الدرس 23 | وقفة مع فليسين شاله في كتابه ميثودولوجي

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

الملاحظات على التوجه الفلسفي لفليسين:

الملاحظة الثانية:

قال شاله[1] : أن مبدأ العلية اُستفيد من الاستقراء، واستشهد على ذلك بأن كل إنسان حتى الطفل بل حتى الحيوان إذا رأى حدثاً فإنه يتوقع تكرر الحدث، مثلاً إذا رأى أن النار تُحْدث دخاناً، وهذا التوقع  توقع تكرار الحدث  هو بنفسه دليل على مبدأ العلية، فمبدأ العلية اُسْتنبط واُسْتفيد من استقراء هذه النظرة البشرية بل الحيوانية أيضاً القائمة على توقع تكرار الحدث، ومن هنا جاءت الملاحظة الثانية وهي أن هناك فرقاً جوهرياً بين قانون العلية وقانون تداعي المعاني، وما ذكره شاله مرتبط بقانون تداعي المعاني وليس مرتبط بقانون العلية، وبيان ذلك:

أن قانون العلية قانون بديهي يُدرِكه الإنسان بلا حاجة إلى استقراء وبلا حاجة إلى تجارب، وقانونُ العلية هو الذي يقوم بتطبيقه الإنسان من حيث لا يشعر على كل تجربة بلحاظ مبادئه الثلاثة التي سبقت الإشارة إليها، فإن الإنسان إذا رأى أن الفلز يتمدد بالحرارة في ألف مرة فإنه يُدرك هذه النتيجة وهي أن الفلز يتمدد بالحرارة؛ لأنه يؤمن بمبدأ العلية، فهو يؤمن بثلاثة مبادئ، المبدأ الأول استحالة الصدفة لذلك يقول حتماً هناك علة لتمدد الفلز، والمبدأ الثاني أنه كلما حدثت العلة حدث المعلول بمقتضى قانون السنخية بينهما، إذن كلما حدثت حرارة بدرجة معينة حدث تمدد، والمبدأ الثالث وهو أن هذه الضرورة بين حدوث الحرارة وحدوث التمدد هي عامة لجميع الظروف ولجميع الأزمنة وهذا ما نعبر عنه بمبدأ حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد؛ فلأن الإنسان يؤمن ببداهته بهذه الأمور الثلاثة ويقوم بتطبيقها من حيث لا يشعر على كل تجربة حادثة ولولا هذا التطبيق لما أنتجت التجربة، هذا هو قانون العلية الذي يدركه الإنسان ببداهته ولا يحتاج إلى أن يقوم باستقراء لجميع الأذهان الإنسانية والحيوانية كي يصل إلى مبدأ العلية بل هو مؤمن بمبدأ العلية بالبداهة.

أما قانون تداعي المعاني الذي اتكأ عليه شاله والذي استفادَهُ من ستيوارت ميل، حيث ذكر أن الانتقال من جزئي إلى جزئي هو تداعي المعاني وهو الموجود في ذهن كل إنسان واستفاده أيضا ميل من هيوم - أي هيوم وميل ومن ثم شاله - ساروا على رؤية واحدة وهي الاتكاء على قانون تداعي المعاني، وقانون تداعي المعاني هو عبارة عن الانتقال من جزئي إلى جزئي ومن مثال إلى مثال، فعندما يرى الإنسان مثلاً أن هناك دخاناً فيستدل بالدخان على وجود النار، وبعد ذلك كلما رأى غيمة سوداء انتقل ذهنه إلى وجود دخان مع أنه قد لا يكون هناك دخان وأن وراء هذا الدخان نار، وهذا هو ما يسمى بتداعي المعاني بأن ينتقل من صورة جزئية إلى صورة جزئية أخرى من دون أن يكون بينهما ارتباط واقعي، وهو الذي يُعَبِّرُ عنه المناطقة بالتمثيل  الانتقال من مثال إلى مثال ومن جزئي إلى جزئي ومن دون أن تكون بينهما رابطة  وهذا القانون - قانون تداعي المعاني - هو الذي اتكأ عليه شاله فقال أن كل إنسان حتى الطفل بل كل حيوان إّذا رأى حادثة فإنه يتوقع تكرر الحادثة لأنسه بتداعي المعاني، لذلك يتوقع أن يحصل ما يشابه ما حصل له، فلو فرضنا أن إنسانا أنه يوما خرج إلى مكان وصار اصطدام فالآن كلما يرى ازدحاما فإن هذا لا علاقة له بقانون العلية بل هو مستند إلى قانون تداعي المعاني، فقانون تداعي المعاني قانون لا ربط له بمبدأ العلية في شيء، لذلك يقول الشيخ المطهري رحمه الله [2] : ”إن تداعي المعاني لون من الانتقال من جزئي إلى جزئي وكلما كان الذهن أكثر بساطة وكان العقل أشد ضعفاً كان السبق الذهني إلى تداعي المعاني“ يعني الناس الذين عندهم تداعي المعاني أكثر هم الذين يعيشون بساطة في التفكير لأنه كلما كان الذهن قوياً صار يتوغل في البحث عن العلل والأسرار وما دام الذهن ضعيفاً بسيطاً فهو ينتقل دائماً من مثال إلى مثال ومن دون أن يكتشف الروابط والأسرار بين الأمثلة فهو إذن يعيش في إطار تداعي المعاني، لذلك إذا قوي العقل صار يستند إلى مبدأ العلية وقبل ذلك كان يستند إلى قانون تداعي المعاني، وكلا القانونين موجودان لدى الإنسان بالفطرة، لا أن مبدأ العلية مستفاد من الاستقراء كما ذكر شاله في استدلالاته.

الملاحظة الثالثة:

سبق في الجلسة السابقة أن قلنا بأن شاله توقع أن هناك دوراً وتصدى لدفعه، فما هو الدور؟

قال شاله: ”لا يمكن أن تنجح التجربة - أي تجربة - إلا إذا استندت إلى مبدأ العلية، ومبدأ العلية لا يمكن الإيمان به إلا إذا استندنا إلى التجربة، إذ لو لم نقم بالتجربة وهي استقراء كل الأذهان البشرية لما توصلنا إلى مبدأ العلية، فالتجربة تستند إلى مبدأ العلية ومبدأ العلية مستند إلى التجربة وهذا دور“ فأصبحت التجربة تسند إلى التجربة، فلما توجه شاله إلى أن كلامه يلزم منه الدور قال بأن هناك فرق بين التجربة الأولى والتجربة الثانية، "فالتجربة العلمية المستخدمة في العلوم الطبيعية - كعلم الفيزياء وعلم الطب وعلم الأحياء - هي التي تستند إلى مبدأ العلية، وأما التجربة التي اعتمدنا عليها واستفدنا منها مبدأ العلية فليست تجربة علمية وإنما تجربة سطحية عامية بمعنى أننا قمنا باستقراء الذهن الإنساني والحيواني ووجدنا أن هذا الذهن عندما تحدث حادثة يتوقع تكرارها واستنتجنا من هذا أن هناك مبدأ يسمى مبدأ العلية، ففرق بين التجربتين ولا يوجد دور.

يقول الشيخ المطهري في الإشكال على شاله لقضية الدور: "لماذا تصدى شاله بكل قوة لدفع محذور الدور؟ لأنه في دخيلة نفسه يؤمن أن الدور باطل وممتنع ولا يمكن أن يكون فتصدى لدفعه، فلو لم يكن في دخيلة نفسه مؤمنا بأن الدور باطل وممتنع لما تصدى لدفعه وإنكاره، وهنا من أين آمن بأن الدور باطل حتى تصدى لدفعه وما هو دليله على بطلانه؟ فأنت قلت أن مبدأ العلية استفيد من التجربة، فهل يمكن أن يستفاد امتناع الدور من التجربة أيضاً؟ فإذا كنا سنرجع المبادئ العقلية والأصول العقلية كلها إلى التجربة كما أرجعتم مبدأ العلية إلى التجربة إذن امتناع الدور هل هو مستفاد من التجربة أيضا؟ فهذا أمر غير معقول؛ لأن التجربة أمر وجودي والأمور الوجودية لا يُستدل بها إلا على القضايا الوجودية، وامتناعُ الدور قضية عدمية وليست قضية وجودية، فالدور ممتنع يعني أن الدور محال أن يحصل وأن يوجد فإذن هي قضية عدمية، والقضية العدمية لا يُمكن الاستدلال عليها بالأمر الوجودي وهو التجربة، فلو سلمنا معكم جدلاً أن مبدأ العلية استفيد من التجربة، لكن لا يمكن أن نُسلم معكم أن كل الأصول العقلية استفيدت من التجربة ومنها امتناعُ الدور، فإن امتناع الدور قضية عدمية والقضية العدمية لا يمكن أن يستند في تحقيقها إلى الأمر الوجودي ألا وهو التجربة.

المحطة الثانية: في الفرق بين الاستدلال القياسي والاستدلال الرياضي.

لا إشكال أن الدليلين وهما القياس والدليل الرياضي كلاهما دليل عقلي لا علاقة لهما بعالم التجربة، فكما أن القياس دليل عقلي فنقول «أن محمد إنسان وكل إنسان يفنى، إذن محمد يفنى» فهذا دليل عقلي ولم نستند فيه إلى التجربة، «المادة متغير وكل متغير حادث، إذن المادة حادثة» دليل عقلي، كذلك الدليل الرياضي لا نستند فيه إلى التجربة فعندما نقول «زوايا المثلث تساوي قائمتين» دليل عقلي ولم نستند فيه إلى التجربة، «4+4 = 8» هو أيضاً دليل عقلي لا نستند فيه إلى التجربة، لكن ما هو الفرق بينهما حيث أن كلاهما عقلي لا يستند فيه إلى التجربة؟ شاله قال: إن الأول  القياس  انتقال من الكلي إلى الجزئي، والثاني  الدليل الرياضي  بالعكس، أي انتقال من الجزئي إلى الكلي، فالأول انتقال من الكلي إلى الجزئي واضح، «فمحمد إنسان وكل إنسان  أخذنا القضية الكلية أولا  يفنى إذن محمد يفنى» فانتقلنا من العام إلى الخاص، من الكلي إلى الجزئي، وأما في الرياضيات كيف يكون انتقال من الجزئي إلى الكلي؟ فحتى يثبت ذلك ذكر أمرين:

الأمر الأول: بما أن الدليل الرياضي والدليل القياسي يشتركان في أنهما عقل لا يستند إلى تجربة لا بُد أن نوحدهم في التعريف فنختار تعريفاً يشملها معاً، وسمى هذا التعريف بالاستدلال الإنتاجي، وهذا الاستدلال الإنتاجي ينطبق على القياس وعلى الدليل الرياضي، ويَقصد بالاستدلال الإنتاجي هو عنوان يشمل القياس الصوري  الأرسطي  والدليل الرياضي المشتركين في عدم الحاجة للتجربة، فإن حقيقته - حقيقة الاستدلال الإنتاجي - هي كلام مؤلف من قضايا تكون بين مفرداتها رابطة ضرورية. ولنطبق هذا التعريف على القياس أولاً «محمد إنسان، وكل إنسان له شعور، فمحمد له شعور» لدينا هنا قضيتان وبين مفرداتها توجد رابطة ضرورية لأن محمد من أفراد الإنسان، وبين الإنسانية والشعور أيضا توجد رابطة ضرورية لأن الإنسانية مساوقة للشعور فلأجل أن بين مفردات هذا الكلام روابط ضرورية صار منتجاً، وهذا المعنى موجود أيضاً في الدليل الرياضي لوجود روابط ضرورية بين مفرداته وهذا قد يتضح في الجواب عن الاستدلال.

الأمر الثاني: قال لكن يوجد فرق بينهما وهو أن الفارق بين الدليلين أن الاستدلال القياسي يعتمد على رابطة الاندراج بينما الاستدلال الرياضي يعتمد على رابطة التساوي والتعادل، وهناك فرق بين الاندراج والتساوي، فالاندراج يعني عام وخاص حتى يندرج الخاص ضمن العام فلهذا أصبحت الرابطة ضرورية، فعندما نقول أن محمد إنسان، ف «محمد» خاص وإنسان «عام»، إذن محمد يندرج في الإنسان، وقول «وكل إنسان له شعور» أيضا أدخلت الإنسان ضمن شيء أعم منه وهو ذو شعور، بالنتيجة محمد داخل ضمن إنسان والإنسان داخل ضمن ذي الشعور إذن محمد داخل ضمن ذي الشعور، وهذه العلاقة تسمى بعلاقة الاندراج، فالإنتاج في الاستدلال القياسي السر فيه أن هناك عملية اندراج الخاص تحت العام، بينما الاستدلال الرياضي لا يوجد خاص وعام بل مساواة، فعندما نقول «4+4 = 8» فهنا لا يوجد خاص وعام، بل «4+4» طرف و«8» طرف وأحللنا أحد المتعادلين محل الآخر، أو عندما نقول «زوايا المثلث تساوي قائمتين» هي نفسها قائمتين تساوي زوايا المثلث أيضاً فأحللنا أحد المتساويين محل الآخر، فلماذا صار الاستدلال الرياضي منتجا؟ لأنه قائم على رابطة ضرورية وهي رابطة التساوي فلذلك صار منتجاً، فالفرق بينهما مع أن كليهما منتج هو أنه قائم على رابطة الاندراج وهذا قائم على رابطة التساوي.

أما الشيخ المطهري رحمه الله قال: غير صحيح، فالاستدلال الرياضي ليس فيه أي مساواة بل هو قائم على مبدأ الاندراج، والاستدلال الرياضي هو مصداق من مصاديق القياس وليس شيئاً آخر، ”ويلاحظ عليه أن الاستدلال الرياضي ينحل إلى قياسين والثاني منهما هو قياس صوري منطقي يعتمد على الانتقال من الكلي إلى الجزئي“.

ومن خلال تطبيق ما قاله الشيخ المطهري في الرياضيات قال: إذا قلنا «أ= ب، ب = ج، إذن أ = ج»، وهذه المعادلة «أ = ج» إذا حللناها فهي تحل إلى قياسين وهما «أ = ب» و«ب = ج» ف «أ» يساوي ما يساوي «ج» وهذا هو القياس الأول، وهذا القياس بمثابة مقدمة من مقدمات القياس المنطقي، وبما أن «مساوي المساوي مساوي»  قضية كلية  إذن «أ = ج»، فالرياضي من حيث لا يشعر يستخدم القياس وتطبيق الكبرى على الصغرى، وينتقل من الكلي إلى الجزئي، فإذن الاستدلال الرياضي داخل تحتَ القياس شئنا أم أبينا، ”ويلاحظ عليه أن الاستدلال الرياضي ينحل إلى قياسين الثاني منهما قياس صوري يعتمد على الانتقال من الكلي إلى الجزئي والنتيجة هي أن الاستدلال الرياضي من مصاديق القياس والذي يعني الانتقال من الكلي إلى الجزئي“.

المحطة الثالثة:

قال شاله: أنا أؤمن بأن الاستدلال الرياضي انتقال من الجزئي للكلي.

في العلوم الطبيعية - حسب كلامهم - أن الدليل التجريبي هو انتقال من الجزئي إلى الكلي، فما هو الفرق بينهما؟ فعندما نقول «هذا فلز، وكل فلز يتمدد بالحرارة، فهذا يتمدد بالحرارة» وهذه القضية استفدناها من استقراء الجزئيات، فَهُم يرون أن الدليل التجريبي انتقال من الجزئيات إلى قاعدة كلية عامة  انتقال من الجزئي إلى الكلي  أيضا الدليل الرياضي عندهم انتقال من الجزئي إلى الكلي، إذن ما الفرق بينهما؟

قال: ”الفرق بين التعميم في العلوم الرياضية والتعميم في العلوم الطبيعية مع أن كليهما انتقال من الجزئي إلى الكلي أن الثاني  العلوم الطبيعية  يحتاج إلى التجربة دون الأول“، يعني التعميم الرياضي لا يحتاج إلى إقامة تجربة بينما التعميم التجريبي يحتاج إلى إقامة تجربة إلا أنَّ كليهما انتقال من الجزئي إلى الكلي، وهذه مجرد دعوى لم يُقِم عليها أي دليل، ولذلك كان الجواب عنها من قبل الشيخ المطهري واضح، والجواب عنه مبني على مقدمتين:

المقدمة الأولى: لا يُعقل التصديق بالنتيجة الرياضية من دون برهان، فإذا قال أحدهم مثلاً أن زوايا المثلث تساوي قائمتين فهل يمكن أن تصدق بها من دون برهان؟! لا يمكن ذلك، بل ستقول إذا أخذنا سهماً من قاعدة المثلث إلى رأسه بمجرد أن نقيمه ستتولد لدينا زاويتان وكل زاوية منهما سيكون حدها 90 ْ، إذن نتيجة ذلك أن زوايا المثلث تساوي قائمتين يعني تساوي 180 ْ، ولو لم نقم بهذا البرهان لما صدقنا بالنتيجة لأنه من المستحيل أن تصدق بنتيجة رياضية من دون برهان.

المقدمة الثانية: بما أن التصديق بالنتيجة الرياضية لابد له من برهان إذن البرهان يعني الانتقال من الكلي إلى الجزئي، فما دام لا يمكن التصديق بالنتيجة الرياضية من دون برهان إذن يوجد في كل استدلال رياضي انتقال من الكلي إلى الجزئي لأن البرهان متقومٌ عليه، وأما المثال فإننا أقمنا البرهان على هذه الأمثلة وقلنا «4+4 = 8» وأيضاً قلنا «أ= ب، ب = ج، إذن أ = ج»، لكن هذه الأمثلة للتصور فقط وليس للتصديق، إنما نستخدم الأمثلة في علم الرياضيات من أجل تصور القاعدة لا من أجل التصديق بها وإلا التصديق بالقاعدة يُبْنى على البرهان بالضرورة، وبما أن التصديق يستند إلى البرهان فالبرهان هو عبارة عن انتقال من الكلي إلى الجزئي ولا خصوصية للأمثلة.

فتلخص من ذلك في النقاش في المحطة الثالثة أن الفرق بين التعميم في العلوم الرياضية والتعميم في العلوم الطبيعية هو لا فرق، فكل تعميم يحتاج إلى الانتقال من الكلي للجزئي في العلوم الرياضية والطبيعية والفلسفية فلا يمكن التعميم ما لم تستند إلى الأصول العقلية، والأصول العقلية هي عبارة عن انتقال من الكلي إلى الجزئي.

المحطة الرابعة: [3] 

لماذا يؤمن الانسان بالأصول العقلية وباستحالة التناقض وبمبدأ العلية؟ ولماذا يؤمن الإنسان بمبدأ الهوية «كل شيء هو هو وليس غيره» ويؤمن بأن النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان... لماذا يؤمن الإنسان بكل هذه الأمور؟

هنا يقر العلماء التجريبيون أنهم في داخل أنفسهم يؤمنون بهذه القضايا لكن ما هو سر الإيمان بها؟ ففتحوا زاويتين:

الزاوية الأولى:

السر في الإيمان بها أنها وليد الحاجات الفردية والاجتماعية، فلأن المجتمع البشري يعيش حاجات فردية وحاجات اجتماعية دعته هذه الحاجات لاختراع هذه الأصول العقلية وإلا فالأصول العقلية ليس لها أساس، وإنما دعت الحاجة لاختراعها والقول بها وإلا ليس عليها دليل، فلو افترضنا أن الانسان أصبح مريخياً فقد تختلف حاجاته وإذا اختلفت حاجاته ربما يتوصل لأصول عقلية غير هذه الأصول، فهذه الأصول هي وليدة الحاجات الفردية والاجتماعية.

هذا المعنى يجيب عنه العلمان المطهري والصدر بأن هذا خلط بين القضايا الاعتبارية والقضايا الحقيقة، فالقضايا التي تنتجها الحاجة تسمى قضايا اعتبارية، وفرق بينها وبين القضايا الحقيقية، والقضايا الاعتبارية قسمان، فهناك قضايا اعتبارية مستقرة وقضايا اعتبارية متغيرة، ومثال على القضايا الاعتبارية المستقرة «السنة 360 يوماً، الشهر 30 أو 29 يوم، الأسبوع 7 أيام، اليوم 24 ساعة، والساعة 60 دقيقة، والدقيقة 60 ثانية» لكن هل هذا التقسيم واقعي أم هو اعتباري؟ فإنه في الواقع لا يوجد 360 يوما وليس هناك إلا أرض متحركة حول الشمس، فهذا التقسيم هو تقسيم اعتباري دعت إليه الحاجة، ولا يمكن تنظيم حياتنا إلا في إطار تقسيم فتوافقوا على التقسيم، إذن الحاجة البشرية فردية أو اجتماعية فرضت على المجتمع البشري أن يقوم بتقسيم الوقت، فهذا التقسيم هو قضية اعتبارية مستقرة لا تتغير لأنه لو تغيرت لفسدت الحياة.

وهناك قضايا اعتبارية متغيرة كقضية نظام المرور في الشرق الأوسط يختلف عن نظام المرور في بريطانيا، فحاجة المجتمع البشري في بريطانيا تقتضي نظام مرور بشكل معين، وحاجة المجتمع البشري في الشرق الأوسط تقتضي نظام مرور بشكل آخر، فنظام المرور قضية اعتبارية متغيرة، ولو كانت الأصول العقلية - كاستحالة التناقض، مبدأ العلية، مبدأ الهوية - قضايا ناتجة عن الحاجة لكانت قضايا اعتبارية، والحال بأنها قضايا حقيقية سابقة على الاعتبار وسابقة على إدراك الحاجات البشرية، فهي قضايا يدركها الانسان بفطرته قبل أن يدرك الحاجة وقبل أن يؤسس على الحاجة قضايا اعتبارية معينة، ويتبين من الشق الثاني.

الزاوية الثانية:

قالوا بأن هذه الأصول العقلية إنما آمن بها الانسان اضطراراً؛ لأنه لو لم يؤمن بها لما أمكنه أن ينتج في أي علم من العلوم، فاضطر إلى الإيمان بها من أجل أن يحقق الإنتاج، فهل المقصود بالاضطرار أن الذهن عندما يتصورها يراها قضية كاذبة لكنه مضطر أن يعول عليها حتى ينتج؟ مثلاً إذا تصورت في نفسي النقيضين وتصورت الاجتماع، فعقلي لا يحكم بأن النقيضين لا يجتمعان إنما أنا مضطر لأن ألقن عقلي بذلك من أجل الإنتاج لا أكثر، وهذا هو معنى القضية الاضطرارية.

فإذا كان هذا هو معنى الاضطرار وإنتاج العلوم قائم عليه، إذن جميع نتائج العلوم لا قيمة لها لأنها نتائج اضطرارية، والنتيجة تتبع أخس المقدمتين، فإذا كانت المقدمة غير برهانيه وغير بديهية وإنما هي قضية اضطرارية، فما بني على القضية الاضطرارية لا قيمة له، إذن ليس لدينا علم منتج.

وأما لو كان معنى القضية الاضطرارية أن الذهن متى ما تصورها آمن بها بلا حاجة إلى دليل، وهذا ما ذكرناه في أحد الجلسات في القضايا الانتزاعية وفسرناها بهذا، فالذهن بمجرد أن يتصور السقف والأرض مبرمج أن يقول هذا فوق وهذا تحت، وبمجرد أن يدرك الأمس واليوم يقول ذاك قبل وهذا بعد، فالقضايا الانتزاعية، وهي قضايا يؤمن بها الذهن بجبلته بمجرد أن يتصورها، فإذا كان المقصود بالقضية الاضطرارية أي أن الذهن بمجرد أن يتصور الموضوع وهو النقيضان ويتصور المحمول وهو لا يجتمعان يؤمن بأن هذا هو هذا بلا حاجة إلى أي دليل وهذا معناه أنها قضايا بديهية، فلأنها قضايا بديهية فلا تحتاج إلى وساطة دليل، فإذا كان المقصود بالاضطرار أنها لا تحتاج إلى دليل في إذعان الإنسان بها فإن هذا معناه أنها قضايا بديهية ومعنى أنها قضايا بديهية هو توقف سائر العلوم عليها، وإلا هل تؤمن بنتيجة التجربة؟ يقول نعم أؤمن بنتيجة التجربة، وهل إيمانك بنتيجة التجربة اضطراري أو عن قناعة؟ يقول عن قناعة، فإذا كانت القناعة في التجارب إنما نشأت عن هذه الأصول العقلية، فلا يُعقل أن يكون إيمانك بالتجربة عن قناعة مع استناد هذا الإيمان على هذه الأصول العقلية ومع هذا يكون إيمانك بالأصول العقلية لا عن قناعة بل عن اضطرار.

والحمد لله رب العالمين

[1]  كتاب علم الأساليب / فليسين شاله
[2]  كتاب أصول الفلسفة / الجزء الثاني / ص 139
[3]  لم يقلها شاله إنما أدرجها الشيخ المطهري ضمن كلامه لأن الكثير من العلماء التجريبين يشتركون في هذه المحطة.