تجليات الحكمة في الشخصية النبوية

الليلة الثانية من محرم الحرام 1441هـ

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ

صدق الله العلي العظيم

لقد وصف القرآن الكريم النبي الأعظم بأنه معلّم الحكمة، ومن هنا يتبادر لأذهاننا السؤال: كيف يكون الإنسان حكيمًا؟ كيف ينتهج الإنسان منهج رسول الله في مجال الحكمة؟ ومن أجل أن نشبع هذه النقطة نتعرض إلى عدة منطلقات:

  • الحكمة في التراث الروائي الوارد عن أهل البيت .
  • الحكمة في الإطار الفلسفي.
  • الحكمة في إطار علم النفس.
  • تجليات الحكمة في شخصية الرسول الأعظم .
المنطلق الأول: الحكمة في التراث الروائي الوارد عن أهل البيت .

عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا هنا يرد عن الإمام الصادق في تعريف الحكمة ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا قال: ”الحكمة المعرفة، والتفقه في الدين، فمن فقه منكم فهو حكيم.“ فهو يريد أن يرشدنا إلى أن الحكمة هي المعرفة التي لها أثر على سلوكنا. التي لها أثر على ضبط أفعالنا. حينئذ تكون هذه المعرفة مساوقة للحكمة.

ما هي موارد الحكمة؟ وما هو الطريق إلى الحكمة في النصوص الواردة عن أهل البيت ؟ ذكرت هذه الروايات موردين للحكمة:

  • المورد الأول: العلاقة مع الله.
  • المورد الثاني: العلاقة مع المجتمع، مع الإنسان الآخر.

المورد الأول: العلاقة مع الله.

أما الحكمة في المورد الأول وهو العلاقة مع الله فقد حددها الإمام أمير المؤمنين علي بعنصرين:

• العنصر الأول: الخوف من الله.

قال: ”رأس الحكمة مخافة الله“ انطلاقًا من القرآن الكريم ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى

• العنصر الثاني: عدم الاسترسال في الشهوات.

الإنسان محتاج إلى أن يشبع شهواته، ولكن إذا استغرق في إشباع الشهوات، فقد الطريق إلى الحكمة. ورد عن الإمام علي : ”حد الحكمة الإعراض عن دار الفناء، والتوله بدار البقاء“ الإعراض عن دار الفناء يعني عدم الاسترسال في الشهوات. ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ

المورد الثاني: العلاقة مع المجتمع، مع الإنسان الآخر.

كيف أكون حكيمًا في العلاقة مع البشر؟ في العلاقة مع المجتمع؟ هنا ورد عن الإمام علي : ”الحكمة أن لا تنازع من فوقك، ولا تستذل من دونك، ولا تتعاط ما ليس في قدرتك“ نحن عندما نكون موظفون في شركة، لنعرف حجمنا، لا ننازع من فوقنا ولا نستذل من دوننا، ولا نتعاط ما ليس في قدرتنا. نحن عندما نكون فردًا في عشيرة، فردًا في مجتمع، لنعرف حجمنا وموقعنا، ولا يكن لساننا خلاف قلبنا، ولا فعلنا ولا قولنا خلاف فعلنا، ولا نتكلم بما لا نعلم. كما ورد في القرآن الكريم: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، وقال الإمام أمير المؤمنين علي : ”لا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم“ وورد عنه أنه قال: ”قلب الأحمق في فمه، وفم الحكيم في قلبه“ الفرق بين الحكيم والأحمق أن الحكيم كثير الصمت، وافر العقل، لا يتكلم إلا في موضع يقتضي الكلام. وأما الأحمق فهو ثرثار، يكثر كلامه فيكثر خطؤه، فيكثر غلطه. ”قلب الأحمق في فمه، وفم الحكيم في قلبه“. أما ما هو الطريق إلى الحكمة؟ الطريق إلى الحكمة يتقوّم بدعامتين:

• الدعامة الأولى: عدم الاستغراق في الشهوات.

ورد عن الإمام علي : ”لا تجتمع الشهوة والحكمة“ الإنسان الذي دائمًا يفكر في إشباع شهوته، لا يمكنه أن يكون حكيمًا، متأنيًا، ضابطاً متقنًا لتصرفاته. ”لا تجتمع الشهوة والحكمة“، ”كلما قويت الحكمة ضعفت الشهوة“

• الدعامة الثانية: الإخلاص.

كلما أخلصت لطريقك كنت أكثر حكمة. ورد عن الإمام علي : ”من أخلص العبادة لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه“ هذا ما يتعلق بالمنطلق الأول، الحكمة في التراث الروائي الوارد عن أهل البيت محمد .

المنطلق الثاني: الحكمة في الإطار الفلسفي.

الفلاسفة منهم السيد العلامة الطباطبائي، العلامة المطهري، عندما يتناولون مفردة: الحكمة. الحكمة العملية، نحن كلامنا في الحكمة العملية. ما هو المعيار في الحكمة العملية؟ متى نقول هذا حكيم؟ متى نقول هذا العمل حكمة؟ متى نقول هذه القيمة حكمة؟ هناك نظريات ثلاث في هذا المجال، تحديد ما هو المعيار وما هو المقياس في الحكمة:

  • المعيار الأول: الحكمة تكمن في الهدف.
  • المعيار الثاني: الحكمة تكمن في الدافع.
  • المعيار الثالث: الحكمة تكمن في الرؤية.

النظرية الأولى: الحكمة تكمن في الهدف.

هذه النظرية الأولى ذكرها ابن سينا، ذكرها الملا صدرا الشيرازي. الحكمة تكمن في نوع الهدف، ما معنى ذلك؟ يقولون الإنسان له مرتبتان:

• مرتبة ترابية.

المرتبة الترابية: الإنسان جسم. هذه هي المرتبة الترابية للإنسان. الإنسان جسم محاط بزمن ومكان. هذا الجسم حتى يبقى، حتى يعيش، يحتاج إلى الغذاء، يحتاج إلى إشباع شهوته، يحتاج إلى نيل القسط من راحته، يحتاج إلى عدة متطلبات. الجسم ومتطلباته هو الوجود الترابي. هو المرتبة الترابية للإنسان.

• مرتبة ملكوتية.

المرتبة الأخرى: المرتبة الملكوتية. المرتبة الملكوتية ما هي؟ هي وعاء الفطرة. كل إنسان لديه فطرة. وتلك الفطرة هي مهد القيم ومهد المثل، ومهد الأخلاق. فطرتنا هي مجمع لعدة قيم، لعدة مثل. فطرتنا تنادي بالعبادة. ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا نحن بفطرتنا نتوجه إلى قوة غيبية ربما لا نستطيع أن نحدد ما هي تلك القوة الغيبية لكن نحن بفطرتنا نتجه نحوها. نحن بفطرتنا نعشق العدالة، نعشق الأمانة، نعشق الصدق، نعشق التواضع. وعاء الفطرة مجمع القيم هو المرتبة الملكوتية للإنسان. إذن الإنسان له مرتبتان: مرتبة ترابية الجسم ومتطلباته. مرتبة ملكوتية الفطرة وقيمها. على الإنسان إذا أراد أن يكون حكيمًا أن ينتقل من المرتبة الترابية إلى المرتبة الملكوتية. عندما ينتقل الإنسان من المرتبة الترابية إلى المرتبة الملكتوية يصبح إنسانًا حكيمًا. كيف ينتقل الإنسان من هذه المرتبة إلى هذه المرتبة؟ بتحديد نوع الهدف. ما هو الهدف من فعلنا؟ أي عمل نقوم به، ما هو الهدف منه؟ كل عمل نقوم به له هدف. لنحدد ما هو الهدف. إذا كان الهدف من العمل يصب في تكميل مرتبتنا الترابية، لماذا نحن نختار وظيفة؟ نختار وظيفة لتحصيل الأموال. لماذا نحصل أموال؟ إذا حصلنا أموال سنعيش في فيلا مريحة، نصعد سيارة مريحة، نغدق على أنفسنا. إذن نحن نفكر في المرتبة الترابية.

كل هدف ينصب في المرتبة الترابية فهو يحصرنا في هذه المرتبة. نحن لا زلنا نعيش المرتبة الترابية والحيوانية. أما عندما نتواضع للآخر، عندما نكون صادقين مع الآخر، عندما نكون عادلين مع الآخر ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ لماذا نكون عادلين؟ هل العدل يخدم أجسامنا؟ هل يخدم جيوبنا؟ هل يخدم بطوننا؟ لا، نحن إنما نكون عادلين هدفنا من العدالة هو أن العدالة كمال لأرواحنا، كمال لفطرتنا، كمال لمرتبتنا الملكوتية. لأن في العدل والصدق والأمانة كمال للمرتبة الملكوتية، لذلك كان العدل والصدق والأمانة حكمة. إذن عندما نسأل: ما هو المعيار في الحكمة؟ المعيار في الحكمة العملية أن يكون الهدف كمالًا لمرتبتنا الملكوتية. أن يكون هدفنا كمالًا لأرواحنا وليس لأجسامنا. هنا تتجلى الحكمة. هذه النظرية لم تلاحظ المجتمع، كأن الإنسان يعيش لوحده، المهم مرتبته الترابية يتخلص منها ويصبح في المرتبة الملكوتية يكمل روحه، يكمل نفسه، يكمل ذاته، لم يلحظ في هذه النظرية ما هو الأثر العملي للحكمة على المجتمع، على حياة المجتمع، على حضارة المجتمع، على بناء المجتمع. كأنما عزل الإنسان في هذا التعريف عن وجوده الاجتماعي، وأثر الحكمة على وجوده الاجتماعي. لذلك، نرى أن النظريات الأخرى اعتنت بالأثر الاجتماعي في تعريف الحكمة.

النظرية الثانية: الحكمة تكمن في الدافع.

كانت، الفيلسوف الألماني يرى أن الحكمة في الدافع وليس في الهدف. ما هو الدافع؟ هو الذي يحدد الحكمة.

أما ننتقل من مرتبتنا الترابية إلى مرتبتنا الملكوتية هذا ليس كافٍ في الحكمة. لماذا؟ كانت يقول: ليس المهم أن تكون صادق وعادل. المهم ما هو دافعك للصدق والعدالة. لماذا تصبح صادق وعادل؟ الصدق، العدالة، الأمانة، تنقلك من مرتبة إلى مرتبة. لكن سؤال: ما هو الدافع نحو الصدق؟ لماذا تكون صادقا؟ ما هو الدافع نحو العدالة؟ ما هو الدافع نحو الأمانة؟ حدد الدافع من هذه الأفعال. كانت يقول: ليس كل صدق حكمة. وليس كل عدالة حكمة. وليس كل أمانة حكمة. يتحدد الحكمة بالدافع من وراء هذه الأمور. ما معنى هذا الكلام؟ الآن مثلاً نحن عندما نحترم الآخر، يدخل إنسان مجلسنا، نقوم إليه، نحترمه، نستقبله. أو إذا رأينا إنسان في مكان، نستقبله ببشاشة وترحيب.

هذا العمل تواضع. يقال هذا تواضع. هذا خلق عظيم. يقول كانت: لا، ما هو الدافع وراء هذا العمل؟ الحسن الفعلي لا يكفي، لا بد من الحسن الفاعلي. صحيح هو عمل جميل، صدق أمانة تواضع، حسن فعلي، يعني العمل جميل. أما نحن نحتاج إلى الحسن الفاعلي، ما هو الدافع وراء هذا العمل؟ إذا كان الدافع لاحترام الآخر هو قضاء حاجة أو جلب منفعة، هذا ليس حكمة. أنا احترمته لأنني متورط وعندي حاجة أريد أن يقضيها. صحيح الاحترام جميل لكن أنا الدافع عندي أن أقضي حاجتي منه. أو أنا احترمه، أتواضع له، أتعامل معه بالبشاشة لكن الهدف هدف شخصي: أن أجلب محبته إلى قلبي. أن أجعله إلى جانبي. يقول هذا ليس حكمة. إذن، إذا كان الدافع نحو الصدق، نحو الأمانة، نحو العدالة دافع شخصي: قضاء حاجة، تحقيق رغبة شخصية، هذا ليس حكمة. أما إذا كان الدافع الشعور بالمسؤولية فهو الحكمة. كيف يعني الشعور بالمسؤولية؟ الإنسان، شخصية الإنسان تمتلك قوتين:

  • قوة عقلية: تفكر وتحلل.
  • قوة الضمير: تملي علينا واجبات، تملي علينا قوانين، تملي علينا أوامر.

قوة الضمير تقول لنا: افعل هذا العمل بدون أي هدف شخصي. افعله لأنك مسئول أن تفعله، كن صادقًا لا لغرض شخصي. كن عادلًا لا لغرض شخصي. كن أمينا لا لغرض شخصي. لماذا؟ لأنك إنسان، والإنسان مسئول ومقتضى مسؤوليتك أن تأتي بهذه الأفعال بدون أي غرض شخصي. إذن، عندما نأتي للصدق والأمانة والعدالة بدون أي غرض شخصي فقط لأننا تشعر بالمسؤولية. فقط لأن الضمير أملى علينا ذلك، حينئذ تكون أفعالنا حكمة. كما ذكر القرآن الكريم في مسألة الضمير، قال ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ الضمير يملي علينا مجموعة واجبات، مجموعة أوامر.

هذه النظرية الثانية جميلة، لكنها أيضًا ناقصة. لماذا؟ لأنها لم تحدد لنا ما هي الأفعال التي تدخل ضمن المسؤولية. وما هي الأفعال التي لا تدخل ضمن المسؤولية. هي تكلمت كلام عام. كل فعل يصدر بدافع الشعور بالمسؤولية هو: حكمة. إذن، ما هي الأفعال التي تندرج تحت الشعور بالمسؤولية؟ والأفعال التي لا تندرج تحت الدافع وهو الشعور بالمسؤولية؟ نحتاج إلى ضابطة تفرز لنا هذين القسمين. ضابطة حاسمة. لذلك، تبقى النظرية ناقصة.

النظرية الثالثة: الحكمة تكمن في الرؤية.

النظرية الثالثة تقول: الحكمة تكمن في الرؤية ولا تكمن لا في الهدف ولا في الدافع. تكمن في الرؤية. ماذا يعني ذلك؟ نحن عندما نطالب، نقول: على الإنسان أن يتجرد من كل الأهداف الشخصية، لا تكون أفعاله بدوافع شخصية أبدًا، يعني نحن نطالب الناس بأن يكونوا أولياء. يعني أغلب الناس، الإنسان الطبيعي، الإنسان العادي، لا يستطيع أن يتحرر من الأهداف الشخصية. لا يستطيع. لو كنا نحصر الحكمة في هذا الإطار، الحكمة أن تتحرر من الأهداف الشخصية يعني قتلنا الحكمة. يعني حصرنا الحكمة في الأولياء. حصرنا الحكمة في نخبة من الناس. بينما الفلاسفة، الحكماء، الأنبياء، الأديان، يطرحون الحكمة قيمة عملية لكل إنسان. يعني بإمكان كل إنسان أن يصبح حكيم. ليست الحكمة محصورة في نخبة من الناس وهم الذين تحرروا من الأنا والأهداف الشخصية، لا. الحكمة أمر سائغ، ميسور لكل أحد. ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا الحكمة صالحة لأن تكون بيد كل إنسان. إذن، لا تعني الحكمة التحرر من الأهداف الشخصية. إذن ماذا تعني الحكمة؟ الحكمة تقول: الأنا، كلمة أنا. الأنا اثنين:

  • أنا الفردي.
  • أنا الجمعي.

أنا: فرد. وأنا: جزء من هذا المجتمع. الأنا لها لحاظان، لها منظوران. الأنا الفردي: جسمي، شهوتي، جيبي، بطني، وسادتي، حياتي الخاصة. هذه نسميها الأنا الفردية. أما الأنا الجمعية: ماذا أسهمت في بناء المجتمع؟ ماذا قدمت من عطاء في بناء هذا المجتمع؟ ماذا قدمت من إنجاز للنهوض بهذا المجتمع. هذا سؤال آخر يرتبط بالأنا، لكن الأنا الجمعية لا الأنا الفردية. لأجل ذلك، أفعالنا كلها على قسمين: قسم يصب في الأنا الفردية. هذا الإنسان منذ الصباح يخرج إلى لوظيفة، لا يعود إلا قرب المغرب، يريد أن يأكل غداءه، يريد أن ينام، يريد أن يشاهد التلفزيون، ويريد ويريد، كله يعيش في أين؟ في الأنا الفردية. أنا، أنا، بطني، جيبي، شهوتي، راحتي، وسادتي. اشرب ارقيلة، اشرب سيجارة، ارتاح، وهذه الحياة كلها. الأنا الفردية. كل عمل يصب في الأنا الفردية، هذا خارج عن الحكمة. كل عمل يصب في الأنا الجمعية، نحن لم نخرج عن الأنا مازلنا في إطار الأنا لكن الأنا هنا برؤية أوسع، بأفق أوسع: الأنا الجمعية. كل عمل يصب في بناء الوطن، في بناء المجتمع، في النهوض بهذه الأمة، فهو حكمة ; لأنه يخدمنا، ويخدم أيضًا غيرنا. فهو يخدمنا بالذات، لكنه يخدمنا بما نحن جزء من المجتمع، لا بما نحن منعزلون عن المجتمع.

إذن، لا نقول لك تحرر من الأنا، تحرر من الأهداف، لا. نقول لك انطلق من الأنا، لكن من الأنا الجمعية لا من الأنا الفردية. حينئذ، العمل الذي يكون انطلاقًا من الأنا الجمعية، هذا العمل هو الحكمة ; لأن له أثراً عمليًا على مجتمعنا. على استقرار الحياة الاجتماعية: الصدق، العدالة، الأمانة، تخدمنا، وتخدم غيرنا. العدالة والصدق يخدم الأنا الاجتماعية، فهو بالنتيجة ينفعنا، ليس لا ينفعنا. بالنتيجة ينفعنا في ضمن منفعة غيرنا. ولذلك، يركز القرآن على العدالة: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ القرآن يركز على الأنا الجمعية، على ما يسهم في بناء المجتمع، ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا يعني جزء من أهدافكم: اعمار الأرض، بناء الأرض. ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ، إذن القرآن عندما يقول: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا من هو الأحسن عملا؟ من هو الحكيم؟ الحكيم الذي يبني ذاته في ضمن بناءه لمجتمعه. ﴿أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا

المنطلق الثالث: الحكمة في إطار علم النفس.

باري شوارتز وكينيث شارب، لهما مؤلف حول الحكمة العملية مطبوع سنة 2011. يتحدث عن الحكمة العملية من هذا المنظور، منظور علم النفس. الحكمة العملية تُعالَج من خلال ثلاث نقاط:

  • النقطة الأولى: ما هو تعريف الحكمة العملية في منظور هذا العلم: علم النفس الاجتماعي؟
  • النقطة الثانية: ما هي أركان الحكمة «دعائم الحكمة»؟
  • النقطة الثالثة: الحكمة تحتاج إلى أدوات ثلاث.

النقطة الأولى: ما هو تعريف الحكمة العملية في منظور هذا العلم: علم النفس الاجتماعي.

الحكمة العملية هي استثارة الحكمة الفطرية. يعني ; نحن في فطرتنا حكماء. نحن خلقنا حكماء. لكن كيف نفعل هذه الحكمة؟ تفعيل الحكمة الفطرية واستثارتها وتجسيدها، هو عبارة عن الحكمة العملية. نحن ولدنا ونحن حكماء. ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا نحن نملك الحكمة بفطرتنا، لكن تفعيلنا لهذه الحكمة وتجسيدنا لهذه الحكمة، هو عبارة عن الحكمة العملية. كيف أنا أجسد الحكمة وأفعّلها؟ من خلال القدرة على التوازن. الحكمة العملية هي عبارة عن القدرة على التوازن. كيف تكون قديرًا على التوازن؟ ليست الحكمة بالثقافة، ربما نراه بروفيسور ولكنه ليس حكيم، بل سفيه في الأصل. ربما نراه إنسان عادي وهو يملك الحكمة. الحكمة ليست بالثقافة، ولا الحكمة بالعلم، ولا الحكمة بالشهادة الأكاديمية العالية، أبدًا.

الحكمة مهارة عملية. الحكمة هي عبارة عن القدرة على التوازن ; إذا أراد الإنسان أن يبني بيت، يستطيع أن يبني من غير حرفية ومهنة؟ لا يستطيع أن يبني. البناء يحتاج إلى مهارة حرفية. الفنان يستطيع أن يصبح فنان جذاب من غير مهارة؟ الفن يحتاج إلى مهارة وحرفية. الخطابة، يستطيع الشخص أن يصبح خطيب بمجرد المعلومات؟ لا. الخطابة مهارة وفن. المهارة العملية في الفن، المهارة العملية في البناء، المهارة العملية في الأدب، المهارة العملية في الخطابة، المهارة العملية هي العمل المؤثر، هي العمل الجذاب. لذلك، الحكمة هي من سنخ المهارة. أن تكون لديك مهارة خلقية. الحكمة مهارة خلقية. كيف الأديب لديه مهارة في الأدب، كيف الفنان لديه مهارة في الفن، الحكيم لديه مهارة في مجال الأخلاق. كيف تمتلك مهارة عملية تكون من خلالها إنسانًا مؤثرًا، إنسانًا جذابًا؟ هنا تكمن الحكمة في المهارة. أمثلة للقدرة على التوازن وتحقيق المهارة العملية حتى يتضح لنا أين مقصود هؤلاء من الحكمة.

مثلًا:

الطبيب. الطبيب يعيش بين نارين. يأتيه المريض، يكتشف أن هذا المريض لديه مرض خطير، كيف يبلغه؟ هو يعيش بين نارين. إن اخبره بمرضه أصاب المريض صدمة وردة فعل، فلا يتلقى العلاج بتفاؤل ولا بتفاعل. وإن تركه وشأنه ربما المريض تتدهور صحته من حيث لا يعلم. إذن، الطبيب بين نارين. بين أن يخبر المريض، وبين أن يسكت. وكل منهما له مساوئ، وله محاذير. هنا تبرز مهارة الطبيب. المهارة: أن تمتلك القدرة على التوازن. كيف يتوازن الطبيب بين إخبار المريض وبين علاجه. بين أن يخبر المريض بحالته المرضية وبين أن يجعل المريض متفائلًا، متفاعلًا مع العلاج، مستجيبًا له. هنا تكمن القدرة على التوازن، هنا تأتي الحكمة.

مثال آخر:

العلاقة الزوجية. العلاقة الزوجية لها مهارة. لا يقول شخصًا سأتزوج وانتهى، لا. لا بد من دخول كورس في الزواج. حتى يملك المهارة. كيف تتعامل الزوجة مع الزوج؟ كيف يتعامل الزوج مع الزوجة؟ المسألة تحتاج إلى مهارة. تحتاج إلى فن. تحتاج إلى أسلوب. بعض الأزواج يغرقون في العلاقة العاطفية وينسون التكامل الأخلاقي. الزوج عنده عيوب تحتاج إلى إصلاح. الزوجة عندها عيوب تحتاج إلى إصلاح. ما لم يكن بينهما تكامل إصلاحي: هذا الزواج سوف يخفق يومًا من الأيام. وهناك حياة زوجية ومن أول يوم: فيك كذا عيب، كذا عيب. أو هي من أول يوم تقرأ عليه اللائحة، لائحة العيوب والأخطاء. هذا طبعًا الزواج يفشل. كل منهما يصاب بردة فعل.

كيف يعيش الزوج والزوجة توازن بين العلاقة العاطفية وبين التكامل الإصلاحي وبين أن يصلح عيوب زوجته، وتصلح زوجته عيوبه. التوازن بين الأمرين يحتاج إلى مهارة عملية وهذه المهارة العملية هي الحكمة. حتى في مجال العبادة، حتى العبادة تحتاج إلى حكمة، حتى العبادة تحتاج إلى مهارة. كيف تجمع بين الكم والكيف؟ هناك أناس لديهم العبادة «كم» ; كم ركعة؟ نافلة الظهر والعصر، ونافلة الليل. المهم كم ركعة آتي بها. لا ليست هذه العبادة فقط. العبادة تحتاج إلى لمسات من الخشوع، لمسات من الذوبان في الله. ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ إذن كيف أوفق بين الأمرين؟ كيف آتي بنافلة الليل محافظًا على شكلها وحرفيتها وأحافظ من جهة أخرى على الخشوع واللقاء الوجداني مع الله تبارك وتعالى؟ أحتاج إلى مهارة. أحتاج إلى حكمة. إذن، الحكمة هي المهارة العملية التي تعني: القدرة على التوازن.

النقطة الثانية: ما هي أركان الحكمة «دعائم الحكمة»؟

أركان الحكمة ثلاثة:

• الدعامة الأولى: رسم الأهداف العليا.

لنحدد أهدافنا في الحياة. ما هي أولوياتنا في الحياة؟ أولوياتنا في الحياة إنشاء أسرة صالحة. أولوياتنا في الحياة المساهمة في بناء وطننا ومجتمعنا. أولوياتنا في الحياة: أن نكون أناساً فاضلين. لنحدد أولوياتنا. رسم الأولويات.

• الدعامة الثانية: قراءة الظروف.

نحن لا نريد أن ننشئ مشروع أكبر من الظروف التي نحن فيها. يأتي شخص يؤسس له مشروع تجاري، والظروف ظروف السوق هي ظروف ماذا؟ كاسدة هابطة ; مشروعه يفشل. ليس المهم تحديد الأهداف فقط، بل تحديد الأهداف وقراءة الظروف. هل الظروف تسمح بمشروعك التجاري؟ هل الظروف تسمح بمشروعك الثقافي؟ هل الظروف تسمح بمشروعك التعليمي؟ النهضوي؟ نحن نحتاج إلى أن تقرأ الظروف بعد أن نقوم بتحديد الأولويات والأهداف.

• الدعامة الثالثة: الانسجام مع المصالح العامة.

ليس مهمًا مصلحتنا الشخصية. نرى بعض التجار طول حياته يكدح ويتعب لأجل ماذا؟ فقط لأجل أن يجمع ثروة، فقط. الثروة ماذا حصل المجتمع منها؟ ماذا أنتج للمجتمع؟ ماذا قدم للمجتمع منها؟ لا شيء. هذا ركز على مصلحته الشخصية دون المصلحة العامة. الحكمة لها دعامات ثلاث: رسم الأهداف، وقراءة الظروف، والانسجام مع المصلحة العامة.

النقطة الثالثة: الحكمة تحتاج إلى أدوات ثلاث.

• الأداة الأولى: الخبرة.

كيف يمكننا أن نحدد أهدافنا من دون الخبرة بالحياة. نحتاج إلى الخبرة في الحياة.

• الأداة الثانية: الإرادة.

ما لم تكن لدينا إرادة صامدة قاهرة، لن نستطيع أن نكون حكماء، لن نستطيع أن نكون ناجحين في حياتنا.

• الأداة الثالثة: أن ندرك ما حولنا.

كيف يعني أن ندرك ما حولنا؟ مثال من واقع الحياة: مدرس يأتي إلى الفصل، يدخل إلى الكلاس، ويبدأ يشرح الدرس. أنت في البداية، أدرك هؤلاء الطلاب الذين معك، ما هي مستوياتهم؟ ما هي تطلعاتهم؟ ما هي حاجاتهم؟ حتى يكون تعليمك ملامسًا لحاجات الطلاب الذين بين يديك. هذه لا بد من معرفتها. أو نأتي مثلًا إلى الخطيب، هذا الخطيب من قبل أربعين سنة يحكي نفس الحكاية. يمشي على نفس الأسلوب، يمشي على نفس المنهج. ليكون خطابك ناجحًا وفاعلًا لا بد أن تقرأ ما حولك: كيف يفكر الناس؟ ماذا يعيش الناس من هموم، من قضايا، من أفكار، ليكون خطابك ملامسًا للواقع الفعلي الذي تعيشه. إدراك ما حولك أداة مهمة من أدوات الحكمة. إذن هذه هي الحكمة بحسب منظور علم النفس.

المنطلق الرابع: تجليات الحكمة في شخصية الرسول الأعظم .

القرآن الكريم يقول: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، هل يعقل أن يعلم الحكمة وهو ليس حكيم؟ تعليم الحكمة ليس تعليماً لفظياً. تعليم الحكمة تعليم عملي. لا يمكن للإنسان أن يعلم المجتمع الحكمة تعليمًا عمليًا وهو فاقد للحكمة. الحكيم هو القادر على أن يعلم المجتمع الحكمة تعليما عمليًا. لو لم يكن الرسول حكيمًا في حد ذاته، لو لم يمتلك الرسول الكفاءة الحكيمة في حد ذاته، لما كان مؤهلًا لأن يكون منبعًا للحكمة، ومعلمًا للحكمة ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ. ما هي الحكمة التي تجلت في شخصية النبي ؟ هنا عدة تجليات نذكرها إجمالًا:

• التجلي الأول: بناء القاعدة.

أي مشروع ينطلق فيه الإنسان يحتاج إلى؟ قاعدة وجناح. والقاعدة هي عبارة عن: أن تختار من هم أكثر فهمًا لأهدافك، وأكثر إخلاصًا إليك. عندما تختار من هم أكثر فهمًا لأهدافك، أكثر إخلاصًا إليك، فأنت تعتبر بنيت القاعدة، لذلك الرسول من حكمته: انطلق من أسرته، انطلق من عشيرته ; لأنهم أكثر الناس فهمًا لأهدافه، أكثر الناس إخلاصًا إليه. أبي طالب، حمزة بن عبد المطلب، جعفر الطيار، علي بن أبي طالب، انطلق النبي من أسرته، ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ هذا من باب بناء القاعدة. هذا التجلي الأول الذي تجلى في حكمة النبي .

• التجلي الثاني: محو الطبقية.

بما أن مشروع النبي مشروع تغييري، مشروع نهضوي، مشروع لإحياء الأمم إلى يوم القيامة، كان أول بنود هذا المشروع: محو الطبقية. ”كلكم لآدم وآدم من تراب“ ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، ماذا فعل النبي؟ أول خطوة عملية: حرر مجموعة من العبيد وجعلهم قادة، ليس فقط حررهم، جعلهم قادة في المجتمع: عمار بن ياسر، بلال بن رباح، سلمان الفارسي، تحولوا من أرقاء أذلاء، إلى قادة بارعين وبارزين في المجتمع الإسلامي. لذلك الرسول قام بأعظم خطوة: ألا وهي محو الطبقية في سبيل بناءه مشروعه النهضوي التغييري.

• التجلي الثالث: اختيار الموقع المناسب للمشروع.

نحن لدينا مشروع، لا بد من اختيار الزمن المناسب والمكان المناسب. الرسول كذلك مر بمرحلتين: مرحلة الدعوة، ومرحلة بناء الدولة. مرحلة الدعوة قضاها في مكة، 13 سنة هو في مكة. لكن عندما جاء وقت الانطلاق لبناء الدولة، عندما جاء وقت الانطلاق لتحويل المشروع إلى مشروع عملي، انطلق إلى مكان آخر. انطلق إلى المدينة المنورة ; لأنها المكان المناسب، والموقع المناسب لمشروعه النهضوي التغييري. انطلق إلى المدينة المنورة في تجلي واضح لحكمته العملية ، وبنا أول مسجد كان منطلقًا للتغير. ﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا.

• التجلي الرابع: أن النبي قام بنوعين من التربية: تربية عامة لكل الجيل، وتربية خاصة، تربية لخصوص الكادر الذي يعتمد عليه في أعباء الرسالة.

والقرآن يتحدث عن هذين النوعين من التربية، النوع الأول وهو التربية العامة يعبر عنه القرآن الكريم: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ هذه تربية عامة قام بها النبي لكل المجتمع. لكن هناك تربية خاصة، حظي بها مجموعة خاصة ممن حوله، هيأهم ككادر يعتمد عليه في حمل أعباء الرسالة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا

• التجلي الخامس: الجمع بين تهذيب الأخلاق وإغداق المعارف.

التجلي الذي ركزت عليه الآية القرآنية، هي في حد ذاتها حكمة، قالت: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الجمع بين التزكية والتعليم حكمة. لو اقتصر على التعليم لم يكن حكمة. لو اقتصر على التزكية لم يكن حكمة. الجمع بين تهذيب الأخلاق وإغداق المعارف هو في حد ذاته: تجليًا واضحًا من تجليات الحكمة: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ

• التجلي السادس: استيعاب المختلف.

هل نحن نستوعب مع من يختلف معنا؟ دائمًا نحن متوترون إذا شخص يختلف معنا. دائمًا نتعامل معه بتوتر، دائمًا نتعامل معه بتشنج. كيف نستوعب من يختلف معنا؟ كيف نحتضن من يختلف معنا؟ استيعاب المختلف: رأس الحكمة العملية. استيعاب المختلف: حكمة جسدها النبي . كيف تعامل النبي مع المنافقين؟ منافقون، يعرف أنهم منافقين. استوعبهم، يسمع لهم، يصغي لكلامهم. حتى قال ابن أبي سلول: إن محمد أذن. نحن نقول له شيء يصدقنا، الله يقول له شيء يصدقه. هو مجرد أذن. ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ كان هذا مصداقًا لاستيعاب المختلف. مثلًا، النبي لما ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام أمروا صبيانهم وسفهائهم يلقفونه بالحجارة والأشواك وهو يتلقاها ساكتًا إلى أن استند إلى جدار حائط، إلى جدار بستان. رفع يديه إلى السماء، قال: ”اللهم أهدِ قومي فإنهم لا يعلمون“ استيعاب المختلف. النبي عندما فتح مكة صارت قريش بين يديه، صار أهل مكة بين يديه. قال: ”ما ترون أني فاعل بكم؟ أنتم شردتموني، قاتلتموني، قتلتم خيرة أصحابي، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.“ العفو عند المقدرة علامة القوة وليس علامة الضعف. العفو عند المقدرة مظهر عظيم من مظاهر الحكمة قام به النبي محمد .

وهذا الحسين بن علي يسير على حكمة رسول الله، كما أن رسول الله بنا كادراً اعتمد عليه في بناء الرسالة، الحسين اختار صفوة من الأنصار اعتمد عليهم في بناء مشروعه وحركته الإصلاحية يوم كربلاء. ”إني لا أعلم أصحابًا خيرًا من أصحابي، ولا أهل بيت أبر من أهل بيتي“ كما أن النبي اختار الموقع المناسب للانطلاق في مشروعه المبارك، الحسين أيضًا اختار الموقع المناسب للانطلاق في مشروعه المبارك. خرج من المدينة، خرج من الحجاز، خرج إلى منطقة أخرى ليقوم بتأجيج مشروعه الذي اختاره وعيّنه.

والحمدلله رب العالمين

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
حسين
[ القطيف ]: 6 / 9 / 2019م - 3:44 م
متى ستعرض محاضرة تجليات الحكمة المكتوبة
تعليق الإدارة:
راجع المحاضرة