درس الأصول | 130

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكر المحقق النائيني «قده»: أنه لا يتصور الترتب في الضدين الدائميين لأنه لا يتصور التزاحم بينهما، والوجه في ذلك: ان الفرق بين التعارض والتزاحم ان التعارض هو تنافي الدليلين بالذات أو بالعرض كما لو قال «صلي أو لا تصلي» فهو تنافي بالذات، أو قال: «صلي الجمعة وصل الظهر يوم الجمعة»، مع العلم الإجمالي بأنه ليس في الوقت الواحد الا فريضة واحدة، ويحصل بينهما تنافي بالعرض، وأمّا التزاحم فهو ان الدليلين لا يوجد بينهما لا بالذات أي من خلال لسان الدليل، ولا بالعرض لعدم وجود علم إجمالي يوجب تنافيهما، كما إذا قال المولى: ازل النجاسة عن المسجد ان قدرت، وقال: انقذ الغريق إن قدرت، فليس بين هذين الدليلين تنافي لا بالذات ولا بالعرض، غايته ان قصرت قدرة المكلف اتفاقا عن الجمع بين الامتثالين، حصل التنافي بين الدليلين في مرحلة الفعلية، لأنّ فعلية كل تكليف بفعلية القدرة على متعلقه، وحيث لا يمتلك المكلف قدرة على الجمع بين التكليفين، فلا محالة يتنافى التكليفان في مرحلة الفعلية. وهنا يتدخل العقل لحل هذا التنافي في مرحلة الفعلية من دون ان يتدخل المولى بشيء، وتدخل العقل في مرحلة الفعلية هو ما يعبر عنه بالترتب، فيقول العقل: إذا كان احدهما اهم كإنقاذ الغريق فأنت لست قادرا على المهم في ظرف فعل الأهم، إذن لا فعلية للمهم في ظرف فعل الأهم، لأنك ليست قادرا عليه، وانت قادر على المهم في ظرف ترك الاهم، وهذا ما يعبر عنه بالترتب بحكم العقل في مرحلة الفعلية من دون ان يتدخل المولى بشيء لان المولى قال: انقذ ان قدرت وازل ان قدرت، اما متى تقدر وكيف تقدر فهذا من شؤون العقل في مرحلة الفعلية. لذلك إذا كان التضاد اتفاقيا، فهنا تزاحم يحل بالترتب، واما إذا افترضنا ان التضاد دائمي فهو على نوعين: ضدين لهما ثالث، وضدين لا ثالث لهما.

النوع الأول: الضدان اللذان لهما ثالث، كأن يقول المولى: قم واقعد، ولهما ثالث، بأن ينام، في هذين الضدين الذين لهما ثالث هل يتصور التزاحم؟ أم من باب التعارض؟، فهنا يقول المحقق النائيني بأن المسألة لا ربط لها بالتزاحم، لأن نفس الدليلين بحسب ما يتلقى العرف منهما يرى متكاذبين، قم واقعد، بنفس الدليلين يرى التكاذب، أو ببيان آخر: إذا قال المولى انقذ الغريق وازل النجاسة، يقال ان انقذ الغريق ليس ناظر الى لإزالة النجاسة، لأنه ليس في مقام النظر لملابسات الغرق ولمقارناته، وإنما في مقام بيان وجوب انقاذ الغريق، كما ان قوله ازل النجاسة ليس ناظرا لإنقاذ الغريق اصلاً لأنه في مقام بيان اصل الوجوب، وليس ناظرا الى ملابساته ومقارناته، اما فلا ينعقد اطلاق لقوله أزل النجاسة يعارض اطلاق قوله «انقذ الغريق» لان احدهما ليس ناظراً للآخر كي ينعقد لكل منهما إطلاق بلحاظ الآخر، أما إذا قال المولى: قم واقعد، فهو ملتفت الى تضادهما، فبمجرد ان يلتفت الى تضادهما اذن كل من الدليلين ناظر للآخر بحكم التضاد الدائمي والالتفات اليهما بالبداهة، فبما ان كل من الدليلين ناظر للآخر، فاذا اطلق المولى وقال: قم، ولم يقيدها بشيء، وقال: اقعد ولم يقيدها بشيء، حصل التعارض بين الإطلاقين لفرض أنه وجب عليه القيام في نفس الوقت الذي وجب عليه القعود، فيتعارض الإطلاقان فيما إذا تعارض موضوعهما في وقت من الاوقات، إذن الضدان الدائميان اللذان لهما ثالث دليلهما من باب التعارض لا من باب التزاحم، لان كل منهما ناظر للآخر ومع ذلك اطلق المولى دليل كل منهما حتى لفرض فعلية الآخر، فيقع التعارض بين هذين الإطلاقين، ولأجل انهما من باب التعارض لا من باب التزاحم فلا معنى للترتب، لأن الترتب علاج عقلي للتنافي في مرحلة الفعلية، والتعارض تنافي في مرحلة الجعل إما بالذات أو بالعرض، فلا معنى للترتب في مرحلة الجعل، وإنما الترتب علاج عقلي في مرحلة الفعلية.

النوع الثاني: الضدان اللذان ليس بينهما ثالث، كالحضر والسفر، فهنا لا يتصور ترتب إطلاقاً، لأنّ المولى إذا قال احضر، فإن لم تحضر فسافر، تحصيل حاصل، ان الإنسان إذا لم يكن حاضرا فسوف يكون مسافرا، فطلب السفر منه تحصيل للحاصل. أو يقول: تحرك فإن لم تتحرك فاسكن، هذا ايضا تحصيل للعاقل، فالضدان اللذان ليس لهما ثالث لا يعقل الترتب بينهما إطلاقا لان الترتب بينهما يؤول الى طلب الحاصل، وهو غير معقول.

بعد ان بيّن النائيني هذين المطلبين جاء لمطلب كاشف الغطاء الذي ادعى الترتب بين القصر والتمام والجهر والإخفات، فقال: هذان ليسا من باب التزاحم كي تعالج المسألة بالترتب، لأن هناك تضاداً دائمياً بين القصر والتمام، وإن كان لهما ثالث، إذ يمكنه ان يترك الصلاة من الأساس فلا قصرا ولا تماماً، ولكن وإن كان بينهما ثالث الا انهما ضدان دائميان، القصر مضاد للتمام والتمام مضاد للقصر، فاذا كان بينهما تضاد دائمي فهما مثل القيام والقعود، في أن دليل كل منهما ناظر للآخر، فاذا كان كل منهما ناظر للآخر فدليل القصر اطلاق يشمل ما إذا كان التمام فعليا، ولدليل التمام إطلاق يشمل ما إذا كان القصر فعلياً، فيقع التعارض في مقام الجعل بين الإطلاقين، ولا معنى للترتب بل لابد ان نرجع الى مرجحات باب التعارض.

واما بين الجهر والإخفات فالمسألة اعظم، لأنهما من الضدين اللذين لا ثالث لهما، فلا معنى لأن يقول المولى اجهر في القراءة فإن لم تجهر في القراءة فاخفت، لأنه إذا لم يجهر في القراءة فهو مخفت بالبداهة، فأمره بالإخفات عند عدم الجهر في القراءة طلب للحاصل، فالترتب غير معقول في المقام، لا في القصر والتمام ولا في الجهر والاخفات.

ويلاحظ على ما افاده المحقق النائيني «قده»: أن ما افاده انه لا تزاحم بين الضدين الذين لهما ثالث أو ليس لهما ثالث، لا يتصور تزاحم بل تعارض. ولكن هل يتصور الترتب أم لا؟ فهذه مسألة أخرى. كل تزاحم يحتاج الى ترتب وليس كل ترتب يتوقف على تزاحم، نعم لا يتصور تزاحم اما لا يتصور ترتب لأن الترتب على نوعين: ترتب آمري، وترتب مأموري. الترتب المأموري: هو علاج باب التزاحم، لأن الترتب المأموري هو عبارة عن فرغ عن وجود مأمورين وتكليفين وحصل التنافي بينهما في مرحلة الفعلية، فلا حل لهذا التنافي إلا بتدخل العقل بأن يقول انت غير قادر في ظرف فعل هذا فلا تكليف عليك به، انت غير قادر على فعل ذاك في ظرف فعل هذا، وانت قادر على هذا ان تركت ذاك، وانت قادر على ذاك ان تركت هذا. بالعقل في مرحلة الفعلية ويسمى بالترتب المأموري. أما الترتب الآمري: فهو ترتب في مرحلة الجعل من قبل المولى، المولى يعالج تكاليفه المتنافية بالعرض أو بالذات في مرحلة الترتب، ولذلك الترتب في مرحلة الجعل يحتاج الى دليل خاص، بخلاف الترتب في مرحلة الفعلية، فإن الترتب في مرحلة الفعلية إمكانه مساوق لوقوعه، لا يحتاج الى دليل خاص، فهو مقتضى حكم العقل اصلا، اما الترتب في مرحلة الجعل فلأنه فعل للمولى فيحتاج الى دليل خاص، وإلا إذا لم يقم به المولى، لعل حل التعارض بوجوه اخرى ولا يتوقف على الترتب. إذن الترتب الآمري وهو الترتب في مرحلة الجعل ممكن المتعارضين، بأن يقول المولى لعبده: قم لأن القيام اهم، فإن لم تقم فاقعد، باعتبار أنّ بينهما ثالث وهو ان لا يقوم ولا يقعد، لكن المولى حل التعارض بالترتب الآمري، نعم، لا يتصور ترتب آمري ولا مأموري في الضدين الذين لا ثالث لهما، لأنه يؤول الى طلب الحاصل.

أمّا في محل كلامنا القصر والتمام، اصلا لا يوجد تضاد حتى نقول بأنه تضاد دائمي، والتضاد الدائمي لا يتصور فيه تزاحم، فلا يتصور فيه ترتب، لان القصر وان كان مقيدا بعدم سبق التمام لكن التمام ليس مقيدا بعدم سبق القصر، فالمكلف يمكنه بعد ان يأتي بالقصر أن يأتي بالتمام، غايته الإتيان بالتمام بعد القصر لغو، لا من باب التضاد، وإلا فهو يمكنه ان يأتي بها، لكن الاتيان بها بعد القصر لغو، لأنه إذا اتى بالقصر استوفى الملاك التام للمولى، فإيقاع التمام بعدها لغو لأنها لا تقع مصداقا ًلمأمور به ولا تقع مصداقا لتحصيل ملاك، فيكون ايقاعها بعد القصر لغواً، لا من باب التضاد بينهما كي يكون التضاد دائميا فلا يتصور تزاحم ولا ترتب.

وأما بين الجهر والاخفات فاذا جعلنا المقابلة بين الجهر في القراءة والإخفات في القراءة يتم إشكال النائيني وهما من الضدين اللذين لا ثالث لهما، اما إذا جعلنا المقابلة بين الصلاتين لا بين الكيفيتين، لأنّ التكاليف الضمنية لا معنى لإيجاد التقابل بينهما، بل ترجع الى التكاليف الاستقلالية، فيقال: صل بجهر فإن لم تصلي بجهر فصلي اخفاتاً، فلا يكونان من الضدين الذين لا ثالث لهما، اذ يمكنه ان لا يصلي أصلاً، فلا معنى لإيقاع المقابلة بين الجهر والإخفات في القراءة، لان التكاليف الضمنية لا تقابل بينها فلا محالة إذا رجعنا للتكليفين الاستقلاليين الصلاة مع الجهر والصلاة مع الاخفات يتصور بينهما ترتب آمري ومأموري.

والحمد لله رب العالمين.