العلاقة بين صدق اليقين والعصمة

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث عن عدة محاور:

المحور الأول: ما هو المقصود بهذه الفقرة ﴿مَعَ الصَّادِقِين؟

هنا أمران لا بدّ من الالتفات إليهما:

الأمر الأول: الصدق هو مطابقة الواقع وهو ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: صدق نسبي.

هو الذي يُنال بالإنسان العادي والمتقي، فالإنسان العادي يصدق في كلامه أحيانًا ويكذب أحيانًا والمتقي أيضًا كذلك لماذا الإنسان المتقي صدقه صدق نسبي؟

لأن الإنسان المتقي وإن كان صادقًا في كلامه وأفعاله لا يمكن أن يكون صادقًا في خواطره وأفكاره لا بدّ أن تعرض عليه خواطر وأفكار غير صحيحة تغير اختياره.

القسم الثاني: صدق مطلق.

هو الذي يناله الإمام المعصوم، فهو الصادق في جميع شؤونه فلا يقول إلا صدقًا ولا يعمل إلا صدقًا ولا يخطر على ذهنه في يوم من الأيام فكرة إلا صدقًا. المعصوم أفكاره وهواجسه ومشاعره ودوافعه ونوازعه صادقة فهو يعيش الصدق في تمام شؤونه وأوضاعه وأحواله.

إذن الصدق النسبي يمكن أن يناله ويصل إليه الإنسان أما الصدق المطلق فهو الذي يصاب من الله تعالى على النفس الطاهرة المؤهلة وهو الصدق المساوق للعصمة.

الأمر الثاني: عبرت الآية بتعبير دقيق فهي لم تعبر ب «من» وإنما عبرت ب «مع» إشارة إلى أن المراد بالصادقين من كان صدقهم صدقًا مطلقًا فهذا الصدق لا ينال بالاختيار، معنى ذلك أن هنالك جماعة موصوفين بالصدق المطلق وأنتم لن تستطيعوا أن تكونوا منهم ولكن كونوا معهم وعلى دربهم ولذلك قال الإمام أمير المؤمنين : ”ألا ولكل مأموم إمامًا يقتدي به ويستضيء بنور علمه ألا وإن أمامكم قد اكتفى بدنياه بطمريه وبطعامه بقرصيه ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوا بعلم وإجتهاد وعفة وسداد“.

إذن المراد بالآية من كان صدقهم صدقًا مطلقًا وهم خصوص المعصومين وإلا فهناك آيات أخرى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.

المحور الثاني: ما معنى صدق الشخصية وكذب الشخصية؟

هناك مصطلح لدى علماء العرفان يعبرون عنه بالاطمئنان، ما معنى الاطمئنان؟

المصطلح مأخوذ من القرآن الكريم حيث تم تقسيم النفس في القرآن الكريم إلى ثلاثة أقسام:

النفس المطمئنة: هي صاحبة البصيرة، القرآن الكريم يقول على لسان النبي محمد : ﴿‏قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ وأيضًا قال تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً.

النفس الأمارة: هي مجموعة الشهوات والغرائز التي تلح على الإنسان أن يشبعها ويغذيها قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ.

النفس اللوامة: هي الضمير الذي يأنب الإنسان ويوبخه إذا فعل شر أو ارتكب رذيلة قال تبارك وتعالى: ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ.

ما معنى البصيرة؟

من توافقت مسيرته مع أهدافه فهو صاحب بصيرة، مثلًا عندما يتم تأسيس شركة أو مشروع تجاري يكون من قبل قد رسم أهداف وخطط وآليات للعمل فإذا وجدت أن الشركة تسير على طبق الأهداف التي رسمت لها فيحصل هناك اطمئنان أما إذا وجد اختلاف بين المسيرة والأهداف المرسومة فإنه يتم الوقوع في بحر القلق والأرق والحيرة والتردد.

ورد عن النبي : ”رحم الله عبدًا عرف من أين وفي أين وإلى أين“ الشخص الذي يعرف أن عمله ومسيرته تسير على طبق أهدافه كما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ الهدف هو اللقاء مع الله فإذا كانت المسيرة تتوافق مع هذا الهدف فهذه الشخصية صادقة ومطمئنة ومرتاحة من هذا الطريق لأنها تسير مع الله بالصدقة والعمل الصالح والطاعة والخوف من الله، ولذلك ورد في تفسير الآية المباركة ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ عن الصادق : ”النفس المطمئنة الحسين بن علي“.

الشخصية الصادقة تقابلها الشخصية الكاذبة وهي التي تعيش ازدواجية فترى هذا الإنسان يصلي، يصوم، يحضر المآتم الحسينية يعزي ويبكي لكنه يمارس أعمال غير مشروعة وراء الستار مثلًا: لا يبالي بالمعاملات الربوية، العلاقات غير المشروعة مع النساء الأجنبيات، غيبة وهتك حرمات المؤمنين أو ترى هذه المرأة تأتي المأتم تبكي تعزي تمارس الطقوس العبادية لكنها لا تلتزم بالحجاب فحجابها مزين مزخرف شفاف يحكي الشعر والذراعين والساق، هذه الشخصية المزدوجة كاذبة فالذي يعصي الله من وراء الستار لا يعيش الاطمئنان في حياته فهو دائمًا في قلق وحيرة وأرق لأنه لا يجد تطابقًا بين مسيرته وأهدافه ولا يجد توافقًا بين مسيرته وبين ما يصل إليه وبين لقاء الله لأنه يجد اختلافا بين الطقوس العبادية التي يمارسها وبين أعماله التي يمارسها وراء الستار.

الفرق بين الشخصية الصادقة والشخصية الكاذبة هو الفرق بين النفس المطمئنة والشخصية القلقة قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ، ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.

الإنسان الذي يعيش ازدواجية الشخصية يبكي على الحسين ويعزي ويحضر مآتم الحسين لكنه يطعن الحسين كل يوم بأفعاله القبيحة فهو يظن أن الدين هو الدين الظاهري: الصلاة، الصوم، الخمس، حضور المآتم وهذه هي الطقوس العبادية أما الدين الواقعي والحقيقي هو التي عبرت عنه الآية المباركة ﴿إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍالشعور برقابة الله وبالله والخوف منه هو الميزان في الشخصية الصادقة التي لا تعيش ازدواجية بين مظهرها وواقعها، ورد عن الإمام زين العابدين : ”لا تغتروا بكثرة صلاتهم ولا بكثرة صيامهم فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركهما استوحش ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة“.

المحور الثالث: ما هي العلاقة بين الصدق وبين العصمة؟

الفلاسفة يقولون: ”اليقين أربع درجات: علم اليقين، عين اليقين، حق اليقين، صدق اليقين“.

*علم اليقين: أنا الآن أعلم بك فأنت جالس أمامي وأرى صورتك.

*عين اليقين: علمي بما يصدر مني من أقوال وأفعال أقوى من علمي بصورتك وهو يعتبر درجة أعلى من علم اليقين.

*حق اليقين: علمي بنفسي أقوى من علمي بكلامي.

*صدق اليقين: عبارة عن اليقين المانع من العمل مثلًا الإنسان يمر بالشارع يرى سلك كهربائي مفتوح يعلم في أن مروره بهذا الطريق خطرعلى حياته فيتراجع.

قال تبارك وتعالى: ﴿كلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم* ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ* ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ، هناك مساوقة بين صدق اليقين وبين العصمة «لماذا؟»

لأن المعصوم هو الذي انكشف له ملكوت الأنيباء، القرآن الكريم يقول في حق إبراهيم : ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ انكشف له ملكوت الوجود وهو عبارة عن انكشاف حقائق الأشياء والأعمال، امتلاك الدرجة الأعلى من درجات اليقين تمنع المعصوم من إرتكاب المعصية واقتراف الرذيلة لأن انكشف له خطر المعصية والمفاسد المترتبة عليها.

العباس بن علي يوم عاشوراء قال: ”والله إن قطعتموا يميني إني أحامي أبدًا عن ديني وعن إمامٍ صادق اليقين“، ربما الإنسان يسأل إذا المعصوم عنده يقين يمنعه من مزاولة الرذيلة إذن هو مجبور على تركها لأن لديه يقينًا يمنعه من مزاولتها فلا فخر وإعتزاز له.

هناك فرق بين الإمكان الذاتي والإمكان المكاني فمثلًا رجل الدين هل يمكن أن يخرج إلى الشارع بسروال داخلي قصير؟

إذا نظرنا إلى هذا الشخص بما هو إنسان فهذا ممكن وإن كان شخص وجيه ومعروف ولكن إذا نظرنا إليه بنظر أنه عاقل لا يمكن أن يصدر منه هذا القبيح، الإنسان المعصوم إذا نظرت إليه بما هو بشر ممكن أن يفعل المعصية ولذلك القرآن الكريم يقول: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ أما إذا نظرنا إليه بما هو عاقل عالم بخطر المعصية وبالآثار السيئة المترتبة عليها فلا يمكنه فعل المعصية.

إذن المعصوم له الاختيار بما هو بشر وإن كان علمه ويقينه وحضور عالم الملكوت في نفسه حضورًا وجدانيًا مانعًا له من ممارسة المعصية لكنه لو رجع إلى بشريته وتجرد عن كل ذلك فيمكنه أن يفعل المعصية ولذلك فله أن يفتخر ويعتز أنه ترك الرذيلة عن إرادة واختيار.

المحور الرابع: مظاهر ومعالم الصدق في شخصية الإمام الحسين .

نقرأ في زيارة وارث وغيرها من الزيارات هذه العبارة «أشهد أنك قد أقمت الصلاة وأتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر»، لم تمتدح الإمام بشيء يتميز به فكل المؤمنين يقيمون الصلاة ويأتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وليس فقط الحسين .

ما معنى هذه الفقرة؟

هناك تفسيران مرتبطان بالصدق:

1 - أن هذه العبارة مرتبطة بالصدق الروحي.

2 - أن هذه العبارة مرتبطة بصدق العهد.

ما هو الفرق بين التفسيريين؟

*العرفاء يقولون: ”كل عمل عبادي يهدي إلى طريقة وحقيقة ورقيقة“ فالذي يقيم العمل العبادي بتمامه هو الذي يحقق الطريقة والحقيقة والرقيقة، مثلًا الصلاة وهي لها 3 عناصر:

العنصر الأول: الطريقة.

الإنسان الذي يصلي بإتقان القراءة والركوع والسجود والأذكار فقد أقام الطريقة.

العنصر الثاني: الحقيقة.

هي الصلاة بخشوع فالصلاة من غير خشوع هي لقلقة لسان كما قال تبارك وتعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، الإمام علي نظر إلى رجل يعبث بلحيته في الصلاة قال: ”لو خشع قلبه لخضعت جوارحه“.

العنصر الثالث: الرقيقة.

الإنسان إذا وقف للصلاة وتعلق قلبه بالمحبوب وكان في أعلى درجات العشق والحب فهو يشعر إذا وقف للصلاة بالشوق واللهفة والفرحة، النبي محمد يقول: ”حبوا من دنياكم ثلاث: الطيب، النساء، قرة عيني الصلاة“، يعبر علي بن أبي طالب عن هذه الرقيقة فيقول: ”ركعة في دنياكم أحب إليّ من الجنة وما فيها“، الإمام الحسين يعبر عن الرقيقة بقوله: ”عميت عين لا تراك عليها رقيبًا وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من ودك نصيبًا، متى غبت لتحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى كانت الآثار هي التي توصل إليك؟“ الإمام الحسين أقام الصلاة بطريقتها وحقيقتها ورقيقتها لذلك صح أن يخاطب ب «أشهد أنك قد أقمت الصلاة وأتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر».

*الصدق العهدي: الحسين صلى كما يصلي الناس وصام لكنه حول الصلاة إلى عمل ولم يقتصر على الصلاة فنحن نصلي ولكن صلاتنا لا تتحول إلى عمل، فهو كل طقوسه العبادية تحولت من محراب إلى جهاد وتضحية وفداء كما قال تبارك وتعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.

الحسين لكي يدللنا ويعلمنا على صدقه في العهد حيث كان يفتخر بالموت ويقول: ”خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف وخير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلا بين النواويس وكربلاء ويملأني مني أكراشًا جوفًا وأجربة سقمًا لا محيص عن يوم خط بالقلم رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين“.

الحسين أحيى مظاهر الصدق في شخصيته من خلال:

1 - العزة.

فكان يصر على مبدأ العزة وكان يقول : ”ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون جذور طابت وحجور طهرت“، الحسين لم يكن يبحث عن عزته الشخصية وإنما كان يبحث عن عزة الدين والمذهب كما قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.

2 - الإباء.

كانت له إرادة حقيقية صلبة لا يتنازل عنها ولا يتراجع ولا يفكر لحظة أن يرعوي ويرجع عن مبدأه وقراره، قالوا له يوم عاشوراء: ”انزل عند حكم ابن عمك فلن يروك إلا ما تحب ولن يصل إليك منهم مكروه قال:“ لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إعطاء العبيد.

3 - الافتخار بالموت.

الحسين كان يفتخر بالموت ويعرف أنه في موته حياة لأمة جده وحياة لمشروع الإصلاح الذي أصر عليه فكان يقول: ”ألا وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما“، الحسين كان صادقًا قولًا وفعلًا وقرارًا وإرادة وفكرًا وكل هذا الصدق لخصه يوم عاشوراء عندما سقط من على فرسه وهو يقول:

إلهي تركت الخلق طرًا في هواك
فلو   قطعتني  في  الحب  iiإربًا
  وأيتمت    العيال    لكي   iiأراك
لما     الفؤاد     إلى    لسواك

أصبح قبر الحسين قبلة للثائرين ورمز للمصلحين وكربلاء كعبة للوافدين والقاصدين والزيارة رمزًا للحرية والإباء والكرامة.