معالم القيادة الرشيدة في مسيرة الإمام علي (ع)

1442-01-04

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا

صدق الله العلي العظيم

انطلاقا من الآية المباركة التي تحدثت عن قيادة الرسول بصورها المتنوعة: شاهدا، ومبشرا، ونذيرا، وداعيا، نتحدث حول القيادة من خلال ثلاثة محاور:

  • تعريف القيادة والمعيار في ثبوتها.
  • مقومات نجاح القيادة.
  • تجليات القيادة الرشيدة في المسيرة العلوية.
المحور الأول: تعريف القيادة والمعيار في ثبوتها.

أولا: ماهي القيادة؟

روبينز من الباحثين في علم الاجتماع، يقول: القيادة هي القدرة على التأثير في الجماعات بحيث يقودها نحو تحقيق الهدف، فكل إنسان يمتلك القدرة على التأثير في الجمهور بحيث يقوده نحو تحقيق الأهداف فهو قائد.

ثانيا: أركان القيادة.

الأول: الجمهور الذي هو ميدان لعمل القيادة.

الثاني: الأهداف التي رسمها القائد لنفسه كي يتوصل إليها.

الثالث: القدرة على التأثير في الجمهور من خلال مواهبه وملكاته الخاصة.

الرابع: السلطة وقد تكون سلطة مدنية، وقد تكون سلطة دينية، السلطة هي عبارة عن الموقع الذي يكتسب القائد من خلاله صلاحية الأمر والنهي والتأثير.

ثالثا: المعيار في بلورة القيادة وتشكلها.

متى تتبلور القيادة وتصبح شيء قائم بالفعل؟ إذا رجعنا إلى مدونة قدمها الدكتور مشعل العيداني في جامعة الإمام محمد بن سعود في كلية العلوم الاجتماعية تحت عنوان «نظريات القيادة وأنماطها» يذكر أن جامعة أوهايو قامت ببرنامج وصف استبانة سلوك القادة ورصدت 1800 سلوك محتمل للقادة ونتج عن هذه الدراسة ثمانية نظريات في مجال القيادة، نظريات حديثة، منذ عام 2001 حتى عام 2008 كتب في مجال القيادة 53 ألف و120 بحث لما لهذا الموضوع من أهمية وخطورة وتأثير، نقتصر هنا على ماتعرض إليه المفكر كيث جرينت في كتابه «القيادة» حيث طرح نظريات أربع في المعيار في تحقق القيادة:

النظرية الأولى: القيادة بالمنصب.

قد لايكون لدى الإنسان مؤهلات قيادية ولكن إذا وصل إلى المنصب استطاع من خلاله أن يكون له مقام الأمر والنهي والتوجيه وسيلزمه المنصب بتحمل مسؤولية قراراته وأوامره، كثير من الشعوب وخصوصا الشرقية تفضل أن يكون القائد واحد وليس متعدد وأن تكون له سلطة قوية مسيطرة يقتدر من خلال هذه السلطة أن يتخذ إجراءات حازمة وقرارات خطيرة خصوصا في الظروف الحرجة والصعبة ويتحمل المسؤولية بدلا عن الجماهير.

النظرية الثانية: نظرية السمات.

وهي نظرية عني بها علماء النفس، حيث تعتبر أول نظرية في هذا المجال، ولذلك يعبر عنها الأب الشرعي لنظريات القيادة فهي التي مهدت السبيل أمام النظريات المختلفة، القيادة سمات وهي: الذكاء، الثقة بالنفس، الطموح، روح المبادرة، القدرة على اتخاذ القرار، إذا ملك الإنسان هذه السمات فقد أصبحت له القيادة بالفعل لأن هذه هي سمات القيادة ومؤهلاتها.

النظرية الثالثة: نظرية النتائج.

أصحاب هذه النظرية يقولون حتى لو كان القائد لديه سمات ومؤهلات وحتى لو كان له منصب فليس بالضرورة أن يكون قائد، القيادة الفعلية لاتتحقق بالسمات وحدها ولا بالمنصب وحده، القيادة الفعلية بالنتاج، أنتج أم لم ينتج، بمعنى أن هذا الإنسان خاض التجارب والظروف المختلفة وأثبت جدارته إما من خلال إنتاج فكري أو مواقف بطولية في أحداث مختلفة، من خلال ذلك ومن خلال نتاجه نستطيع أن نصل إلى أنه قائد بالفعل، القيادة الفعلية بالنتاج، دوركايم لديه ملاحظتان على هذه النظرية:

الملاحظة الأولى: النتاج لايعني أن القائد منتج فقد يكون الجمهور هو الذي أنتج، ليس بالضرورة أن يكون النتاج المميز ناشئا عن مؤهلات أو مهارات أو جهود في القائد، قد يكون النتاج نابعا من الجمهور نفسه، الجمهور له الثقل الأكبر في جهوده ونشاطاته ومهاراته إلى أن أبدع النتاج، ليس بالضرورة أن يكون النتاج علامة على القيادة الفعلية.

الملاحظة الثانية: أن مجرد وجود نتاج لايعني أن الجمهور كان متفاعلا مع هذه الشخصية حتى نستكشف أنها قيادة بالفعل، قد يكون الجمهور مجبرا خاضعا لتلقين أو ضجيج إعلامي فمجرد وجود النتاج لايعبر عن قيادة فعلية.

النظرية الرابعة: القيادة الفعلية بالمهارات ومناهج العمل.

أن يكون لديه أساليب متنوعة في العمل ومهارات متعددة، من خلال مهاراته وأساليبه ومناهجه التي توصل إليها ولو بخبرته استطاع أن يشكل له قيادة ناجحة، يضع بعض علماء الاجتماع ملاحظة على هذه النظرية وهي أن المهارات تختلف باختلاف المواقع، ربما يكون للإنسان مهارة خطابية لكن ليس لديه مهارة إدارية، ربما تكون لديه مهارة إدارية في ظروف السلم وليس لديه مهارة إدارية في ظروف الحرب، فالمهارات تختلف باختلاف الظروف والمواقع، القائد العسكري يحتاج إلى مهارات لايحتاجها رئيس الدولة، ورئيس الدولة يحتاج إلى مهارات لايحتاج إليها الزعيم الديني، والزعيم الديني يحتاج إلى مهارات قد لايحتاجها معلم الأطفال، فمعلم الأطفال قائد ويحتاج إلى مهارات معينة، إذن لكل موقع قيادة لأن لكل موقع مهارات تنسجم معه، كيث جرينت يختار أن القيادة هي علاقة تفاعلية، يقول أن القيادة من قبيل العلاقات فهي علاقة تفاعلية بين ثلاثة أطراف: قائد، جمهور، ظروف، بالتفاعل بين هذه الأطراف الثلاثة تتحقق القيادة الفعلية، ويقتدر القائد على أن يوجه جمهوره نحو الأهداف عن طوع واختيار ووعي وفهم، حينئذ تتحقق القيادة الفعلية.

رابعا: مصدر مواصفات القيادة.

هناك أربع نظريات:

النظرية الأولى: أن القيادة فطرية.

فالقائد يولد قائدا أي أنه يولد ولديه مواهب القيادة، توماس كارل ذهب إلى هذه النظرية، قال: القيادة موهبة فطرية، إن الناس يولدون قادة ولا يولدون عظماء لأن العظمة تحتاج إلى عمل وتحتاج إلى سلوك، هو لايولد عظيما ولكن يولد قائدا أي أنه يولد ولديه مواهب القيادة، القيادة كاريزما خاصة يولد عليها الإنسان، قال: محمد كان قائد، لوثر، نابليون هؤلاء قادة أي أنهم ولدوا وهم يحملون مؤهلات ومواهب وصفات القيادة.

النظرية الثانية: النظرية الأثينية.

هذه النظرية نبعت من أثينا، أن القيادة ليست موهبة بل هي خبرة واكتساب، قد يولد الإنسان ولايوجد لديه أي مواهب ولكنه يخالط القادة ويكتسب من تجاربهم ويتعلم من فنون إدارتهم فيصبح قائدا ناجحا، فالقيادة خبرة واكتساب.

النظرية الثالثة: النظرية الكالخاسانية.

هذه النظرية معربة من كال كاس وهي شخصية وهمية صاغها هيرمز في ملحمته، هذه النظرية تعني أن القيادة مؤسسة وليست فرد، المؤسسة التي تجمع عقول عملاقة، ومواهب خلاقة، وأساليب ماهرة هي مؤسسة قيادية بالفعل، فالقياجة صفة للمؤسسة وليست صفة للفرد حتى نبحث إذا ماكانت اكتساب أم أنها موهبة فالقيادة مؤسسة.

النظرية الرابعة: النظرية التبادلية.

هوبكنز يقول: أن الطفل معلم الأب وليس الأب معلما للطفل، أي أن الرضيع يعلم أبويه كيف يتعاملان معه ويعرفان مزاجه، متى يقبل على الأكل ومتى يحجم عنه، كما أن الرضيع يفرض نفسه على أبويه ويعلم أبويه كيف يتعاملان معه كذلك الطفل حتى لو كان عمره ست سنوات هو الذي يعلم أبويه كيف يتعاملان معه، الأبوان دورهما التوجيه ولكنهما يكتسبان من الطفل خبرة التربية، وكيف يصلان إلى عمق قلبه، إلى داخل شخصيته، فتربية الأطفال ليست تجربة مستنسخة، فبعض الأمهات والآباء يسأل عن خبرة الآخرين في التربية، ولكن التربية ليست تجارب مستنسخة لأن البيئات والأطفال والأمزجة تختلف، لكل طفل اسلوب يتناسب مع شخصيته وقوامه، إذن الأب يتعلم من طفله كما أن الطفل يتعلم من أبيه، هناك علاقة تبادلية، وكما أن هناك علاقة تبادلية بين الطفل وأبويه فهناك علاقة تبادلية بين القائد وجمهوره فالقائد يتعلم من جمهوره الخبرة والآفاق الواسعة والجمهور أيضا يكتسب من القائد الحماسة وقوة الإرادة فهناك علاقة تبادلية بين القائد وجمهوره.

خامسا: الفرق بين الإدارة والقيادة.

يقول بعض علماء الاجتماع أن الفرق بين الإدارة القيادة هو الفرق بين ماشوهد من قبل ومالم يشاهد من قبل، ماشوهد من قبل إدارة، ومالم يشاهد من قبل قيادة، فالمشاكل التي تمر بها المجتمعات على نوعين: مشاكل معقدة، ومشاكل مستعصية، المشكلات المعقدة يعبر عن حلها بإدارة، والمشكلات المستعصية حلها يعبر عنه بقيادة، مثلا: إذا حصل ازدحام سيارات خانق فيحتاج إلى خطة مرورية، إذن من يضع الخطة يسمى مدير وليس قائد، قاموا بفك الازدحام بالإدارة لا بالقيادة، الطبيب إذا أراد أن يمارس عملية جراحية خطيرة يخطط لها من قبل، هذا يسمى إدارة وليس قيادة أي كيف يدير عمله بإتقان، مثلا: نريد أن نطلق قافلة القطارات في طوكيو أو في لندن، كيف نطلق هذه القافلة بدون اصطدام وتضارب في المواعيد؟ نحتاج إلى إدارة لا قيادة، فالإدارة هي: توفير المنهج المناسب لحل الأزمة عبر إجراءات تشغيلية معينة.

ولدينا نوع آخر من المشكلات وهي المشكلات المستعصية وحلها يحتاج إلى قيادة، نحن الآن نعيش جائحة كورونا وهذه مشكلة مستعصية، المشكلة المستعصية هي التي لايمكن حلها والخروج منها إلا بتنسيق واضح بين وزارة الصحة ووزارة الداخلية والجمهور والشعب، ويحصل هذا التنسيق بقرار قيادي، قائد الدولة يصدر قرار يلزم فيه الوزارات بالعمل، ويلزم الجمهور بالعمل بالتوصيات، هنا كشف هذه المشكلة المستعصية يحتاج إلى قرار قيادي، عندما تنتشر ظاهرة العنف تعالج بقرار قيادي، عندما تنتشر جريمة المخدرات تعالج بقرار قيادي، عندما تنتشر سرقات في الدولة تعالج بقرار قيادي يوقف السارقين عند حدهم، القرار القيادي هو مايحل المشاكل المستعصية.

المحور الثاني: مقومات نجاح القيادة.

هناك فرق بين المؤهلات وبين عوامل النجاح، ذكرنا أن المؤهلات هي الذكاء والطموح والثقة بالنفس والقدرة على اتخاذ القرار، ولكن النجاح وعدمه شيء آخر، لذلك نتحدث هنا عن موقعين: القيادة العامة والقيادة الخاصة بمعنى القيادة الدينية أو الاجتماعية.

القيادة العامة:

ماهي مقومات نجاح القيادة العامة في أي مجال من المجالات؟ لدينا عدة نظريات:

النظرية الأولى: نظرية توماس ويبر.

يرى توماس ويبر أن النجاح في الجاذبية، حيث يقول بأن كل قائد لديه نقطة سحرية جذابة من خلالها يؤثر على الجماهير، لاتكفي المؤهلات ولا المنصب، يحتاج إلى شيء خاص، إلى نقطة سحرية يجتذب بها القلوب ليؤثر في الجمهور وهذا مايعبر عنه بالكاريزما، إما أن يكون شكل القائد يؤثر في الناس، إما شكل له مهابة أو جمال، إما أسلوبه في الخطاب يؤثر في الناس، إما سلوكه سلوك مقدس ورع يجذب القلوب إلى شخصيته، المهم أن لدى القائج نقطة سحرية من خلالها يجتذب قلوب الجمهور ويكون قادرا على التأثير فيهم.

النظرية الثانية: النظرية الاحتمالية.

ذكر فيدلر أن القيادة الناجحة تعتمد على ثلاثة أركان:

الركن الأول: أن تكون له سلطة شرعية وإلا كيف يستطيع أن يتخذ الإجراءات، حتى ينجح يحتاج إلى سلطة لأن السلطة تمكنه من اتخاذ الإجراءات، وإصدار القرارات، وإنزال العقوبات.

الركن الثاني: البنية الفاعلة أي فريق العمل، أن يكون فريق العمل جيد ولديه لوائح واضحة وآليات مضمونة إذا سار عليها وصل إلى الهدف.

الركن الثالث: أن تكون له علاقة جيدة مع جمهوره.

النظرية الثالثة: النظرية الموقفية.

أصحاب هذه النظرية يقولون بأن القائد يحتاج إلى تعديل أسلوبه بما ينسجم مع مستويات الجمهور ومستوى الظروف التي يعيشها حتى ينجح، فالقيادة مواقف وليست مجرد صفات، والمواقف تصنعها هذه الحالة من التوازن مع مستوى الجمهور ومستوى الظروف، وهناك حالات أربع:

الحالة الأولى: أن تكون المهمة صعبة على الجمهور كما لو كانت البلاد معرضة لحرب هنا يمارس القائد دور التوجيه والأمر والحزم لأن قيادة هذه المهمة وخروج البلاد من هذه المهمة الصعبة يحتاج إلى الحزم والتوجيه، هنا يأخذ القائد دور الموجه.

الحالة الثانية: أن تكون المهمة غير واضحة، الجمهور متقبل للعمل لكن المهمة غير واضحة لديهم هنا يكون دور القائد دور الإقناع للجمهور أن يدعم الجمهور بإقناعه بالمهمة.

الحالة الثالثة: أن تكون المهمة واضحة لكن الجمهور غير متفاعل لوجود بعض العوائق هنا يضطر القائد إلى أن ينزل إلى الميدان ويشارك الجمهور بنفسه في مجال العمل حتى يدفع بالجمهور نحو الهدف هنا تصبح القيادة مشاركة.

الحالة الرابعة: أن تكون المهمة واضحة والجمهور جاهز ومتفاعل هنا يكون دور القائد دور الإنجاز.

إذن القيادة ليس لها حالة واحدة، قد يكون القائد موجه، وقد يكون مشارك، وقد يكون منجز وقد يكون داعم، اختلاف أنحاء القيادة يفرضه اختلاف الظروف وهذا معنى القيادة الموقفية.

القيادة الخاصة:

ماهي مقومات نجاح القيادة الخاصة وراء المقومات العامة التي تعرضنا لها؟

نطرح هنا أسئلة ثلاثة:

السؤال الأول: ماهي مؤهلات القيادة الروحية والاجتماعية؟

المؤهل الأول: الشجاعة في إعلان المبادئ والثبات عليها، عندما يكون شجاع في إعلان مبادئه ويثبت عليها ولايتغير عنها يكون قد اكتسب المؤهل الأول من مؤهلات نجاح قيادته الدينية أو الاجتماعية.

المؤهل الثاني: الإنتاج الواضح، إما أن يكون إنتاج فكري غزير يلتمسه الجمهور فينجذب لقيادته، أو يكون له إنتاج اجتماعي يعني أن يكون لديه مواقف بطولية متعددة في أحداث متعددة.

المؤهل الثالث: أن يكون وجوده مما يضيف للناس شيء بمعنى أنهم لايستغنون عنه، أن يعطي وجوده قيمة وأهمية للمجتمع الذي يعيش فيه حينئذ يكتسب المؤهل الثالث من مؤهلات نجاح القيادة.

نحن عندما نلاحظ الشجاعة في إعلان المبادئ والثبات عليها نتذكر قول الرسول محمد : ”والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ماتركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه“.

السؤال الثاني: كيف يحافظ القائد على بقاء قيادته واستمرارها؟

بقاء القيادة وخصوصا القيادة الروحية ببقاء الثقة، مادامت الثقة باقية فالقيادة باقية وبقاء الثقة إنما يتم إذا امتلك القائد القدرة على تحديد الأهداف، وفرز الأولويات، وتشخيص الظروف المناسبة، وعلى اختيار الكادر الفاعل المناسب، على أن يتعامل مع جمهوره بأبوة وحنان ورأفة، على أن يقرأ تجربته بين فترة وأخرى قراءة نقدية حتى يتلافى الأخطاء والعثرات ويتقدم نحو الأهداف بخطوات أسرع، عندما يمارس القائد كل هذه الأمور يستطيع أن يحافظ على بقاء قيادته من خلال بقاء الثقة بقيادته.

السؤال الثالث: ماهي المواصفات الروحية للقيادة الروحية بالذات؟

هناك مواصفات نستفيدها من الأحاديث الشريفة:

الأول: التوافق بين القول والفعل، قال تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ لابد من التوافق بين القول والعمل.

الثاني: أن يصل خطابه إلى القلوب قبل أن يصل إلى العقول، ولذلك ورد في بعض الروايات: ”العالم هو الذي إذا رأيته ذكرك الله“ ومجالس العلماء لاتقوم منها إلا من ثلاث كما في الحديث آية محكمة وعلم يستفاد به وموعظة صادقة.

الثالث: أن يبقى أثره، أن يبقى الناس يذكرون أثره وشخصيته ومدى فاعليته، بقاء الأثر كاشف عن صفة من الصفات لقيادته الروحية، قال أمير المؤمنين علي : ”ياكميل هلك خزان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون مابقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة“، ”الناس ثلاثة: عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق“.

المحور الثالث: تجليات القيادة الرشيدة في المسيرة العلوية للإمام أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب .

أمير المؤمنين يعطي للقيادة زخما لاتجده عند غيره، أمير المؤمنين يقدم لنا معالم للقيادة الرشيدة لانجدها لدى قيادة أخرى ولا لدى منهج آخر.

معالم القيادة التي تمثلت في المسيرة العلوية:

المعلم الأول: القيادة النابعة عن إرادة الأمة.

لم يفرض الإمام علي نفسه وإنما جاءت له القيادة،

أتته   القيادة  iiمنقادة
فلم تك تصلح إلا له
  إليه    تجرجر   أذيالها
ولم يك يصلح إلا iiلها

علي أتته القيادة منقادة من خلال الإرادة العامة للجمهور، مما ورد في حقه حينما قتل الخليفة الثالث جاء الناس إليه من كل حدب وصوب وقالوا: لانعلم أحدا أحق منك ولا أقدم سابقة ولا أقرب قرابة من رسول الله منك وإنا نريد أن نبايعك، قال: «لاتفعلوا أنا أكون لكم وزيرا خيرا من أن أكون أميرا» وأراد أن يختبر إرادتهم وإصرارهم على قيادته، فقالوا: والله مانحن بفاعلين حتى نبايعك، قال: «إذن ففي المسجد فإن بيعتي لاتكون خفية ولا تكون إلا في المسجد» وخرج إلى المسجد وعندما خرج إلى المسجد أوقفهم عند هدفه وقال: «أيها الناس إني إن وليت أمركم ركبت بكم ماأعلى ولم أصغ إلى قول قائل ولا إلى عتب عاتب فماذا تقولون؟»، قالوا: والله لنبايعك، وقال : «فما رأيت إلا والناس قد انثالت علي حتى وطئ الحسنان من ازدحام الناس».

المعلم الثاني: تحمل المسؤولية بثقة وشجاعة.

قال : ”أيها الناس لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وماأخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم عندي أهون من ورقة في فم جرادة تقضمها مالعلي وملك يبلى ولذة لاتبقى“، وضعهم على المحك ثم تحمل المسؤولية عندما بايعوه بكل ثقة وشجاعة.

المعلم الثالث: الشفافية والوضوح.

أهدافه واضحة من أول يوم وضعهم تحت الشاشة، شرح أهدافه وكيفية مسيرته وماذا سيصنع وأعظم من ذلك تعهد لهم ولم يتعهدوا له، هذه قيادة نادرة في التاريخ أن يتعهد القائد للجمهور بدل أن يتعهد الجمهور للقائد، وإذا بالإمام أمير المؤمنين علي في أول خطبة يخطبها بعد الخلافة في مسجد رسول الله قال: ”أيها الناس إني كنت كارها لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم أميرا ألا وإنه ليس لي أمر دونكم إلا أن مفاتيح أموالكم معي ألا وإنه ليس لي أن آخذ منه درهما دونكم“، قالوا: نعم، قال: ”اللهم اشهد عليهم“ ثم بايعهم على ذلك.

المعلم الرابع: صيانة شخصية القيادة عن التهم.

الإمام علي أبعد كل العائلة عن بيت المال لايصل إليه أحد، بيت المال بيد علي وخادمه قنبر، يفتح بيت المال يوزع الخراج ثم يقوم بنفسه ويكنس المكان ويصلي فيه ركعتين شكرا لله، بيت المال بيد علي أبعد أبناءه وإخوته وأقاربه ليس لهم نصيب ولا علاقة ببيت المال، إذن كيف كانوا يعيشون؟ الإمام علي منذ أن كان شابا بذل نفسه في الزراعة، ينبع كان يخرج إليها ويحيي الأرض ويسقيها ويجلس لساعات يمارس جهده في إحياء الأرض وزراعتها، إلى أن أحيا أراضي واسعة من ينبع وماحولها ووقفها في سبيل الله، كتب في وصيته: ”ماكان لي بينبع من مال فهو صدقة وماكان لي بوادي القرى ثلثه مال بني فاطمة وماسواه صدقة وماكان لي بأذينة صدقة واجبة بتلة تنفق في كل نفقة يبتغى بها وجه الله ويقوم على ذلك الحسن يأكل منه بالمعروف فإن حدث به حدث فإلى الحسين فإن حدث به حدث فإلى إخوته من بني علي وإن الذي لبني فاطمة من صدقة علي مثل الذي لبني علي وإنما جعلت الذي جعلت إلى بني فاطمة ابتغاء وجه الله وتكريما لحرمة محمد وتعظيما وتشريفا ورضا بهما“.

يذكر الإمام علي : ”لقد جاءني أخي عقيل ومعه صبيته شعث غبر كأنما سودت وجوههم بالعظلم واستماحني صاعا من بركم فأحميت له حديدة وأدنيتها منه ففزع منها، فقلت: ثكلتك الثواكل ياعقيل أتإن من حديدة أوقدها إنسانها للعبه وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه“.

المعلم الخامس: مراقبة الجهاز الحاكم.

كان علي لايسكن ليل نهار من الرقاب، مراقبة الولاة والوزراء والعمل فكتب إلى عثمان ابن حنيف وكان واليه على البصرة: ”أما بعد ياابن حنيف فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان وماظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو فانظر إلى ماتقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه وماأيقنت بطيب وجهه فنل منه“.

المعلم السادس: الإخلاص للقاعدة.

كان مخلصا لجمهوره متفانيا في خدمتهم ليلا نهارا لاينفك عنهم حتى عاش عيشة الفقراء فكان يخصف نعله ويرقع ثوبه ويأكل الملح والخبز اليابس وكان يقول: "لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز ولكن هيهات أن يغلبني هواي أو يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ولعل باليمامة أو الحجاز من لاعهد له بالشبع ولا طمع له بالقرص أأبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى أأقنع من نفسي أن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر

وحسبك داء أن تبيت ببطنة   وحولك  أكباد تحن إلى iiالقد

ألا وإن لكل مأموم إمام يقتدي به ويستضيء بنور علمه ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بثوبين ومن طعامه بقرصيه ألا وإنكم لاتقدرون على ذلك ولكن أعينونا بورع واجتهاد وعفة وسداد".

المعلم السابع: الثقة المتبادلة بينه وبين الجمهور.

كان يمشي بلا حرس ولا خدم فيقال ياأمير المؤمنين يخاف عليك، قال: ”كفى بالأجل حارسا“ وكان يخرج ليلا حاملا جراب الطعام على ظهره يدور به على فقراء الكوفة بل يصل إلى المرضى والزمنى، يدخل على المقعدين يغذيهم، ينظف فراشهم، يلبسهم ويسقيهم بيديه، كان يمارس ذلك ليعلم الأجيال عظمة القيادة التي لامثيل لها ولا بديل عنها.

المعلم الثامن: تجسيد رمزية العدل.

علي لم ينتصر عسكريا على معاوية، لم ينتصر عسكريا على خصومه، لم يعش طويلا وإنما حكم أربع سنوات وأشهر، لكن عليا انتصرت مقولته ورمزيته، طأطأ التاريخ لاسمه لكونه رمزا للعدالة والإنصاف، رمز المبادئ وعدم المساومة على المبادئ والقيم، ”والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة مافعلت“ وجاء الناس إليه وقالوا: قدم قريش، قدم العرب، قال: ”لا والله أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور والله لو كان المال لي لساويت بينهم فكيف والمال مال الله“.