الدرس 10 | تأملات في مبدأ التصورات الأولية لدى الاتجاه التجريبي

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

سبق الحديث مفصلا عن الاتجاه التجريبي الذي طرحه «جون لوك»، وسبقت أيضا ملاحظتان حول هذا الاتجاه، بقيت مجموعة من الملاحظات حول الاتجاه التجريبي:

الملاحظة الثالثة: في الفارق بين جون لوك وهيوم حول تصور مبدأ العلية.

هذه الملاحظة ركز عليها راسل في كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية»، وتتلخص في الفارق بين «جون لوك» و«هيوم» حول تصور مبدأ العليّة، فجون لوك يقول: ”إن الأفكار قسمان: بسيطة ومركبة“، أما البسيطة فهي متساوقة مع الطبيعة؛ لأن الأفكار البسيطة هي ثمرة تأثير الطبيعة في جسم الإنسان، أي ثمرة تأثير الأشياء التي يتواصل معها الإنسان بالحس، فإن الضوء عندما ينفذ إلى باصرة الإنسان يتلقى الإنسان فكرة عن الضوء - صورة - وهذه تُسمى بالفكرة البسيطة، وعندما ينفذ الصوت في أذن الإنسان فيتلقى الإنسان صورة عن الصوت فهذه أيضا فكرة بسيطة، فكل ما يتلقاه الإنسان عن طريق الحواس فهي أفكار بسيطة، الصوت، الصورة، اللون، الرائحة، كل هذه أفكار بسيطة لأن دور الذهن اتجاهها اتجاه سلبي، باعتبار أن الذهن يستسلم لها ويتلقاها قهرا دون أدنى تصرف منه.

هذا التحليل للأفكار البسيطة الذي يعني أن الذهن تجاه الأفكار البسيطة مجرد منفعل لا تصرف له، ونفس هذا التحليل ينطوي على الايمان بمبدأ العليّة، إذ لو لم يؤمن بأن الأمور المادية كالصوت والضوء والحرارة علل لتأثر الحواس بها لم يكن انفعال الحس بهذه الأمور قهريا، وهذا ينطوي على أن هناك علة ومعلولا، فالعلة هي الظواهر المادية من الصوت والصورة والحرارة والطعم والرائحة، والمعلول هو انفعال الحواس بهذه الظواهر المادية، ونتيجة انفعال الحواس بهذه الظواهر المادية تأثر الذهن قهرا بها، وهذا معلول آخر، فتصور جون لوك للأفكار البسيطة ينطوي على الإيمان بمبدأ العلية، والحال أن العليّة مما لا يمكن الوصول إليها عن طريق الحس، إذ لا نستطيع أن نثبت أن هناك عليّة من الظواهر المادية لانفعالات الحواس، ومن انفعالات الحواس إلى استجابة الذهن، فالعلية مما لا تُدرك بالحس، فإن الحس غايةُ ما يُدرك تتابع الظواهر فقط، ضوء فانفعال للباصرة فاستجابة من الذهن، فهذا مجرد تتالي ظواهر، أما أن الظاهرة الأولى علة للثانية قهرا تصبح الثانية، والثانية علة للثالثة قهرا لابد أن تُصبح الثالثة، وهذا كلّه مبني على مبدأ العليّة، والحال بأنه بناءً على المنهج الذي سار عليه جون لوك في الاتجاه التجريبي وهو أن مصدر المعارف والتصورات الأولية هو التجربة فقط أن لا طريق لإثبات العليّة؛ لأنه لا يُمكن إثبات العليّة عن طريقة التجربة، ولذلك دفيد هيوم تخلص من هذه الملاحظة الواردة على جون لوك وذهب إلى إنكار مبدأ العلية، وأن الظواهر المادية هي مجرد ظواهر متتابعة ومتتالية من دون أن يكون بينها رابطة العلية والسببية.

الملاحظة الرابعة: في تحليل مفهوم الفطري لدى المدرسة العقلية.

مرّ في المحاضرة السابقة أن جون لوك ناقش ديكارت وأرباب المدرسة العقلية الذين يقولون بالفطرية - أي أن التصورات الأولية فطرية - وقال أن هناك ستة محتملات لمعنى الفطرية والجميع باطل، في المقابل يُمكن للمدرسة العقلية - التي ترى فطرية التصورات الأولية - أن تقول نحن نختار المعنى السادس وهو أن الفطرية بمعنى الضرورة المنطقية، فالمفهوم الفطري هو ما يتضمن الضرورة المنطقية، فكل مفهوم إذا تصوره الذهن جزم به، إذن بين المفهوم وبين الجزم ضرورة منطقية، فكل مفهوم إذا تصوره الذهن جزم به فهو مفهوم فطري؛ لأن بين المفهوم والجزم به ضرورة منطقية.

جون لوك قال إذا تقولون أن هذا هو الفطري فيلحظ عليه:

أولا: أن هذا من شؤون الحدس، فالحدس قوة إذا تصورت هذه المفاهيم جزمت بها، فالحدس قوة وإذا تصورت اجتماع النقيضين تصورت أنه محال، والحدس قوة إذا تصورت الوجود جزمت بواقعتيه، الحدس قوة إذا تصورت مفهوم الامتداد أو الجسم ما يشغل حيزا من الفراغ جزمت به، فالفطري بمعنى الضرورة المنطقية يرجع إلى قوة الحدس.

ثانيا: إذا قلتم هذا هو معنى الفطري فإن هذا موجود في القضايا الرياضية، وأنتم - أصحاب المدرسة الفطرية - لا ترون القضايا الرياضية من الفطريات 2+2=4، فهذه أيضا بمجرد أن يتلقاها الحدس يجزم بها فيرى أن بين 2+2 وبين ال 4 ضرورة منطقية.

أصحاب المدرسة العقلية يختارون هذا التعريف، فالفطري بمعنى ما يتضمن الضرورة المنطقية، فكل مفهوم يتلقاه الذهن فيجزم به مباشرة بلا دليل وبلا كلفة يُعتبر مفهوما فطريا مثل الوجود، فلا يحتاج الذهن في الجزم بالوجود إلى دليل ولا إلى برهان، فهو تصور الوجود فجزم به، فلا يحتاج الذهن إلى أن يجزم بأن المادة تشغل حيزا من الفراغ فلا يحتاج الذهن إلى دليل، فتصور المادة وتصور أنها تشغل حيزا من الفراغ، وذلك من خلال مثالين:

المثال الأول: الواضح. «الوجود».

إرجاع الجزم إلى قوة الحدس لا يُلغي الفكرة، فإن النزاع بين المدرسة العقلية والمدرسة الحسية ليس في القوة التي تجزم، فهل القوة التي تجزم هي الحدس أو القوة التي تجزم هي العقل؟! فإنه ليس شغلنا في القوة التي تجزم، فالنزاع بين المدرسة العقلية والمدرسة الحسيّة في «هل أن إدراك المفاهيم الأولية يحتاج إلى الحس أم لا؟»، فإن هذا هو مُلخّص النزاع، فالمدرسة العقلية تقول أن التصورات الأولية لا يحتاج إدراكها إلى الحس، فالعقل يُدرك الوجود فلا يحتاج إلى حس، فالعقل نفسه موجود فلا يحتاج إلى حس، فالعقل يُدرك الوجود بلا حاجة إلى معونة الحس، العقل يُدرك الامتداد بلا حاجة إلى معونة الحس، فالنزاع في هذه النقطة، أما أن يُقال في المقابل ”إن القوة التي تجزم هي الحدس“ فإن نزاعنا ليس في القوة، سواء كانت القوة هي الحدس أو العقل أو قوة غير معلومة في النفس فإن كل هذا ليس له دخل في النزاع، فالنزاع في أن هذه المفاهيم هل يحتاج إدراكها إلى الحس أم لا، فالمدرسة العقلية تقول أن هذه المفاهيم متى تصورها الذهن جزم بها تعني أنها متضمنة لضرورة منطقية، وهذا يعني أنها مفاهيم فطرية فلا يُحتاج إدراكها إلى الحس، بغض النظر عن القوة التي تجزم هي قوة الحدس أو قوة أخرى، فهذا ليس دخيلا في الموضوع.

وربما يقول «جون لوك» أن هذه مفاهيم مركبة ونحن نريد المفاهيم البسيطة، أي أننا بعد أن قسمنا المفاهيم إلى مركبة وبسيطة، وذكرنا أن المفاهيم المركبة لا تكي الواقع وإنما الذي يحكي الواقع هي المفاهيم البسيطة فإن جميع المفاهيم المركبة لابد من إرجاعها إلى المفاهيم البسيطة، والتصورات الأولية من قسم المفاهيم البسيطة فنحن نُريد مثالا من المفاهيم البسيطة ولا نحتاج إلى إدراكه إلى الحس.

لو قال «جون لوك» هكذا في مقابل المدرسة العقلية يُمكن الجواب بأن الفرق بين البسيطة والمركب بأن دور الذهن إما سلبي أو إيجابي، فإن كل صورة يكون دور تجاه الذهن اتجاها سلبي - أي يُدركها قهرا لا اختيارا - فهي فكرة بسيطة، فكل فكرة يكون إدراك الذهن لها إيجابي - أي يقوم بتصرف حتى يدركها - فهي فكرة مركبة، فإدراك الوجود لا يحتاج إلى تصرف، فإدراك الذهن للوجود كإدراك الباصرة للضوء فهو إدراك قهري، فالذهن مستسلم أمامه ولا عمل له، فالذهن مستسلم أمام صورة الوجود وليس له أي دور اتجاه الصورة إلا ادراكها فقط، فهي من الأفكار البسيطة لا من الأفكار المركبة.

المثال الثاني: المبهم.

المفاهيم المبهمة كاللامادي واللامعنى له واللاوضوح له، هذه المفاهيم المبهمة ليست واردة من طريق الحس إطلاقا، بالنتيجة هناك مفاهيم لا تفد عن طريق الحس كالمفاهيم المبهمة - اللاحد له، اللامادة له، اللامعنى له، المجرد، إلى غير ذلك - وإن كان الحس مثيرا لها إلا أنه فرق بين المثير والمصدر وقد تم بيانه في المحاضرة الثانية، وقلنا أن المدرسة العقلية لا تأبى أن يكون للحس دور، لكن دور مثير وليس رافدا مصدرا، فهي تؤمن أن هناك أفكارا أولية مختمرة في العقل تحتاج فقط إلى مثير ليظهرها بحيث تتبلور، فالحس ربما يكون دوره دور الإثارة إلا أنه ليس مصدرا لولادة هذه المفاهيم، لذلك الحس ربما إذا أدرك المادي صار إدراكه للمادي مثيرا لمفهوم اللامادي، إلا أنه ليس مصدرا له بل مثيرا له، لأنهما قسمان في عرض واحد كالمادي واللامادي، أو المحدود واللامحدود، المنتهي واللا نهاية له، فالحس مثير وليس مصدرا، وهذا لا ينفي مبدأ واتجاه المدرسة العقلية.

الملاحظة الخامسة: ما هو منشأ الجوهر والعرض.

وهذا تعرض له الشهيد المطهري «طاب ثراه» في أصول الفلسفة [1] ، في المحاضرة السابقة نقلنا كلام جون لوك، فجون لوك يقول أن هذه الألفاظ - كلمة جوهر - ليس لها معنى، فهذا لفظ تكرر لدى الميتافيزيقيين لكنه لفظ لا معنى له فلا يوجد هناك شيء اسمه الجوهر، وهذه الملاحظة تتركز على تحديد مصدر فكرة الجوهر والعرض، ومن أجل تحديد مصدر فكرة الجوهر والعرض نذكر أمورا:

الأمر الأول: في الفرق بين القضية الإيجابية والقضية السلبية.

وهذا فرق منطقي، ففي علم المنطق قالوا أن القضية السلبية تتكون من ركنين فقط، والقضية الإيجابية تتكون من أربعة أركان، فالقضية الإيجابية فيها موضوع ومحمول ونسبة وحكم فنقول مثلا: «المحاضرة واضحة»، فحتى الذهن يقول بأن المحاضرة واضحة لابد أن يمر بأربعة أركان، الموضوع وهو المحاضرة، والمحمول هو الوضوح، والنسبة هي نسبة الوضوح إلى المحاضرة ويقارن بينهما، ثم يأتي إلى الركن الرابع ويحكم بأن المحاضرة واضحة، فعدنا موضوع ومحمول ونسبة وحكم، بينما القضية السلبية لا يوجد فيها حكم، فكما يقولون «سلب الربط لا ربط السلب»، فإذا كنا نريد أن المحاضرة ليست واضحة أو المحاضرة ليست مفيدة فلا يوجد عندنا حكم، فنحن تصورنا المحاضرة، وتصورنا الفائدة، وسلبنا النسبة، فليس فيها حكم بل فيها سلب الربط، والمهم عندنا هو القضية هي الموجبة لأنها هي التي ترتبط بمحل كلامنا، فقد عرفنا أن القضية الموجبة تتقوم بالحكم، وعرفنا أن فيها حكم وهو الذي سميناه بالركن الرابع.

الأمر الثاني: في تحليل الحكم.

يتصف الحكم بالانفعال والفعل، فالشيء الوحيد الذي هو انفعالي وهو فعلي، وهو حصولي وهو حضوري هو الحكم، فعندما يتصور الإنسان المحاضرة والفائدة ويحكم على المحاضرة بأنها مفيدة، فإن هذا الحكم من جهةٍ صورة، فإن أي شيء في النفس ينتقش فهو صورة، فإن هذا الحكم صورة، ولأن هذا الحكم صورة فإن كل صورة تحكي عن الواقع فهذه الصورة تحكي عن واقع، ولأنها تحكي عن واقع يُعبر عنها بأنها كيفية انفعالية، فهناك واقع، ولولا الواقع لما حصلت هذه الصورة، فهنا انفعال عن الواقع.

إذن الحكم صورة والصورة كيفية انفعالية من قبيل العلم الحصولي، وفي نفس هذه الصورة فعل من أفعال النفس، فالنفس أفاضت هذه الصورة لأنه كما قلنا الحكم عملية تقوم بها النفس، وكما يقول جون لوك بأن هذا دور إيجابي للذهن، وهذا الدور الإيجابي فعل من أفعال النفس، فهو فعل حضوري لأن أفعال النفس معلومة للنفس بعلم حضوري، فأفعال النفس حاضرة للنفس، فهذه الصورة التي نُعبر عنها بالحكم جمعت بين الانفعال والفعل، فهي بلحاظ أنها تحكي عن الواقع هي انفعال، وبلحاظ أنها ابداع من النفس تكون فعلا، وبلحاظ أنه صورة تكون علما حصوليا، وبلحاظ أنها فعل من أفعال النفس فهي علم حضوري.

الأمر الثالث: ما هو منشأ مفهوم الجوهر والعرض؟

من الأحكام الجوهر والعرض، فالجسم جوهر والقيام عرض. نحن لما نأتي إلى هذا الحكم أي الحكم بالجوهرية والعرضية فإن الجوهرية تعني الاستقلال، فعندما نقول أن الجسم جوهر أي أنه مستقل فلا يحتاج إلى شيء حتى يوجد، بينما العرض يعني الاحتياج، فالقيام عرض لأنه يحتاج إلى جسم، فالجوهرية تعني الاستقلال والعرضية تعني الاحتياج، وقطعا - حتى جون لوك وهيوم وأي إنسان - أن هذه الصورة موجودة في الذهن، فهم لا ينكرون أن هذه الصورة موجودة، فإذا تصورت الشجرة تصورت استقلالها عن الطعم والرائحة، بينما إذا تصورت اللون والشكل والطعم والرائحة أرى أنها تحتاج إلى الشجرة، فالتفاحة شكلها ولونها وطعمها ورائحتها كل ذلك عرض، وأما التفاحة نفسها كمادة فهي جوهر، فأي ذهن يتصور التفاحة يتصور فرقا بين مادة التفاحة وبين صفاتها، فمادة التفاحة تعني الجوهرية وصفاتها تعني العرضية.

الأمر الرابع: من أين نتج تصور الفرق بين مادة الشيء وصفاته؟

نذكر محتملات خمسة لمنشئ هذا التصور، فقد يكون المنشأ فطريا أو وجدانيا أو حسيّا أو وهميا أو حضوريا، فإذا بطلت الأربعة الأولى تعين الخامس. ونحن نقف عند المحتملات الخمسة:

  • المنشأ الأول: فطرية.

وهذا كما تقول به المدرسة العقلية، وأن هذه مفاهيم من العقل وإلى العقل ولا مدخل للحس فيها، فهي مفاهيم فطرية، ولكن المدرسة الحسيّة تنكر ذلك، فجون لوك يُنكر وجود مفاهيم فطرية، إذن استبعدنا هذا المصدر.

  • المنشأ الثاني: وجدانية.

كما يشعر الإنسان باللذة والألم يشعر بالجوهر والعرض، وهذا أيضا باطل؛ لأنه من الواضح أن شؤون النفس، سواء كانت انفعالات أو صفات للنفس، فالإرادة صفة من صفات النفس، والألم واللذة انفعال من انفعالات النفس، وليس الجوهر والعرض لا صفة للنفس ولا انفعالا من انفعالاتها، إذن ليست من الأمور الوجدانية.

  • المنشأ الثالث: الحس.

وهذا ما أشبعه بحثا جون لوك من أنه نفى دخل الحس في الوصول إلى الجوهر والعرض، فهو يقول: ”إن حواسنا تتعلق بالظواهر فقط، فنحن نُدرك من الجسم اللون، الشكل، الطعم، البياض، الكروية، المقدار، لكننا لا نُدرك شيئا وراء هذه الظواهر يُعبر عنه بالجوهر“. ربما يقول إنسان إذا تأملنا في الخارج ووجدنا - مثلا - القلم باليد، فالقلم وجوده يعتمد على وجود اليد التي تُمسكه، فلو انسحبت اليد يسقط القلم، فربما يُقال هذا دليل على وجود الجوهر والعرض، حيث رأينا أن وجود القلم اعتمد على وجود اليد، ولما انسحب وجود اليد سقط القلم، فإن هذا دليل على أن هناك في الخارج شيء مستقل وهناك شيء محتاج، جوهر وعرض، لكن هذا يُنكره جون لوك ويقول أنهما ظاهرتان فقط، ظاهرة أن القلم في اليد، ثم جاءت ظاهرة انسحاب اليد، وتلتها ظاهرة ثالثة وهي سقوط القلم، فلا يُدرك الحس إلا الظواهر المتتابعة فقط، أما أن الظاهرة الثانية عرض، والأولى جوهر، فالثانية احتياج والأولى استقلال فإن الحس كله لا يناله ولا يُدركه، إذن كون المنشأ حسيٌّ منتفي.

  • المنشأ الرابع: الوهم.

صورة الجوهر والعرض موجودة، أما هذه الصورة وهمية، وكونها وهما خُلف فالإذعان بها، ولا يجود إنسان إلا ويُذعن بها، ولو كانت وهما لم يُعقل إذعان الذهن وإقراره بها، فلا يعقل، ولذلك حتى الأفكار الوهمية فإن المدرسة الحسيّة تقول لها منشأ، ولابد أن يكون لها منشأ وإلا من أين جاءت؟ افترضها فكرة وهمية وإلا من أين جاءت، فهي لابد أن يكون لها مصدرها، فهي بالنتيجة لابد لها من منشأ.

  • المنشأ الخامس: الحضوري.

بعد نفي المناشئ الأربعة تعين ما تطرحه المدرسة الصدرائية، من أن منشأ مفهوم الجوهر والعرض هو منشأ حضوري، أي شهود حضوري.

كيف يكون شهود حضوري؟

إذا تأمل الإنسان في نفسه وجد أن صفاته الداخلية أي انفعالاته من القلق واللذة والغضب والألم كلها تحتاج إلى وجود النفس، فهذا لا يُدركه بالصورة بل يُدركه إدراكا شعوريا وجدانيا، يُدرك بالعلم الحضوري فلا يحتاج إلى صورة بل شعور وجداني، فهو يشعر أن قلقه وألمه راجع إلى النفس، فهذا ألم من النفس، وهذه لذة في النفس، وهكذا، وفي المقابل له شعور باستقلال النفس، من أن النفس لا تعتمد في وجودها على هذه الأوصاف، فهذه الأوصاف تعتمد عليها وهي لا تعتمد عليها، فبالتالي هناك علم حضوري باستقلالية النفس وعرضية صفاتها وانفعالاتها، غاية الأمر أن الذهن فيما بعد يتوسع، ونحن قلنا فيما سبق أن العلم الحصولي مستقى من العلم الحضوري، فالشعور باستقلالية النفس واحتياجية صفاتها اشتقت النفس منه مفهوم الجوهر ومفهوم العرض، وقامت بتطبيقهما على الأمور المادية الأخرى.

الملاحظة السادسة [2] : في إثبات وجود الجوهر ويبتني على عدّة خطوات.

الخطوة الأولى: في الفرق بين الماهية والوجود.

إذا أدرك الإنسانُ الإنسانَ، فما أدركناه واحد ونعبر عنه ب «الإنسان» أو «علي» أو «محمد» فهو شخص واحد، لكن الذهن يقوم بتحليله إلى عنصرين «ماهية، وجود»، فالإنسان ينحل مفهومه إلى عنصرين وهما الإنسانية ووجود، فالإنسانية مفهوم يقبل الوجود ويقبل العدم، فتقول ماهية موجودة وماهية معدومة، بينما الوجود لا يقبل العدم لأن النقيضان لا يجتمعان، فالماهية تقبل الوجود والعدم وأما الوجود فلا يقبل العدم، ولذلك هما عنصران وليسا عنصرا واحدا، وصحيح أننا في الواقع الخارجي نرى شيئا واحدا، «عليٌّ أمامنا» لكن الذهن عندما يُدرك علياً يقوم بتحليله إلى عنصرين وهما الإنسانية ووجود لتلك الإنسانية، فالإنسانية يعبر عنها بالماهية والعنصر الآخر يُعبر عنه بالوجود، وهما عنصران تحليليان للواقع الخارجي.

الخطوة الثانية: في انقسام الماهية لجوهر وعرض، وأنواع الجوهر والعرض.

الماهية إما جوهر أو عرض، والجوهر - التعبير الفلسفي - ما كان وجوده في نفسه لنفسه، والعرض ما كان وجوده في نفسه لغيره، فنأتي الآن بيان الفرق بين الجسم والقيام، فالجسم وجود في نفسه، ووجوده في نفسه لنفسه فهو ليس موجودا لأجل غيره بل لنفسه، فوجوده في نفسه لنفسه، بينما القيام هو وجود إلا أن وجوده في نفسه هو عين وجوده لغيره - الجسم -، فكلامهما وجود نفسي، لكن الجسمَ وجوده في نفسه لنفسه، بينما القيام وجوده في نفسه لغيره. [3] 

الخطوة الثالثة: في دليل وجود الجوهر والعرض.

البرهان الأول: ما ذكره العلامة المطهري «قدس سره» في أصول الفلسفة [4]  من الاستدلال بالوجدان.

قال الشيخ المطهري: ”إذا تأمل الذهن بوجدانه في النفس رأى أن الإدراك والتفكير وجود لا ينفك عن وجود النفس“ فالإدراك وجود في نفسه لكن لغيره وهو النفس، بينما النفس وجود في نفسه لنفسه، الذهن إذا تأمل بالوجدان يرى فرقا بين النفس والإدراك، فيرى أن الإدراك كيفية تحتاج إلى النفس، وأن النفس وجود مستقل عن الإدراك، فلا يحتاج وجوده إلى الإدراك، فالفرق بين هذين السنخين من الوجود فرق وجدانيٌّ، وكذلك بالنسبة إلى الخارج كالعدد، فأنت تؤمن أن هناك عدد، وجون لوك يؤمن بأن هناك عدد، فإذا اجتمع هو مع أمه وأبيه ألا يصبحون ثلاثة؟! قطعا هناك عدد، فإذا كان هناك عدد فإن هناك معدود، فهل يمكن أن يوجد العدد دون معدود به؟! غير معقول، إلا أن المعدود مستقل في وجوده عن العدد.

إذن تأمل الذهن في النفس رأى أن الإدراك غير النفس، فالإدراك يحتاج إلى النفس والنفس لا تحتاج، وإذا تأمل الذهن في الواقع الخارجي رأى أن الفرق بين العدد والمعدود أن العدد صفة تحتاج إلى المعدود ولا عكس، فإذن الوجدان يجرُّ إلى الإيمان بوجود الجوهر والعرض، ولكن هنا إشكالان على هذا الاستدلال:

الإشكال الأول: قد يُقال أن انطباع صورة الجوهر من باب تداعي المعاني، أي إذا أدرك الذهن التفاحة أدرك لونها وشكلها وطعمها ورائحتها، فإذا أدرك هذه الأشياء قال هذه الأشياء مجتمعة أم متفرقة؟ هي مجتمعة في شيء اسمه تفاحة، إذن هناك شيء اسمه تفاحة وهو مجمع لهذه الأوصاف، فهو انتقل من فكرة إلى فكرة من باب تداعي المعاني، كما ينتقل الذهن من فكرة النور إلى فكرة الظلام، وكما ينتقل الذهن من فكرة إلى أخيه التوأم، فإذا رأى زيدا تذكر أخاه التوأم، وكما ينتقل الذهن من المجاور إلى مجاوره، فهذا من باب تداعي المعاني، وهذا لا يُثبت الوجود، وغاية ما نستطيع أن نقول ان الذهن أدرك أوصافا وهي اللون والشكل والطعم والرائحة، أما أنه أدرك شيئا وراء الأوصاف يُسمى بالجوهر بالوجدان فهذا أول الكلام، فلعل هذا من باب تداعي المعاني.

الجواب:

هذا إذا تصورناه في الأشياء الخارجية مثل التفاحة وغيرها، لكن لا نستطيع أن نتصوره في النفس ونقول أن هذا من باب تداعي المعاني، فالإنسان يُدرك أنه قلق فليس هو من باب تداعي المعاني، ويُدرك أن قلقه محتاج إلى نفسه، وكل هذا بالإدراك الوجداني، وفي نفس الوقت يُدرك بوجدانه أن النفس لا تحتاج في وجودها إلى القلق، فإدراك الذهن استقلالية النفس واحتياجية القلق بالإدراك الوجداني لا من باب تداعي المعاني وإلا لم يثبت حجر على جدر.

الإشكال الثاني: أنتم اعتمدتم على الإدراك وقلتم أن الإدراك مستند إلى النفس، فلعل النفس مستند إلى الروح، والروح مستندة إلى العقل، والعقل مستند إلى المبدأ الأول «تعالى»، فأين الجوهر والعرض؟ فما استندتم عليه وهو الإدراك وقلقتم أن الإدراك مستند إلى النفس، نحن نقول كذلك أيضا أن الإدراك مستند إلى النفس، والنفس إلى الروح، فنحن عندنا تسلسل، المبدأ الأعلى تعالى صدر عنه عالم العقول والمعبر عنه بعالم الجبروت، انبثق عن عالم العقول عالم الأرواح - وهو عالم المثال - وانبثق عن عالم الأرواح عالم النفوس، فالنفس تكونت من حركة جوهرية في عالم المادة، وهذه الحركة الجوهرية في عالم المادة مستندة إلى الروح والروح مستندة إلى العقل، والعقل مستند إلى المبدأ الأعلى، فلا جوهر ولا عرض، فهنا معلول لمعلول لمعلول، فلم يبقَ دليل ٌ وجداني لإثبات وجود الجوهر والعرض.

البرهان الثاني: وهو الذي ذكره السيد الطباطبائي في كتابه نهاية الحكمة [5] .

هذا البرهان قائم على مقدمتين:

المقدمة الأولى: عرضية المقولة النسبية.

ذكر أنه لا ريب لدى أحد في أن المقولة النسبية لا توجد مستقلة، فالمقولة النسبية مثل الكيف، فاللون كيف، فاللون مستحيل يوجد بلا متلون، مثل الكم أيضا، طول وعرض وعمق، فمستحيل أن يكون هناك طول وعرض وعمق بدون جسم، مثل الفعل والانفعال، ففعل النار في الحرارة، انفعال الماء بحرارة النار، وهذا كلُّه فرع وجود نار وماء، فالأعراض النسبية - مذكور في الفلسفة - وهي الوضع، والكيف، والكم، والأين، والمتى، والفعل، والانفعال، وهي مجرد نسب، والنسب تحتاج إلى طرفين، فالأعراض النسبية موجودة في الخارج، إذن هي تحتاج إلى أطراف تنتسب إليه، وهذا لا ريب فيه.

المقدمة الثانية: لو لم تنتهِ هذه الأعراض إلى جوهر للزم التسلسل.

الآن آمنا بوجود أعراض - وهي الأعراض النسبية - وتحتاج إلى طرف يتصف بها، وذلك الطرف إما جوهر وهذا مطلوبنا، أو عرض فإذا كان عرضا احتاج إلى جوهر، وذاك الثاني إما جوهر أو عرض وهكذا وهكذا فيذهب التسلسل إلى ما لا نهاية، وذهاب التسلسل في الجواهر والمعروضات والأوصاف إلى ما لا نهاية باطل، فتعين انتهاء السلسلة إلى وجود جوهري لا يحتاج وجوده إلى موضوع آخر.

لابد أن نفرق بين العلة وبين الموضوع حتى لا يأتي الإشكال على البرهان السابق من أن يقول أن هذا مستند وهذا مستند فيرجع إلى الأولى، فالعلة شيء والموضوع شيء آخر، والعرض وجود إمكاني محدود ويحتاج إلى موضوع إمكاني محدود، أما العلة فهي المفيض وليست هي الموضوع، وبعبارة أخرى فرق بين القبول وبين الفعل، وفرق بين الانفعال والفعل، فنسبة الجوهر إلى العرض هي نسبة الانفعال، فالجوهر يتصف بالعرض أي ينفعل به، بينما نسبة العلة إلى المعلول نسبة الفعل والإيجاد، ففرق بين نسبة الجوهر للعرض ونسبة العلة للمعلول، فنسبة العلة للمعلول نسبة الفعل، بينما نسبة الجهور للعرض هي نسبة الانفعال، ونحن نبحث عن نسبة الانفعال فنقول أن كل عرض يستند إلى ما قبله، وما قبله إما جوهر وهو مرادنا، أو عرض فيحتاج إلى أن يستند إلى ما قبله وهكذا، فيذهب التسلسل إلى ما لا نهاية ولا ينقطع التسلسل إلا إذا آمنا بوجود جوهر أي إلا إذا آمنا بوجود إمكاني محدود تكون نسبته للأوصاف نسبة الانفعال لا الفعل، فلا معنى أن يُنقض على البرهان بأنه لا مانع من ذهاب العلل والمعلولات إلى أن تصل إلى العلة الأولى وهي الله تبارك وتعالى، فكلامنا ليس في العلل بل في نسبة الجواهر إلى الأعراض. [6] 

والحمد لله رب العالمين

[1]  أصول الفلسفة ج2 ص78.
[2]  لا يخفى أننا نبحث في التصورات ولم نصل بعد إلى قسم التصديقات، وهذه الملاحظة مبنية على التصديق لا التصور، وإنما نذكرها إتماما للفائدة باعتبار أن جون لوك أنكر وجود الجوهر والعرض، فنحن نُريد أن نُثبت وجودهما إتماما للفائدة، وإلا إثبات وجود الجوهر والعرض من قسم التصديقات لا من قسم التصورات ولذلك تعرض له العلامة المطهري في المقالة الثالثة عشر ونحن في المقالة الخامسة، بينما اثبات الجوهر والعرض تعرض له في المقالة الثالثة عشر في أصول الفلسفة ج2 ص503 بترجمة السيد عمار أبو رغيف لا ترجمة الشيخ محمد عبدالمنعم الخاقاني.
[3]  قسموا الماهية إلى عقل ونفس وجسم، وقسموا الأعراض إلى كيف وكم ونسبة، وهذه كلها أقسام لا ربط لها بمحل البحث.
[4]  أصول الفلسفة ج2 ص503 بترجمة السيد عمار أبو رغيف.
[5]  كتاب نهاية الحكمة ص104.
[6]  الملاحظة السابعة لم يتسع لها الوقت، ونتعرض - إن شاء الله - لها في المحاضرة القادمة، ثم ننتقل إلى الاتجاه الحسي وهو اتجاه دفيد هيوم والملاحظات على كلامه.