الحلقة 1 | الثبات وَالتغير في الأدلة النصية

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

مدخل إلى بحث الثابت والمتغير:

طُرح بحث الثابت والمتغير في الشريعة الإسلامية منذ عدة قرون؛ فقد كتب القرافي من علماء أهل السنة في كتابه الفروق حول الثابت والمتغير في سنة النبي ، وحذا حذوه الشهيد الأول في كتابه «القواعد والفوائد»؛ حيث قسّم ما يصدر من النبي إلى عدة أقسام.

أقسام ما يصدر عن النبي :

القسم الأول: ما يصدر منه بما هو رسول كوجوب الصلاة والصوم.

القسم الثاني: ما يصدر منه بما هو ولي الأمر وحاكم ورئيس، كتحريمه أكل لحم الحمر الأهلية يوم خيبر، كما ورد في الرواية الصحيحة ”نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ص عَنْهَا وَ عَنْ أَكْلِهَا يَوْمَ خَيْبَرَ وَ إِنَّمَا نَهَى عَنْ أَكْلِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهَا كَانَتْ حَمُولَةَ النَّاس“ [1]  فهذا النهي قد صدر منه بما هو ولي الأمر ورئيس لا بما هو رسول، وهو واجب الإطاعة على كل حال؛ بمقتضى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ[2] .

القسم الثالث: ما يصدر منه بما هو قاض يقضي لرفع الخصومات وفض المنازعات وقد اختلف الفقهاء في هذه الرواية المعتبرة وهي: ”قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ص بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي مَشَارِبِ النَّخْلِ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ‏ نَفْعُ‏ الشَّيْ‏ءِ وَ قَضَى ص بَيْنَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ فَضْلُ مَاءٍ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ كَلَإٍ“ [3]  حيث بحث الفقهاء أن هذا قضاء؟ أو أن كلمة «قضى» نظير كلمة ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ[4]  أي حكم حكما شرعياً؟

القسم الرابع: ما يصدر منه بما هو مرشد إلى أمور واقعية تكوينية، وقد مثل له جملة من الأعلام بما صدر عن النبي في القضايا الطبية، كما ورد عنه : ”كُلُوا التُّفَّاحَ‏ عَلَى‏ الرِّيقِ‏ فَإِنَّهُ يُصَوِّحُ الْمَعِدَة“ [5] ، أو ”مَنْ‏ أَكَلَ‏ كُلَ‏ يَوْمٍ‏ عَلَى‏ الرِّيقِ‏ إِحْدَى‏ وَ عِشْرِينَ‏ زَبِيبَةً حَمْرَاءَ لَمْ‏ يَعْتَلَ‏ إِلَّا عِلَّةَ الْمَوْت“ [6]  فهذا النوع من الروايات هل صدر عنه - - بما هو رسول؛ ليكون حكما شرعيا أم صدر عنه بما هو مرشد مطلع على القضايا الواقعية فهي ليست حكما شرعيا وإنما هي إرشاد لقضايا واقعية؟

ذكر الشهيد الأول أن للنبي - - شؤوناً مختلفة وليس شأنا واحدا فليس جميع ما يصدر منه يعد حكما شرعيا.

ثم تطور البحث لدى المتأخرين حتى ذهب جملة من الباحثين إلى أن الأحكام الشرعية الصادرة عن النبي - - بما هو حكم شرعي هي تنقسم إلى قسمين: أحكام ثابتة وأحكام متغيرة.

وقد ذُكر في كلمات هؤلاء الباحثين ميزانان للتفريق بين الأحكام الثابتة والأحكام المتغيرة:

الميزان الأول للتفريق بين الأحكام الثابتة والأحكام المتغيرة:

ما ذكره الدكتور مهدي بازرگان - حسب ما نقل عنه - أن الأحكام الشرعية أصلية وفرعية.

الأحكام الأصلية: هي الأحكام التي تغطي مصالح ضرورية ملزمة كالواجبات والمحرمات، وهذه الأحكام لا يمكن تغييرها.

الأحكام الفرعية: هي الأحكام التي تغطي مصالح تكميلية - وليس مصالح ملزمة - كالأحكام الاستحبابية، كما في استحباب النافلة واستحباب صلة الأرحام بما هو أكثر من الصلة الضرورية، هذه الأحكام الاستحبابية بما أنها تعالج وتغطي مصالح تكميلية لا مصالح ملزمة فهذه الأحكام يقع فيها التغير وليست أحكاما ثابتة.

الميزان الثاني للتفريق بين الأحكام الثابتة والأحكام المتغيرة:

الذي تعرض له الدكتور عبد الكريم سروش، وهو الفرق بين الذاتي والعرضي.

الأحكام الذاتية: فقال بان هناك أحكاما ترتبط بالمصالح العامة التي لا يختلف فيها إنسان عن إنسان ولا مجتمع عن مجتمع وهذه تعتبر من الأحكام الذاتية والتشريعات الذاتية، مثلا حرمة شرب الخمر كما ورد في الرواية الشريفة: ”إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ لَمْ يُحَرِّمِ الْخَمْرَ لِاسْمِهَا وَ لَكِنَّهُ حَرَّمَهَا لِعَاقِبَتِهَا فَمَا كَانَ‏ عَاقِبَتُهُ‏ عَاقِبَةَ الْخَمْرِ فَهُوَ خَمْر“ [7]  أو حرمة الربا مثلا لأنه ظلم: ﴿وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ. [8] 

إذن حرمة شرب الخمر والربا حرمة ترتبط بمصالح عامة لا تختلف باختلاف المجتمعات والأزمنة، هذه نعبر عنها بالذاتي من الدين.

الأحكام العرضية: وهي الأحكام التي لا ترتبط بالمصالح العامة، وإنما ترتبط ببيئة معينة وثقافة معينة فهذه من العرضيات.

مثلا؛ اشتراط الفقهاء أن يكون عقد النكاح باللغة العربية أو إيقاع الطلاق باللغة العربية أو إيقاع النذر بالعربية هذا لا ربط له بالمصالح العامة، غاية ما في الأمر أن الدين بدأ بالمجتمع العربي وجاءت تشريعاته باللغة العربية فرأى كثير من الفقهاء أن القدر المتيقن من النكاح النافذ والطلاق النافذ والنذر النافذ ما كان باللغة العربية، وإلا فما دخل اللغة في إيجاد علاقة اعتبارية تسمى بالزواج أو إيجاد بينونة اعتبارية تسمى بالطلاق أو إيجاد علقة عهدية بين الإنسان وبين ربه تسمى بالنذر، فاللغة لا دخل لها في هذه الأمور الاعتبارية.

إذن اشتراط اللغة من عرضيات الدين لا من ذاتياته، وما كان من ذاتيات الدين فهو أحكام ثابتة وما كان من عرضياته فهو أحكام متغيرة، يعني قابلة للتغير.

طبعا هذه الأمور سنتكلم فيها مفصلا، وإنما نحن الآن بصدد ذكر مدخل للبحث «بحث الثابت والمتغير».

مطالب ضرورية في بحث الثابت والمتغير:

بعد أن ذكرنا مدخل البحث نتعرض لعدة مطالب ضرورية لمعرفة مسار البحث وجريانه:

المطلب الأول: ما هو الفرق بين موارد الثبات وموارد التغير؟

قسّم جملة من العلماء - ومنهم السيد الطباطبائي صاحب الميزان رحمه الله - العلاقات الإنسانية إلى أقسام أربعة:

1. علاقة الإنسان بربه.

2. علاقة الإنسان ببيئته.

3. علاقة الإنسان بمجتمعه.

4. علاقة الإنسان بنفسه.

وذكر أن العلاقة الثابتة التي لا تتغير هي علاقة الإنسان بربه أي أن الإنسان يحتاج إلى العلاقة بالله حاجة ثابتة، حاجة الإنسان إلى العبادة، حاجة الإنسان إلى العلاقة مع الله حاجة ثابتة، إذن العلاقة مع الله علاقة ثابتة.

بينا علاقته مع الإنسان مع بيئته الطبيعية التي يحتاج فيها للمسكن والغذاء واللباس، هذه الحاجة قد تتغير، قد يتغير نوع اللباس، قد يتغير نوع المسكن، قد يتغير نوع المطعم والغذاء، حاجة الإنسان إلى العلاقة مع البيئة خاضعة للتغير وليست ثابتة.

علاقة الإنسان مع مجتمعه، علاقة الإنسان مع الجار، مع الأرحام، مع الأصدقاء، هذه العلاقات متغيرة، هناك مجتمعات ليس فيها علاقة مع الجار ولا الأرحام ولا مع أشخاص آخرين، لا يرون ذلك أمرا مهما ولا حاجة، فحاجة الإنسان لهذه العلاقات حاجة متغيرة وليست ثابتة.

علاقة الإنسان مع نفسه، تختلف باختلاف الثقافات وكيف تكون علاقتك مع نفسك علاقة التحرر، علاقة التقيد علاقة التطوير علاقة السكون، العلاقة مع النفس تختلف باختلاف الثقافات الاجتماعية.

إذاً: المورد الثابت الذي لا نتصور فيه إلا تشريعا ثابتا هو المورد الأول علاقة الإنسان مع ربه أي باب العبادات، أما الموارد الثلاثة الأخرى، علاقة الإنسان بنفسه، ببيئته الطبيعية، ببيئته الاجتماعية، هذه العلاقات خاضعة لحاجات متغيرة؛ ولذلك التشريعات الواردة في هذا القسم من العلاقات تشريعات قابلة للتغير.

المطلب الثاني: ما هو مقصودنا من الثبات والتغير؟

مقصودنا من الثبات والتغير ما بعد مرحلة التبليغ وإلا قبل اكتمال مرحلة التبليغ كان هناك تغير كان هناك ناسخ ومنسوخ، قبل أن يكمل النبي ص مرحلة التبليغ كان هناك تغير، كان هناك بعض الأحكام ناسخة وأخرى منسوخة، نحن نتحدث عمّا بعد اكتمال مرحلة التبليغ، هل هناك متغير وثابت؟

ومقصودنا بالحكم الثابت ما لا يختلف باختلاف الزمان ولا باختلاف المكان، الزمكان ليس له أثر، ليس للزمكان - أي اختلاف الزمان والمكان - أثر في تغير الحكم، مثل وجوب الصوم، وجوب الصلاة الحج الزكاة.

أمّا ما يخضع لاختلاف الزمان والمكان فهذا هو الحكم المتغير وهذا هو الذي نبحث عنه «هل أن في الشريعة أحكام تتغير فقط لتأثير الزمان والمكان أم لا»؟

المطلب الثالث: البحث في خصوص الدين الواصل.

لا إشكال أن الدين له مراحل ثلاث: الدين الواقعي، الدين المبلَّغ، الدين الواصل إلينا.

المرحلة الأولى: الدين الواقعي.

وهو المرتسم في اللوح المحفوظ والذي نزل على قلب النبي محمد ، وهذا ليس محل بحثنا لأننا لا نناله حتى نبحث ما هو الثابت منه وما هو المتغير، فالبحث فيه لغو.

المرحلة الثانية: الدين المبلَّغ.

أي الدين الذي صدر عن المعصوم تبليغا، وأيضا هذا لا يمكننا البحث فيه لأننا لا ننال كل الدين المبلغ.

المرحلة الثالثة: الدين الواصل.

محل بحثنا في الدين الواصل إلينا عبر الآيات والروايات الشريفة، هل هذا الدين الواصل ينقسم إلى ثابت ومتغير أو لا؟

نقول بأن الدين الواصل على قسمين: ضروري ونظري.

الدين الواصل الضروري: هو الأحكام التي وصلت إلينا عبر تواتر أو عبر قرائن أوجبت الوثوق والقطع بها، وهذا جزء صغير من الدين الواصل.

والدين الواصل النظري: هو كل فهم قابل للخطأ، ما وصلنا عبر الظهور حتى لو كان آية قرآنية لكن وصل الحكم عبر ظهورها والظهور أمارة ظنية لا قطعية، أو وصل إلينا خبر الثقة وهو أيضا أمار ظنية لا قطعية، أو وصل إلينا عبر حكم عقلي ولكن نحتمل أنه جهل مركب أو أنه مخطئ للواقع.

فكل حكم وصل إلينا وهو قابل للخطأ سواء كان قطعيا أو ظنيا، فهو حكم نظري وكل حكم لا نحتمل خطأه سواء وصل بالتواتر أو القرائن المستفيضة الموجبة للوثوق والقطع فهو حكم ضروري، في كلا الحكمين نحن نبحث هل هناك حكم ثابت أو متغير أم لا؟

المطلب الرابع «والذي هو صلب ولبّ البحث»: الدين الإسلامي هل يتصور فيه التغير بتغير الزمان والمكان أم لا؟

الدين الإسلامي الذي يتمتع بسمات أربع:

1. أنه دين كامل، قال الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ[9] .

2. وأنه خاتم الأديان ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ[10] .

3. وأنه دين عام لكل البشرية ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ[11] .

4. وأنه ثابت لا يُنسخ - بحسب نوعه - كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ[12] .

الدين الذي له هذه السمات «الخاتمية، الكمال، الشمولية، الثبات» هل يتصور فيه التغير بتغير الزمان والمكان أو لا؟

لا إشكال أنه لدينا أحكام متغيرة لكن بتغير الموضوع «وهذا ليس محلاً للبحث»:

إما تغير الحكم بتغير الموضوع بعنوان أولي:

مثلاً مسافر أصبح حاضرا، كان حكمه القصر ثم صار حكمه التمام، شخص لم يكن لديه ربح لم يكن عليه خمس ثم صار لديه ربح وصار عليه خمس، هذا حكم تغير بتغير الموضوع بحكم أولي.

أو تغير الحكم بتغير الموضوع بعنوان ثانوي:

كالحرج، قال الله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[13] .

أو الضرر، ”لَا ضَرَرَ وَ لَا ضِرَارَ عَلَى‏ مُؤْمِن‏“ [14] .

أو لقصور القدرة، كما في موارد التزاحم بين الصلاة الواجبة في آخر الوقت وإنقاذ الغريق والقدرة قاصرة عن الجمع بين الامتثالين، هنا قد يتغير الحكم نتيجة قصور القدرة، كان وجوب الصلاة فعليا فصار غير فعلي؛ لمزاحمته بما هو أهم منه ألا وهو إنقاذ الغريق.

تغير الحكم بتغير الموضوع لعنوان أولي أو ثانوي لا كلام فيه.

محل البحث الكلامي والفقهي:

هل يمكن التغير أو لا؟ وإذا كان التغير ممكنا ما هي المدارك الفقهية التي نعتمد عليها في مقام إثبات الحكم المتغير؟

فهو بحث كلامي وبحث فقهي، ولأجل ذلك نقول:

هناك موارد ثلاثة وقع الكلام فيها:

المورد الأول: تغير الحكم مع ثبات موضوعه.

لنفترض الآن في زماننا هذا يقال كانت دية المرأة عند قتلها خطأ نصف دية الرجل والآن تصبح في زماننا نفس دية الرجل والموضوع لم يتغير.

الكلام في تغير الحكم لتغير الزمن هل هذا يمكن أم لا؟ هل ينسجم الدين الكامل الخاتم العام الثابت مع تغير الحكم عن الموضوع الثابت هل العقل يقبل ذلك أم يرى العقل مضادة بين هذا الدين الذي يقبل السمات الأربع وبين تغيره مع ثبات موضوعه؟

المورد الثاني: ولادة حكم جديد لا مدرك له في الدين الواصل.

لنفترض في زماننا ذهب المجتمع العقلائي أن للإنسان حق الاختراع أي براءة الاختراع وأن عدم إعطائه هذا الحق ظلم له، إذا اتفق المجتمع العقلائي على أن المخترع له هذا الحق وسلبه عنه ظلم له، هل يمكن أن نعتبر هذا حكماً شرعياً مع أنه ليس له مدرك في الدين الواصل؟ ولكن لأن المجتمع العقلائي قال به، أي قال بالصغرى وطبق الكبرى عليه، قال للمخترع حق البراءة، ثم طبق الكبرى وقال: وسلب حقه ظلم والظلم قبيح، هل الشرع يقول هذا حق شرعي؛ لأن المجتمع العقلائي قال به، مع انه ليس له مدرك في الدين الواصل؟

المورد الثالث: تغير الواقع لأجل قيام أمارة شرعية على خلافه.

بحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي بحث موجود في الأصول، في أصول المظفر وفي الحلقات وفي رسائل الشيخ الأعظم وفي الكفاية، هو بحث كلامي لكنه طرح في الأصول، وهو معالجة شبهة ابن قبة، إذا أخطأت الأمارة الواقع.

المشرّع جعل خبر الثقة حجة، ولكن الخبر يخطئ الواقع أحيانا، فلو فرضنا أن الواقع هو وجوب صلاة الجمعة على الحاضر ولكن الأمارة التي وصلتنا وهو خبر الثقة دلت على وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة فالأمارة أخطأت الواقع فهنا أثار ابن قبة شبهة نقض الغرض، وهي أن جعل الشارع الحجية لخبر الثقة - مع أنه يخطئ الواقع - نقض للغرض؛ حيث أن الأحكام الشرعية إنما شرعها الدين لأجل أغراض ملزمة واقعية فإذا كانت الأحكام الشرعية إنما شرعت لأجل أغراض إلزامية واقعية فعندما يجعل الشارع خبر الثقة وهو يعلم أنه يخطئ الواقع فقد نقض غرضه؛ لأنه لم يصل بهذا الخبر إلى الحفاظ على أغراضه اللزومية الواقعية.

وقد أجاب الأعلام عن شبهة ابن قبة بأجوبة متعددة:

الجواب الأول: مصلحة التسهيل.

صحيح أن هذا المكلف الذي اتبع خبر الثقة فاتت عليه المصلحة الواقعية، وهي مصلحة وجوب صلاة الجمعة، لكنه أدرك مصلحة التسهيل، فإن في العمل بخبر الثقة تسهيلا؛ حيث لا يمكن لكل مكلف أن يصل إلى العلم والقطع بالأحكام الشرعية.

الجواب الثاني: أن الأحكام الشرعية على درجات في الاهتمام.

فالحكم الشرعي الذي يبلغ أهمية قصوى على الشارع أن يتصدى لإيصاله بأدلة قطعية أو مستفيضة حتى يحافظ على غرضه أما الحكم الشرعي الذي لا يبلغ هذا المستوى من الأهمية فالشارع يقول إن وصل إليك أدركت مصلحته وإن لم يصل لم يضع عليك شيء لأنه أساسا ليس بدرجة من الأهمية تقتضي أن يتصدى الشارع لإيصاله، وصل وجوب صلاة الجمعة أدركت مصلحته وإن لم يصل لم تضِع مصلحة مهمة.

وهذان الجوابان حافظا على الحكم الواقعي.

الجواب الثالث: المصلحة السلوكية.

اختاره الشيخ الأنصاري فقال: إن أصابت الأمارة - كخبر الثقة - الواقع حصلت على مصلحة الواقع وإن لم تصب فهناك مصلحة تعوض مصلحة الواقع، ألا وهي المصلحة السلوكية.

وهنا أشكل بعض الأعلام ومنهم السيد الخوئي: أن مسلك الشيخ الأنصاري يؤدي إلى التصويب، يعني مسلك الشيخ يؤدي إلى تغير الحكم الواقعي.

فبناء على مسلك الشيخ حصل تغير ولم يكن هناك ثبات، فالحكم الواقعي في حق من لم تصل إليه الأمارة هو وجوب صلاة الجمعة وأما من وصلت له فالمصلحة هي وجوب صلاة الظهر؛ حيث دلّت الأمارة على وجوب صلاة الظهر، فهناك مصلحتان واقعيتان مصلحة في صلاة الجمعة ومصلحة في السلوك وهو اتباع الأمارة فبما أن هناك مصلحتين واقعيتين مقتضى ذلك أن يشرع الدين الجامع بين الحكمين لا حكماً واحداً.

هكذا أشكل السيد الخوئي قال: مقتضى هذا الكلام أن الدين لا بد أن يشرع جامعاً بين الحكمين، بأن يقول الحكم الشرعي الواقعي في حق من وصلت له الأمارة على وجوب صلاة الظهر هو الجامع بين وجوب الجمعة ووجوب الظهر، فهو إن اتبع الأمارة وصلى الظهر أتى بأحد الفردين، وإن صلى الجمعة وخالف الأمارة أدرك مصلحة أخرى، يعني طبّق أحد الفردين، فكان الحكم الشرعي هو وجوب صلاة الجمعة وتغير في حق من قامت عنده الأمارة على وجوب صلاة الظهر، لأن كل واحد من الفردين يحقق مصلحة واقعية، فهل هذا ممكن أم لا؟

إذاً بالنتيجة: نحن نبحث هذه الموارد الثلاثة:

1. تغير الحكم مع ثبات موضوعه.

2. ولادة حكم جديد لا مدرك له في الدين الواصل.

3. تغير الواقع لأجل قيام أمارة شرعية على خلافه.

طبعا هناك كتاب سنمشي معه تعليقا أو نقضا أو تأييدا «الثابت والمتغير في الأدلة النصية» للمؤلف الشيخ حسن علي أكبريان بالفارسي والعربي، نحن نمشي مع هذا الكتاب لأنه كتاب أشرف عليه أساتذة كبار في الحوزة، وقد نختلف معه في كثير من الموارد، المهم هو هذا مسيرتنا تأييدا، تعليقا، إضافة، حذفا، راجعوا هذا الكتاب، وكما ذكرنا، هذا البحث فيه مباحث كلامية وفقهية ستأتي، وقد نتعرض لمسألة العصمة لأنها ترتبط ببعض جوانب البحث، وهكذا.

والحمد لله رب العالمين

[1]  كلينى، محمد بن يعقوب، الكافي «ط - الإسلامية» - تهران، چاپ: چهارم، 1407 ق، ج‏6؛ ص246.
[2]  النساء: 39.
[3]  كلينى، محمد بن يعقوب، الكافي «ط - الإسلامية» - تهران، چاپ: چهارم، 1407 ق، ج‏5؛ ص294.
[4]  الإسراء: 23.
[5]  طبرسى، حسن بن فضل، مكارم الأخلاق - قم، چاپ: چهارم، 1412 ق / 1370 ش، ص173.
[6]  طبرسى، حسن بن فضل، مكارم الأخلاق - قم، چاپ: چهارم، 1412 ق / 1370 ش، ص175.
[7]  كلينى، محمد بن يعقوب، الكافي «ط - الإسلامية» - تهران، چاپ: چهارم، 1407 ق، ج‏6؛ ص412.
[8]  البقرة: 279.
[9]  المائدة: 3.
[10]  الأحزاب: 40.
[11]  سبأ: 28.
[12]  آل عمران: 19.
[13]  الحج: 78.
[14]  كلينى، محمد بن يعقوب، الكافي «ط - الإسلامية» - تهران، چاپ: چهارم، 1407 ق، ج‏5؛ ص294.