الصديقةُ فاطمة الكَوْثَرُ الفياض

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) [الكوثر: 1 - 3].

عند التأمُّل في هذه السورة المباركة خصوصاً في الفقرة والآية الأولى قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، يتّضح لنا جوانب ثلاثة مهمة في عظمة السيدة الصديقة الشهيدة صلوات الله وسلامه عليها وعلى ذريتها:

الجانب الأول:

إنّ المقارنة بين هذه السورة والسورة التي نزلت قبلها وهي قوله تبارك وتعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ [الضحى: 5] ترشدنا أن العطاء الموعود به لا ينحصر في العطاء الأخروي وهو مقام الشفاعة، وأنّ بيده الصراط والميزان؛ كما ورد في الروايات المعصومية الشريفة.

بل إن قوله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ بمقتضى إطلاقها تفيد أنه وعده بعطاءٍ لا حدود له في الدنيا والآخرة.

وأن العطاء الذي وعده به عطاءٌ يُرضيه، وأجلى وأوضح مظاهر العطاء التي منحه الله إياه في الدنيا هو ما قالهُ في السورة الأخرى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فإن عطاء الكوثر أعظم عطاءٍ أرضاه قلباً وروحاً، وهو عطاء حصل عليه في الدنيا واستمر في الآخرة، ألا وهو العطاء النوراني المعصومي الذي امتدّ بعده حيث إن الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم، الذين انبثقو من رحم الزهراء عطاء له في الدنيا؛ لأن معارفهم امتداد لرسالته وعطاء له في الآخرة؛ لأنهم أبواب الشفاعة ورفقاءه في مقعد الصدق، ولا أثمن ولا أعظم من هذا العطاء الكبير، فهو المنظور مصداقاً جلياً لقوله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ.

الجانب الثاني:

أن العطاء في الاستعمالات اللغوية والقرآنية يتضمن معنى السعة والكثرة، فهناك فرق بين الهبة والهدية والعطاء.

فالجميع تمليك وبذل لكن الهبة لا تستبطن أكثر من المنحة وإدخال شيء في حوزة الآخر، والهدية تتضمن المحبة.

وأما الإعطاء فإنه يتضمن السعة والكثرة على سبيل اللطف والإنعام، كما يستفاد من قوله تعالى: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) [ص: 39 - 40] خصوصاً مع إضافة العطاء إليه تبارك وتعالى من خلال ضمير الجمع وكما في قوله عز وجل: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) [الليل: 5 - 7].

فإن مقام المتقين الصالحين مقام العطاء الذي يفيض سعة وكثرة في القربات والخيرات، كما في قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 148] فعنوان العطاء متضمن لهذين العنصرين وهما السعة واللطف، لذلك كان المناسب لهذا العطاء أن يكون متعلّقه الكوثر، وهو الخير الكثير كما ذكر اللغويون.

الجانب الثالث:

أنّ الكوثر على صيغة فَوْعَل بمعنى الخير الكثير، والخير الكثير ليس النبوة ولا إظهار الدين والرسالة، وإنما الخير الكثير بقرينة ذيل السورة: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ، هو الخير الكثير في ذريته ونسله لا مطلق الخير الكثير، ولا يوجد صورة أجلى ومصداق أعظم في الخير الكثير من فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها وعلى آلها الطاهرين.

فهي بجهادها وعلمها وبكونها حلقة العصمة والطهارة بين النبوة والإمامة، وكونها مبدأ النور في حَديثِ الكِساءِ اليَمانِي، والَّذي منْه هذِه الفَقرةُ التي يُجِيبُ فيها المولَى سُبحَانه عن سُؤالِ جَبرَئِيلَ: قالَ الأَمِينُ جِبرائِيلُ: يا رَبِّ وَ مَنْ تَحتَ الكِساءِ؟

فَقالَ عَزَّ وَجَلَّ: «هُم أَهلُ بَيتِ النُّبُوَّةِ وَمَعدِنُ الرِّسالَةِ هُم فاطِمَةُ وَأَبُوها، وَبَعلُها وَبَنوها» [راجِعْ كِتابَ البَحرانِي ”عَوالِم العُلومِ“ يَروِيه بسَندٍ جيد عن جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ الأنصَاريِّ].

وكونها منبثقاً لأئمة أحد عشر كانوا امتداداً للرسول المصطفى في تبليغ الرسالة وتمكين الدين، وبهم الفتح وبهم الختم، فلا يوجد صورة للخير الكثير أعظم من ذلك كله.

نسأل الله تبارك وتعالى أن لا يحرمنا في الدنيا خدمتها وولاءها وولاء الأئمة من ذريتها، وأن لا يحرمنا في الآخرة قربها وشفاعتها ورضاها، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.