الدرس 20 | الإنتاج يفتقر للمبادئ الأولية الأربعة

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

لا يُمكن لأيِّ تجربةٍ أن تُنتج وتُثمر نتيجةً متصفةً بالْكُلِّية والدوامِ والضرورةِ إلا إذا استندت التجربةُ إلى المبادئ الأربعة، والمبادئ الأربعة هي: الهوية، وامتناع التناقض، والعلية، والسنخية، والكلام فعلاً حول هذه المبادئ الأربعة وذلك من خلال محاور ثلاثة:

المحور الأول: في تقرير مبدأ الهوية ومبدأ امتناع التناقض.

المبدأ الأول: مبدأ الهوية.

عندما يقال «كل شيءٍ هو هو»، «الإنسان هو الإنسان»، «الماء هو الماء»، هذا ما يعبر عنه بمبدأ الهوية، فالشيء هو نفسه، وهذا المبدأ مبدأ تحليلي، ومعنى ذلك هو أن الذهن عندما يقوم بتحليل أي حقيقة لأي شيء لم يجد غير تلك الحقيقة، فعندما يقوم الذهن بتحليل حقيقة الإنسان سيجد أن الإنسان هو الإنسان، وعندما يقوم الذهن بتحليل حقيقة الماء سيجد أن الماء هو الماء، فكل شيءٍ له حقيقة وحقيقته هي نفسه وليس شيئاً آخر، وهذا ما يعبر عنه بمبدأٍ الهوية.

مبدأ الهوية ليس عندنا دليل عليه وإنما هو مما يحكم به العقل الوجداني، فالوجدان العقلي عندما يقوم بتحليل أي حقيقةٍ سيجد أنها نفسها من دون حاجةٍ إلى دليلٍ حيث سبق أن قلنا إن القضايا هي الأولية هي التي يحكم بها الذهن بمجرد تصور الموضوع والمحمول من دون حاجةٍ إلى وساطة دليل، فالإنسان متى تصور الماء وتصور الماء حكم بأن الماء هو الماء وليس شيئاً آخر بلا حاجةٍ إلى دليل، ولكن قد يُستخدم في كلمات أهل الحكمة الاستدلال بامتناع التناقض كمنبه على مبدأ الهوية، وإلا مبدأ الهوية في عرض مبدأ استحالة التناقض، غاية ما في الأمر قد يُستدل بمبدأ امتناع التناقض كمنبهٍ على قضاء الوجدان بمبدأ الهوية، فمثلاً يُقال: الإنسان هو الإنسان ولو كان الإنسان - مع أنه إنسان - ليس إنساناً للزم التناقض والتناقض ممتنعٌ، وهذا مُجرد منبه، وإلا لا دليل عندنا سوى الوجدان من أن الإنسان هو الإنسان، ولكن من أجل التنبيه على الجزم واليقين بمبدأ الهوية نستخدم هذا الاستدلال بمبدأ عدم التناقض.

المبدأ الثاني: امتناع التناقض.

وهذا الذي عبر عنه بأولى الأوائل[1]  وهنا نضيف على ما سبق ما يتعلق بنقد بعض النظريات، ومبدأ امتناع التناقض هو عبارة عن عقدين، ولابد من تحليل كل واحدٍ من العقدين:

العقد الأول: امتناع الارتفاع.

يعني استحالة ارتفاع النقيضين. وقد ذكر جملةٌ من أهل الحكمة أن كل شيءٍ وكل ما يسمى شيئاً - وإن كان احتمالا فهو شيء وإن كان العدم وإن كان الاستحالة - فهو إما نفي أو إثبات، لا محالة فهو إما سلب أو إيجاب، ولا يمكن أن يكون لا سلباً ولا إيجابا، وهذا معنى استحالة ارتفاع النقيضين، فكل شيءٍ هو إما نفي وإما إثبات ولا يعقل ألا يكون لا سلباً ولا إيجاباً؛ لأنه لو لم يكن لو لا سلباً ولا إيجابا لم يكن شيئاً، فأنت تقول عنه شيئاً والشيء إما سلبي أو إيجابي وهذا يعني أنه ليس بشيء، فالشيء إما سلبٌ أو إيجاب. وهنا نفس القضية هو مبدأ تحليلي، يعني الذهن عندما يقوم بتحليل معنى الشيء سيجد أن معنى الشيء إما سلب وإما إيجاب فالمسألة تحليلية، ولا يَتصور شِقاً ثالثاً.

ربما بعضهم يستدل على استحالة ارتفاع النقيضين بأنه لو كان المفترض لا سلباً ولا إيجاباً، فإذا لم يكن لا سلباً ولا إيجابا فهو شيءٌ وليس بشيءٍ، فهو شيء لأننا افترضناه ومتى ما افترضناه فهو شيء، وليس بشيء لأن الشيء إما سلبٌ أو إيجاب، فإذا افترضنا أن المفترض ليس سلباً ولا إيجابا فهو ليس بشيء، إذن هو شيء وليس بشيء وهذا مستحيلٌ لأنه تناقضٌ، ونحن لا نريد الاستدلال بامتناع اجتماع التناقض على استحالة ارتفاع التناقض، أي أننا نستدل بالعقد الثاني على العقد الأول، فنستدل بامتناع اجتماع التناقض على استحالة ارتفاع النقيضين، بل نقول أن هناك قضاءً وجدانياً عقلياً قطعياً، فالعقل القطعي يحكم بأنه لا يوجد شق ثالث، فكل شيءٍ إما سلبٌ أو إيجاب ولا يوجد شق ثالثٌ، فالمسألة وجدانية تحليلية.

العقد الثاني: امتناع الاجتماع.

يعني استحالة اجتماع النقيضين، وتارةً يُنظر لامتناع الاجتماع بالحمل الأولي، وتارة يُنظر لامتناع الاجتماع بالحمل الشائع وبيان ذلك:

امتناع الاجتماع بالحمل الأولي:

إذا نُظر لامتناع الاجتماع بالحمل الأولي فنحن قلنا النقيضان هما النفي والإثبات فالنفي غير الإثبات والإثبات غير النفي، وامتناع الاجتماع يعني أن الذهن بمجرد أن يُدرك النفي فإنه يقول أن النفي ليس بإثبات، وبمجرد أن يدرك الإثبات يقول الإثبات ليس نفي، وهذا معنى استحالة الاجتماع، فإنه من البديهي أن النفي يختلف عن الإثبات، والإثبات من البديهي هو غير النفي، وهذا معناه استحالة الاجتماع، فاستحالة اجتماع النقيضين قضية أولية يُدركها حتى الطفل الصغير فإذا قلت له السلب يعني الإيجاب، يقول صار سلب، فإذا تقول الإيجاب يعني السلب، كيف صار إيجاباً؟! السلب ليس هو الإيجاب والإيجاب ليس هو السلب، وهذا معنى استحالة اجتماع النقيضين بالحمل الأولي، فإذا نظر للسلب بما هو مفهوم فهو ليس إيجابا، وإذا نُظر للإيجاب بما هو مفهوم فهو ليس سلباً.

امتناع الاجتماع بالحمل الشائع:

امتناع الاجتماع بالحمل الشائع يعني في مرحلة الصدق لا بحسب المفاهيم، فإننا ننظر لعالم المصاديق، وهذا يسمى بالحمل الشائع، فإذا نظر لعالم المصاديق نقول بما أن النفي ليس إثباتاً، والإثبات ليس نفياً، إذن ما هو مصداقٌ للنفي في الخارج فليس مصداقاً للإثبات، وما هو مصداقٌ للإثبات في الخارج فليس مصداقاً للنفي، وهذا معناه امتناع اجتماع النقيضين بالحمل الشائع أي بحسب عالم المصاديق.

المحور الثاني: في نقد نظرية الدكتور زكي نجيب محمود في تحليل سر امتناع التناقض.

الدكتور زكي نجيب محمود[2]  في كتابه «نحو فلسفةٍ علمية» [3]  ذكر بأنه ما هو السر في استحالة التناقض؟ وهنا يتعرض إلى مقدمتين:

المقدمة الأولى: في بيان في بيان مفهوم القضية التكرارية وفي الربط بين التكرار والصدق، والتمثيل له الرياضية ومبدأ الهوية.

نحن ذكرنا عدة أمور من خلال المقدمة الأولى، ونأتي إلى بيانها في أمور:

الأمر الأول: بيان مفهوم القضية التكرارية.

زكي نجيب محمود يقول: القضية التكرارية هي القضية التي تتضمن نفسها، أي أنها قضية فارغة من المحتوى حيث لا تتضمن خبراً جديداً، أي أن القضية نفسها تتكرر، وهي بهذا اللحاظ - التكرر - فارغة من المحتوى لأنها لا تتضمن خبراً جديداً، وذاك مثل «الماء هو الماء» فهذه قضية تكرارية، فالماء هو الماء فهو تحصل حاصل ولم تأت بشيء جديد، الماء هو الماء الكلام هو الكلام وأنا هو أنا، و«أ» هو «أ»، فالقضية التكرارية هي القضية التي تتضمن نفسها، وإذا قمنا بتحليلها وجدناها فارغة من محتوى لأنها لا تحمل خبراً جديداً، فهذه تُسَمَّى قضية تكرارية.

الأمر الثاني: متى ما كانت القضية تكرارية فهي صادقة.

أي أن هناك ملازمة بين التكرار وبين الصدق، فمتى ما كانت قضية تكرارية فحتماً تصبح صادقة؛ لأن المقسم للصدق والكذب هو الإخبارُ الجديد، فإذا كانت القضية تحمل إخْبَارًا جديداً عن عالم الطبيعة - ك «الأرض متحركة» «الأرض ساكنةً» - فإن كل قضية تحمل خبراً عن عالم الطبيعة فهي مقسم للصدق والكذب، فهي يمكن أن تكون صادقة ويمكن أن تكون كاذبة، أما القضية التكرارية فهي لا تتحمل أن تكون كاذبة؛ لأنها لا تحمل خبراً جديداً حتى تكون كاذبة فهي حتماً صادقة، إذن القضية التكرارية مساوقة للصدق، وقد مثل بمثالين:

المثال الأول: القضية الرياضية.

قال أن كل القضايا الرياضية نصدق بها لأنها قضايا تكرارية، فمثلاً عندما نقول «2+2 = 4» فالاثنين زائداً الاثنين هي الأربعة، والأربعة لما تحللها هي الاثنين زائداً الاثنين، فأنت كررت القضية، ف «2+2» كررتها وسميتها وقلت أربعة، و«4+4» كررتها وسميتها ثمانية، فهو لم يتغير شيء، إنما كانت القضايا الرياضية صادقة لأنها قضايا تكرارية، فلذلك نراها صادقة لا تحتمل الكذب، وتصديقنا بعلم الرياضيات يرجع إلى أن الرياضيات قضايا تكرارية.

المثال الثاني: مبدأ الهوية.

مبدأ الهوية «الإنسان هو الإنسان» و«الماء هو الماء» و«أ» هو «أ»، فنحن نصدق بهذه القضايا لأنها قضية تكرارية، فهي قضية تتضمن نفسها ولا تحمل خبراً جديداً كي يكون معرضاً للصدق والكذب فإذن هي قضية فارغة من المحتوى.

الملاحظ[4]  في كلمات زكي نجيب محمود مما أورده السيد الصدر قال: ميزان الصدق والكذب، فإن الشيء مقسماً بالصدق والكذب إذا كان إِخْبَارًا عن عالم الطبيعة، أما إذا لم يكن هناك إخبارٌ عن عالم الطبيعة لا ينقسم إلى الصدق والكذب، فإما تكون قضية ليس لها مَعْنَى فهي لقلقة لسان مثلاً كما لو يقول أحدهم «جبرئيل في المريخ»، فنقول أن هذه القضية ليس لها معنى، أو أنها مجرد تكرار والتكرار لا محالة لا ينقسم للصدق والكذب.

المقدمة الثانية: إنَّ صدق امتناع التناقض يرجع لكونه قضية تكرارية من حيث الكبرى والصغرى.

أن التناقض يرجع لقضية تكرارية، ولولا أنه يرجع إلى قضية تكرارية لم يكن قضية صادقة، فنحن نقول «امتناع التناقض» قضية صحيحة وقضية صادقة لأنه يرجع إلى قضية تكرارية، وبيان ذلك:

الكبرى: النقيضان لا يجتمعان، فإذا تقول «نقيضان» إذن لا يجتمعان، فأنت لم تُبدل ولم تغير، فأنت تقول نقيضان إذن لا يجتمعان، فأنت لم تأتِ بشيء جديد بل كررت نفس المفهوم، فأنت قلت نقيضان يعني أن كل واحد منهما يرفض الآخر، فكيف يجتمعان؟! فالنقيضان لا يجتمعان والنقيضان يعني لا يجتمعان، فالقضية تكرارية، ولولا أنها قضية تكرارية لما كانت صادقة، كما قلنا تماماً في القضايا الرياضية اثنين زائداً اثنين يساوي أربعة فنقول النقيضان لا يجتمعان.

الصغرى: متى ما طبقنا وقلنا «الحركة والسكون نقيضان»، إذن لا يجتمعان، فإذا سميتهما نقيضان فأنت بعبارة أخرى قلت لا يجتمعان، فما كان مصداقاً للنفي لا يمكن أن يكون مصداقاً للإثبات؛ لان النفي يرفض الإثبات.

قال: ”متى ما قلت «الماء هو الماء» كانت قضية «الماء هو الماء» هي تستدعي أن تكذب «الماء ليس الماء»“ فإذا صدقت الأولى لا بُد أن تكذب الثانية، فمتى ما قلت «الماء هو الماء» قضية صادقة لأنها تكرارية، وبمجرد أن تكون صادقة إذن لا بُد أن تكون الأخرى كاذبة «الماء ليس الماء طبيعياً»، فإذا الأولى صادقة إذن الثانية، الأولى صادقة لأنها تكرارية، إذن الثانية كاذبة؛ لأن سلب الشيء عن نفسه خلف أن له حقيقة، فأنت تسلبه حقيقته.

الملاحظات: ما هي الملاحظات على ما ذكره الدكتور زكي نجيب محمود؟

الملاحظة الأولى: هناك فرقٌ بين التحليل والتكرار.

تحليل المفهوم غيرُ تكرار المفهوم، فعندما نأتي إلى مبدأ الهوية فنقول «الماء هو الماء»، و«الإنسان هو الإنسان»، فإن هذه ليست قضية تكرارية بل هذه قضية تحليلية؛ لأن مرجع قولنا «الإنسان هو الإنسان» إلى أن الذهن قام بتحليل حقيقة الإنسان فوجد أنها عينها، فهذه مجرد قضية تحليلية، فأنت لا تنظر إلى القضية اللفظية وتقول أن القضية اللفظية فيها تكرار، فالكلام ليس في اللفظية بل الكلام في المعنى، ف «الماء هو الماء» لو يراها أحدهم قال هذه قضية تكرارية، والحال أن ما هو المضمون لقولنا «الماء هو الماء»؟ فإن مضمون قولنا «الماء هو الماء» أن الذهن عندما حلل حقيقية الماء وجد أنها عينها وليس شيئاً آخر، وكما قلنا سابقاً أن هذا أمر يحكم به الوجدان، فالوجدان عندما يُحلل الحقيقة يقول هي هي وليس شيئا آخر، فهذا ليس من باب القضية التكرارية، بخلاف القضية الرياضية فهي قضية تكرارية، فعندما تقول «2+2» تصورت تضاعف العدد ووجدت أن هناك رمزاً يُعبر عن تضاعف العدد اسمه «4»، وترجعه وتقول «4» يعني «2+2»، فهذه قضية تكرارية باعتبار وجود رمزين يحملان معنى واحد ف «2+2» رمز، و«4» رمز، فهنا رمزان يحملان مضموناً واحداً ومع ذلك أنت أخبرت عن الأول بالثاني، فأنت لم تقم بقضية تحليلية وإنما قمت بتكرار القضية في ذهنك.

إذن قول الدكتور زكي نجيب محمود من أن المناط في صدق القضية هو التكرار ولذلك صار مبدأ الهوية مبدأً صادقاً لأنه مبدأ تكراري فنحن نقول أن مبدأ الهوية صادق لا لأجل التكرار بل لأجل قضاء الوجدان عندما يقوم بتحليل قضيةٍ يجد أنها عين الحقيقة وليست شيئاً آخر.

الملاحظة الثانية:

نحن نقول أن السر في صدق مبدأ الهوية هو الوجدان العقلي - وهذا تقدم شرحه - وامتناع التناقض منبهٌ على التصديق وهذا تقدم بيانه عند شرح مبدأ الهوية وقلنا أن القاضي بصدقه هو الوجدان العقلي، ونستخدم امتناع التناقض كمنبهٍ على اليقين به - فالذي يقودنا لليقين به ليس أنه قضيةً تكراريةً وإنما منبهٌ على اليقين به هو امتناع التناقض.

الملاحظة الثالثة: عدم انحصار مقسم الصدق والكذب بالإخبار عن عالم المادة.

الدكتور زكي نجيب محمود يعتبر أن أي قضية لا تحمل خبراً عن عالم المادة فإنها قضية فارغة من المحتوى، لكن ما هو البرهان على انحصار العالم بعالم المادة؟ ما هو انحصار عالم الوجود بعالم المادة؟ فكل إخبار عن الواقع إما صادق وإما كاذب، ولا ينحصر مقسم الصدق والكذب بما كان إخباراً عن عالم الطبيعة، لأن المدرسة الوضعية المنطقية التي يتبناها زكي نجيب محمود من مدارس المذهب التجريبي، والمذهب التجريبي يقول أن كل ما هو خارج عن نطاق التجربة فهي قضية فارغة، لذلك هو الدكتور يقول أن كل إخبار لم يكن عالم التجربة فهو إخبار فارغ المحتوى، ولا ينقسم إلى صدق أو كذب، ولأجل ذلك نحن نقول بما أنه لا برهان على انحصار الواقع بعالم التجربة وبعالم المادة إذن كل إخبار عن الواقع فهو مقسم للصدق والكذب حتى مبدأ الهوية، فمبدأ الهوية في حد ذاته لولا قضاء العقل فهو قضية قابلة للصدق والكذب، فأنت تقول أن الحقيقية هي عينها فإن هذا إخبار وهو قابل للصدق والكذب، وعندما تقول «النقيضان لا يجتمعان» فإن هذا إخبار قابل للصدق والكذب، وعندما تقول لكل مسبب سبب فإن هذا إخبار قابل للصدق والكذب، وعندما تقول «لكل مسبب سبب» فهذا إخبار قابل للصدق والكذب، فهو في حد ذاته قابل للصدق والكذب ولولا قضاء العقل الوجداني بالتسليم به من دون حاجة إلى دليل وإلا هو في نفسه قابل للصدق والكذب.

الملاحظة الرابعة:

قال أن القضايا الرياضية كلها تكرارية، والحال أنه ليست كل القضايا تكرارية، فلو قال قطر الدائرة أضيق من محيطها، فهذه ليست قضية تكرارية، ولذلك هي قابلة للصدق والكذب، فليست كل القضايا الرياضية تكرارية حتى ينحصر مبدأ التصديق في الرياضيات بكونه قضية تكرارية.

الملاحظة الخامسة:

قال أن «النقيضان لا يجتمعان» قضية تكرارية والحال أنها ليست قضية تكرارية لأن النقيضان بمعنى النفي والإثبات، أزل كلمة «النقيضان» وضع مكانهما النفي والإثبات، فالنفي والإثبات لا يجتمعان؛ لأن العقل متى ما تصور الموضوع وتصور المحمول حكم بأن هذا هو هذا، لا لأن معنى النفي والإثبات هو مكرر في قولنا «لا يجتمعان»، فقد يأتي سفسطائي فيقول النفي هو إثبات، فالنفي والإثبات لا يجتمعان فالنفي هو الإثبات والإثبات هو النفي، فالنفي والإثبات لا يستبطنان في حد ذاتهما المحمول «لا يجتمعان» حتى يُقال أنها قضية تكرارية، فالنفي شيء والإثبات شيء وإذا تصورهما العقل يحكم عليها بعدم الاجتماع بالبداهة لا لأن الموضوع متضمن للمحمول بحيث يعدان مفهوماً واحداً.

المحور الثالث: وفي بيان مبدأ العلية والسنخية.

وهنا نقطتان اثنتان في هذا المحور:

النقطة الأولى: في مبدأ العلية.

مبدأ العلية بديهيٌّ، فمثله مثل: «امتناع التناقض» و«مبدأ الهوية»، فالعقل يحكم به بمجرد أن يتصوره.

ما هو معنى مبدأ العلية؟ وكيف نتنبه لمبدأ العلية حيث أن بعض البديهيات نحتاج أن نتنبه لها؟

أما معنى «مبدأ العلية» هو استحالة الصدفة، فالصدفة مستحيلة ولا يوجد شيء يوجد صدفة، فعندما يقال «لكل مسبب سبب» و«لكل معلول علة» فكأنك قلت «الصدفة مستحيلة»، وحتى نتنبه له فإن هنا منبهان:

المنبه الأول: المنبه الوجداني.

والمنبه الوجداني أمران:

الأمر الأول: الاستدلال بالسببية على نفي السببية، فالذين ينكرون السببية فإنه من حيث لا يشعرون يستدلون بالسببية، فالمستدل عندما يقول أن الوصول إلى الحقيقية منوط بالتجربة، والتجربة لا تُثبت مبدأ العلية وإنما تُثبت التتابع، فإنه وجدت النار فوجدت الحرارة لكن ليس هناك علية، أنا آخذ القلم وأكتب فتحركت اليد فتحرك القلم إلا أنه لا علية بينهما، فالوصول إلى الحقيقة بالتجربة والتجربة لا تُثبت سوى تتابع القضيتين، فإذن لا عليّة، فنقول أن الحقائق لا بُد أن تثبت عن طريقة التجربة، فبما أنها لم تثبت العلية عن طريقة التجربة فإن لا علية. إلا أن هذا الاستدلال ذاته هو إيمانه بالسببية، فأنت اعتبرت أن السبب في الوصول إلى الحقيقية هو التجربة، فأنت آمنت بالسببية، فقلت أن الوصول إلى الحقيقية مسبب وسببه التجربة، وبما أن التجربة لم تُثبت العليّة فلا علية، فكل هذه سببية، فإن استدلالك بالسببية على نفي السببية إقرارٌ وجداني بمبدأ السببية.

قد يقول قائل: أنا أؤمن بالسببية المعرفية ولكن لا أقر بالسببية الخارجية، هذه سببية معرفية، أي في عالم الذهن قضية تولد قضية، أما في عالم الخارج لا يوجد هذا الأمر، إلا أن هذا خطأ، لأننا قلنا أن مبدأ السببية معناه استحالة الصدفة، فلو قال لك شخص أن هذه المعرفة التي حصلت في ذهنك حصلت صدفة تقول له أن المعارف في الذهن فشيء يولد شيئا، إذن أنت تُنكر استحالة السببية، فلا فرق في نكتة استحالة الصدفة بين القضايا الذهنية والقضايا الخارجية، فالمناط واحد، فإذا أنت قلت يستحيل الصدفة في عالم المعرفة والقضايا الذهنية إذن يستحيل في الخارج، فإن كلا العالمين من سنخ الوجود فإذا استحالت الصدفة في القضايا من حيث هو وجود فقد استحالت في القضايا الخارجية.

الأمر الثاني: التعامل مع الواقع.

كل إنسان - سواء بنظر الفلاسفة وعلماء النفس - يفر من الألم ويذهب إلى النفع، يفر من الضرر وينجذب إلى النفع، فلولا الإيمان الوجداني بأن هناك منشأً يسبب الألم لما فرّ منه، فلولا الإيمان الوجداني بأن هناك منشأ يسبب النفع لما انجذب إليه، لماذا يأكل أو يشرب؟ فلولا إيمانه بمبدأ السببية وأن شرب الماء فيه نفع له لما تناول الطعام ولما شرب الماء، فالإنسان من حيث لا يشعر يسير على وفق مبدأ السببية.

المنبه الثاني: المنبه البرهاني.

وهو الاستدلال بمبدأ عدم التناقض، وهنا نُصعب المادة نوعا ما، الشيخ الرئيس ابن سينا في كتاب الإشارات استدل على مبدأ العلية بمبدأ استحالة التناقض، أي أنه استدل بالثاني على الأول حيث قال: ”إن الشيء إما واجدٌ لمصحح اتصافه أو غير واجد، فإن لم يكن واجداً لمصحح اتصافه لم يصح اتصافه، وإلا لو صح اتصافه مع عدم وجدانه لمصحح اتصافه للزم الناقض وهو مستحيل“، وهنا سنمثل بمثال ثم نطبقه على مبدأ العلية.

المثال:

نقول فلانٌ عالم، زيدٌ عالم، الإنسانُ عالمٌ، فهل الإنسان واجدٌ لمصحح اتصافه بكونه عالماً؟ فهل هناك عنده علم أم أنه فارغ؟ فإذا كان واجداً لمصحح اتصافه بالعلم فاتصافه بالعلم طبق للمصحح، أما إذا قلت أن الإنسان فاقد لمصحح الاتصاف بالعلم ومع ذلك يصح اتصافه بالعلم إن هذا تناقض، فهو فاقدٌ لمصحح اتصافه بالعلم ومع ذلك يصح اتصافه بالعلم فإن هذا تناقض، وخلف لعدم امتلاكه للمصحح، وكذلك في المعلول والعلّة، فنأتي إلى الماء ونضعه على النار فيصبح الماء حاراً، فنقول: هل الماء واجدٌ لمصحح اتصافه بالحرارة؟ إذا قلتم نعم، تم المطلوب، وأما إذا قلتم أن الماء ليس واجداً لما يصحح اتصافه بالحرارة - معنى الصدفة - ومع ذلك يصح اتصافه بالحرارة صار جمع بين النقيضين، فاقدٌ لما يصحح اتصافه بالحرارة لأنه ليس له علة - وهذا معنى فقده - فالماء فاقد لما يصحح اتصافه ومع ذلك يصح اتصافه بالحرارة فإن هذا تناقض، فأثبتنا مبدأ العلية بمبدأ استحالة التناقض، فنقول من المستحيل، فإن لكل شيء ليس له مصحح لاتصافه أن يتصف، أي الصدفة مستحيلة.

وهذا نعتبره منبهاً وليس دليلاً، فالعقل بمجرد أن يلتفت إلى الوجود والصدفة يرى أن الوجود صدفةً مستحيل بلا حاجة للاستدلال بمبدأ عدم التناقض.

النقطة الثانية: مبدأ السنخية.

قلنا أن المبادئ أربعة - الهوية، امتناع التناقض، العلية، السنخية - ومبدأ السنخية هو المبدأ الأخير، ومن يقرأ كتاب «فلسفتنا» في هذا الباب أو يقرأ كتاب «أصول الفلسفة» فقد يتوهم أو يتصور ان نتيجة العبارات أن مبدأ السنخية هو مبدأ رابع مستقل، بينما مبدأ السنخية ليس إلا تطبيق من تطبيقات مبدأ العلية.

معنى مبدأ السنخية هو: لكل معلول علّة تسانخه وإلا لصدر كل شيء من كل شيء، فمثلا تصدر التفاحة من الخروف، وصدرت النار الكلام، فلو لم يكن هناك سنخية بين المسبب والسبب لصدر كل شيء من كل شيء، وهذا باطل قطعا، فالتفاحة لا تولد إلا البذرة، والبيضة الدجاجة لأجل السنخية.

لكن هل مبدأ السنخية مبدأ مستقل عن مبدأ العلية؟ نقول لا، وذلك لأن المقصود مبدأ السنخية هو أن الأثر ناشئ عن خصوصية في ذات المؤثر، فالأثر هو الحرارة، والمؤثر هو النار، فالحرارة ناشئة عن خصوصية في النار، فلو لم تكن هناك خصوصية في النار لم تكن النار مصدراً للحرارة، فالمقصود بمبدأ السنخية هو أن الأثر ناشئ عن خصوصية في ذات المؤثر، وخصوصية ذات المؤثر - النار - ناشئة عن نفس النار، أي مقومة لها، فلولا أن النار متقومة بالطاقة الحرارية لما أنتجت حرارةً، فنشؤ الحرارة من النار لخصوصية في النار، وتلك الخصوصية مقومة لحقيقة النار وهي أن النار طاقة حرارية، فلأجل أن النار طاقة حرارية أنتجت الحرارة، ومن المحال أن ينشأ الأثر عن الذات بلا خصوصية في الذات تقتضي نشوء الأثر، وإلا لو كانت النار لا تملك الطاقة الحرارية فمن المستحيل أن تكون منتجة للحرارة وهذا يرجع لذات مبدأ العلية، إذ لو نشأ الأثر - الحرارة - عن الذات - النار - من دون خصوصية في النار تقتضي إنتاج الحرارة للزم الترجيح بلا مُرجح، فلماذا تنتج حرارة ولا تنتج تفاحة، فإذا لم يكن فيها خصوصية فلماذا تُنتج هذا دون هذا؟ فإذا كانت النار لا تمتلك أي خصوصية فلماذا لا تُنتج التفاح؟ لماذا تُنتج حرارة؟ فإن إنتاجها للحرارة دون التفاح هو ترجيح بلا مرجح، والترجيح بلا مرجح هو عبارة عن استحالة الصدفة، لأنه بمجرد أن تقول ترجح شيء بلا مرجح يعني وُجد صدفة، وإلا كيف وُجد بلا مرجح، فأرجعنا مبدأ السنخية إلى مبدأ العلية وهو استحالة الصدفة.

إذن استحالة أن ينشأ الأثر عن مؤثر بلا خصوصية في المؤثر ترجع إلى استحالة الترجيح بلا مرجح، واستحالة الترجيح بلا مرجح هي بيان آخر عن استحال وجود الشيء صدفة، وهذا هو عبارة عن مبدأ العلية فمبدأ السنخية صغرى وتطبيق لمبدأ العلية وليس منفكاً عنه.

والحمد لله رب العالمين

[1]  سبق أن تحدثنا عنه مفصلاً في الدرس التاسع عشر.
[2]  الدكتور زكي نجيب محمود يتبع المدرسة الوضعية المنطقية، وهذه مدرسة من مدارس المذهب التجريبي، فهي مدرسة من مدارس المذهب التجريبي، وسنمر عليها في المستقبل.
[3]  كتاب «نحو فلسفة علمية» ص 179.
[4]  من يلاحظ كتاب «فلسفتنا» وكتاب «الأسس المنطقية للاستقراء» يجد أن السيد الصدر يركز على الدكتور زكي نجيب في كلا الكتابين، فالدكتور زكي له عدة كتب فلسفية، وهو الذي كتب ثناء كبيراً على السيد الصدر عندما كتب السيد الصدر كتاب الأسس المنطقية للاستقراء فكتب زكي نجيب محمود أنه أول كتاب في هذا العالم «الأسس المنطقية للاستقرار».