درس الأصول | 131

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

تلّخص: أن تخريج المسألة من باب الترتب لا يرد عليه إشكال ثبوتي، سوى ما ذكرناه في التخريجات السابقة، من أن التمام إما ليست مانعاً من استيفاء ملاك القصر، فلا وجه لتقييد القصر بعدم سبق التمام، وإما مانع من عدم الاستيفاء فلا يجتمع ذلك مع المقربية.

التخريج الأخير: ما ذكره المحقق النائيني «قده». ومحصّله: أن الواجب في حق المسافر أمران: وهو وجوب اصل الصلاة ووجوب خصوصية القصر في حقه من بابل الواجب في الواجب، كما أن وجوب ذكر الركوع ووجوب ذكر الوجوب ليس من باب الوجوب الضمني وإنما من باب الواجب في الواجب اي من صلى وجب عليه اثناء الصلاة ان يقرأ الذكر اثناء الركوع أو اثناء السجود، فالذكر واجب في واجب لا أنه واجب ضمني، كذلك خصوصية القصر في حق المسافر واجب في واجب، لا انها واجب ضمني، والا فهناك وجوبان، وجوب اصل الصلاة ووجوب خصوصية القصر من باب الواجب في الواجب. فاذا المكلف جهلا ما اتى بالقصر، فإن كان جهله عن تقصير امتثل الامر باصل الصلاة ولكنه عصى الامر الاستقلالي بخصوصية القصر فاستحق العقوبة. أما بالنسبة الى العالم، فهنا صور كلام المحقق النائيني «قده» بالنسبة للعالم بثلاث صيغ:

الصيغة الاولى: بأن مدعى المحقق النائيني وهو المناسب لأجود التقريرات وفوائد الاصول: ان الجاهل المسافر خوطب بأمرين: اصل الصلاة، وخصوصية القصر على نحو واجب في واجب، لا على نحو الواجب الضمني. وأما العالم، فمن علم بوجوب القصر في حقه صار موضوعاً لوجوب ضمني في القصر في حقه، من لم يعلم ليس هناك الا أمر بالصلاة وأمر بخصوصية القصر كواجب في واجب، من علم بوجوب القصر على المسافر كان ذلك العلم موضوعا لوجوب ضمني لخصوصية القصر، بحيث لا تصح الصلاة منه الا مع القصر باعتبار انه واجب ضمني، بخلاف ما لو قلنا واجب استقلالي، تصح الصلاة بدونه وإن كان آثما بترك هذا الواجب في الواجب، أما هذا العالم ان علم بوجوب القصر كان وجوب القصر في حقه وجوباً ضمنياً. ثم ذكر المحقق النائيني بناء على هذه الصياغة ان هنا وجبين في حق المكلف بالنسبة الى القصر، وجوب استقلالي، ووجوب ضمني، في حق الجاهل لا يوجد الا وجوب استقلالي، اما في حق العالم يوجد وجوبان، استقلالي وضمني. قال: إذا اجتمع الوجوبان فليس من اجتماع المثلين في شيء حتى يقال لا يعقل اجتماع المثلين، بل ان لكل منهما اثر، الوجوب الاستقلالي لخصوصية القصر في الوقت، وهذا الوجوب الاستقلالي لخصوصية القصر في الوقت يترتب عليه اثر، والوجوب الضمني لخصوصية القصر يترتب عليه أثر آخر. هذا ليس من اجتماع المثلين في شيء، نظير من نذر صلاة الظهر عليه وجوبان: وجوب الوفاء بالنذر، ووجوب صلاة الظهر، ولكل منها أثر، وجوب صلاة الظهر أثره القضاء لو فات، النظر لا يقضى إذا فات وقته، ووجوب الوفاء بالنذر اثره الكفارة لو تركه متعمداً، وجوب صلاة الظهر ليس عليه كفارة، فهناك وجوبان لكل منهما اثر لا انه من اجتماع المثلين، غاية ما في الباب يحصل الاندكاك بين الوجوبين في مرحلة الفعلية فيكتسب كل وجوب من الآخر صفته. بيان ذلك: من نذر صلاة الليل، صلاة الليل مستحبة في حقه، النذر اوجب ان تكون صلاة الليل واجبة، لكن اندكاك وجوب الوفاء بالنذر في استحباب صلاة الليل جعل كل من الحكمين يكتسب صفة من الآخر، اكتسب وجوب الوفاء بالنذر من الاستحباب صفة العبادية، لان وجوب الوفاء بالنذر توصلي، اكتسب العبادية من استحباب صلاة الليل، والاستحباب اكتسب من وجوب الوفاء بالنذر صفة الوجوب حيث إنه لم يكن وجوباً. فنتيجة الاندكاك بين وجوب الوفاء بالنذر والاستحباب ان كل منهما اكتسب صفة من الآخر. هنا في محل كلامنا، تجب خصوصية القصر وجوبا اسقلالياً من باب الواجب في الواجب، وتجب خصوصية القصر في حق العالم وجوباً ضمنياً، فاكتسب الوجوب الاستقلالي من الوجوب الضمني صفة الضمنية، واكتب الوجوب الضمني من الوجوب الاستقلالي صفة المحركية نحوه، كل منهما اكتسب صفة من الآخر. هذه الصياغة من المحقق النائيني اشكل عليها: من ينوي الطريق أنه يكتسب ما لم يكن تدخل من المولى، اي ان المولى بمجرد ان يجعل حكمين ويجتمع الحكمان في مرحلة الفعلية، فاكتساب كل من الحكمين صفة من الآخر امر جعلي اعتبار يحتاج الى جعل واعتبار معتبر، ولا يتحقق هكذا اتفاقاً فإن هذه امور اعتبارية وليست امور تكوينية، إذن كيف يكتسب الوجوب الاستقلالي صفة الضمنية بحيث لا تصح الصلاة الا به، مع ان المولى لم يجعل ذلك. لعل المحقق النائيني «قده» يرى ما يراه السيد الاستاذ «دام ظله» من ان الأحكام الشرعية محفوفة بمتمم جعل تطبيقي، اي ان المرتكز العقلائي بمثابة الجاعل المتمم للشارع، دائما الأحكام الشرعية بنظره محفوفة بمرتكز عقلائي هو بمثابة جاعل متمم لجعل الشارع، فاذا كانت الاحكام الشرعية متقرنة بجاعل متمم، فهذا المرتكز العقلائي يقول: إذا اجتمع الحكمان في مرحلة الفعلية اندكا، ومعنى اندكاكهما اكتساب كل واحد منها صفة الآخر، فهذا الاندكاك والاكتساب من متمم الجعل التطبيقي لا من قبِل جعل الشارع نفسه.

الصياغة الثانية: إن وجوب خصوصية القصر يبقى وجوب استقلالي حتى في حق العالم غاية ما في الباب الشارع يقول وجوب ذكر في الركوع هو وجوب استقلالي، لكن في حال العلم لا يسقط الامر بالركوع حتى تأتي بالذكر في ضمنه، وان كان هو وجوباً استقلالياً، لكن في حال العلم بينهما ارتباطية، هنا وجوب خصوصية القصر في حق العالم ايضاً هي وجوب استقلالي كما هي في حق الجاهل، لكن المولى يقول: لا يسقط الأمر بالصلاة لمن كان عالما حتى يأتي بخصوصية القصر، وإلا لا يسقط الأمر في حقه بالصلاة.

أورد على هذه الصياغة: بأن لازمها لو أن العالم الذي علم بوجوب القصر على المسافر نتيجة فتوى الفقهاء، لكنه يحتمل خطأهم وأن المكلف ربما مخاطب بالتمام حتى في حال السفر، فلأجل انه يحتمل خطأهم قال آتي بالتمام احتياطاً، فأتى بالتمام احتياطاً، ثم اتى بالقصر بعدها ايضاً، لازم هذه الصياغة ان يقال باستحقاقه للعقوبة، لان المولى قال: من صلى فيجب عليه ان يأتي بخصوصية القصر، ووجوب خصوصية القصر وجوب استقلالي يعني له عقوبة بإزائه، فاذا قال المولى: من صلى يجب عليه ان يأتي بخصوصية القصر وجوبا استقلالياً، اذن هذا العالم الذي اتى بالتمام في أول الوقت، وإن اتى بالقصر بعد ذلك إلا انه عصى ذلك الوجوب الاستقلالي في صلاته الاولى حيث لم يأتي بالقصر فعليه يكون مستحقا للعقوبة مع انه اتى بالقصر وهذا مما لا يمكن الالتزام به. لكن لو سلمنا كلام النائيني انه بهذه الصياغة يمكن الإجابة عليه، بأن الوجوب الاستقلالي للقصر موضوعه تمام الوقت، يعني من صلى وجب عليه ان يأتي بخصوصية القصر ما دام الوقت باقياً، فمن اتى بالتمام اولاً ثم اتى بالقصر ثانياً لم يكن مستحقا للعقوبة، لأنه أتى بخصوصية القصر في الفرد الثاني من الصلاة.

الصياغة الثالثة: التي نسبها المحقق العراقي الى النائيني واشكل عليه فيها: ان يقال بأن للمولى جعلين: جعل مطلق، وجعل في حق العالم. الجعل المطلق، هو ان خصوصية القصر واجبة وجوبا استقلالياً. يجب اصل الصلاة على المسافرة، وتجب خصوصية القصر على المسافر. ثم قال: فمن علم بوجوب القصر يتبدل الوجوب في حقه، من وجوب استقلالي للقصر الى وجوب ضمني، بمجرد ان يعلم بوجوب القصر يصبح وجوب القصر في حقه وجوبا ضمنياً، فلازم هذا الكلام ان العلم رافع للوجوب، لانه قبل ان يعلم كان يجب عليه خصوصية القصر وجوبا استقلاليا، بالعلم ارتفع هذا الوجوب الاستقلالي وصار العالم موضوعاً لوجوب ضمني، فهنا العلم ليس مثبتا للوجوب، بل العلم رافع للوجوب، اي ان المثبت للوجوب الجهل وليس العلم، وهنا اشكل العراقي: فقال، هذا دور واضح، كما قيل في فرض العلم بالوجوب، يقال في فرض الجهل بالوجوب، كما ذكر الأصوليون: قالوا لا يعقل إناطة الوجوب بالعلم به، يعني لا يعقل اناطة الوجوب الفعلي بالعلم بالوجوب الفعلي، لأنّه يستلزم الدور، فإن الوجوب فرع العلم به، والعلم بالوجوب الفعلي فرع وجود وجوب فعلي. فيلزم الدور، كذلك في الجهل ان يقول: يجب عليك خصوصية القصر استقلالا إن جهلت، فإن الجهل بالوجوب فرع وجود وجوب حتى يقال: جهل به، إذن الوجوب الاستقلالي لخصوصية القصر مشروط بالجهل به، فلا يكون فعلياً حتى يجهل به، والحال بأن الجهل به فرع وجوده لأنه لا معنى للجهل بالشيء مع عدم وجوده وإلا صار من باب السالبة بانتفاء الموضوع، اذن الجهل بالشيء فرع وجوده، الوجوب فرع الجهل به، والجهل به فرع وجوده، فيلزم الدور لا محالة، لا فرق بين اشتراط الوجوب بالعلم وبين اشتراط الوجوب بالجهل. والحال انه يرد على المحقق العراقي: اما في العلم فقد اجابوا عنه بأن هناك فرق بين العلم بالجعل والمجعول، العلم بالجعل الكلي موضوع لمجعول جزئي في حق المكلف، فافترق المجعول عن الجعل فلا يلزم دور. وأما بالنسبة للجهل لو ثبتت هذه الصياغة، فإن ما يفترضه المحقق النائيني أن شرط الوجوب الاستقلالي للقصر عدم العلم لا الجهل، والمتأخر رتبة عن الشيء هو الجهل به لا عدم العلم به، فالجهل به نعم فرع وجوده، اما عدم العلم فهذا ليس فرعا للوجود، فإن عدم العلم بالشيء يجتمع مع عدم الشيء، فما يقوله المحقق النائيني «قده» هناك وجوب استقلالي لخصوصية القصر مطلق ليس مشروطا بالجهل به، فمن علم بهذا الوجوب كان علمه موضوعا لوجوب ضمني في حقه، وهذا مما لا يلزم منه الدور أصلاً. فهذا الاشكال الاول الذي ذكره المحقق العراقي غير تام.

الإشكال الثاني: بأن هذا الوجوب الاستقلالي لخصوصية القصر، اما يشمل الجاهل المتردد أو يختص بالجاهل المركب، فإذا كان يشمل الجاهل المتردد ربما يتصور له أثر، بأن الجاهل المتردد لا يدري هل حكمه القصر أو حكمه التمام، فالوجوب الاستقلالي لخصوصية القصر في حقه يتصور له اثر بأن يحتاط، ما دام يحتمل ان وجوب القصر مجعول في حقه بالإتيان بالتمام والقصر، اما إذا افترضنا كما هو ظاهر كلام النائيني ان وجوب القصر استقلالاً خاص بالجاهل المركب، من جهل بوجوب القصر فالقصر واجب في حقه. فيقولون: جعل هذا الوجوب لغو، لأنك جعل وجوباً في حق من لا يمكنه امتثال هذا الوجوب، لا يمكن للجاهل القاطع في عدم الوجوب ان يكون الوجوب في حقه محركا، فإذا افترضنا ان وجوب القصر استقلالاً خاص بمن يعتقد بعدمه، إذن فجعل الوجوب في من حق من لا يمكنه ان يمتثل الوجوب في يوم من الأيام، يكون جعل الوجوب في حقه لغواً، لا يمكنه حتى الاحتياط لانه قاطع بالعدم.

والحمد لله رب العالمين.