الليلة الثانية عشر من محرم الحرام 1441هـ

الثابت وَالمتغير في شريعة النبي (ص)

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء: 13]

صدق الله العلي العظيم

هناك عدة آيات في القرآن الكريم تدل على أن لله حدوداً، ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا [البقرة: 229]، ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.

فهل أن الحدود والأحكام والقوانين لا تقبل التغير أم أنها قضايا مرنة قابلة للتغير؟

من هذا المنطلق جاء بحث المتغير والثابت في الإسلام، هل أن أحكام الإسلام ثابتة أم أنها مرنة قابلة للتغير! وأتعرض في هذا البحث لفهرست البحث وأقرر النتيجة في الليلة الأتية:

فهرسة هذا البحث الثابت والمتغير من خلال محاور ثلاثة:

  • شرح المصطلحات.
  • بيان الميزان في التغير.
  • بيان أنواع التغير للحكم.
المحور الأول: شرح المصطلحات.

لدينا ثلاثة مصطلحات: ما هو الدين الذي نبحث عن تغيره؟ وما هو مقصدنا بالتغير؟ ما هي المجالات التي يقع فيها التغير؟

السؤال الأول: هل الدين ثابت أم متغير، وماذا نقصد بالدين؟

ليس المقصود بالدين هو الوحي الذي نزل على النبي محمد ، لأن الوحي ليس بمتناول أيدينا حتى نقوم ببحثه وفرز الثابت منه والمتغير، وإنما مقصدنا بالدين هو المضامين المذكورة في الكتاب والسنة، المضامين التي وصلت إلينا من الكتاب، ومن سنة النبي ، ومن سنة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، وهذه المضامين هي الدين الذي نبحث فيه هل هو ثابت أم متغير.

 السؤال الثاني: ما هو المقصود بالتغير؟

التغير هو عبارة عن اختلاف الحكم باختلاف الزمن، أو اختلاف المكان، أو اختلاف الحالة، مثلاً كان الحكم هو أن شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [البقرة: 282] فهل أن الحكم هنا قابل للتغير باعتبار أن المرأة الآن مكافئة للرجل في المستوى الذهني والثقافي والوظيفي والاجتماعي؟

السؤال الثالث: ما هي المجالات التي نتوقع فيها التغير؟

الإنسان له أربعة علاقات: علاقة مع الطبيعة، علاقة مع المجتمع، علاقة مع الله، وعلاقة مع نفسه.

العلاقة مع الله: هي علاقة ثابتة وليست قابلة للتغير؛ لأن العلاقة مع الله تبتني على قيمة وجدانية فطرية يعيشها الإنسان؛ وهو حاجته إلى القوة التي تمده بالنشاط والحيوية، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30]

علاقة الإنسان مع نفسه: هي علاقة التهذيب والترويض والإصلاح، وهذه العلاقة أيضاً علاقة ثابتة لا تتغير، ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105]

علاقة الإنسان بالطبيعة والمجتمع: هي علاقة متغيرة؛ لأن الطبيعة محدودة بالزمكان «الزمن والمكان» فتتغير بتغير الزمن وبتغير الموقع، وبالتالي تتغير علاقة الإنسان بالطبيعة، فعلاقة الإنسان مع الإنسان ومع المجتمع علاقة خاضعة للتغير؛ لأن المجتمع هو عبارة عن الأشخاص، والأشخاص قد يتغيرون نتيجة الزمن، ونتيجة الموقع الاجتماعي ونتيجة الدرجة الوظيفية... وهكذا، فعلاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقة الإنسان بالمجتمع علاقتان قابلتان للتغير.

من هنا نطرح السؤال: لا إشكال أن الإسلام وضع قوانين ثابتة في علاقة الإنسان مع الله وهي العبادات، وفي علاقة الإنسان مع نفسه، ولكن في المجالات المتغيرة مثل علاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقة الإنسان بالمجتمع فهل وضع الإسلام قوانين ثابتة في هذه المجالات أم وضع قوانين مرنة تتغير بتغير هذه العلاقات؟ أم أن الإسلام ترك الصفحة خالية ولم يضع فيها لا قوانين ثابتة ولا قوانين متغيرة؛ أي أوكل تقنين وتنظيم علاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقة الإنسان بالمجتمع إلى العقل البشري؟

المحور الثاني: بيان الميزان في التغير.

لا إشكال أن بعض الأحكام الشرعية تتغير بتغير الحالة، مثلاً إذا كان مسافر تصبح صلاته قصر، وإذا صار حاضراً فصلاته تمام، إذا كان سليماً يصوم شهر رمضان، ولو كان مريضاً فعليه القضاء ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 185]، فالحكم يتغير بتغير الحالة، فما هو المعيار في هذا التغير؟

لدينا أربعة معايير: التغير المفهومي، التغير الموضوعي، التغير المصداقي، التغير الذاتي.

المعيار الأول: التغير المفهومي.

تغير الحكم لتغير المفهوم، هناك فرق بين الدين الواقعي والدين الظاهري، الدين الواقعي هو الوحي الذي تعطر به قلب النبي محمد ، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «193» عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «194» [الشعراء: 193 - 194].

وأما الدين الظاهري فهو فهم البشر للدين، كيف يفهم الإنسان النص الديني، وكيف يفهم الإنسان النص القرآني، وكيف يفهم الإنسان سنة المعصومين، ففهم الإنسان للدين هو الذي نعبر عنه بالدين الظاهري، وهذا الفهم قد يتغير.

فالتغير المفهومي هو شيء واقعي بالضرورة ولذلك يختلف الفقهاء في فهم النص، مثلاً عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ [التوبة: 28] هنا يختلف الفقهاء في معنى اللفظ ﴿نَجَسٌ، هل المقصود به النجاسة الخبثية؛ أي أن بدن المشرك نجس، أم أن المقصود بالنجاسة هي النجاسة المعنوية وهي الشرك؛ أي نجاسة قلبية وجدانية يعيشها المشرك؟

حتى نحدد أيهما هو الفهم الصحيح لابد أن نستند إلى أدوات علمية، ومن هذه الأدوات العلمية أدوات الاستظهار اللغوي، إذن تحديد الفهم لابد أن يعتمد على أدوات علمية وإلا يكون الفهم لا قيمة له.

مثال: الباحث السوري الدكتور محمد شحرور في كتابه «الكتاب والقرآن»، ذكر أن الحدود في القرآن الكريم على أربعة أقسام: منها ما كان بالحد الأدنى، ومنها ما كان بالحد الأعلى، ومنها ما كان بالحد الأدنى والأعلى، ومنها ما كان بالحد بين الأدنى والأعلى.

القسم الأول: الحد الأدنى، عندما نأتي إلى قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 23]

يقول أن هذا بيان للحد الأدنى؛ أي أن الحد الأدنى من النساء المحرمات هو الأم والأخت والبنت والخالة والعمة... إلخ، ولكن يمكن أن يصبحن النساء المحرمات أعلى من هؤلاء، والقرآن يتكلم عن الحد الأدنى من النساء المحرمات، فبنت الخال يمكن أن تصير محرمة، وبنت العم يمكن أن تصير محرمة أيضاً، فالقرآن يتكلم عن الحد الأدنى من النساء المحرمات وأما الحد الأعلى فهو يتجاوز هذه العناوين المذكورة في القرآن.

القسم الثاني: الحد الأعلى، وهو ما ورد في حد السرقة ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة: 38]، القرآن يتكلم في هذه الآية عن الحد الأعلى من العقوبة، فليست كل سرقة يستلزم الحكم فيها قطع اليد، فقد تُعالَج السرقة بإيقاف الخدمات عن السارق، وقد تعالج بسجن السارق، وقد تعالج بتعزيره أو بجلده، لكن أقصى حد تعالج به السرقة هو قطع الأصابع، ولا يجوز تجاوز هذا الحد.

القسم الثالث: الحد الأدنى والأعلى؛ أي الحد الحاسم لا أقل ولا أكثر، مثل حد الزنا ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور: 2]؛ أي أن هذا حد لا يقبل النقيصة ولا الزيادة، هو الأدنى وهو الأعلى مئة جلدة لكل زاني. القسم الرابع: الحد بين الأدنى والأعلى، ولما أتى إلى الميراث ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11] فالذكر له 66.6%، والأنثى لها 33.3%، يقول بأن القرآن بَيَّنَ أن الحد الأعلى لنصيب الذكر 66.6% فلا يعطى أكثر من ذلك، وأن الحد الأدنى لنصيب الأنثى هو 33.3%؛ أي أنه لا تعطى أقل من هذا المقدار، ففي هذه الآية يحدد الحد الأعلى والحد الأدنى ولم يحدد الحد الحاسم وإلا يمكن أن نعطي الأنثى 50% ونعطي الذكر 50% فيتساووا في النصيب ويتصالحوا، ويمكن أن نعطي الأنثى إذا كانت هي الأحوج 60% ونعطي الذكر 40%، فالقرآن لم يقل بأن هذا أمر حاسم بل هذا هو الحد الأدنى الذي لا يقل ويمكن أن يكون أعلى، والحد الأعلى الذي لا يزيد ويقبل النقصان.

من أين جاء هذا الفهم؟ هل هو اعتماد على منهج علمي أم على منهج عربي استظهاري؟

ذكر أنه بالاعتماد على نظرية التوابع المستمرة في الرياضيات، فالأعداد على نوعين سلسة النطاق وسلسلة المدى، سلسلة النطاق هي كل الأعداد التي تدخل ضمن نطاق الدالة، 1، 2، 3،..... إلخ، وسلسلة المدى هي الناتج عن تطبيق الدالة يعني مثلاً العدد مضروباً في نفسه، أي مربع العدد، فمربع الواحد هو 1، مربع الاثنان هو 4، مربع الثلاثة هو 9، مربع الأربعة هو 16.... وهكذا، فمربع العدد هو مداه.

فلو طرح علينا هذا السؤال وقيل لنا ما هو الجذر الذي يُسهم في تشكيل مدى تسعة؟ أي ما هو العدد الذي إذا ضربته في نفسه كان 9، فالجواب يكون هو 3 لأن التسعة تنقسم على ثلاثة.

ولكن لو جاء سؤال آخر يقول ما هو الجذر الذي يسهم في تكوين المدى 7؟

فجواب هذا السؤال لا ينقسم إلا بكسور، فتقول الجذر لا أقل من اثنان ولا أكثر من ثلاثة، فجعلت للجواب حد أدنى وحد أعلى، الجذر في تكوين المدى سبعة لا أقل من 2 ولا أعلى من 3، لأن مربع اثنين هو 4، ومربع ثلاثة هو 9، فهو بينهما لا أقل من 2 ولا أعلى من 3؛ أي الوسط بين هذين الحدين ونستخرجه بخوارزمية نيوتن الضابطة لتحديد ذلك الجذر الواقع بين الحد الأدنى والحد الأعلى.

ومن هذا المنطلق جاءت تفسير آية الميراث عندما قال القرآن الكريم: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11] فهو ناظر لحالة وسط لا هي أقل من 33.3% ولا أكثر من 66.6% بل بينهما، وهذا نقدره حسب الثقافة الاجتماعية وحسب المحيط الاجتماعي الذي نعيش فيه، ونقدر كم للذكر وكم يكون للأنثى فقد يتساويان وقد يتفاضلان قد تكون الانثى أعلى من الذكر وقد يكون العكس.

نريد بهذا المثال الذي طرحناه في فهم الدكتور شحرور أن نقول: هذا الفهم لم يعتمد على منهج علمي، فهو قد أدخل نظرية رياضية في فهم الآية القرآنية، والقرآن الكريم كلامه عربي وفهمه يتوقف على منهج استظهار لغوي، وإلا ما هو الفرق بين الآيات؟ فعندما تأتي لآية السرقة تقول أن هذا حد أعلى، وإذا أتيت لآية الزنا قلت هذا حد حاسم.... وواقعاً التعبير هو نفسه بين الآيتين! فكيف يكون هنا حد حاسم وهنا حد أعلى! فإذن لا يوجد منهج استظهار لغوي اعْتُمِد عليه في تحديد هذا التفسير لذلك لا يمكن أن نعتبر لهذا التفسير قيمة علمية.

فالذي نقوله بالنتيجة أن تغير الحكم لتغير الفهم هو كلام صحيح، فقط عندما يكون الفهم معتمداً على أدوات علمية.

المعيار الثاني: التغير الموضوعي.

لا إشكال أن الحكم يتغير لتغير موضوعه، كان سليماً يصوم رمضان، وإذا كان مريض فعليه القضاء، كان حي فهو مكلف وإذا مات يسقط عنه التكليف، فالحكم يتغير لتغير موضوعه، فما هو الميزان في تغير الموضوع؟ لدينا نوعان من الموازين:

النوع الأول: ما طرحه الدكتور الباحث الإيراني السيد عبد الكريم سروش في كتاب «مدارى ومديريت» وهو كتاب باللغة الفارسية، ذكر أن الميزان في تغير الموضوع المقتضي لتغير الحكم هو أن الموضوع هل هو من الذاتيات أو من العرضيات، فإذا كان الموضوع من الذاتيات فهو لا يتغير وحكمه لا يتغير، وإذا كان الموضوع من العرضيات فهو يتغير وبتغيره يتغير الحكم، وذكر مثال للذاتيات ومثال للعرضيات.

قال لو أتينا للظلم فهو علاقة بشرية قبيحة وغير قابلة للتغير، وهذه من القضايا الجوهرية الذاتية في الدين التي لا تقبل التغير، ولذلك أيضاً حرمة الفائدة الربوية لا تتغير، لأن الفائدة الربوية ظلم ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة: 279]، فالفائدة الربوية لا تتغير؛ لأن موضوعها من الذاتيات وهو قبح الظلم.

بينما عندما نأتي لشروط عقد النكاح، فهو يشترط أن تكون صيغة العقد باللغة العربية، ويشترط في صيغة الطلاق أن تكون باللغة العربية، فيقول هذا من العرضيات وليس من الذاتيات؛ أي أن اللغة ليس لها مدخلية، وأن اللغة من عرضيات الدين لا من ذاتياتها، ويفسرها بقول: لأن النبي عربي وبُعث في بيئة عربية لذلك اشترط أن يكون النكاح والطلاق باللغة العربية، وإلا اللغة العربية ليست عنصراً جوهرياً في الدين، فأين المشكلة في أن يتغير الحكم فيصبح النكاح والطلاق باللغة الفرنسية أو الانجلزية أو الفارسية أو غيرها!

إذن ما كان الموضوع جوهراً ذاتياً في الدين فهو لا يتغير، ومتى ما كان الموضوع عنصراً عرضياً في الدين فهو قابل للتغير.

الملاحظة على هذا الميزان: الحكم الشرعي تابع للمصلحة والمفسدة، فإذا كانت هناك مصلحة ضرورية فالحكم ضروري، سواء كان الموضوع من الذاتيات أو من العرضيات، بل ليس لنا علاقة في صيغة الموضوعات هل هي من الذاتيات أم من العرضيات، الحكم يرمز إلى مصلحة، فإذا كانت المصلحة ضرورية إذن لابد من الحكم، سواء كان موضوعه من الذاتيات أم من العرضيات، مثال: هل يصح أن تصلي باللغة الفرنسية أو باللغة الإنجليزية باعتبار أن اللغة من العرضيات وليست من الذاتيات، والعنصر الجوهري فيها هو المضمون وأما اللغة فهي عنصر عرضي وشكلي! هل من الممكن أن تكون الصلاة بغير اللغة العربية؟ الصلاة باللغة العربية هي من ضروريات الدين، فهي لابد أن تكون باللغة العربية.

المثال الآخر:  هو محل بحث لكنه محل إجماع الفقهاء  دية الجنين، فإذا اجهضت الأم الجنين لأي سبب كان حتى لو كانت مضطرة فعليها أن تدفع الدية لأبيه، إلا أن يتنازل أبوه، وإذا اجهضه الأب فعليه أن يدفع الدية، وتصرف هذه الدية في ثواب هذا الجنين، وإذا أجهضه الطبيب فعليه أن يدفع الدية لأبيه، فالجنين إذا ولجته الروح وصارت فيه حياة  طبياً قبل سنين قدروا ولوج الروح بعد 12 أسبوع يصبح إنسان كامل، ولكن الآن فيه خلاف  فديته خمسة آلاف ومئتان وخمسون مثقال من الفضة، وإذا لم تلجه الروح إن كان نطفه فديته مئة وخمسة مثقال من الفضة، وإن كان علقة مئتان وعشرة، وإن كان مضغة ثلاثمئة وخمسة عشر، وإن كان عظاماً أربعمئة وعشرون، وإن كان جسداً كاملاً وإن لم تلجه الروح بعد خمسمائة وخمسة وعشرون مثقالاً من الفضة، هذا الموضوع عرضي ويتغير، فمثل ما الذهب له عيارات الفضة كذلك له عيارات فبأي عيار تقدر؟. وأي سعر؟

صحيح أن الموضوع هنا هو أمر عرضي متغير ولكن مع ذلك فهذا الحكم إجماعي عند الفقهاء طبقاً لنصوص واضحة وصريحة وصحيحة أن الدية هكذا.

إذن هذا الميزان الأول غير تام.

النوع الثاني: أن الميزان في تغير الموضوع هو الفرق بين الهدف الأصلي والهدف الفرعي، بعض الأحكام الشرعية تغطي هدف أصلي، وبعض الأحكام الشرعية تغطي هدف فرعي، كل حكم يشبع ويغذي هدفاً أصلياً في الإسلام فهو لا يتغير، وكل حكم يشبع ويغذي هدفاً فرعياً في الإسلام فهو قابل للتغير، وهذا هو الميزان في تغير الموضوع.

الملاحظة على هذا الميزان: الأحكام الوجوبية لا إشكال أنها تغطي مصالح ضرورية كوجوب الصلاة، ووجوب الزكاة، ووجوب الحج، ووجوب الصوم، تغطي مصالح ضرورية لذلك هي تعبر عن أهداف أصلية إذن هي لا تتغير، أما المستحبات فهي لا تغطي مصالح ضرورية ولذلك لم يلزمنا بها الإسلام وإنما ندبها  طلبها ورجحها ، مع أنها لا ترمز إلى أهداف أصلية ولكنها لا تتغير، أيضاً زيارة النبي محمد حكم استحبابي وليس حكماً إلزامياً وإن كان السيد ابن طاووس عليه الرحمة قد قال: تجب زيارة قبر النبي في العمر مرة. ولكن أغلب الفقهاء يقولون أن زيارة النبي مستحب مؤكد، وإن لم تكن تعبر عن هدف ضروري لكنها حكم ثابت لا يتغير، إذن هذا الميزان الثاني ليس بتام أيضاً.

المعيار الثالث: التغير المصداقي.

أي لا يتغير الحكم ولا يتغير الموضوع، والمتغير هو مصداق الموضوع، مثلاً: القرآن الكريم عندما يتحدث عن نفقة الزوجة يقول: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 233] يجب على الزوج أن يهيأ نفقة الزوجة بالحد المتعارف، والمشكلة أنه في وضعنا الآن هناك تسامح كبير في نفقة الزوجة وهذه مشكلة خطيرة، فنفقة الزوجة دين في ذمة الزوج حتى ولو كانت الزوجة غنية، ولا يجوز للزوج أن يأخذ فلساً واحداً من أموال الزوجة من دون عطاء منها فهو غصب مُحرَّم، بالنتيجة أموالها لا تنال لأن المال كله على الزوج، عليه أن يهيأ لها مسكن بأمواله، ويهيأ لها الملبس والزينة بأمواله، ويهيأ لها الغذاء والشراب بأمواله، النفقة بالحد المتعارف، فالحكم لا يتغير ونفقة الزوجة دين في ذمة الزوج، والموضوع لا يتغير كما قال القرآن ﴿رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 233] وما تغير هو المصداق، كانت الزينة قبل أربعين سنة غير الزينة الآن، كان لباس المرأة قبل خمسين سنة يختلف عن لباس المرأة الآن، كان المسكن الذي يليق بالمرأة قبل خمسين سنة غير المسكن الذي يليق بالمرأة الآن.

وهذا ليس لدينا نقاش فيه، فتغير الحكم للتغير المصداقي صحيح، وليس بحثنا في التغير المفهومي فهو مسلم، ولا في التغير الموضوعي لأنه مسلم أيضاً، ولا في التغير المصداقي فهو كذلك مسلم، بحثنا يدور في التغير الذاتي؛ وهو أن يتغير الحكم بذاته من دون تغير لا في المفهوم ولا في الموضوع ولا في المصداق، فهل يتغير الحكم بذاته أم لا؟

المحور الثالث: بيان أنواع التغير للحكم.

هناك أربعة أنواع لتغير الحكم: تغير بالعنوان الثانوي، تغير بالحكم الولايتي، تغير بقاعدة التزاحم، وهذه التغيرات كلها مسلمة، والتغير الرابع هو الذي نبحث فيه.

النوع الأول: تغير الحكم بالعنوان الثانوي.

هو أمر مسلم في الشريعة، مثلاً لمس المرأة الأجنبية حرام، أما إذا كان طبيباً رجلاً وكانت المرأة مريضة يقول الفقهاء إذا كان الطبيب الذكر أرفق بها من الطبيبة الأنثى وأحذق في مجال العلاج يجوز لها أن تتعالج عند الطبيب الرجل ولو مس جسدها، فإذن تغير الحكم لكن تغير بالعنوان الثانوي عنوان الضرورة والعلاج.

النوع الثاني: تغير الحكم بالحكم الولايتي.

الحاكم الشرعي الفقيه الجامع للشرائط له الولاية في تغيير بعض الأحكام، يذكر علماؤنا ومنهم السيد الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه «اقتصادنا» يقول: للحاكم الشرعي منطقة في لائحة التشريع تسمى منطقة الفراغ، وهذه المنطقة للفقيه أن يملأها بالأحكام التي يراها تغطي مصالح ضرورية، ومنطقة الفراغ هي منطقة المباحات، المباح بالمعنى الأعم سواء كان حلالاً أو مكروها أو مستحباً، فالمباح بالمعنى الأعم هي منطقة فراغ وللفقيه أن يغير الحكم من حلال إلى حرام ومن مستحب إلى حرام، ومن مكروه إلى حرام، أو إلى واجب إذا اقتضت المصلحة الضرورية ذلك.

مثال: دفع الضريبة مباح في حد ذاته ولكن يمكن للحاكم الشرعي أن يحوله إلى واجب، إذا اقتضت المصلحة الضرورية ذلك، أن تدفع الضريبة لأن هذه الضريبة تسهم في تطوير البيئة التي أنت تعيش فيها، بناء الجسور، شق الطرقات، توفير المرافق الصحية، توفير لوازم الحياة، توفير مرافق التعليم، فإذا كان دفع الضريبة يسهم في تطوير البيئة، ويسهم في تنقية البيئة، فللحاكم الشرعي أن يُلزم بدفع الضريبة فيتحول دفع الضريبة من كونه مباح إلى كونه واجب، ويكون هذا الحكم لازم ويجب الالتزام به.

النوع الثالث: تغير الحكم لقاعدة التزاحم.

مثال: إذا حصل عندك تزاحم بين الصلاة وبين إنقاذ الغريق أيهما يُقَدَّم؟ في هذه الحالة يقدم إنقاذ النفس المحترمة على الصلاة، وإن كانت الصلاة عمود الدين إن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها، إلا أن الأهم يقدم على المهم، فهنا الحكم يتغير، الصلاة واجب مؤقت ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء: 103] مع ذلك هذا الحكم قد يتغير إذا زاحمه واجب أهم، وإن كان في بعض الموارد يتردد فيها الفقهاء، مثلا بين صلاة الآيات وصلاة الفريضة أيهما يقدم

النوع الرابع: تغير الحكم بذاته.

ومعنى ذلك يتضح في ثلاثة موارد:

المورد الأول:

هل في الشريعة الإسلامية منطقة فراغ؛ أي ليس فيها أي حكم ويملؤها الفقيه بحسب اجتهاده؟

السيد الصدر في كتابه «اقتصادنا» لم يستبعد ذلك، وقال: من المحتمل في الجانب الاقتصادي أن الله تبارك وتعالى جعل منطقة في التشريع المتعلق بالاقتصاد في اللائحة القانونية منطقة فراغ ليس فيها أي حكم، وجعل إملائها بيد العقل البشري أي بيد الفقيه تبعاً لتحديده وتشخيصه للمصالح الاقتصادية الضرورية، من أجل إبراز العنصر المتحرك في الشريعة المواكب لعلاقة الإنسان بالطبيعة، وقد اتجه جملة من الباحثين في إيران لهذا الرأي، ويشاركهم فيه إخواننا أهل السنة وهم قد بحثوه قبلنا ثيب قرنين من الزمان.

مثال: حق البراءة وحق الاختراع يأتي الفقيه ويقول بما أن المجتمع البشري اليوم كل الدول المتحضرة ترى أن لبراءة الاختراع حقاً، وبما أن المجتمع العقلائي في زماننا يرى أن للمخترع حقاً وللمبتكر حق البراءة إذن فهذا الحق هو حق شرعي، وهذا اجتهاد، وليس موجود لدينا في النصوص لا إثباته ولا نفيه، ففي خارج إطار النص شَرَّع الفقيه حقاً بناءً على إدراك العقل للمصلحة العقلائية التي اتفق عليها العقلاء، هل هذا ممكن أم لا؟

ومثل مسألة الرق، والرق هو تملك الإنسان للإنسان، ففي الدول الغربية إلى قبل مئة وخمسين سنة يوجد فيها رق، ولكننا لا نراه اليوم، وهو موجود وشيء طبيعي قبل مئة وخمسين سنة ولم يكن منافياً للعدالة، أما الآن في زمننا هذا اتفقت المجتمعات والدول على أن الرق ظلم، وأن تملك الإنسان للإنسان ظلم، فهل يتغير الحكم؟

المورد الثاني:

هل للحاكم الشرعي الولاية على إيجاد مصداق أو تشريع حكم نتيجة لتشخيصه هو للمصلحة الضرورية، مثلاً العملة الرقمية هي محل تردد الفقهاء هل هو مال يباع ويشترى به أو لا، فلو أن الحاكم الشرعي رأى أن المصلحة تقتضي أن يعتبره مال، فإذا اعتبره مال إذن تترتب عليه آثار المال، يورث، ويمهر للزوجة وغيره.

فهل للفقيه أن يعتبره مال وهو بذلك يكون قد أوجد مصداق لم يكن موجوداً، وعليه تترتب آثار المال بحكم ولايتي من قبله، أو يشرع حكماً في مورد التزاحم!

مثلاً: تحديد عدد الحجاج وعدد الزوار، هل يستطيع الفقيه والحاكم الشرعي أن يحدده؟ يقول الحاكم الشرعي حتى أوفر بيئة صحية وآمنة للحجاج لابد أن أحدد العدد، فلا يمكنني أن أحافظ على بيئة صحية آمنة والعدد مفتوح، إذن بالنتيجة يأتي الحاكم الشرعي ويقول أنا بين أمرين، بين أداء هذا المكلف للواجب، وبين الحفاظ على بيئة صحية آمنة للحجاج، وأنا أرى أن الثاني أهم من الأول فألزم بعدد معين!

المورد الثالث:

أن يتغير الحكم لتغير العنوان فقط من دون تغير موضوع ولا مفهوم ولا مصداق الموضوع، أن يتغير الحكم لتغير العنوان ولقد مثلنا له في البداية، القرآن الكريم يقول: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [البقرة: 282]، فيقول الفقيه الآن: أن المرأة الآن تغيرت، أصبحت مكافئة للرجل في المستوى الذهني والثقافي والوظيفي إذن شهادتها مساوية لشهادة الرجل، هل يمكن ذلك أم لا؟

الآن بعض الباحثين حتى على مستوى أحكام الميت طالبوا بالتغيير، يقولون هذا الميت يُغَسَّل بالماء القراح، ويُغَسَّل بماء السدر، ويُغَسَّل بماء الكافور ويكفن، لماذا نجمد على هذه الظواهر والهدف من استخدام ماء السدر والكافور هو تعقيم جسمه تنقيته ومنع انتشار الأوبئة والأمراض، وهذا يمكن أن يتحقق بمعقمات أخرى، فهل يمكن استبدال غسله بماء السدر أو ماء الكافور بمعقمات أخرى أو بأدوية أخرى أم لا؟ وما هو المانع من التغيير ما دام الهدف هو الحفاظ على نقاء جسمه ومنع انتشار الأوبئة والامراض؟

الشريعة الإسلامية في أحكام الميت لم تلاحظ فقط الجانب الصحي، وإنما لاحظت كرامة الميت وحرمته، والقانون الإسلامي يتميز على القانون الغربي في مساحة حقوق الإنسان، فالقانون الإسلامي يضع للجار حقوق ليست موجودة في القانون الغربي، والإسلام يضع للجنين حقوقاً منذ أن يكون نطفة وهذا ليس موجوداً في القانون الغربي، ويرى الإسلام أن الميت كالحي فيقول إن حرمة المؤمن ميتاً كحرمته حياً، صحيح أنه الآن جسد بلا روح ولكن حرمته باقية، ولا يجوز المس بها، لذلك تنهى الروايات عن تغسيل الميت بماء حار لأنه يؤذيه، وتنهى عن وضع شيء ثقيل على صدره لأنه يؤذيه، وكله حفاظاً على حرمة الميت وكرامته، فحرمة الميت حكمٌ عظيم في الإسلام بل مما جرت عليه عادة العرب منذ زمن الجاهلية، جرت عادة العرب أن للميت كرامة وحرمة، يغسل ويكفن ويجهز، ولكن جريمة كربلاء تجاوزت العادات والأعراف وحتى الشيم العربية، تجاوزتها في ذرية النبي ، فجثث آل بيت رسول وأجسادهم تُركت على الثرى بلا غسل ولا كفن تشخب منها الدماء، وتعاملوا مع هذه الجثث بلا حرمة وكرامة، وأعظمها جسد الحسين .