الحلقة 7 | الإدراك الحسي، من القضايا الضرورية أم النظرية؟

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

وصل بنا البحث في المقارنة بين المدرستين الحسية والعقلية إلى النقطة التالية: هل إن إدراك الواقع الموضوعي من القضايا الضرورية أم من القضايا النظرية؟

وهنا نتعرض إلى ثلاثة محاور:

المحور الأول: الاتجاهات الفلسفية حول الإدراك الحسي.

وهنا مبحثان:

المبحث الأول: هل للإدراك وجود موضوعي؟ أم ليس هناك إلا الوجود الذاتي؟

إذ لا إشكال في وجود صور في أذهاننا نتيجة الإحساس، فللطاولة التي أمامنا صورة، وللصديق الذي نعرفه صورة، وللحرارة التي نشعر بها صورة، فإدراك النفس لهذه الصور إدراك ذاتي، أي أن هذه الصور لها وجود ذاتي لدى النفس، ولكن هل وراء هذه الصور وجود موضوعي خارجي - مع غمض النظر عن النفس وإدراكها - أم لا؟

المبحث الثاني: هل إن إدراك الحس لهذا الوجود الموضوعي من القضايا الضرورية أم القضايا النظرية والتي تحتاج إلى استدلال وبرهان؟

فبلحاظ هذين المبحثين توجد عدة اتجاهات:

الاتجاه الأول: الاتجاه الفلسفي العقلي المعروف في المنطق الصوري، وهو الذي يذهب إلى الإيمان بأن وراء الوجود الذاتي وجودًا موضوعيًّا، كما أن إدراك النفس لهذا الواقع الموضوعي من قسم الضروريات وليس من قسم النظريات.

ولذا نجد الاتجاه الفلسفي - وهو اتجاه المنطق الصوري - يُقسّم القضايا الضرورية إلى: قضايا أولية، وقضايا فطرية، وقضايا تجريبية، ومتواترات، وحدسيات، وحسيات، فهو يُدرج القضايا الحسية ضمن القضايا الضرورية البديهية.

الاتجاه الثاني: وهو اتجاه المدرسية المثالية، ف «باركلي» مثلًا إمام المدرسة المثالية ينكر الواقع الموضوعي، فليس للأشياء وجود سوى في إدراكنا لها، وبهذا يكون وجود الأشياء وجودًا ذاتيًّا وليس وجودًا موضوعيًّا.

الاتجاه الثالث: وهو الاتجاه الذي يؤمن بالواقع الموضوعي، ولكنه يرى استحالة معرفته والوصول إليه، وهو اتجاه «كانت»، وإليك تقرير نظرية «كانت» حسب ما ورد في كتاب «نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان» لفؤاد زكريا:

يرى «كانت» أن هنالك فرق بين ظواهر الأشياء وحقائق الأشياء، فظواهر الأشياء هي التي تنطبع صورها في أذهاننا: كاللون، والطعم والرائحة، والشكل، والحركة، والامتداد، إذن فهي معطيات حسية موجودة وجوداً ذاتياً لدينا، وأما حقائق الأشياء فهي وجود آخر وواقع آخر، وهذا الواقع لا يمكننا أن نصل إليه، إذ ليس لدينا وسيلة إلا الحس، والحس لا يمكنه أن يعبر من الصور إلى ما وراء الصور ولا أن يقرر بأن وراء الصور واقعًا موضوعيًّا، إذ طاقة الحس وغاية مقدوره هو الوصول إلى الوجود الذاتي للأشياء.

الاتجاه الرابع: وهو ما ذكره عدة من المفكرين ومنهم زكي نجيب محمود في كتابه «نحو فلسفة علمية»، والسيد الشهيد السيد محمد باقر الصدر - قُدّس سره - في أصوله وفي كتابه «الأسس المنطقية للاستقراء»، إذ ذهب هؤلاء إلى أن الواقع موجود ولكن إدراكنا للواقع عبر الحس ليس من القضايا الضرورية، وهذا يخالف ما يذكره المنطق الصوري - الذي نحن ندرسه في الحوزات العلمية - من أن القضايا الضرورية ست ومنها الحسيات أي إدراك النفس للواقع عبر الحس، ولكنهم يروا أننا نستطيع الوصول إلى إدراكنا للواقع عبر دليل حساب الاحتمالات - أي الدليل الاستقرائي -.

المحور الثاني: منبهات ضرورية الواقع الموضوعي.

عندما يقرر المنطق الصوري الأرسطي أو المدرسة العقلية أن هناك واقعاً موضوعياً للأشياء، وأن إدراك النفس لهذا الواقع الموضوعي من القضايا الضرورية لا من القضايا النظرية، فما هي المنبهات على هذا الاتجاه؟

ويجيب أصحاب هذا الاتجاه بأن إدراكنا للحسيات إدراك ضروري، فإذا كان إدراكاً ضروريًا فلا يمكن أن يقام عليه دليل؛ لأنه ليس من القضايا النظرية حتى يستدل عليه، بل هو من القضايا الضرورية، وبالتالي إنما يمكن ذكر منبهات على هذه القضايا الضرورية لا أدلة، فما هي المنبهات الفطرية الوجدانية على ضرورية الإدراك للواقع الحسي؟

المنبّه الأول: قضية الاشتراك.

عندما يخرج مجموعة أمام الشمس فإنهم جميعًا يشتركون في إحساس واحد وهو الإحساس بالشمس، بضوئها وبدفئها وحرارتها، فالجميع يتفق على أن هناك إحساسًا واحدًا مشتركًا بين الكل، على الرغم من أن القوى الإحساسية تختلف من بشر إلى آخر، فهذا منبه على أنه ليس المدرك لهذا مجرد الانطباعات الحسية، فلو لم يكن للشمس واقع موضوعي وراء هذا الإحساس الذي نراه، لما اشترك من هم مختلفون في الإحساس بإحساس واحد، فالاشتراك في صورة واحدة دليل على أن هناك واقع أثّر عليهم جميعًا، ونتيجة ذلك اشتركوا في انطباع واحد.

المنبّه الثاني: الانطلاق الفطري.

وهو الذي يعبّر عنه «راسل» بأنه إيمان غريزي، ولكننا نختلف معه ونقول بل هو إيمان عقلي وليس غريزيًّا.

إن الانطلاق الفطري يكشف عن وجود واقع موضوعي، فالطفل ينطلق انطلاقًا طبيعيًا إلى صدر أمه، فهذا الانطلاق كاشف عن وجود معرفة فطرية بواقع موضوعي، فهذا الطفل يؤمن بفطرته أن هناك واقعًا، وأن هذا الواقع فيه أم وفيه مصدر للغذاء، ولذلك ينطلق إليه بفطرته من دون حاجة إلى تعليم واكتساب، أو إقامة دليل حساب الاحتمالات، والإنسان إذا عطش ينطلق إلى ذلك المائع المعين المسمى بالماء - هو وغيره ممن يختلف معهم في الإحساس -، وإذا جاع ينطلق نحو الطعام، ويخرج يوميًا إلى وظيفته أو إلى درسه أو إلى غير ذلك.

هذا الانطلاق الفطري الذي يراه الإنسان بوجدانه هو بنفسه شاهد على أن هناك واقعًا يؤمن الإنسان به إيمانًا فطريًا، فمعرفة الإنسان بهذا الواقع معرفة مبنية على الاستدلال والنظر، وليست معرفة متقوقعة في الحس وحده.

المنبّه الثالث: التتابع.

والمقصود بالتتابع هو أن الإنسان يدخل غرفته، فينام على سريره، ويفتح كتابه ليقرأ درسه، ثم يأتي في اليوم الثاني ليمارس نفس العمل، فما الذي يدلنا على أن هذه الغرفة هي تلك الغرفة؟ وما الذي يدلنا على أن هذا السرير هو ذلك السرير الذي أحسسنا به أمس؟

فإذا كانت المسألة مسألة إحساس فقط، فإن إحساس اليوم مغاير لإحساس أمس، إذ الإحساس لا يدل إلا على وجود صورة منطبعة فيه لا أكثر ولا أقل، ولكن ما الذي يدل على أن هذه الصورة تتطابق مع واقع الصورة السابقة التي رأيناها بالأمس؟ لا يوجد عندنا أي دليل على ذلك، وإنما يمكن أن يقال بأن المدرك في ذلك هو دليل حساب الاحتمالات.

نحن نقول: إن هذا منبّه على أن المعرفة بالواقع الموضوعي هي معرفة فطرية، والحس إنما هو مجرد وسيلة، ولذلك لا يقول أرباب المنطق الصوري بأن مدرك ضرورية الحسيات هو الحس، بل يقولوا بأن الحس مجرد وسيلة، كما هو الحال مع التجريبيات والحدسيات والمتواترات، إذ ليس مدرك ضرورتها التجربة أو الحدس أو التواتر، بل مدرك الضرورة في جميع هذه الموارد هو العقل، وإنما الحس والحدس والتواتر مجرد وسيلة للوصول إلى الُمدرَك.

وبعبارة أخرى: ذكرنا في درس سابق أن الضروري إما لضرورة في المدرَك أو لضرورة في الإدراك.

فالضرورة في المُدرَك، كأن يدرك الذهن بأن هذا الموضوع يتعين فيه هذا المحمول، فالأربعة زوج ولا يمكن أن تكون إلا كذلك، بمعنى أن هذا الموضوع يتعين ثبوت المحمول له بلا إشكال.

والضرورة في الإدراك، بمعنى أن العقل يدرك هذا الشيء دون دليل دون أن يستند إلى برهان أو دليل، فالعقل يدرك الحرارة عبر الحس، ويدرك الطاولة عبر الحس، وهذا إدراك ضروري نابع من صميم العقل دون استناد إلى عامل خارج عن العقل ألا وهو البرهان أو الاستدلال.

المحور الثالث: مناقشة زكي نجيب محمود.

ذكرنا أن هنالك بعض المفكرين الذين يسلمون بوجود واقع موضوعي، ولكن معرفتنا بهذا الواقع الموضوعي ليست معرفة ضرورية بل هي معرفة استدلالية تستند إلى دليل حساب الاحتمالات، وفيما يلي نقرأ كلام زكي نجيب محمود أولاً، ثم نقرأ كلام السيد الشهيد، ويبدو أن السيد الشهيد قرّر أولاً كلام زكي نجيب محمود ثمّ قرر نظريته، لأن زكي نجيب محمود سابق على السيد الشهيد بسنين عندما طبع كتابه «نحو فلسفة علمية» وقرر فيه الاستدلال بدليل حساب الاحتمالات على أن المعرفة بالواقع الموضوعي هي عبر هذا الدليل وليست معرفة ضرورية.

يذكر زكي نجيب محمود: أن إحساسنا باللون لا يعني وجود شيء ملون، فما أكثر الأشياء التي نعتقد وجودها عبر الحس ثم ينكشف عدم وجودها، كأن نعتقد أن هناك ماءً ثم ينكشف أنه سراب، ولكن مع ذلك يمكننا الوصول إلى الواقع الموضوعي عبر الاحتمال المرجّح، إذ لا معنى لطلب الحتمية واليقين فيما لا حتمية فيه ولا يقين، أي لا يمكن طلب دليل يوصل إلى اليقين بالحسيات، فحصول اليقين والحتمية بالحسيات أمر ممتنع متعذر.

إذن: إن الدليل الذي يمكن أن يوصلنا إلى الواقع الموضوعي هو الدليل الاستقرائي على نحو الاحتمال المرجح فقط لا على نحو اليقين، فيقول: فأنا عندما ألمس وأشعر أنني ألمس شيئا صلباً فإن الاحتمال الأرجح أن إحساسي بالصلابة ليس وهمًا، وذلك نتيجة خبرتي السابقة، فالاحتمال الأرجح هو أن هناك شيئًا صلبًا أقوم بلمسه، فلا يسعنا غير الاعتماد على خبراتنا السابقة التي توصلنا إلى ترجيح وجود واقع موضوعي.

ونحن هنا نذكر ثلاث ملاحظات:

الملاحظة الأولى: إن زكي نجيب محمود استند إلى ما ذكره «كانت» من أن هناك ظواهر وهناك حقائق، والوصول من الظواهر إلى الحقائق إنما هو عبر دليل الاستقراء المبني عنده على الاحتمال الأرجح.

من هنا نأتي ونقول: لا يمكن أن ننطلق بدليل الاستقراء من الظواهر إلى الحقائق بدون وجود قضية مسبقة وهي أن في الواقع الموضوعي شيئان:

أ‌. وجود جوهري وهو ما كان وجوده في نفسه لنفسه.

ب‌. وجود عرضي: وهو ما كان وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه، والوجود العرضي يفتقر للوجود الجوهري.

فلأننا نؤمن بهذه القضية، اعتبرنا ظواهر الأشياء أعراض، وأن هذه الأعراض تحتاج إلى موضوع تعتمد عليه، فانطلقنا من الظواهر لكي نصل إلى ذلك الموضوع الذي تعتمد عليه هذه الأعراض - وإن وصلنا إليه عبر الاحتمال الأرجح -.

إذن ما لم يؤمن الإنسان أن في الخارج أعراض وجواهر، وأنه من الأعراض ينتقل إلى الجواهر، ومن الظواهر ينتقل إلى الحقائق، فلا يمكن أن يستند إلى دليل الاستقراء ليصل إلى تلك الحقائق ولو وصل إليها عبر الاحتمال الأرجح.

الملاحظة الثانية: إن دليل الاستقراء يعتمد على تتابع الإحساسات المتوالية، والتي عبر عنها بالخبرات السابقة، وحينئذٍ يأتي الكلام: كما أن الوصول إلى اليقين الرياضي بالدليل الاستقرائي - كما يرى الشهيد الصدر - يحتاج إلى منشأ، كذلك الوصول بدليل الاستقراء إلى الاحتمال المرجح - كما يرى زكي نجيب محمود - يحتاج إلى منشأ، وبعبارة أخرى: كما أن الوصول إلى حالة اليقين يحتاج إلى منشأ، فإن الوصول إلى رجحان الاحتمال يحتاج أيضًا إلى منشأ، فما هو ذلك المنشأ؟

إن النكتة التي تمنع الوصول إلى اليقين هي نفسها تمنع من الوصول إلى الرجحان إذ إن زكي نجيب محمود يرى أنه لا يمكن الوصول إلى اليقين عبر حساب الاحتمال لأن الحس لا يوثق به.

وإذا كان المانع من الوصول إلى اليقين الرياضي هو كون الحس رافدًا لا يمكن الوثوق به، فهذا المانع كما يمنع من الوصول إلى اليقين فإنه يمنع كذلك من الوصول إلى الرجحان إذ لا فرق بين الدعويين، وبالتالي فجمع الإحساسات وتواليها لن يغير من الواقع شيئًا.

الملاحظة الثالثة: إن فاقد الشيء لا يعطيه.

يذكر زكي نجيب محمود أن تتابع الإحساس هو الذي رجّح احتمال أن ما أشعر به من الصلابة يعني وجود جسم صلب، ولكننا نقول: إما أن يكون الإحساس في نفسه قابلًا لأن يوصلنا إلى الواقع، فيكون لدينا معارف إحساسية ضرورية صحيحة، وإما أن الإحساس في نفسه غير قابل للوصول إلى الواقع الموضوعي، أما وجود مليار أو مليون إحساس فإنه لن يغير من الأمر شيئًا، فدعوى كون تتابع الإحساسات - أو ما يعبر عنه بالخبرة - يوصلنا إلى معرفة الواقع الموضوعي لكن على نحو الاحتمال الأرجح، إن هذه الدعوى في نفسها تستبطن نقدها، لأن كل إحساس في نفسه لا يمكن ضمانه ولا يمكن الوثوق بأنه يوصلنا إلى الواقع الموضوعي، وبالتالي فتتابع الإحساسات ولو كان مليون مرة لن يغير من الواقع شيئاً، إذ هو من قبيل ضم الحجر إلى الإنسان، أي ضم ما هو فاقد إلى ما هو فاقد.

ولذلك نرى السيد الصدر - قدس سره - في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء قد أضاف عواملًا أخرى ولم يكتفي بالإحساسات، لأنه يرى أن تتابع الإحساسات لن يغير شيئًا، فأضاف منبّهات أخريات.