الليلة الثامنة من محرم الحرام 1441هـ

مساحة العنصر البشري في الشخصية المحمدية

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الكهف: 110]

صدق الله العلي العظيم

انطلاقاً من الآية المباركة يكون حديثنا حول مساحة العنصر البشري في شخصية الرسول الأعظم ، كل إنسان يعيش عنصرين: عنصراً ثابتاً، وعنصراً متغيراً.

  • العنصر الثابت: هو عبارة عن القيم الفطرية التي تحملها روح الإنسان، فكل إنسان يأتي للحياة ولديه قيم فطرية كامنة في أعماقه، حب الخير، حب العدالة، حب الإحسان، ويشير إلى هذه القيم الفطرية قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا «7» فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا «8» [الشمس: 7 - 8].

    وكذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ «6» وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ «7» وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ «8» [العاديات: 6 - 8]، وهذا العنصر ثابت لا يتغير في الإنسان.
     
  • العنصر المتغير: هو الوجود المادي للإنسان، الوجود الزمكاني «الوجود المحاط بزمان ومكان»، فإن هذا الوجود يتغير، من طفولة إلى شباب إلى كهولة إلى شيخوخة، تَعْرضه العوارض المختلفة، فهذا الوجود المادي بجسمه بغرائزه وشهواته وميوله، دائما هو في حالة تغير.

الرسول أيضاً له عنصران غير العناصر الموجودة في البشرية كلها، عنصر ثابت وعنصر متغير، العنصر الثابت ألا وهو شخصيته الرسالية، ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب: 40]، فشخصيته الرسالية عنصر ثابت لا يتغير؛ أي أن جميع تعاليمه التي صدرت منه بما هو رسول هي تعالم ثابته تحتاجها البشرية في كل زمان وفي كل مكان، وتحت أي ظرف.

والعنصر المتغير في شخصيته ألا وهو عنصره البشري، فالنبي بالنتيجة بشر، والبشر معرض لملابسات متغيرة كالنوم، اليقظة، التعب، الراحة، المرض، الصحة، اللذة، الألم، الحزن، الفرح، والنبي من حيث هو بشر فهو معرض لهذه الملابسات المختلفة التي تعرض على كل إنسان، فهو من هذه الجهة عنصر متغير.

لذلك نرى القرآن الكريم ينقل لنا كلمات المشركين في حقه، أنه مثلنا عنصر متغير ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [الفرقان: 7]

وتقول آية أخرى: ﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [المؤمنون: 33]، وقال النبي بلسان القرآن عن نفسه: ﴿سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 93]، فالنبي له عنصران: عنصر ثابت وهو الرسالة، وعنصر متغير وهو البشرية، والسؤال ما هي مساحة العنصر البشري في شخصية النبي؟

وهذا ما يدعونا للبحث عن سؤال آخر يرتبط بالعنصر البشري، هل كان النبي مجتهداً؟ هل كان يمارس عملية الاجتهاد كما يمارسها الفقهاء والمجتهدون تأكيداً لعنصره البشري الذي تعيشه شخصية النبي ؟

نحن إذا نظرنا إلى بشريته فمن الطبيعي أن نقول: بما أنه بشر إذن له عقل، بما أن له عقل إذن له تفكير، وبما أن له تفكير إذن من الممكن أن يصبح مجتهداً، فما دام له عقل وتفكير فمساحة الاجتهاد مفتوحة بين يديه، وهذا يعني توسع العنصر البشري في شخصيته، لذلك تبنى بعض الباحثين سعة العنصر البشري في شخصية النبي ، فالنبي يمارس عملية الاجتهاد في موردين:

  1. المورد الأول: تحديد الأحكام الشرعية التي لم يحددها الله
  2. المورد الثاني: تشخيص الموضوعات الخارجية التي ترتبط بإقامة دولة العدل، التي أقامها النبي .

ففي المورد الأول مثلاً قرأ النبي هذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90]، فربما يقال أن هذه الآية حَرَّمت الخمر فقط، ولكن السر في تحريم الخمر أنه مسكر إذن كل مسكر حرام، الله سبحانه وتعالى لم يقل كل مسكر حرام، ولكن النبي عبر اجتهاده استنتج من الآية أن كل مسكر حرام.

أو في المورد الثاني وهو تشخيص الموضوعات الخارجية، هل هناك ضرورة لوجود نظام شرطة، هل هناك ضرورة لوجود نظام بيت المال، هل هناك ضرورة لوجود نظام مرور في الطرقات، تشخيص موضوعات خارجية ليس لها علاقة بالدين يمكن أن يجتهد فيها النبي، لذلك تبنى بعض الباحثين توسعةً لمساحة العنصر البشري في شخصية النبي، وأن نقول: النبي مجتهد، يجتهد في تحديد الأحكام التي لم يحددها الله، ويجتهد في تشخيص الموضوعات المرتبطة بإقامة دولة العدل.

حتى نناقش هذا الرأي في صحته نتعرض إلى عدة محاور:

  • تعريف الاجتهاد.
  • في إمكانه العقلي.
  • الشواهد على وقوع الاجتهاد أو عدم وقوعه.
المحور الأول: تعريف الاجتهاد.

الذين يتبنون هذه النظرية ماذا يقصدون من أن للنبي مساحة تسمى مساحة اجتهاد؟

وهنا تعريفات ثلاثة:

التعريف الأول: أن المقصود بالاجتهاد هو التفويض؛ أي أن الله تبارك وتعالى فوض إلى النبي أمر الدين وأمر التشريع، فالنبي مفوض في أن يملأ لائحة التشريعات من خلال ما يتوصل إليه، فإذا كان الاجتهاد بهذا المعنى أن الله فوض إلى نبيه أمر التشريع فهذا الكلام صحيح، وقد ورد هذا المعنى في الروايات الشريفة ومنها:

 «معتبرة الفضيل بن يسار» [1]  بسند صحيح عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبدالله الصادق يقول إن الله عزوجل أدب نبيه فأحسن أدبه، فلما أكمل له الأدب قال إنك لعلى خلق عظيم، ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده؛ أي أن الهدف من هذا التفويض هو أن يدير شؤون الأمة وإقامة الدولة العادلة.

فقال عزوجل: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]، وإن رسول الله كان مسدداً، موفقاً، مؤيداً بروح القدس؛ أي لا يزل ولا يخطئ في شيء مما يسوس به الخلق، وكل موضوع يدخل فيه النبي سواء كان يرتبط بالدولة العادلة أو يرتبط بإدارة أمر الأمة إذا دخل فيه النبي فإنه لا يزل ولا يخطئ؛ لأنه مؤيد بروح القدس.

ثم يقول: إن الله عزوجل فرض الصلاة ركعتين، ركعتين، عشر ركعات، فأضاف رسول الله إلى الركعتين ركعتين، وإلى المغرب ركعة، فصارت عديل الفريضة، ولا يجوز تركهن إلا في سفر، وأفرد الركعة في المغرب، فجعلها قائمة في السفر والحضر، فأجاز الله عزوجل له ذلك كله.

هذا تفويض في التشريع، ليس معنى التفويض في التشريع أن النبي مشرع مستقل عن الله، المشرع الوحيد هو الله، والنبي تشريعه في طول إرادة الله وفي طول رضا الله، وليس للنبي تشريع مستقل.

فإذا لم يكن النبي مستقلاً في التشريع بل مفوضاً فما معنى التفويض؟ هناك معنيان ذكرهما العلماء:

المعنى الأول للتفويض: أن المقصود بالتفويض أن للنبي نفساً قدسية، وهذه النفس القدسية انكشف لها عالم الملكوت كما انكشف لإبراهيم ، وقال عنه القرآن ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: 75] وإبراهيم ليس أفضل من الرسول، إبراهيم انكشف له الملكوت، والنبي الأعظم انكشف له عالم الملكوت فأدرك الحقائق، حقائق الأشياء والأعمال، ولأنه أدرك الحقائق فعلمه دائماً يتطابق مع علم الله، وإرادته دائما تتطابق مع إرادة الله، فعلمه هو انعكاس لعلم الله، وإرادته مظهر لإرادة الله لأنه أدرك الواقع على ما هو عليه، وأدرك حقائق الأشياء على ما هي عليه، فطابق علمه علم ربه، وطابقت إرادته إرادة ربه، لذلك لا يصدر منه تشريع إلا وهو مطابق لعلم الله وإرادته، وهذا هو معنى «فأجاز الله له ذلك» وهذا تعبير كنائي؛ كناية عن تطابق علمه مع علم الله وإرادته مع إرادة الله.

المعنى الثاني للتفويض: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89]، فإذا كان التبيان كله في القرآن فالنبي ماذا يشرع؟ وأين التفويض والتشريع النبوي؟

القرآن تضمن كل شيء لكنه تضمن كل شيء بشكل رموز وشفرات، والمفوض الوحيد في فك هذه الرموز وتفسير هذه الشفرات بحيث تتحول إلى تشريعات ثابتة هو محمد.

المعنى الثاني: الاستنتاج المصيب، أي أن المسألة ليست تطابق علمه مع علم الله وإرادته مع إرادة الله، فالله سبحانه وتعالى ترك له المجال هو يحرك عقله ويفكر ويصطاد الحكم الشرعي، لكنه لا يخطئ دائماً، إذا اصطاد فكرة تكون فكرته مصيبة ومطابقة للواقع، فهو مجتهد أي يعمل فكره ونظره، لكنه دائماً مصيباً للواقع.

وهذا المعنى من الاجتهاد لا يحتاج إلى البحث عنه، لأن البحث فيه لغو ما دام هو مصيب دائماً، بالنتيجة ما يصدر منه حجة، إما لأنه وحي أو لأنه مطابق للوحي، فلا نحتاج أن نبحث فيه، ثابت أم لا، فالبحث فيه لغو ما دام الاجتهاد مصيباً على كل حال.

المعنى الثالث: وهو الذي طرحه بعض الباحثين من السنة والشيعة، يقولون لا نقصد بالاجتهاد التفويض، ولا الاستنتاج المصيب، بل نقصد معنى آخر؛ وهو أن الاجتهاد نفس المصطلح لاجتهاد الفقهاء؛ أي أن النبي مجتهد ويمارس ما يمارسه الفقهاء من استخراج الحكم الشرعي من أدلته، وأن هذه العملية عملية استخراج الحكم الشرعي من الأدلة قد تصيب وقد تخطئ، عملية قابلة للخطأ والصواب مثله مثل أي فقيه آخر، ويقولون أن الوحي لم يكن ينزل على النبي كل يوم ولا كل لحظة، والقرآن الكريم يقول: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106]؛ أي أن القرآن ما أرسل دفعه واحدة أو في يوم واحد، وفي الفترات التي ينقطع فيها الوحي وتقع حوادث وظروف تحتاج إلى تحديد الحكم الشرعي يضطر النبي إلى أن يمارس عملية الاجتهاد لتغطية هذه التشريعات، ثم يأتيه الوحي فإذا لم يصب يصحح له الوحي، إذن فهو يمارس عملية الاجتهاد في فترات انقطاع الوحي.

ذكر الشيخ الطبرسي في كتابه «مجمع البيان في تفسير القرآن» في تفسير سورة المجادلة[2]  روايةً عن قتادة ومجاهد، عن ابن عباس أنه كانت هناك امرأة من الأنصار اسمها خولة بنت يزيد خزرجية وزوجها أوس بن الصامت، أراد زوجها يوم من الأيام مقاربتها فأبت عليه، فلما أبت عليه قال: أنت علي كظهر أمي. وهذه الصيغة في زمن الجاهلية تعتبر صيغة طلاق؛ أي إذا قالها الزوج لزوجته تبين منه، ثم قال لها: ما أراك إلا حرمت علي. فقالت: لا تعجل اذهب واسأل رسول الله . قال إني استحي أن أسأل رسول الله سليه أنت. فأقبلت خولة إلى رسول الله وكان في منزله وكانت زوجته عائشة تغسل رأسه.

جلست امرأة أمام رسول الله قالت: يا رسول الله إن زوجي ظاهرني وقال ما أراك إلا حرمت علي فماذا أفعل؟ قال الرسول: ما أراك إلا حرمت عليه. قالت: يا رسول الله إنه لم يذكر الطلاق وإنما قال هذه العبارة، قال: ما أراك إلا حرمت عليه. قالت يا رسول الله انظر في أمري إنه أب لولدي وأحب الناس إلي.

فانتظر الرسول وجاءه الوحي بكلام معاكس لكلامه ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة: 1] إلى أن قال ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ «2» [المجادلة: 2]؛ أي أن الظهار عملية غير صحيحة ولا يترتب عليها أثر أبدا؛ أي لا يحصل به طلاقاً، ونحن لدينا في الإمامية أن الظهار حرام ولا يترتب عليه أثر، فإذا قال أحدهم لزوجته أنتِ علي كظهر أمي، فالكلام حرام، وإذا قاله متعمداً يدفع عليه كفارة، ولا تبين زوجته منه، فالوحي خطَّأَ النبي، وهذا المقصود أن النبي يجتهد حتى يغطي الحاجة فقط وقد يخطئه الوحي وقد يصحح له.

ما هي الثمرة العملية المترتبة على هذا الرأي؟

الثمرة واضحة إذا كان النبي مجتهداً وكان اجتهاده قابلاً للخطأ فكل التعاليم التي صدرت من النبي عن اجتهاد تخرج عن السنة النبوية، لأن النبي لم تصدر منه هذه التعاليم لأنه رسول، وإنما صدرت عنه لأنه مجتهد، والسنة النبوية لها أحكام.

السنة النبوية حجة على كل مسلم، وهذه التعاليم الاجتهادية ليست حجة، السنة النبوية تُعْرض عليها الأحاديث والروايات الواردة عن أهل البيت ، كلها تُعرض على القرآن وتُعْرض على سنة النبي محمد .

في صحيحة أيوب بن الحر عن الإمام الصادق : كل حديث مردود إلى الكتاب والسنة، وما لا يوافق كتاب الله فهو زخرف. وفي صحيحة يونس بن عبد الرحمن عن هشام بن الحكم عن الصادق : لا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا.

إذن السنة النبوية لها قيمة معينة، والتعاليم التي تصدر من النبي عن اجتهاد ليست من السنة النبوية، ولا تترتب عليها أحكام السنة النبوية.

المحور الثاني: في إمكانه العقلي.

نبحث الآن عن الإمكان العقلي، والمقصود بالإمكان العقلي كما عبر عنه علماؤنا، وبالتحديد عن الإمكان الوقوعي لا عن الإمكان الذاتي، وبالعنوان الأولي لا بالعنوان الثانوي؛ أي أننا لا نبحث في النبي كبشر، فالنبي بما هو بشر يمكن أن يصير مجتهداً، بل نحن نبحث عن النبي بما هو رسول، فهل النبي بعد المفروغية عن كونه رسولاً، وبعد المفروغية عن كونه نبياً هل يحتاج إلى الاجتهاد؟ وهل يمارس الاجتهاد أم لا! وهذا هو معنى الإمكان الوقوعي، ونبحث فيه بالعنوان الأولي لا بالعنوان الثانوي.

يقول السيد المرتضى علم الهدى في كتاب «الذريعة»، والمحقق الحلي في كتاب «المعارج»، والشيخ الطوسي في كتاب «العدة»: يجوز عليه الاجتهاد إذا اقتضته المشيئة الإلهية. وهذا ليس محل بحثنا، فإذا أراده الله واقتضته المشيئة الإلهية فلن يتخلف مراد الله عن إرادته، كما في الآية ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى «6» إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى «7» [الأعلى: 6 - 7]، فلو شاء الله لنبيه أن ينسى لابد أن ينسى، والنسيان المستند إلى المشيئة لا كلام لنا ولا بحث فيه، وإلا فالنبي لا ينسى بذاته لأن المقرئ له هو الله تبارك وتعالى.

كذلك نحن لا نبحث في الاجتهاد بمشيئة الله، فالاجتهاد المستند إلى مشيئة الله لابد أن يقع، بل نبحث عن الاجتهاد في حد ذاته، هل النبي الرسول يحتاج أن يمارس الاجتهاد في حد ذاته مع غض النظر عن دعوى المشيئة الإلهية! هذا ما نبحث عنه وهذا هو المقصود بالعنوان الأولي لا بعنوان المشيئة الإلهية.

وفي هذا المحور نطرح ثلاثة أسئلة ونجيب عليها:

السؤال الأول: هل يتنافى الاجتهاد مع العلم اللدني للنبي ؟

إذا لم يعتقد الإنسان بالعلم اللدني للنبي، فالاجتهاد إذن لا يتنافى معه لأنه ليس لديه علم لدني، وأما إذا اعتقد كما نحن نعتقد أن للنبي علماً لدنياً، ولدينا دليلين على علم النبي:

  1. الدليل الأول قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] وليس كل شيء من أمور الدين فقط، بل في كل شيء يرتبط بإقامة الدولة العادلة فقد بينه الكتاب وقد فهمه النبي وتعلمه.
  2. الدليل الثاني قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25]؛ أي أن الهدف من وجود الأنبياء هو إقامة دولة عادلة.

وبعد الجمع بين الآيتين نستنتج تبياناً لكل شيء مما يرتبط بإقامة الدولة العادلة، ومما يرتبط بإقامة المجتمع العادل، فالجمع يقتضي الوصول إلى هذا المعنى، وهذا بلحاظ نفس الآية، ولتفسير هذه الآية اعتمدنا على الروايات الموجودة، كموثقة عبد الأعلى مولى آل سام عن الإمام الصادق أنه سأله عن تفسير هذه الآية ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89]، فقال: في الكتاب خبر السماء، وخبر الأرض، وخبر ما كان، وما هو كائن إلى يوم القيامة.

كله موجود في الكتاب ولكنه موجود بشكل رموز وشفرات، ويعرفها من نُزِّل الكتاب على قلبه وهو محمد .

إذن هذه الآية تدل على وجود علم لدني لديه، وهو علمٌ بكل ما تحتاجه الأمة، وكل ما يرتبط بإقامة الدولة العادلة، وقد قرأنا في رواية الفضيل بن يسار سابقاً أن الله فوض إليه كل ما يرتبط بسياسة أمر الأمة، باعتبار وجود العلم اللدني، توجد اثنان وثلاثون رواية إذا جمعتها يحصل لك الوثوق والاطمئنان بمدلولها وهو أن للنبي علماً لدنياً.

فمن لديه علم لدني ويعرف حقائق الأشياء لا يحتاج إلى الاجتهاد، لأن الاجتهاد مجرد وسيلة وليس غاية، الاجتهاد لأجل الوصول إلى الواقع، فإذا كان لدى النبي علم بالواقع فلا حاجة له إلى ممارسة الاجتهاد، إذن ممارسة الاجتهاد تتنافى مع العلم اللدني، والنبي لا يحتاج إلى ممارسة الاجتهاد لأن وصل إلى الواقع بهذا العلم، فلا يحتاج إلى هذه الممارسة، ليس لقصور فيه ولكن لأنه لا يحتاج لذلك؛ لوجود العلم اللدني لديه.

 السؤال الثاني: هل يتنافى الاجتهاد مع عصمة النبي؟

قد يقول قائل: لا يتنافى الاجتهاد مع عصمة النبي لأن للنبي شأنين، شأن يخبر فيه عن الله، وشأن يخبر فيه عن اجتهاده، فإذا أخبرنا عن الله فهو معصوم، أما إذا أخبرنا عن اجتهاده فيمكن أن يكون مخطئاً، ولذلك بعض الباحثين فصَّل في عصمة النبي، فقال: النبي معصوم فيما يخبر به عن الله، أما فيما يخبر به عن اجتهاده ورأيه فهو ليس بمعصوم، فما هو المانع من التفصيل في العصمة!

وأيضاً عندما نقول أن النبي له قسمان من التعاليم: قسم إخبار عن الله، وقسم إخبار عن اجتهاده، فمن الذي يفرز لنا عن القسمين فيقول هذا عن الله وهذا عن اجتهاده؟ وليس لدينا طريق غير النبي هو نفسه، ولا باب لنا للفرز إلا نفسُ النبي، فإذا كان له قسمان من التعاليم ففرز الأول عن الثاني بيده، هو الذي يقول متى يكون عن الله ومتى يكون عن اجتهاده.

فإذا كان الفرز بيده جاء السؤال: من الذي يضمن لنا أنه لم يخطئ في الفرز؟ فإذا قلنا أن النبي ليس معصوماً في الموضوعات الخارجية؛ أي أن تشخيصاته غير معصومة، والفرز موضوع من الموضوعات الخارجية، فتشخيصُ «هذا وحي وهذا مني» وهو غير معصوم فيه تجعله عرضة للخطأ، وإذا احتملنا أن النبي يخطئ في الفرز بين ما عن الله وما عن اجتهاده فكيف يحصل لنا الوثوق بتعاليمه والسير على هداه! وإذا انتفى الوثوق بتعاليمه انتفى الهدف من نبوته.

يقول القرآن الكريم عن الهدف ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء: 64]، إذن الهدف من وجود الرسول انقياد الناس إليه وطاعته.

آية أخرى تقول: ﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ «156» الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «157» [الأعراف: 156 - 157] الهدف من بعثة النبي هو التفاف الناس حوله ووثوقهم بتعاليمه، فإذا كان النبي قابلاً للخطأ فحينئذ لن يحصل الوثوق بتعاليمه، وإذا لم يحصل الوثوق بتعاليمه انتقض الهدف من بعثته، إذن تجويز الاجتهاد عليه معناه نقض الهدف من بعثته، ونقض الهدف من البعثة قبيح، والقبيح لا يصدر من الحكيم فكيف يصدر من الحكيم المطلق تبارك وتعالى!

 السؤال الثالث: هل يتنافى الاجتهاد مع حجية سنة النبي المصطفى ؟

يقول بعض الباحثين أن كل سنة النبي حجة وإن كان بعضها ليس وحي بل اجتهاد، ويقولون لا يتنافى بين إمكان الاجتهاد والحجية، فمثلاً فتوى الفقيه حجة ولكن مع ذلك فإن الفقيه قد يخطئ، فإذا افتى الفقيه، ففتواه حجة على من ليس بفقيه، مع أننا نحتمل أن الفقيه أخطأ في فتواه، فلا تنافي بين الحجية وبين احتمال الخطأ، فنقول كل ما صدر من النبي حجة، ولكن نحتمل خطأه في بعض ما صدر منه لكونه قد صدر عن اجتهاد.

ولكن هل يمكن الوثوق به؟ مثلاً سمعنا عن طبيب حاذق ماهر وذهبنا إليه، الطبيب الحاذق الماهر شخص لنا المرض وحدد لنا الدواء فهل يحصل لنا الوثوق بكلامه؟ نعم يحصل لنا الوثوق بكلامه مع أننا نحتمل أنه قد يخطئ، ومع ذلك يحصل لنا الوثوق، إذن لماذا لا تقبلون احتمال الخطأ على النبي؟ تعاليم النبي حجة، ويحصل لنا الوثوق بكلامه حتى وإن احتمل الخطأ في بعض تعاليمه ومع ذلك هي حجة.

الجواب:

أولاً هناك فرق بين الحجية الظاهرية والحجية الواقعية، حجية فتوى الفقيه حجية ظاهرية أي ظاهراً هو حجة، ولكن إذا انكشف خطأه يسقط عن الحجية، ولو تعارضت فتويان لفقيهان متساويان في العلم وكل منهما أفتى بفتوى معارضة لفتوى الآخر، نتيجة هذا التعارض تسقط الفتوى عن الحجية لأنها حجية ظاهرية.

بينما إذا كانت لدينا آية صريحة من القرآن فحجيتها واقعية لا تقبل انكشاف الخطأ ولا يعارضها شيء، وأي شي يعارض آية صريحة في القرآن هو الذي يسقط عن الحجية لا أن الآية تسقط عن الحجية.

والآيات المباركات التي تدل على حجية سنة النبي تدل على أن حجية سنة النبي حجية واقعية لا ظاهرية، فلا يقاس حجية النبي على حجية فتوى الفقيه، ففي هذا خلط بين الأمرين، حجية فتوى الفقيه ظاهرية لذلك تجتمع مع احتمال الخطأ، أما حجية سنة النبي كحجية القرآن، حجية واقعية، ولذلك لا تجتمع مع احتمال الخطأ، ولا يعارضها شيء إلا ويسقط هذا المعارض عن الحجية.

ثانياً هناك فرق بين الوثوق الجزئي والوثوق التام، فالطبيب الحاذق نثق به وثوق جزئي، فلا يمكن أن نثق تماماً بكل ما يصدر من الطبيب ونحن نعلم أن بعض ما يصدر منه خطأ أو قابل للخطأ، فالوثوق الحاصل بكلام الخبير هو وثوق جزئي لا وثوق تام، والهدف الذي أراده الله من بعثة النبي ليس الوثوق الجزئي وإنما الوثوق التام، الوثوق بتمام ما يصدر منه، ولا يمكن أن يحصل الوثوق التام بتمام ما يصدر منه مع احتمال الخطأ في بعض تعاليمه التي قد تصدر عن اجتهاد.

فالنتيجة أن تجويز الاجتهاد عليه في تحديد الحكم الشرعي أو تشخيص الأمور المصيرية المرتبطة بإقامة الدولة العادلة هو تجويز لا يجتمع مع العلم اللدني، ولا يجتمع مع عصمة النبي ، ولا يجتمع مع الحجية الواقعية لسنة النبي المصطفى محمد .

وعندما نقول أن النبي له عنصر بشري وله عنصر رسالي فليس وجود العنصر البشري في شخصية النبي نقصاً أبداً، وليس معنى أن النبي بشر أنه يعيش نقص، بل إن النبي عظيم في حد ذاته وإن لم يكن نبياً، محمد يحمل مؤهلات العظمة وإن لم يكن نبياً، ولولا أنه يحمل مؤهلات العظمة في حد ذاته لما بعثه الله نبياً، إنما بعثه الله نبياً لأنه في نفسه يمتلك قابليات وكفاءات ومؤهلات جعلته من أعظم القادة في التاريخ، ولذلك يقول الشاعر الأزري:

قَلَبَ  الخافقينِ  ظهراً iiلبطنٍ
لم  يكنْ  أكرمَ النبيينَ iiحتَّى
  فرأى ذاتَ «أحمدٍ» فاجتباها
علمَ    اللهُ    أنّهُ    أزكاه
ا
المحور الثالث: الشواهد على وقوع الاجتهاد أو عدم وقوعه.

لم يسع الوقت لذكره.

فالعنصر البشري قد يكون مظهر للكمال وليس مظهراً للنقص، الإنسان يتميز على كل المخلوقات بإرادته، والإرادة عنصر بشري، إلا أن الإرادة مع أنها عنصر بشري لكنها نقطة كمال وليست نقطة نقص، الإنسان بالإرادة يبني المعجزات، وبالإرادة يبدع ويعطي وينجز، فالإرادة البشرية مع أنها عنصر بشري لكنها نقطة كمال وليست نقطة نقص، وكلما كانت الإرادة أقوى كان الإنسان أكمل وأعظم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك: 2]، فكلما كانت إرادتك أقوى كنت أحسن عملاً.

وورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : قيمة كل امرئ ما يحسنه؛ أي أن إرادته العظيمة هي التي تبرز على سلوكه وعلى عطائه وإنتاجه، إذن كلما كانت الإرادة قوية كانت العظمة أجلى ولأن النبي المصطفى امتلك أقوى إرادة، وأقوى صمود وأقوى قدرة نفسية لذلك كان أعظم قادة التاريخ، فالنبي الأعظم بإرادته حول المجتمع من مجتمع جاهلي متخلف إلى مجتمع متعلم متطور، وحوله من مجتمع متناحر إلى مجتمع متآخي، وكل ذلك بقوة إرادته، التي هي عنصر بشري في شخصيته.

النبي الأعظم بقوة إرادته تحدى كل الأعاصير وقال: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه.

النبي بقوة إرادته تحدى وأعلى الحق بهذه الكلمة، وعلي بن أبي طالب بقوة إرادته أعلى الحق وقال نفس الكلمة: والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، والله لو كان المال لي لساويت بينهم وكيف والمال مال الله!

علي بن أبي طالب بقوة إرادته قَوَّم العدالة وأسس العدالة، والحسين بن علي بقوة إرادته أطلق مشروعه التغييري وقال: ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وجذور طابت وحجور طهرت. لأن الحسين كان إنساناً يحمل إرادة حديدية وصامدة لذلك عشقه الأصحاب وعشقه الأنصار، تفانوا في القتال بين يديه، وتفانوا في الجهاد بين يديه من الكبار إلى الصغار، ومن الشيوخ إلى الشباب، تراهم يتنافسون في السباق للقتال بين يدي أبي عبد الله، وكلهم ينادون يوم كربلاء: لبيك يا حسين، لبيك أبا عبدالله.

[1]  في الكافي الجزء الأول ص 266.
[2]  الرواية ليس لدينا سند صحيح لها ولكن الشيخ الطبرسي يذكرها.