درس الأصول | 123

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق ان الروايات الشريفة دلت على أن من صلى تماماً في موضع القصر جاهلا بالحكم ولو تقصيرا فلا اعادة عليه، ولكن المشهور قد التزم بأنه اذا كانت صلاته عن جهل تقصيري فهو مستحق للعقوبة وان كان لا اعادة عليه.

وذكرنا فيما سبق: أنه قد يوجه هذا الحكم، الصلاة تماما في موضع القصر: بان قوله في صحيحة محمد بن مسلم «لا عادة عليه» ارشاد الى الصحة، وكيف أن تكون التمام صحيحة في موضع القصر، مع انه مخاطب القصر. وقد وجه ذلك في كلمات الاعلام: انه قد يكون الجاهل مخيرا بين القصر والتمام، أي ان المسافر ان كان عالما تعين عليه القصر، وان كان جاهلا كان مخاطبا بالجامع بين القصر والتمام، فهو قد اتى بأحد فردي الجامع ولذلك صحة صلاته. وقد يوجه ذلك بان زيادة الركعتين مانع من صحة الصلاة الا في المسافر الجاهل، فإن المسافر الجاهل بالحكم وان كان مخاطبا بركعتين، ولكن زيادة الركعتين في حقه ليس مانعاً من صحة صلاته. وقد يوجه هذا الحكم بأن الجاهل المسافر مخاطب بالجامع بين القصر مطلقا والتمام حال الجهل، أي بأن يقال: المسافر إما مقيم او غير مقيم، فإن كان مقيما فهو مخاطب بالتمام، وان كان غير مقيم وكان جاهلاً كان مخاطبا بالجامع بين القصر مطلقا او التمام حال جهله بحيث لا تصح منه التمام الا في فرض الجهل.

فإذا وجه حكم من صلى في القصر تماماً عن جهل بالحكم صحت صلاته، بأنه على طبق القاعدة للتوجيهات الثلاثة التي ذكرناها، فما هو وجه استحقاقه للعقوبة؟ فإنه اذا كانت صلاته صحيحة على طبق القاعدة فما هو الوجه في استحقاقه للعقوبة اذا كان جهله عن تقصير.

اذن مصب الاشكال الاصولي: اذا كانت التمام في موضع القصر عن جهل تقصيري صلاة صحيحة، فما هو وجه ذهاب المشهور الى استحقاقه للعقوبة مع انه ادى صلاة صحيحة.

وتصدى الاعلام لدفع الاشكال بعدة اجوبة:

الجواب الاول: لا يحكم بصحة صلاته، وانما المقصود بقوله في صحيحة محمد بن مسلم: «فلا اعادة عليه»، أي سقوط الأمر، لا أن ما أتى به صحيح، وبيان ذلك: ان الجاهل مخاطب بالقصر تعييناً كالعالم تماماً، غاية ما في الباب انه ان اتى بالتمام عن جهل تقصيري او قصوري سقط الامر قهراً، أي لا يمكن بعد الاتيان بالتمام استيفاء القصر، فالإتيان بالتمام مسقط قهري للأمر بالقصر، لا من باب ان صلاة التمام صحيحة، وبناء على ذلك يقال بأن هذا الجاهل المقصر ترك ما هو الواجب عليه تعيينا الا وهو القصر عن تقصير فيكون مستحقا للعقوبة، فاستحقاقه للعقوبة لأنه ترك ما هو الواجب التعييني في حقه وهو القصر، لا لشيء آخر، وأما ما اتى به من صلاة التمام فهو ليس عملاً صحيحاً غايته انه اسقط تكوينا الامر بالقصر في حقه. وبناء على ذلك يكون مستحقا للعقوبة.

الجواب الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية «قده» بان هناك تضاد بين ملاك التمام وملاك القصر، لا ان هناك تضاد بين التمام والقصر، بل بين الملاكين، الملاك في صلاة القصر والملاك في صلاة التمام، ولأجل تضاد بين الملاكين كان الإتيان بصلاة التمام معجزا عن استيفاء ملاك القصر. وبيان ذلك بذكر امور ثلاثة:

الامر الاول: لا يوجد تضاد بين التمام والقصر، بدليل ان المكلف يمكن ان يجمع بين التمام والقصر، فيصلي القصر أولاً ثم التمام او بالعكس. إنما التضاد بين الملاكين، أي في كل منهما مصلحة ملزمة مانعة من تحقق الاخرى واستيفاء الاخرى فبين الملاكين تضاد وتمانع لا بين الصلاتين.

الامر الثاني: ذكر في بحث الضدين، في ان الامر بالشيء هل يقتضي الامر عن ضده: انه لا توقف لأحد الضدين العرضيين على عدم الضد الآخر، مثلا بين القيام والقعود تضاد عرضي في زمن واحد لا وفي جسم واحد لا يجتمعان، لكن لا يتوقف القعود على عدم القيام توقف المعلول على عدم المانع، ولا يتوقف القيام على عدم القعود توقف المعلول على عدم المانع، أي لا يعقل التوقف من قبل أحد الضدين على عدم ضده الذي هو في عرضه، وإلا لزم الدور، لأجل ذلك نقول: لا يوجد في المقام توقف لوجود ملاك القصر على عدم التمام، لأنه لو قلنا بان ملاك القصر يتوقف على عدم التمام لكان عدم التمام مطلوبا، واذا كان عدم التمام مطلوبا كان وجود التمام مبغوضا واذا كان وجود التمام مبغوضا وقعت منه فاسدة وإذا وقعت منه فاسدة إذن بإمكانه ان يأتي بصلاة القصر، والحال أننا ندعي أنه متى اتى بالتمام لم يمكنه استيفاء ملاك القصر، فكيف نفترض ان استيفاء ملاك القصر واجب نفسي، وهذا الواجب النفسي متوقف على عدم التمام. فعدم التمام واجب غيري وبما ان عدم التمام واجب فنقضه الا وهو الاتيان بالتمام مبغوض، فالإتيان بالتمام يقع مبغوضا فيقع فاسدا، وهذا خلف ما نريد ان نصل اليه وهو ان التمام التي وقعت منه صحيحة لكن وقعت من استيفاء ملاك القصر. فلابد ان نفترض كما ذكرنا في بحث الضدين أنه فلا توقف لاستيفاء ملاك القصر على عدم التمام، إنما وجود التمام منافر لاستيفاء ملاك القصر، لا ان استيفاء ملاك القصر متوقف على عدم التمام توقف المعلول على عدم المانع.

الامر الثالث: مدعانا ان التمام مانع ومنافر لاستيفاء ملاك القصر حال الجهل، والا في حال العلم قطعا ليست مانعة، لو صلى التمام متعمدا مع أن حكمه القصر لم تكن صلاة التمام معجزة عن استيفاء ملاك القصر، فمدعانا ان التمام في حال الجهل قصورا او تقصيرا معجزة ان استيفاء ملاك القصر، لا التمام مطلقا.

فبعد ملاحظة هذه الامور كلها، ان التمام الصحيحة في حال الجهل معجزة عن استيفاء ملاك القصر، وانه لا توقف لأحد الضدين على توقف عدم الضد الآخر، وإنما التضاد إنما هو بين الملاكين، يعني المصلحة التامة في صلاة القصر والمصلحة التامة في صلاة التمام، لا بين الفعلين، بعد ملاحظة هذه الأمور الثلاثة نقول: اذا اتى بالتمام في موضع القصر فقد عجّز نفسه عن استيفاء ملاك القصر، إذا كان عن تقصير، وحيث انه عجز نفسه عن استيفاء ملاك القصر استحق العقوبة، لأنه مخاطب تعييناً باستيفاء ملاك القصر، وقد عجز نفسه عن تقصير منه عن استيفاء ملاك القصر فهو مستحق للعقوبة. ولعل القول بالمسقطية يرجع الى هذا، عندما نقول إنه مأمور تعيينا بالقصر، فكيف يسقط عنه هذا الامر بصلاة التمام، فنحلل المسقطية بهذا المعنى، ان في الصلاة تماما في حال القصر مصلحة اذا تحققت عجزت عن استيفاء ملاك القصر للتضاد بينهما. هذا ما ذكره صاحب الكفاية. وأورد على كلامه بعدة إيرادات:

الإيراد الاول: ما ذكره السيد الخوئي في «مصباح الاصول»، بأنه إما أن يكون التضاد بين التمام والقصر، وهذا خلف الوجدان لانه بالوجدان يستطيع الجمع بينهما، ولذلك لو اتى بالتمام حال العجز لم يكن فيها أي مانع من استيفاء القصر بعدها. واما ان يدعى ان التضاد بين المصلحتين لا بين الفعلين المحققين للمصلحة، وهذا من قبيل انياب الاغوال، فانه لا يتصور تضاد بين الملاكين مع عدم التضاد بين الفعلين، أي لا يوجد أي تضاد وأي منافرة بين التمام والقصر، اما انه يوجد تضاد بين ذاتي الملاكين والمصلحتين، المصلحة في القصر والمصلحة في التمام، أما بين هذين الفعلين، لا يوجد أي تضاد بينهما، يقول: هذا توهم محض، لا يتصور تضاد بين الملاكات دون تضاد بين الأفعال المحصِّلة والمحققة لهذه الملاكات، هذا من قبيل توهم ان للغول وجوداً وأنه لوجودها انياباً.

ولكن اجيب عن هذا الإيراد: ما دام لا يستوجب ذلك تناقضاً ولا دوراً ولا تسلساً فأي مانع من فرض التضاد بين الملاكين دون تضاد بين الفعلين، بل قد يقال بان الوجدان شاهد على ذلك، فلو فرضنا ن المولى له ملاك في شرب الماء البارد، فقال لعبده أأتي بماء بارد، ولكن العبد أتى للمولى بماء حار فشربه المولى، وبعد ان شربه واستوفى الارتواء وزوال العطش لم يبق لملاك البرودة ملاكا للاستيفاء، فصار في شرب الملاك الساخن ملاك وهو سد حالة العطش، مضاد للملاك في برودة الماء بحيث إذا حصل الفعل الاول وهو شرب الماء الساخن لم يبق مجال لاستيفاء ملاك البرودة، فتصور التضاد بين الملاكين دون تضاد بين الفعلين أمر ممكن ولا مانع من القول به. إنما الكلام في وفاء الأدلة به.

الإيراد الثاني: نتيجة كلامكم ان سبق التمام مانع، لان المولى لا يخلو اما ان يكون مطلوبه القصر بعنوانها، والمفروض ان القصر لا تصح منه إلا اذا لم تسبق بالتمام، إذ متى ما سبقت التمام حال الجهل حتى لو اتى بالقصر بعدها لا تصح. إذن اذا كان المطلوب القصر، والقصر لا تصح الا بشرط عدم سبق التمام، فلا محالة يكون سبق التمام مانعاً، واذا كان سبق التمام مانعا كان مبغوضا، واذا كان مبغوضاً كان فاسداً، فكيف تصح منه التمام!. او تقول: ان المطلوب للمولى ملاك القصر لا نفس القصر، المطلوب النفسي للمولى تحصيل ملاك القصر. وتحصيل هذا الملاك لا يمكن في حق هذا المكلف الا اذا سبقه تمام لانه متى ما سبقه تمام وجد ملاك مضاد لملاك القصر فمنع من استيفاء ملاك القصر، اذن لا محالة يكون وجود التمام مانعا، لانه لملاك مانع من تحصيل الملاك الآخر، فإذن لا تتوقف المسالة على ان نقول في بحث الضدين ان الضد يتوقف على عدم ضده توقف المعلول على عدم مانعه. بالنتيجة التمام هنا مانع من استيفاء مانع من استيفاء ملاك القصر، وإذا كان فعل التمام مانعا من استيفاء ملاك القصر كان مبغوضاً والمبغوضية مانعة من المقربية فلم تقع تمام صحيحة كي تكون معجزة عن استيفاء ملاك القصر وهي مبغوضة في نفسها.

فلابد من الجواب عن هذا الإشكال، وهذا ما يأتي عنه الكلام غداً.

والحمد لله رب العالمين.