الحلقة 1 | حاكمية العقل في شؤون الله وأفعاله (نظريا وَعمليا)

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

إن هذا البحث هو بداية سلسلة من المسائل في علم الكلام، وسنتعرض في هذه السلسلة إلى المسائل المطروحة في أبحاث علم الكلام المعروف في الحوزة العلمية، إضافة إلى بعض المسائل المثارة من قبل بعض المفكرين الغربيين.

النقطة الأولى: حاكمية العقل في شؤون الله.

إن البحث عن حاكمية العقل في شؤون الله تعالى وأفعاله يمكن أن يكون في شأن نظري، وقد يكون في شأن عملي، فأما الأول فمثاله البحث عن إمكانية أن يخلق الله إلهًا مثله، أو إمكانية أن يسلب ع نفسه صفة الألوهية. وأما التطرق إلى مسائل من قبيل: هل يمكن لله أن يلغي الجزع في الآخرة؟ أو هل يمكن يدخل المصطفى - - في النار ويدخل إبليس في الجنة؟ فإن هذه المسائل تندرج ضمن الشأن العملي.

وبالنتيجة: سواءً كان البحث حول الشأن الإلهي في القسم النظري أو العملي، فإن السؤال الأساسي هو: هل للعقل نفوذ أو حاكمية بحيث يمكنه أن يبت في شأن إلهي - سواء كان نظريًا أو عمليًا -؟

وفي مقام الجواب على هذا السؤال، قد يُطرح وجهان لمنع قدرة العقل على البت والحكم في الشأن الإلهي - سواء كان نظرياً أو عملياً -:

الوجه الأول:

يمكن أن يُقال: إن العقل البشري محدود بلحاظ أنّه مخلوق، فمقتضى ذلك كونه محدودًا، ولا يمكن للمحدود أن يحكم على اللامحدود، ولا أن يدرك شؤونه. وعليه: فلا يتأتى للعقل - وهو مخلوق محدود - أن يصدر حكمًا في حق الباري تبارك وتعالى لكونه واجب الوجود اللامحدود من سائر الجهات ومن سائر النقاط.

الوجه الثاني:

وهو يتعلق بحكم العقل العملي، بمعنى حكم العقل بأنّه يقبح على الله تعالى أن يدخل المصطفى - - النار مثلاً، أو حكمه بأنه من القبيح على الله تعالى أن يلغي الجزاء الأخروي، أو أن يلغي يوم المعاد، ونحو ذلك مما يُذكر في مسألة التحسين والتقبيح العقليين.

فيقال: إن حكم العقل بهذا النحو السابق الذكر يعتبر حكمًا مولويًا، ولا يعقل صدور حكم مولوي من العقل تجاه المولى عز وجل، وذلك لأن العقل نفسه يدرك أن المولوية الذاتية الاستقلالية لله تبارك وتعالى، إذ مقتضى خالقيته المطلقة ونعميته المطلقة أن له المولوية والاستقلال بالذات، وأن له حق الطاعة، وبهذا يكون من المحال أني يصدر من العقل حكمًا مولويًّا في حقه سبحانه وتعالى.

ويكون الجواب عن الوجه الأول بالنقض والحل:

فأما الجواب بالنقض: فلأن المفروض أن ثبوت وجود الله قد تم عن طريق العقل نفسه، وكذلك كيفية صفاته وأنها هي عين ذاته، إضافة إلى ثبوت صفة الوحدانية وصفات الذات كالعلم والقدرة والحياة، وصفات الفعل كالحكمة والعدل وما أشبه ذلك، فإذا كان العقل له قدرة الإدراك في الموارد المتعلقة بالله، فإنه يمكن أن يبت في الشأن النظري والعملي لأفعاله تبارك وتعالى، إذ أن حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد، وعليه: إن هذا التفصيل والتفريق في إدراكات العقل غير مقبول، فإما أن يكون للعقل نفوذ في الجميع أو لا يكون له ذلك.

وأما الجواب بالحل: فمختصره أن العقل يدرك جهة النسبة لا طرفي النسبة، وفرق بين الاثنين، وبيان ذلك: قرأنا في المنطق أن نسبة المحمول للموضوع مؤطّرة ضمن جهة من الجهات، إما جهة الضرورة أو جهة الإمكان، فمثلاً يُقال: الإنسان ناطق بالضرورة، فثبوت المحمول للموضوع موجه جهة الضرورة، أو يقال: الإنسان كاتب بالإمكان، فثبوت المحمول للموضوع موجه بجهة الإمكان.

ومحل الشاهد هنا هو أن العقل يدرك ضرورة ثبوت المحمول للموضوع أو إمكانه وإن لم يدرك كنه طرفي القضية، فمثلًا عندما نقول: الروح مجردة بالضرورة، فالعقل هنا يدرك ضرورة ثبوت التجرد للروح لكنه لا يدرك كنه الروح ولا يدرك كنه التجرد ولا حقيقتهما، ولكن مع ذلك يدرك الجهة وهي ضرورة ثبوت هذا المحول لهذا الموضوع. إذن: فلا ملازمة في مدركات العقل بين إدراك جهة النسبة وبين إدراك كنه طرفي النسبة وركني النسبة، لأن الإمكان والضرورة قضايا نفسية مرتسمة في نفس الأمر والواقع، فالعقل يدركها ويصل إليها

لذلك نقول: إن جميع القضايا المتعلقة بالشأن الإلهي هي راجعة إلى الضرورة والإمكان لا أكثر من ذلك، فالعقل يدرك ضرورة وجود الباري تبارك وتعالى وإن لم يدرك حقيقة الباري وحقيقة الوجود الواجب، وكذلك من ناحية صفاته تبارك وتعالى، فالعقل يدرك ضرورة عينية صفاته لذاته وضرورة وحدة صفاته لذاته، وإن لم يدرك ما هي ذاته وما هي صفاته على وجه الكنه والحقيقة.

فعندما نقول بأن الله تبارك تعالى لا يمكن أن يسلب عن نفسه صفة الألوهية ولا يمكن أن يخلق إلهًا مثله فإنّا نقصد ضرورة العدم، بمعنى أن سلب الألوهية عن نفسه ضروري العدم وخلق إله مثله ضروري العدم، فما يدركه العقل هو جهة الضرورة وهي ضرورة العدم وإن لم يدرك كنه الطرفين، فلا يمكن لله أن يجمع النقيضين لا لقصور في قدرته بل لقصور في مورد القدرة وهو أن جمع النقيضين في حد ذاته ممتنع ومحال.

كذلك في أفعاله تبارك وتعالى من حيث الحسن والقبح، فعندما يقال بأن إدخال المصطفى - - إلى الجنة قبيح، وإلغاء المعاد والجزاء الأخروي لا ينبغي منه، كل ذلك يرتكز على هذه هذا أمر ضروري العدم.

ملخص جواب السؤال الأول:

ما يدركه العقل من شؤون اللامحدود هو أمر نفسي واقعي - بمعنى أنه مرشح في نفس الأمر والواقع - وهو الضرورة أو الإمكان، كضرورة ثبوت المحمول للموضوع، أو ضرورة نفي المحمول عن الموضوع أو إمكانه، كأن نقول: الله رازق بالإمكان، أو خالق لمجرة أخرى بالإمكان.

أما جواب السؤال الثاني فيأتي الكلام حوله.