البدن يبقى في الأرض، لكن النفس تتوفى، ترتفع إلى الملكوت الأعلى.

النفس غير البدن، فما هي النفس؟ أنت عندما تسأل: من أنت؟ تقول: أنا، بمجرد أن تقول أنا تلتفت إلى شيء غير بدنك، من أنت؟ تقول أنا، المعبَّر عنه بكلمة أنا هو النفس، النفس وجود معيَّن أنت تشير إليه بكلمة أنا، نحن هذا الوجود نريد أن نعرفه، ما هي حقيقته؟ هنا ثلاثة تعريفات أذكرها باختصار.

التعريف الأول: ما يذكره بعض علماء النفس.

يقولون: النفس الإنسانية هي وحدة اتصال وافتراق، يعني الآن أنت عندك عناصر ثلاثة: عندك إدراك، وعندك إرادة، وعندك رضا، هذه العناصر النفسية قد تجتمع وقد تفترق، هناك مركز يجمعها ويفرّقها، يعني الآن مثلًا أنا أدركت المأتم، أدركت أنّ هناك حسينية، أنّ هناك مأتمًا، أدركت ذلك، ثم أردت أن أحضر، وحضرت عن رضا وعن قناعة، المركز الذي يجمع الإدراك والإرادة والرضا هو النفس، وأحيانًا تفترق، أحيانًا أدرك أشياء لكن لا أريدها، أدرك المرض لكن لا أريد المرض، أو أريدها لكن لا أرضى بها، أريد شرب الدواء لكن لا أرضى به، إذن المركز الذي يجمع هذه العناصر ويفرّقها يسمّى بالنفس، هذا تعريف بعض علماء النفس للنفس.

طبعًا هذا تعريف سطحي، هو يتحدّث عن صفة من صفات النفس، ولا يسلّط الضوء على حقيقة النفس، هو يقول: النفس من صفاتها وشؤونها أنها تجمع العناصر وتفرّقها، ولكن هذا لا يفسّر جوهر النفس وحقيقة النفس.

التعريف الثاني: التعريف الفلسفي.

الفلاسفة يقولون: النفس جوهر مجرَّد متعلَّق بالبدن تعلَّق التدبير والتصرّف، ما هو معنى هذا الكلام؟ يقولون: النفس ليست في البدن، النفس ليست داخل البدن، النفس خارج البدن، هي تحرّك البدن كما تحرّك أنت الأجهزة بالريموت، كما تحرّك مكنسة كهربائية بالريموت، النفس خارج البدن تحرّك هذا البدن، البدن مجرّد آلة وجهاز تحرّكه النفس للوصول إلى مآربها وأهدافها ليس إلا، وإلا هي النفس ليست في البدن، النفس خارج البدن، البدن مادي، والنفس مجرّدة عن المادة، ما هو دليلهم على هذا؟

الفلاسفة يقولون: كل مادي يقبل الانقسام، أي مادة لا بد من أن يقبل الانقسام، حتى الجزيئات تحت الذرية هي تقبل الانقسام، هذا الجسيم لا تستطيع أن تقسّمه في الخارج ولكن تستطيع أن تقسّمه في عقله إلى يمين ويسار وفوق وتحت وقبل وبعد، كل مادي يقبل الانقسام، لكن النفس لا تقبل الانقسام، أنت عندما نسألك: من أنت؟ تقول أنا، بمجرد أن تقول أنا تشير بهذه الكلمة إلى وجود بسيط تمام البساطة، ما تعبّر عنه بكلمة الأنا وجود بسيط تمام البساطة لا يقبل الانقسام، نفسي ليس فيها يمين ويسار وفوق وتحت، هذه كلها أقسام لجسدي، لبدني، أما نفسي فليس فيها هذا التقسيم، النفس لا تنقسم، إذن النفس ليست مادية، الوجود المادي يقبل الانقسام، والنفس لا تقبل الانقسام، إذن النفس ليست وجودًا ماديًا، النفس مجرّدة عن المادة، متصرّفة في المادة فقط.

التعريف الثالث: تعريف بعض الفقهاء والمتكلمين.

مجموعة من فقهائنا ومتكلّمينا يقولون: النفس في البدن وليست خارج البدن، نحن لا علاقة لنا بالروح، الروح شيء والنفس شيء آخر، الروح التي يتحدّث عنها القرآن ليس لها علاقة بالإنسان، الروح التي يتحدّث عنها القرآن إما مخلوق أعظم من الملائكة كما في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ، أو هي ملك من الملائكة، كما يقول القرآن: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، أو هي أمر يؤيّد الأنبياء والمؤمنين، كما يقول القرآن: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، هذه هي الروح، الروح كما ذكرنا في المحور الأول وجود ينفخ الحياة، يهب الحياة، هذا ما تحدّث عنه القرآن وعبّر عنه بالروح.

بينما الإنسان ما عبّر عنه القرآن بالروح، عبّر عنه القرآن بالنفس، فالروح شيء في القرآن والنفس شيء آخر، وقسّم القرآن النفس الإنسانية إلى ثلاثة أقسام: أمّارة، لوّامة، مطمئنة، النفس الأمّارة هي القوة الشهوية، ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، هذه القوة الشهوية التي تلحّ علينا أن نشبعها هي النفس الأمّارة، وأما النفس اللوامة فهي الضمير الذي يؤنبك ويشجعك، أنت عندما تخطئ تقول: يؤنبني ضميري، يعني عندك قوة في الداخل تؤنبك على الرذيلة وتحثك على الفضيلة، ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، والقسم الأخير هو العقل، العقل يعبّر عنه القرآن بالنفس المطمئنة، ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي، فالنفس الإنسانية تنقسم إلى ثلاثة أقسام، هل هي جوهر مجرّد كما يقول الفلاسفة، أم هي في البدن كما يقول هؤلاء الفقهاء؟ يقولون: هي في البدن، لأنّ ظاهر النصوص قرآنًا وسنةً أنَّ النفس في البدن، أقرأ لك بعض النصوص:

النص الأول: ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ، ما الذي بلغ التراقي؟ العرف يفهم النفس، يعني النفس شعاع، وقت الاحتضار، وقت الموت يصعد بشكل تدريجي إلى أن يصل إلى منطقة الترقوة، هذه منطقة الترقوة أعلى المنحر، أعلى البلعوم، إذا وصلت النفس إلى هذه المرحلة بلغت التراقي يتساءل الملائكة: وقيل من راق؟ هذا سؤال، الملائكة يقولون: من الذي يلقى؟ من هذا الذي يلقى؟ مؤمن؟ فاسق؟ صالح؟ طالح؟ سعيد؟ شقي؟ الملائكة تسأل: من راق؟ وظن أنه الفراق، إذا وصلت النفس إلى الترقوة انقطع النفَس يعتقد الإنسان بأنه حان وقت الفراق، إذن النفس شيء مادي، شيء يخرج من البدن، ﴿إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ، اليوم المساق ليس للعمل، ليس للوظيفة، اليوم إلى مكان آخر، كل يوم أنت تصعد السيارة وتذهب إلى العمل، تذهب إلى الدراسة، تذهب إلى لقاء الأصدقاء، اليوم المساق إلى السماء، ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ اليوم تساق إلى منطقة أخرى.

النص الثاني: ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ، ما الذي يبلغ الحلقوم؟ معناه أنّ النفس داخل البدن، تصعد وتصعد حتى تبلغ الحلقوم، ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ، أنت عندك إنسان محتضر، إنسان يحتضر وأنتم حوله، ترون حالة احتضار وترونه يؤن ويحن، ﴿وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ، ملائكتنا أقرب منكم، أنتم حوله، تقولون: أسعفوه، فليرجع قلبه إلى النبضة مرة أخرى، فلنحاول إرجاعه إلى الحياة مرة أخرى، لكن الملائكة المحيطة به تنظر شيئًا آخر، ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أرجع الروح إذا كنت تستطيع! ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيم مباشرة بعد الموت ينزل في الحميم، ﴿فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ. إذن، النفس ليست جوهرًا مجرّدًا عن البدن، بل هي حالة في البدن، وتخرج منه.

مسألة أنّ المادي لا يقبل الانقسام هذا أول الكلام، هذه القاعدة غير ثابتة، الطاقة التي تتحول إلى مادة لا تنقبل الانقسام، ليس كل مادي يقبل الانقسام، إذن النفس وجود حالٌّ في البدن، ويخرج من البدن كما عبّرت عنه الآيات المباركات. تعال إلى الروايات الشريفة: ”إذا عرجت روح المؤمن“ النفس خرجت من البدن، عرجت، ”تهشّ إليها أرواح المؤمنين، فيأتيها النداء: دعوها تستريح؛ فإنها أقبلت من هول عظيم“، لحظة الموت لحظة هول، أنت تنتقل من الدنيا إلى الآخرة، هذه اللحظة لحظة الانتقال هول عظيم، أنت الآن في الدنيا ترى بيتًا وترى أناسًا وترى أهلك وترى عشيرتك وترى زوجتك وترى أولادك، فجأة وإذا أنت ترى عالمًا آخر، أشباحًا وأرواحًا وملائكة وجنًا ومليارات من الأجسام والأرواح والأشكال، ما تبصرون وما لا تبصرون، هذا الانتقال السريع هول عظيم، يعبّر عنه القرآن الكريم، يعبّر عن هذه الحالة حالة الهول العظيم، حالة لحظة الموت، يقول: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ، كنت تريد أن تبتعد عن الموت، إذا ذكّرك شخص بالموت يقول لك: رجاء لا تذكرني، دعنا مرتاحين! ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ، أنت الآن تعيش حالة هول، كيف تعيش حالة هول؟

الإمام الحسن الزكي وهو إمام معصوم، يبكي وقت الموت، يقال: ما يبكيك يا أبا محمد وأنت سيّد شباب أهل الجنّة؟ يقول: ”أبكي لأمرين: فراق الأحبة، وهول المطلع“، الموت هول، هذا الموت الذي يبكي الحسن يبكي زين العابدين، ”وما لي لا أبكي“، إمام يقول: وما لي لا أبكي؟! ”وما لي لا أبكي ولا أدري إلى أين مصيري، وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت، وما لي لا أبكي، أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكر ونكير إياي“، هذه الحالة تبكي الإنسان، ومما يهوّن على الإنسان المؤمن أنّه يرى حين موته وجهين مضيئين مشرقين مشعين: محمدًا وعليًا، يراهما بعينه أثناء الاحتضار، هذه الحالة التي يعبِّر عنها أمير المؤمنين وهو يخاطب الحارث بن همدان:

يا  حار همدان من يمت يرني
يعرفني      طرفه     iiوأعرفه
وأنت  يا  حار  إن تمت iiترني
أسقيك  من  بارد  على  iiظمأ
أقول للنار حين تعرض في ال
ذريه    لا   تقربيه   إنّ   iiله




 
من   مؤمن  أو  منافق  iiقبلًا
باسمه    والكنى   وما   فعلا
فلا   تخف   عثرة   ولا  iiزللًا
تخاله   في   الحلاوة  iiالعسلا
حشر  ذريه  لا  تقربي iiالرجلا
حبلًا   بحبل  الوصي  iiمتصلًا