درس الأصول | 132

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

الصياغة الثالثة: ان يدعى بأن الشارع جعل أمراً بالصلاة، وأمراً استقلاليا بخصوصية القصر في حق المسافر، فإنه علم بهذا الوجوب الاستقلالي أو فإنه علم بأصل الوجود صار موضوعا لوجوب ضمني وزال الحد الاستقلالي لأصل الوجوب لا أصل الوجوب، فليس المدعى في المدعى إذا علم بوجوب القصر فالوجوب الاستقلالي برمته يزول حتى يرد محذور اللغوية، وهو ان تخصيص الوجوب الاستقلالي بالجاهل المركب لغو، فيريد ان يتفصى عن هذا الاشكال، ويقول الذي يختص بالجاهل المركب ليس الوجوب وإنما حد الوجوب، أي عنوان الاستقلالية. فقبل ان يعلم كان وجوب القصر في حقه معنونا بالاستقلالية، وبعد ان علم بأصل الوجوب فقط زال الحد وهو الاستقلالية وإلا فأصل الوجوب باق، غاية ما في الأمر علمه بأصل الوجوب جعله موضوعا لوجوب ضمني للقصر، لا بمعنى ان الوجوب تبدل عنوانه، يعني ذاك الوجوب الواحد كان محدوداً بحد الاستقلالية صار محدوداً بحد الضمنية، لأن الوجوب الضمني لا يعقل جعله، فإنه الوجوب الضمني لا من جعله من جعل الامر بالمركب، حيث إن الوجوب الضمني ما كان منتزعا بأمر عن أمر بالمركب، فلا يمكن جعله إلا بجعل أمر بالمركب، لأجل ذلك لا يمكن القول إن كان المكلف جاهلا فهذا الوجوب معنون بعنوان الاستقلال، ان صار المكلف عالما بالقصر صار الوجوب معنوناً بعنوان الضمنية. هذا غير معقول، لأن وصف الضمنية لا يمكن جعله مستقلاً، بل ما هو المعقول ان يقال ان المسافر الجاهل جعل وجوب في حقه معنون بعنوان الاستقلالية، وبمجرد ان يعلم بهذا بأصل هذا الوجوب يزول حد الاستقلالية، لكن يجعل في حقه وجوب ضمني بجعل أمر بالمركب القصري. كل هذا حتى نتخلص من إشكال اللغوية، وهي اختصاص الوجوب الاستقلالي بالجاهل المركب. فنقول لا لغوية في البين، لأن اصل الوجوب ما زال باقياً، ويكفي في عدم لغويته بقاء اصله، فيكون محركا مع محركية الوجوب الضمني، ولا يلزم من ذلك لغوية، وإنما الذي زال بالعلم هو الحد، أي حد الاستقلالية.

ويرد على هذه الصياغة: أن الاستقلالية والضمنية إما متقابلان تقابل الضدين، أو تقابل الملكة والعدم، أي اما ان تكون الاستقلالية أمراً وجودياً مجعولة من قبل المولى كجعل اصل الوجوب، فكما ان المولى يتصدى لجعل الوجوب يتصدى لجعل الاستقلالية، فهي امر وجودي، إذا كانت الاستقلالية امرا وجوديا يرجع اشكال اللغوية، فجعل الاستقلالية في حق الجاهل المركب الذي لا يمكنه الانبعاث عن هذه الاستقلالية ابدا، يكون لغواً. وأما ان يقال ان تقابلهما تقابل الملكة والعدم، يعني الوجوب الضمني امر وجودي، لانه منتزع عن الامر بالمركب، أم الاستقلالية فهي عبارة عن عدم الضمنية، كل وجوب عن امر بالمركب فهو ضمني والا فهو استقلالي، فالاستقلالية امر عدمي. فحينئذ يرد الإشكال انه لا يتصور بقاء وجوب لا هو استقلالي ولا هو ضمني، فإنه المفروض في هذه الصياغة ان المولى جعل وجوبا لخصوصية القصر، موصوفا بالاستقلالية حال الجهل، واذا علم زالت الاستقلالية وبقي اصل الوجوب من جون ان يتحول هذا الوجوب الى وجوب ضمني، بل يكون المكلف موضوعاً لوجوب ضمني آخر، نقول: لا يتصور بقاء اصل الوجوب من دون ان يكون لا استقلاليا ولا ضمنياً، فإنه موضوع الملكة والعدم لا يعقل ان يبقى من دون ان يتصف لا بالملكة ولا بعدمها. فهذه الصياغة الثالثة غير تامة.

الإشكال الاخير على مطلب النائيني، القائل: بأن هناك امران: امر بأصل الصلاة، وأمر بخصوصية القصر في ظرف الصلاة.

فاشكل عليه: بأن لازم ذلك تعدد العقوبة، أي أن الجاهل أسوأ حالا من العالم، الجاهل الذي لو لم يصلي اصلا في السفر فقد ترك امثال امرين، الامر بأصل الصلاة، والامر الاستقلالي بخصوصية القصر في الصلاة، ولازم ذلك استحقاقه لعقابين، اما العالم بوجوب القصر من الاول ولم يصلي غايته انه خالف امراً واحداً فلا يستحق الا عقوبة واحدة، فصار امر الجاهل المقصر اسوأ حالا من العالم التارك.

لكن اجيب عن هذا الإشكال دفاعا عن النائيني بوجهين: الوجه الاول: الامر الاستقلالي بالقصر موضوعه من صلى، يعني لا انه واجب على المكلف ابتداء، بأن يكون هناك امران ابتداء: صلي، وأوجد صلاة بخصوصية القصر، كي يقال خالف أمرين، بل ليس هناك الا امرا واحدا، صلي، وان صليت فأنت مأمور بخصوصية القصر في ظرف الصلاة، فإذا لم يصلي من الأساس فقد فات الأمر خصوصية القصر بانتفاء موضوعه، لا ان المكلف فوته، هذا نظير الامر بالذكر حال الركوع، فإنه الأمر بالذكر حال الركوع ليس امرا ضمنيا بل هو امر استقلالي ظرفه الصلاة، من صلى فركع فهو مأمور بالذكر الكذائي، فلو فرضنا ان شخصنا ما صلى من الاساس، فهل يعاقب عقابين، عقاب على مخالفة الأمر بالصلاة وعقاب على ترك الذكر؟ أم يقال: يعاقب عقاب واحد على ترك الصلاة. وأما الأمر بالذكر فموضوعه من صلى، فاذا لم يصلي فقد انتفى الامر بانتفاء موضوعه.

الوجه الثاني من الجواب: لنفرض أن الجاهل المسافر مأمور بأمرين: امر بأصل الصلاة، وأمر بخصوصية القصر في ظرف الصلاة. أما قد يكون مستوى الأمرين بمثابة أمر واحد من حيث درجة الملاك، فإنه مناط استحقاق العقوبة ليس بتعدد الأوامر التي خالفها المكلف بل المناط في استحقاق العقوبة بتفويت الملاك الملزم، فلو افترضنا أن درجة الملاك واحدة، يعني العالم مأمور بأمر واحد وهو القصر فترك وما صلى، والجاهل مأمور بأمرين، أمر بأصل الصلاة وأمر بخصوصية القصر، الا ان ملاك هذين الامرين يساوي ملاك الأمر الواحد في حق العالم، فإذا ترك امتثال الامرين لم يكن مستحقا لعقوبتين ما دام الملاك للأمرين لا يعلو درجة على ملاك الأمر بالقصر التعييني، في حق العالم، فلا يكون الجاهل التارك أسوأ حالاً من العالم التارك.

فتلخص من كل ذلك: أننا ذكرنا وجوها عديدة للتوفيق في مسلك المشهور، حيث إن مسلك المشهور من الفقهاء: ان من صلى تماما في موضع القصر جاهلاً صحت صلاته، وإن كان مقصراً استحق العقوبة مع ان صلاته صحيحة، إذا كان مقصرا يعني ترك تعلم أحكام السفر، فإنه يستحق العقوبة، حتى وان امكنه الاعادة كما إذا علم بالحكم اثناء الوقت، لا يجب عليه الإعادة مع ذلك يستحق العقوبة، والامر في الجهر والاخفات اشد، يعني من جهر في موضع الاخفات، أو اخفت في موضع الجهر عن جهل تقصيري صحت صلاته وان التفت قبل الركوع، ومع ذلك يستحق العقوبة. كالشخص الذي التفت قبل الركوع انه جهر في موضع الاخفات وأنه يمكنه أن يستأنف القراءة، يقال له لا يشرع في حقك الاستئناف، لكن انت مستحق للعقوبة لانك مقصر. فقد ذكرنا في تخريج ذلك ستة تخريجات:

التخريج الأول: ان الجاهل المسافر، مخاطب بالجامع بين التمام والقصر.

التخريج الثاني: أن الكل، المسافر جاهلا أو عالما مخاطب بالقصر، لكن زيادة الركعتين مانع من صحة الصلاة في حق العالم، غير مانع من صحة الصلاة في حق الجاهل.

التخريج الثالث: ما ذهب اليه صاحب الكفاية «قده» من المسقطية، وخرجها بهذا النحو، أن من صلى تماما جامعة للشرائط فقد فوت ملاك القصر، فبلحاظ هذا التفويت استحق العقوبة ان كان جاهلا مقصرا. وسقط الامر بالقصر لتعذر استيفاء ملاكه.

التخريج الرابع: هو الامر الترتبي الذي ذهب اليه كاشف الغطاء، ان المسافر مخاطب بأمرين، أمر تعييني بالقصر، فإنه لم يمتثل هذا الأمر فهو مخاطب بالتمام في حال الجهل.

التخريج الخامس: ما ذكره من وجود امرين في حق المسافر: أمر بالجامع بين القصر والتمام حال الجهل، وأمر بقصر غير مسبوقة بتمام حال الجهل.

التخريج السادس: ما ذكره المحقق النائيني «قده»: أنّ هناك أمراً بأصل الصلاة وامرا استقلاليا بخصوصية القصر في حق المسافر الجاهل. وجميع هذه التخريجات الذي ذكرناها يرد عليه إشكال واحد: أما ان تلتزموا أن التمام ليست مفوتة لملاك القصر، إذن فلماذا يستحق العقوبة، إذا كان التمام لا تفوت ملاك القصر والشخص يمكنه ان يعيد القصر بعد ان التفت والوقت مازال باقياً، أو جهر في موضع الاخفات، أو اخفت في موضع الجهر، ويمكنه ان يستأنف القراءة قبل الركوع، مع ذلك تقولون لا شيء عليه، ولكن يستحق العقوبة، لأنه صدر ذلك منه عن تقصير. فيقول أنا استطيع ان اعيد الصلاة، لأنني ما فوت ملاك القصر وما فوت ملاك الجهر، وما فوت ملاك الاخفات، واستطيع ان اعيد الصلاة بأحسن ما يكون والوقت ما زال باقيا، يقال سقط الامر في حقك وتستحق العقوبة. فيقال: إما أن تلتزموا بأن التمام لا تفوت، فالحكم باستحقاق العقوبة غير عقلائي، وإما ان تقولوا ان التمام فوت ملاك القصر، كما ذكره صاحب الكفاية، فكيف يجتمع قول التمام مقربا للمولى ومبعدا عنه، لانه مفوت لملاك ملزم عليه.

لذلك بقي وجهان في المسألة: الوجه الاول: ما ذهب اليه بعض الاساتذة «دام ظله» من انه لا وجه لاستحقاق على الجاهل المقصر، وقال انه لم دليل على ذلك اطلاقا. فإنه بلا اشكال قد اتفق المشهور على عدم استحقاق العقوبة في الصوم وفي الذبح الى غير القبلة، «فمن صام في السفر بجهالة فلا شيء عليه» كما صحيحة العيص، وقد حكم المشهور انفسهم ان من صام في السفر بجهالة ولو لكان عن تقصير صومه صحيح ولا عقوبة عليه، وإن كان عن تقصير. كما ان المشهور قالوا في الذبح لغير القبلة، إذا ذبح لغير القبلة جهلا باشتراط القبلة، فإنه ذبيحته مذّكاة، يعني يحل اكلها، ولا يستحق العقوبة وان كان ذبحه عن جهل تقصيري. فهذا منبه على ان الحكم باستحقاق العقوبة الذي ادعى الإجماع السيد الرضي عليه من دون دليل.

الوجه الأخير: يمكن تخريج المسألة من دون هذه المعالجات التي اجريت في حق المسافر الجاهل المقصر. فيقال: بأن هذا المسافر الجاهل يقال في حقه: أنه مخاطب بالقصر تعييناً، غاية ما في الامر يجب عليه ان يتعلم احكام السفر بمقتضى ادلة التعلم، فاذا لم يتعلم مع التفاته الى انه يجب التعلم كان وجوب التعلم منجزاً للواقع في حقه، أي منجز لوجوب القصر تعيينا في حقه، لانه يمكن ان يتعلم فلم يتعلم، فنفس ادلة وجوب التعلم نجزت الواقع في حقه. فإنّ صلى تماماً، فهذه الصلاة التمامة لا امر بها، غاية ما في الامر ان صلى تماما اسقط عنه الشارع الأمر بالقصر امتناناً، فهو من جهة مستحق للعقوبة لمخالفته لدليل وجوب التعلم الذي نجز الواقع عليه من خلال الوجوب الطريقي. ومن جهة اخرى أتى بالتمام، فإتيانه بالتمام أوجب ان يمتن الشارع عليه بسقوط الأمر بالقصر من دون أي تصرف في مقام الجعل. ووجّه بعضهم المسقطية التي ادعاها صاحب الكفاية بهذا النحو. فتأمل.

والحمد لله رب العالمين.