بكاء الإمام السجاد (ع) صرخة عاطفية أم ثورة إنسانية؟

1442-01-25

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة: 82]

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة، نتحدّث في محاور ثلاثة:

المحور الأول: هل البكاء ظاهرة حضارية، أم مظهر ضعف عند الإنسان؟

هل البكاء ظاهرة حضارية تنسجم مع تكامل الإنسان، أم أنّ البكاء مظهر ضعف وانكسار وانخذال في شخصية الإنسان؟ ولكي نصل إلى نتيجة البحث في هذه الجهة، نذكر ثلاثة أمور:

الأمر الأول: موقعية البكاء من النفس الإنسانية.

العالم الروسي - رئيس قسم علم النفس العام في معهد علم النفس التجريبي بموسوكو، وباحث في علم النفس التطوري - يقول في مقابلة له على قناة روسيا إنَّ هناك نفسًا كلية وهناك نفسًا إنسانية.

القسم الأول: النفس الكلية.

هذه نظرية ذهب إليها مجموعة من الفلاسفة، وقالت بها مجموعة من الأديان كالبوذية والهندوسية، وبعض علماء النفس، وتعني أنَّ كلّ موجود - وليس الإنسان فقط - له نفسٌ، لأنَّ كلّ موجود يملك مادّة، حتى الحجر، حتى الصخرة الصمّاء، وكلّ مادّة هي عبارة عن تناسق مجموعة من الجزيئات في إطار منتظم، وهذا يعني أنّ كلّ مادة نضع أيدينا عليها حتى الحجر الأصم فهو يملك نظامًا معلوماتيًا، لأن كلّ مادة تحمل تناسقًا بين جزيئاتها في إطار منتظم، فكلّ مادة تحمل نظامًا معلوماتيًا يبرمج مسيرة هذه المادّة، وبما أنَّ مادة تحمل نظامًا معلوماتيًا إذن كلّ مادة عندها نصيب من الوعي والإدراك، إذن كلّ مادة عندها نصيب من النفس، لكل مادّة نفس لأنّ لكل مادة نظامًا معلوماتيًا يبرمج حركتها، فكل مادّة حتى الصخرة الصمّاء لها نفس.

هذه يعبَّر عنها بنظرية النفس الكلّية، ونلاحظ عند بعض علمائنا العرفاء يتبنون هذه النظرية، لاحظ السيد الطباطبائي صاحب تفسير الميزان في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44]، كل شيء حتى الصخرة الصماء، يقول في تفسير الآية: كل شيء له تسبيح، إذن كل شيء له لغة، وإذا كان كل شيء له لغة إذن لكل شيء درجة من الحياة، وبما أن لكل شيء درجة من الحياة إذن لكل شيء نفس، هذا معنى النفس الكلية.

القسم الثاني: النفس الإنسانية.

ما هي أهمّ وأبرز صفة تميّز النفس الإنسانية؟ هنا ثلاث نظريات: المدرسة التحليلية في علم النفس، والمدرسة السلوكية في علم النفس، ومدرسة علم النفس التطوري.

المدرسة الأولى: المدرسة التحليلية.

المدرسة التحليلية في علم النفس ترى أنَّ أهمّ ميزة وأهمّ صفة تميّز النفس الإنسانية هي الأنا الواعي، فأنت عندك ثلاثة مظاهر للوعي: عندك ذاكرة، وعندك عقل يفكّر ويستنتج، وعندك قدرة على التخطيط والبرمجة لحياتك، الأنا الواعي هو الذي يشتمل على هذه القدرات، قدرة الذاكرة، قدرة التفكير، قدرة التخطيط والبرمجة، ما يشتمل على هذه القدرات الثلاث يسمّى الأنا الواعي، وهذه أهمّ ميزة للنفس الإنسانية.

المدرسة الثانية: المدرسة السلوكية.

هذه المدرسة ترى أنَّ أهمّ ميزة للنفس الإنسانية: العمليات المعرفية التي تؤثر على السلوك، الإنسان هو المخلوق الذي يستطيع أن يجعل سلوكه ترجمة لفكره، هو المخلوق الوحيد، هذه القدرة على أن تجعل سلوكك ترجمة لفكرك هي الميزة المهمّة للنفس الإنسانية، وهذه يعبّر عنها علماء النفس السلوكيون بالعمليات المعرفية المؤثرة على سلوك الإنسان.

المدرسة الثالثة: مدرسة علم النفس التطوري.

أهمّ ميزة للنفس الإنسانية القدرة على الاستجابة، هذا العالم الروسي نفسه يقول: إذا جئنا وحلّلنا النفس الإنسانية، نجد أنّ الإنسان يمتلك نظامًا من المعلومات، وهذه المعلومات هي التي تعطيه القدرة على التكيّف مع المحيط، أنت لم تخلق وحدك، بل خلقت ضمن محيط، فكيف تتكيف مع المحيط؟ هنا تبرز هوية الإنسان في قدرته على التكيّف مع المحيط، نظام المعلومات الذي يعطي الإنسان القدرة على التكيف مع المحيط بحيث يضبط سلوكه في إطار هذا المحيط، هذه القدرة هي الميزة الأساسية للنفس الإنسانية، إذن أهمّ ميزة للنفس الإنسانية الاستجابة، قدرة الإنسان على التفاعل مع المحيط والتكيّف معه، وأهمّ عنصر من عناصر الشخصية الإنسانية التي تساعد الإنسان على الاستجابة العاطفة، لا يستطيع الإنسان أن يستجيب للمحيط ما لم تكن لديه عاطفة، وأبرز مظهر للعاطفة البكاء، الدمعة.

الأمر الثاني: أقسام الدموع.

في موقع الأكاديمية الأمريكية لطبّ العيون، تقسَّم الدمعة إلى ثلاثة أقسام: الدموع الأساسية، والدموع الانعكاسية، والدموع العاطفية. أما الدموع الأساسية فهي مادّة تتضمّن البروتين تحمي قرنية العين من المكروبات، وهي موجودة في كل إنسان، هذه الدموع الأساسية لا يشعر بها الإنسان، بل هي تقوم بدور تنظيف وتطهير العين من غير أن تشعر بها. وأما الدموع الانعكاسية فهي ما يحدث للعين عند تهيّجها بسبب معيّن، كالتراب والغبار والدخان أو تقشير البصل، هذه الدموع التي تحصل نتيجة مثير خارجي تسمّى الدموع الانعكاسية.

وأما القسم الثالث - الذي هو محلّ حديثنا - فهو الدموع العاطفية، وهي التي ينتجها الجسم نتيجة مثير للعاطفة، سواء كان هذا المثير حزنًا أو فرحًا، لأن الإنسان أحيانًا قد يبكي حالة الفرح والسعادة، والدموع العاطفية أمر طبيعي في كل إنسان، لأن كل إنسان يتعرّض لمواقف ومشاعر وربّما في كلّ يوم، فاستجابته للبكاء وللدمع أمر غريزي طبيعي في كلّ إنسان، ولكن المرأة أكثر من الرجل، المرأة تبكي في الشهر الواحد بين ثلاث مرات إلى خمس مرات، وأما الرجل فيبكي من مرة إلى ثلاث مرات، نتيجة أنّ قوّة العاطفة لدى المرأة أكثر من الرجل، ولذلك بكاء المرأة أكثر من الرجل.

الأمر الثالث: هل البكاء مظهر ضعف؟

هل الدموع العاطفية مظهر ضعف؟ كثير من الإنسان أن يبكي أمام الناس، يقول: أنا أبكي بيني وبين نفسي، ولكني لا أبكي أمام الناس، يخجل أن يبكي أمام الناس لأنه يرى أنّ البكاء مظهر ضعف وانكسار، ولا يريد أن يراه الإنسان ضعيفًا منكسرًا، فيخجل أن يمارس عملية البكاء، فهل هذا صحيح؟ هذا ليس صحيحًا، البكاء ظاهرة إنسانية حضارية إيجابية وليست سلبية، لماذا؟ هناك دراسات في علم النفس تثبت أنّ البكاء العاطفي ظاهرة إيجابية للإنسان، وذلك من خلال منفعتين مهمّتين:

المنفعة الأولى: عام 2014 أجريت دراسة أثبتت أنَّ البكاء يسهم في تنشيط الجهاز السمبثاوي، وهو الجهاز الذي يساعد الإنسان على حالة الاسترخاء والهدوء، وهذا يعني أنّ البكاء يسهم في تهدئة النفس وتنظيم المشاعر وتخفيض الشعور بالإحباط والتوتّر، فالبكاء ظاهرة إيجابية. والناس يختلفون، فبعضهم يبكي أكثر من بعض، اختلاف درجات الناس في البكاء نتيجة اختلاف أمزجتهم واختلاف أسباب البكاء واختلاف ردود الفعل التي يتلقونها من الآخرين، إلا أنه بالنتيجة ظاهرة إيجابية.

المنفعة الثانية: دراسة أيضًا أجريت عام 2011 أثبتت أنّ الدموع تحتوي عددًا من الهرمونات، وهي بالتالي تسهم في تقليل مستويات هذه الهرمونات وتخفيض الشعور بالتوتّر والحدّة، فأنت محتاج إلى البكاء، البكاء ضروري لك لتحقيق الشعور بالهدوء وانتظام المشاعر، ولتقليل الشعور بالتوتّر والحدّة والإحباط، الإنسان محتاج إلى البكاء.

ولذلك تخصَّص الآن غرف للبكاء، جامعة يوتاه الأمريكية تخصّص غرفًا لطلاب الاختبارات النهائية لممارسة البكاء، طلاب الاختبارات النهائية يحتاجون أن يعيشوا حالة من الهدوء والانتظام وقلّة التوتّر، فهم يحتاجون لممارسة البكاء، هناك فنادق في اليابان تخصّص غرفًا لبكاء عملائها، حتى تجدّد نشاطهم وقدرتهم، وقسم من الشرطة البريطانية يخصّص غرفًا للنساء الشرطيات، لأن المرأة إذا مارست البكاء - خصوصًا إذا بلغت المرأة سنّ اليأس - أسهم ذلك في تجديد نشاطها وحيويتها، فالبكاء ظاهرة إيجابية وليس مظهر ضعف، ظاهرة إنسانية إيجابية وليست مظهر ضعف.

المحور الثاني: ارتباط كربلاء الثورة بكربلاء الدمعة.

كتب بعض إخواننا من أهل السنّة مقالةً حول البكاء عند الشيعة، فقال: إنَّ الفكر الإمامي يرسِّخ ظاهرة مرضية، وهي ظاهرة الأسى والحزن والبكاء، لأنَّ الفكر الإمامي يرتكز على مجموعة من الطقوس والشعائر تغذّي حالة الأسى والحزن والبكاء والانفعال لدى الإنسان الشيعي، وترسيخ هذه الحالة وتجذيرها في الفكر الإمامي ظاهرة مرضية، وذلك لجهتين:

الجهة الأولى: أنَّ الحزن والأسى يصطدم مع الطبيعة البشرية، لأن الطبيعة البشرية تميل إلى الفرح والمرح والغناء، ولا تميل إلى الحزن والأسى، ولذلك تلاحظ حتى الطفل في أوّل بدو نعومة أظفاره يميل إلى الرقص والتصفيق والمرح، لأن الحالة الطبيعية للإنسان أن يميل للفرح والمرح، لا أن يميل إلى الحزن والأسى، فهذا الفكر يتنافى مع الطبيعة الإنسانية.

الجهة الثانية: أنَّ الإنسان لا يمكنه أن يبدع وهو يبكي، الحزن عائق أمام الإبداع والإنتاج، فترسيخ الحزن والأسى يعني ترسيخ عوائق أمام الإنتاج والإبداع، فالفكر الإمامي فكر يتناقض مع الإبداع والإنتاج.

هذه المقالة حتى نسلّط الضوء عليها نتكلّم من خلال ثلاث رؤى: رؤية فلسفية ورؤية قرآنية ورؤية تاريخية.

الرؤية الأولى: الرؤية الفلسفية.

هل فعلًا يميل الإنسان إلى الفرح ولا يميل الحزن؟ هل هذا ثابت فلسفيًا؟ عندما نرجع إلى علم النفس الفلسفي هل نجد أنّ الإنسان فعلًا يميل إلى الفرح ولا يميل إلى الحزن؟ علم النفس الفلسفي ماذا يقول؟ يقول: شخصية الإنسان تعتمد على ركيزتين:

الركيزة الأولى: قوى الإنسان.

لدى الإنسان ثلاث قوى: فاعلة ومنفعلة وقوة العقل الباطن. القوة الفاعلة مثل العقل، العقل قوة فاعلة لأنه يصنع التفكير، وكالإرادة، قوة فاعلة لأنها تصنع الإنجاز والإقدام لدى الإنسان، وعندك قوة انفعالية مثل المشاعر والعواطف، المشاعر والعواطف في علم النفس حيادية لا تميل للفرح ولا للحزن، هي تخضع للمثير، إذا كان المثير للعاطفة مثير حزن تكون المشاعر حزينة، وإذا كان المثير للعاطفة تكون المشاعر فرحة، فالمشاعر حيادية أمام الحزن والفرح، لا تميل لهذا ولا لذاك، بل هي أرض خالية.

والقوة الثالثة هي قوة العقل الباطن، وهي خزانة الميول لدى الإنسان، لكل الإنسان ميول معينة وهوايات، هذا يميل للرياضيات وذاك للفلسفة وثالث للأدب ورابع للعمل التقني والحرفي، كل شخص لديه ميول، لكن هناك ميولًا مشتركة لدى كل بني الإنسان، ما هي؟ ميل الإنسان للجمال، كل إنسان يميل للجمال، هذا ميل موجود في كل إنسان، ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8]، جمال الصورة، جمال الصوت، جمال العمل، جمال الخلق، جمال المنطق، إذن ميل الإنسان الطبيعي للجمال لا للفرح ولا للحزن، قد يكون الفرح مظهر جمال فيحبه الإنسان، وقد يكون الحزن مظهر جمال فيحبه الإنسان، لا أنه يميل للفرح دون الحزن أو الحزن دون الفرح.

الركيزة الثانية: طريق الإنتاج هو التفاؤل.

الإنسان خُلِق من أجل أن يصبح منتجًا، أنت لم تُخلَق لكي تكون كسولًا، بل خُلِقت كي تكون منتجًا، القرآن الكريم يقول: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2]، فما هو الطريق للإنتاج؟ الطريق للإنتاج التفاؤل، لا يمكن للإنسان أن ينتج ما لم يكن متفائلًا، لا يمكن للإنسان أن ينتج ما لم يمتلك انفتاحًا على الحياة، فطريق الإنتاج هو التفاؤل والانفتاح على الحياة، فهل الفرح عامل محفّز على التفاؤل والحزن عامل يعيق التفاؤل؟ لا، لا الفرح عامل محفز ولا الحزن عامل منفّر، بل التفاؤل يحصل للفرح والحزين، والإنتاج يحصل من الفرح ومن الحزين.

ارجع إلى كتاب «دراسات في علم النفس الإسلامي» للدكتور محمود البستاني، يقول: بحسب المدرسة التحليلية في علم النفس، هناك فرق بين الكآبة والحزن، الكآبة مرض والحزن ليس مرضًا، الكآبة مرض عصابي ذهاني، وأما الحزن فهو أمر طبيعي في كلّ إنسان، كلّ إنسان يعيش مقدارًا من الحزن لجهة معيّنة، هذا أمر طبيعي، الحزن ليس عائقًا أمام الإنتاج.

وبعبارة أوضح: هناك فرقٌ بين دمعة الألم ودمعة الأمل، دمعة الألم هي التي تصدر عن الشعور بالإحباط واليأس، فهذه دمعة قاتلة، دمعة مرضية، لأنها صدرت عن شعور بالإحباط واليأس، وأما دمعة الأمل فهي الدمعة التي تصدر عن شعور بالمسؤولية، الإنسان إذا أخطأ فالشعور بالمسؤولية يفرض عليه ضرورة التغيير، ولأنه يشعر بالمسؤولية والأمانة يفرض عليه ضرورة التغيير، فيبكي بدمعة أمل في التفاؤل والتغيير، لا دمعة ألم، إذن ليس الحزن عائقًا، بل قد يكون الحزن عاملًا إيجابيًا نحو التفاؤل، إذا كان الحزن سببًا لخلق الشعور بالمسؤولية، وإذا كان الحزن سببًا في الانطلاق نحو عملية التغيير، وإذا كان الحزن سببًا في دمعة الأمل لا دمعة الألم.

الرؤية الثانية: الرؤية القرآنية.

هل القرآن يرى أنّ الحزن حالة مرضية؟ نحن كمسلمين نتعبّد بالقرآن الكريم نسأل: هل القرآن الكريم يرى الحزن حالة مرضية عائقة أمام الإنتاج والإبداع؟ حتى نقول: الفكر الإمامي يرسّخ ظاهرة مرضية، وهي الحزن والأسى، وهي تتنافى مع القرآن الكريم!

نأتي للقرآن الكريم، القرآن يرشدنا إلى كيفية قراءة الحياة الدنيا، كيف نقرأ حياتنا؟ أنت لا زلت شابًا مقبلًا على الحياة، لكن لا بد من أن تقرأ الحياة، قراءة الحياة على نوعين: قراءة عاجلة وقراءة واعية. القراءة العاجلة هي أن تنظر إلى الحياة أنها دار استقرار، نحن جالسون مستقرون! إذا نظرت للحياة أنها دار استقرار فهذه قراءة عاجلة، وأما القراءة الثانية فهي القراءة الواعية، وهي أن تنظر إلى الحياة على أنها رحلة استثمار، ففرق بين دار الاستقرار وبين رحلة الاستثمار، القرآن يصنِّف قراءة الحياة إلى هذين الصنفين.

القراءة الأولى: القراءة العاجلة.

هناك من قرأ الحياة أنها دار استقرار، ونتيجة هذه القراءة عدّة مظاهر مرضية: المظهر الأول: الهلع، ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج: 19 - 21]، لأنه حريص على الحياة، يراها دار استقرار، فيبخل حال القدرة ويجزع حال العجز. المظهر الثاني: الغرور، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار: 6 - 8]، ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185]. المظهر الثالث: الطغيان، ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6 - 7]، رأى نفسه غنيًا، رأى الحياة دار استقرار.

من قرأ الإنسان قراءة عاجلة رآها دار استقرار، ومن رآها دار استقرار صار مصداقًا لهذه الآية: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ [الحديد: 20]، هذه هي القراءة العاجلة، والعلامة الفارقة للذين يقرؤون الحياة قراءة عاجلة هي الضحك الكثير، يعيش حالة استرخاء، فرحان، لأنه متشبث بالدنيا، بزخارفها، بمفاتنها، ضحك كثير.

القراءة الثانية: القراءة الواعية.

وهي القراءة التي ترى الدنيا رحلة استثمار وليست دار استقرار، هؤلاء الذين قرؤوا الدنيا رحلة استثمار يقول عنهم القرآن الكريم: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1 - 3]، هؤلاء قرؤوا الحياة قراءة واعية، هؤلاء قرؤوا الحياة أنها رحلة استثمار، لا تمر عليهم دقيقة إلا وهي في استثمار، ولأجل ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين عن الحياة: ”الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد فيها، مسجد أحبّاء الله، مصلّى ملائكة الله، مهبط وحي الله، متجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة، ورحموا منها الجنّة“، هي رحلة استثمار، والعلامة الفارقة لهؤلاء الذين قرؤوا الحياة قراءة واعية ونظروا إليها أنها رحلة استثمار هي البكاء الكثير، فالقرآن بالعكس، القرآن يقول: الضحك الكثير علامة فارقة لمن افتتن بالدنيا، والبكاء الكثير علامة فارقة لمن قرأ الدنيا قراءة واعية واستثمرها.

ولذلك عندما نقرأ الآية المباركة: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة: 81 - 82]، بعض المفسّرين قال: الآية تهديد في صورة الأمر، يعني فليضحكوا قليلًا في الدنيا وليبكوا كثيرًا في الآخرة نتيجة العذاب، ولكن بعض المفسّرين يقول: هذه الآية تخبر عن طبيعة الإنسان، الإنسان المستغرق في الدنيا هو الذي يضحك كثيرًا، والإنسان الذي استثمر الدنيا هو الذي يبكي كثيرًا، يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص: 76]، ولم يقل: لا يحب الباكين! ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص: 77]، إذن ما يرسّخه الفكر الإمامي - وهو الشخصية الباكية - ينسجم مع الرؤية القرآنية، لا أنه يصطدم معها.

الرؤية الثالثة: الرؤية التاريخية.

هل التاريخ مع الفكر الإمامي أم لا؟ نعم، التاريخ مع الفكر الإمامي، أوّل من جعل كربلاء الثورة كربلاءَ الدمعة محمّد رسول الله ، هناك كتاب جميل جدًا للعلامة الأميني صاحب كتاب الغدير، عنده كتاب اسمه سيرتنا وسنّتنا، يذكر في هذا الكتاب أنّ الرسول عقد 18 مأتمًا على الحسين ، قبل أن يُقْتَل الحسين، يوم ولادته مأتم، أثناء رضاعه مأتم، في الذكرى السنوية لولادته مأتم، سبعة مآتم في بيت أمّ سلمة، ثلاثة مآتم في بيت عائشة، مأتم في دار علي، مأتم في دار النبي، مأتم في دار الفضل، ثلاثة مآتم مع الصحابة، 18 مأتمًا مارسها الرسول بكاءً على الحسين في حياته.

ويقول الحاكم في مستدركه بحديث صحيح على شرط الشيخين أنه ولد الحسين جيء به إلى رسول الله فذرفت عيناه دموعًا، وقال: ”يقتل ولدي هذا بأرض العراق، يقتله نفرٌ من أمّتي لا أنالهم الله شفاعتي“، ويذكر الحاكم في مستدركه عن أمّ سلمة أنّ رسول الله جلس فزعًا في بيتها، وبيده تربة حمراء، قال: أخبرني الأمين جبرئيل أنّ ولدي الحسين يُقْتَل على هذه التربة.

والطبراني في المعجم الكبير يروي عن معاذ بن جبل قال: ”خرج علينا رسول الله يومًا متغيّر اللون، وقال وعيناه تذرف دموعًا: نُعِي إليّ ولدي الحسين وأوتيت تربته وأُخبِرت بقاتله، يا لفراخ آل محمد يقتلهم مستخلف مترف، يقتل خلفي وخلف الخلف“، وفي مقتل الحسين للخوارزمي: ضجّ من في المسجد بالبكاء لما سمعوا كلام رسول الله ، والإمام عليّ لما رجع من معركة صفين وقف على الفرات عند نينوى وبكى وقال: ها هنا مناخ ركابهم، ها هنا محطّ رحالهم، ها هنا يُقتَل صفوة ذرّية رسول الله. وابن عساكر في تاريخه يذكر ذلك.

ولذلك الأئمة أصرّوا على أن يجعلوا الفكر الإمامي فكرًا مشتملًا على الطقوس والمأتم والحزن والأسى، استمرارًا لسيرة رسول الله الذي عقد 18 مأتمًا على ولده الحسين قبل قتله، فيقول الإمام الباقر للفضيل بن يسار: أتجلسون وتتحدثون؟ قلت: بلى سيدي، قال: ”إني أحبّ تلك المجالس، فأحيوا فيها أمرنا“، ويقول الإمام الصادق لمعاوية بن وهب: ”كلّ البكاء والجزع مكروه ما خلا البكاء والجزع على الحسين“، ويقول الإمام الرضا : ”من ذكر مصابنا وبكى لما اُرْتُكِب منا لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلسًا يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب“.

المحور الثالث: البكاء الانفعالي والفعلي في سيرة الإمام زين العابدين .

الإمام زين العابدين اشتهر بالبكاء على أبيه الحسين ، يوميًا يبكي على أبيه، بكاء الإمام زين العابدين نوعان: بكاء انفعالي وبكاء فعلي، أما البكاء الانفعالي فهو بكاء طبيعي، كل إنسان يبكي إذا قرأ مصيبة الحسين ، فكيف بمن عاش المصيبة وعاصر الحدث ورأى الفاجعة؟! من الطبيعي أن يبكي، ومن غير الطبيعي ألا يبكي، لو لم يبكِ لما كان طبيعيًا، فالبكاء الانفعالي حالة إنسانية فطرية يثاب عليها الإنسان، كما يقول الشاعر:

تبكيك عيني لا لأجل مثوبة   لكنما  عيني  لأجلك iiباكية

وأما البكاء الفعلي فهو البكاء الهادف، بكاء زين العابدين له فلسفة ورؤية، بكاء زين العابدين عملية واعية يمارسها الإمام من أجل تحقيق أهداف عليا، هذه الممارسة الواعية التي يمارسها الإمام زين العابدين من خلال دموعه وبكائه لوحظ فيها أربعة أهداف:

الهدف الأول: الهدف التربوي.

وهو تربية الأمة الإسلامية على ربط الفكر بالعاطفة، وهذا قانون من قوانين علم الاجتماع التاريخي، أي فكرة لا تدعمها العاطفة تموت، كل رؤية فكرية تحتاج إلى زخم عاطفي، كل رؤية فكرية ليس لها زخم عاطفي تموت بمرور الأيام، لو لم تكن نبوّة الرسول ممزوجة بالحب من قِبَل المسلمين لماتت، ولو لم تكن الطقوس الدينية ممزوجة بالحب لماتت، ولذلك قانون من قوانين علم الاجتماع ربط الفكر بالعاطفة، وسيرة الإمام زين العابدين على البكاء والدمعة والأسى والمأتم في كلّ يوم هي تربية للأمة الإسلامية على ربط الفكر بالعاطفة، وعلى ربط ثورة الحسين بالحرارة العاطفية، حتى لا تخمد الثورة ولا تُنْسى الفكرة ولا تخبو هذه الجذوة الحسينية، ولذلك ورد عن الرسول : ”إنّ لمقتل ولدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدًا“.

الهدف الثاني: الهدف الإصلاحي.

هل تعلم أن ثورة الحسين هي نفسها دموع زين العابدين ، وأن دموع زين العابدين هي نفسها ثورة الإمام الصادق ؟! الأئمة قادوا ثورة واحدة تعددت صورها وتنوّعت ألوانها، هي ثورة واحدة وإنما الألوان متعددة، الحسين خاض ثورة ميدانية على الأرض، وحرّر أهدافها، ”ما خرجت أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي“، ثورة هدفها الإصلاح، نفس الهدف مارسه الإمام الصادق حينما أسّس مدرسة كبرى في الكوفة والمدينة تضمّ أربعة آلاف طالب، هي ثورة فكرية كما كانت ثورة الحسين ميدانية، والهدف هو الهدف، وهو الإصلاح.

نفسها بكاء الإمام زين العابدين ، بكاء زين العابدين ثورة، دموع زين العابدين ثورة، دموع زين العابدين امتدادٌ لثورة الحسين ولكنها ثورة عاطفية، ثورة الحسين ميدانية وثورة زين العابدين عاطفية، كلاهما نفس الروح ونفس الثورة، اختلفت الأساليب، تعدّدت الصور والألوان، الإمام زين العابدين كان يمارس ببكائه عملية إصلاحه، كان يوصل أهداف الحسين من خلال بكائه ودموعه، كان يوصل مضامين ثورة الحسين من خلال بكائه ودموعه، كان يمارس ثورة إصلاحية عاطفية.

الهدف الثالث: الهدف الإعلامي.

أتدرون أنّ التاريخ والإعلام الأموي حاول أن يشوّه ثورة الحسين من أوّل يوم؟! كان المنطق الأموي آنذاك الذي يشيعه الناس أنَّ الصراع بين الحسين ويزيد صراع شخصي على السلطة! أو صراع قبلي! أو صراع بين اثنين! مجرد فتنة لا ندخل فيها! لهم ما لهم وعليهم ما عليهم ولا علاقة لنا!

هذا المنطق هو منطق أموي، زرعه الفكر الأموي منذ مقتل الحسين لتشويه صورته، وأن المسألة مسألة سلطة وحكم وصراع على السلطة، ولذلك كان هذا المنطق الأموي يحتاج إلى إعلام مضاد، وهنا جاء دور زينب البطلة العظيمة ، وهنا جاء دور الإمام زين العابدين ، الإمام خمسًا وعشرين سنة يمارس البكاء يوميًا بشكل منتظم إعلامًا لمظلومية الحسين، إعلامًا لذكرى الحسين، إعلامًا مضادًا للإعلام الأموي، أن الحسين قُتِل مظلومًا شهيدًا وهو يدعو إلى دين جدّه، كانت عملية البكاء ضرورية لمواجهة الإعلام الأموي آنذاك.

وكان يخرج إلى سوق الجزّارين حتى يهيّج الناس فيقول لهم: لماذا تفعلون هكذا؟ يقولون: يا بن الحسين نحن لا نذبح الشاة حتى نسقيها ماء، فيبكي ويقول: لا يُذْبَح الكبش حتى يروى من ظمأ ويُذْبَح ابن رسول الله عطشان؟!

الهدف الرابع: الهدف التعليمي.

عظمة البكاء بعظمة المبكي عليه، يعقوب ما بكى على فراق كلّ أولاده، بل بكى على فراق يوسف ، ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [يوسف: 86]، لأن يوسف نبي فاستحقّ تلك الحالة من التفاعل والحزن والبكاء، وفاطمة الزهراء ما هدأت بعد أبيها، تبكي ليلًا ونهارًا حتى ضجّ أهل المدينة من بكائها وقالوا: إما أن تختاري الليل أو تختاري النهار، أرادت أن تبيّن لهم أنّ عظمة البكاء بعظمة المبكي عليه، وهكذا الإمام زين العابدين عندما يبكي خمسًا وعشرين سنة يوميًا لأجل بيان أنَّ المبكي عليه يستحقّ هذه الدرجة من التفاعل والعاطفة والبكاء، لأنه حجّة لله تعالى وإمامٌ مفترض الطاعة قُتِل دون الدين ودون مبادئه وقيمه.