درس الأصول | 119

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

كان الكلام في المعارضة بين دليل الامر بالتعلم وبين استصحاب عدم الابتلاء بالواقعة.

الجواب الأخير لحل المعارضة: وهو ان استصحاب عدم الابتلاء ينفي المنجزية من جهة الاستصحاب ولا ينفي المنجزية المطلقة للتكليف المحتمل مسقبلاً، فإذا احتمل المكلف مستقبلا انه يبتلي بصلاة الآيات فاستصحاب عدم الابتلاء بها ينفي منجزية التكليف في ظرفه لكن لا مطلقا، وانما ينفي المنجزية من حيث التأمين عنها بالاستصحاب لا نفي المنجزية مطلقا، فلذلك لا يتنافى جريان الاستصحاب مع وجود منجز آخر مع التكليف في ظرفه الا وهو دليل الامر بالتعلم، فإن الامر بالتعلم منجز للتكاليف الواقعية، بناء على ان مفاده الوجوب الطريقي بغرض التنجيز وبالتالي فنفي منجز لا ينفي منجز آخر فلا تعارض بين الدليلين حيث إن احدهما ناظر الى حيث دون حيث آخر.

هذا تمام الكلام في الجواب عن جريان الاستصحاب عدم الابتلاء لنفي وجوب التعلم من جهة ما أفاده المحقق النائيني «قد».

الجواب الرابع: الذي طرحه السيد الشهيد «قده» لإفادة عدم نفي وجوب التعلم باستصحاب عدم الابتلاء، حيث أفاد «قده»: أنّ مفاد دليل الامر بالتعلم هو قضية شرطية، وليس قضية فعلية، أي ان مفاد قوله : «هلا تعلمت حتى تعمل ولله الحجة البالغة» ان من خالف الواقع بترك التعلم استحق العقوبة، فمفاد الدليل قضية شرطية، «من خالف الواقع بترك التعلم استحق العقوبة». فاذا احتمل المكلف ان سيبتلي بصلاة الآيات مستقبلا فاستصحب عدم الابتلاء، فهل استصحاب عدم الابتلاء يؤمنه؟ فيقول السيد الشهيد: قد يقال نعم، لأنّ استصحاب عدم الابتلاء ينفي الشرط، يعني نفي مخالفة الواقع، فإن مفاد دليل الامر بالتعلم قضية شرطية، من خالف الواقع بترك التعلم استحق العقوبة، واستصحاب عدم الابتلاء يقول ما خالفت الواقع، لأنني استصحبت عدم الابتلاء بصلاة الآيات في ذلك الظرف، فبما انه ينفي الشرط ينفي الجزاء.

ولكن السيد الشهيد يقول: حتى لو اجرى استصحاب عدم مخالفة الواقع فضلا عن استصحاب عدم الابتلاء، بأن شك هل ستصدر منّي مخالفة للواقع في هذا المدى المنظور من الآن الى سنة او شهر ام لا؟ استصحاب عدم صدور مخالفة للواقع مني، حتى لو فعل ذلك مع ذلك لا يكون هذا الاستصحاب مؤمّناً له، فضلاً عن استصحاب عدم الابتلاء حتى يكون نافيا لوجوب التعلم. والسر في ذلك: ان نفي الشرط لا ينفي القضية الشرطية، لان الملازمة بين الشرط والجزاء من الملازمات النفس الأمرية، التي لا ينفيها الشرط، نفي الشرط ينفي الجزاء لا انه ينفي الملازمة لا انه ينفي القضية الشرطية، اذن فالقضية الشرطية ثابتة، حتى لو قال ما صدرت مني مخالفة للواقع، فهذا لا ينفي القضية الشرطية ان من خالف الواقع بترك التعلم استحق العقوبة، فاذا كان نفي الشرط لا ينفي القضية الشرطية إذن ثبوت هذه القضية الشرطية في حقه «من خالف الواقع بترك التعلم استحق العقوبة» منشأ لاحتمال العقوبة، وهو احتمال لا مؤّمن له، فلا يكون مرتفعا في حقه. اذن جواب السيد الشهيد بغض النظر عن جواب تلميذه عليه انما يكون تاماً بناءً على أن احتمال الضرر منجز على المكلف. فنفي الشرط لا يفيده شيئا ما دامت القضية الشرطية ثابتة، لأن ثبوت القضية الشرطية موضوع لاحتمال الضرر في حقه، وبما انه احتمال لا مؤمن له من هذه الجهة «من جهة القضية الشرطية» فيدخل تحت احتمال الضرر الفطري، فبناء على منجزية احتمال الضرر فطرة، فحينئذ يكون منجزا عليه في المقام، إذن فتتميم كلام السيد الشهيد يتوقف على تمامية هذا المبنى وهو ان احتمال الضرر وان لم يكن منجز عقلا أي من باب وجوب دفع الضرر المحتمل، لكن قيامه فطرة كاف في المنجزية. هذا تمام البحث من هذه الجهة.

بقي مجموعة من التبيهات:

التنبيه الاول: ما أصرَّ عليه المحقق العراقي والسيد الاستاذ «دام ظله» من أن مفاد الامر بالتعلم مجرد الارشاد الى حكم العقل باستحقاق العقوبة على فرض المخالفة الناشئة عن ترك المقدمات المفوتة. مجرد ارشاد. فاذا كان مفاد الامر بالتعلم مجرد ارشاد الى حكم العقل وحكم العقل دائما تعليقي، اذن فقيام حجة شرعية نافي موضوع حكم العقل، واستصحاب عدم الابتلاء حجة شرعية فيرتفع حكم العقل بارتفاع موضوعه.

يلاحظ عليه: إن دليل الامر بالتعلم، ظاهر قوله «هلا تعلمت حتى تعلم ولله الحجة البالغة» ان هناك حجة فعلية، فحتى لو حملناه على الإرشاد فإن ظاهره إنه إرشاد لحكم عقلي فعلي بفعلية موضوعه، لا انه ارشاد الى حكم عقلي تعليقي يسهل رفعه باستصحاب عدم الابتلاء او باستصحاب عدم مخالفة الواقع، هذا يتنافى مع لسان «ولله الحجة البالغة» فبما أنه إرشاد لحكم عقلي فعلي، إذن نفس هذه اللسان ظاهر في ان لا مؤمّن شرعي ي حق المكلف الجاهل التارك للتعلم تقصيراً، وأن حجة شرعية في حقه تؤّمنه، وإلا لم يكن وجه للإرشاد إلى حكم عقلي فعلي بفعلية موضوعه في حقه.

التنبيه الثاني: تعرّض المحقق النائيني الى ان الصبي المميز لو اتلفت الى انه لو لم يتعلم لم يتمكن بعد البلوغ من الإتيان بالامتثال، لو لم يتعلم بعد البلوغ لن يتمكن ان يصلي الصلاة الصحيحة في الوقت، او لن يتمكن بعد البلوغ من إحراز الامتثال، وإن تمكن من اصل الامتثال. فهل يجب عليه التعلم الآن وهو غير بالغ؟ ولو لم يتعلم فوقع في مخالفة الواقع بعد البلوغ، هل يكون مستحقا للعقوبة بمقتضى دليل الامر بالتعلم ام لا؟

فأفاد المحقق النائيني بأنه لا فرق بين البالغ وعدم البالغ، ما دم ملتفتا الى أنه لو لم يتعلم لم يتمكن من الامتثال في ظرفه، او لم يتمكن من إحراز الامتثال في ظرفه، دليل الامر بالتعلم يشمله ومقتضاه استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع في ظرفه الناشئة عن ترك التعلم الآن، أي قبل بلوغه.

وناقشه الاعلام بأنه كيف لم يلتفت الى دليل رفع القلم «رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقض»، فمقتضى دليل رفع القلم رفع استحقاق العقوبة على الصبي، والقدر المتيقن من رفع استحقاق العقوبة عنه رفع استحقاق العقوبة الناشئ عن تقصير قبل البلوغ، لا الناشئ عن تقصير بعد البلوغ، هذا هو القدر المتيقن، وترك التعلم منه قبل البلوغ لو اوجب فإنه يوجب استحقاق العقوبة عن تقصير قبل البلوغ وهذا هو القدر المتيقن من حديث رفع القلم، فكيف لم يلتفت الى ذلك وادعى استحقاق العقوبة على الصبي لأنه ترك التعلم.

ولكن المحقق النائيني تعرض للمسألة في شرحه على «المكاسب عند التعرض لمعاملات الصبي من العقود والإيقاعات»، فأفاد: انه لا يوجد دليل على رفع القلم عن الصبي المميز الا الاجماع أو حديث رفع القلم، إما الإجماع فهو دليل لبيّ، ولا نحرز شموله لمن فوت الواقع عن نفسه بترك مقدمته المفوتة، حيث فوت ملاكاً ملزماً في ظرفه بتقصير منه، لا نحرز شمول الإجمال لمثل هذا.

وأما حديث رفع القلم، فقد افاد وادعى بعض الاعلام انه وجه جديد. ولكنه موجود في كلمات شيخ المحققين النائيني «قده»: من أن ظاهر سياق الحديث في قوله «رفع القلم عن ثلاثة، الصبي والنائم والمجنون»، والجامع بين الثلاثة ضعف الإرادة، فظاهر هذا الحديث هو رفع نفوذ أي امر يكون لقوة الارادة دخل في نفوذه لا انه رفع لمطلق التكليف او رفع لمطلق استحقاق العقوبة، وبالنتيجة: هذا الحديث منصرف للمعاملات من العقود والإيقاعات او الجنايات التي يكون للقصد والإرادة دخل في نفوذها وترتب الأثر عليها، لا أن مفاد الحديث نفي استحقاق العقوبة مطلقا حتى نتمسك به في المقام، يعني المنفي ليس قلم المؤاخذة، بل المنفي قلم سنخ من الأحكام يكون للقصد والإرادة دخل فيه، فلا يستفاد منه نفي استحقاق العقوبة مطلقا حتى يستدل به في المقام، على اية حال سوف يكون النقاش نقاشا مبنائياً.

التنبيه الثالث: من لم يتعلم واتى بالعمل رجاء ثم انكشف له ان العمل الذي اتى به مخالف لفتوى من هو حجة عليه بالفعل، لكنه مطابق لحجة من كان يجب الرجوع اليه في ظرف العمل، فهو في زمان مثلا السيد الخوئي عمل جهلا وقال اقلد، وعمل بما يراه اقتراحاً منه، وبعد وفاة السيد الخوئي رجع إلى مجتهد حي أعلم، ورأى ان فتاواه لا تطابق فتوى الحي، لكنها تطابق فتوى من كان يجب الرجوع اليه في ظرف العمل، فهل يجزيه ذلك؟ ام لا؟

والأغلب على عدم الأجزاء إذا كان عمله مضيعا لركن من الأركان عن تقصير منه. ولكن هناك من ذهب الى الاجزاء كالسيد البروجردي والسيد الإمام، واستدل شيخنا الاستاذ «قده» في البحث على الإجزاء ي مثل هذا الظرف مضافاً إلى دعوى الإجماع على الإجزاء ومذاق الشارع: الحديث صحيح محمد بن مسلم: «ما بال اقوام يروون عن رسول الله يروون عن فلان وفلان عن رسول الله الحديث ثم يجيء منكم خلافه، فقال ع: إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن».

والحمد لله رب العالمين.