الدرس 25 | تأملات فلسفية حول نظرية السيد الصدر في مبدأ السببية

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

تعرض السيد الشهيد قدس في كتابه[1]  للاستقراء إلى عدة كلمات ومضامين:

المضمون الأول: السببية العدمية [2] .

السببية العدمية تعني استحالة الصدفة، فلا يعقل أن يوجد شيء صدفة أو جزافاً، وذكر السيد «قدس سره» ثلاثة أمور حول السببية العدمية:

الأمر الأول: السببية العدمية قبلية لا فطرية.

معنى أن السببية العدمية قبيلة أي لا يتوقف الإيمان بها على التجربة وأن إيمان الإنسان بالسببية العدمية سابق على التجربة ولا يحتاج أن يقوم بالتجربة حتى يؤمن بها، والإنسان يؤمن باستحالة الصدفة وباستحالة أن يوجد أي حادث صدفة حتى لو لم يقم بأية تجربة وهذا هو معنى أنها قبلية، وفي نفس الوقت هي ليست فطرية، فكيف إذن حصلت إذا لم تكن متوقفة على التجربة؟ إن إيمان الإنسان بالسببية العدمية يتوقف على نمو القدرتين العقلية واللغوية، وما لم تنمو هاتان القدرتان - العقلية واللغوية - لا يمكنه أن يؤمن بالسببية العدمية، فالسببية العدمية هي قضية إسنادية أي عندما يقول الذهن «لا يوجد الشيء صدفة» فهذه قضية، و«يَستحيل أن يوجد صدفة» فهذه قضية، و«لا يُمكن أن يوجد شيءٌ بلا سبب» هي قضية، فكقضية كيف يصل الذهن لها وهي لا تتوقف على التجربة؟! إذن لابد أن تكون لدى الذهن قدرة على إدراك القضايا وما دامت هذه قضية إذن لا يمكن أن يدركها الذهن إلا إذا امتلك القدرة على إدراك القضايا وتأليفها وبالتالي سيكون قادراً على إدراك هذه القضية ألا وهي «الشيء يَستحيل أن يوجد صدفةً».

متى يتمكن الذهن من إدراك القضايا؟

إذا نَمت له قدرتان قدرة عقلية وقدرة لغوية:

القدرة العقلية: فهي قدرة الذهن على التجريد والتعميم والتركيب، فالذهن - مثلاً - يُدرك صورة إنسان أمامه وهذه ليست قضية بل صورة واحدة، وحتى يحتاج أن يكون قضية يقوم أولا بالتجريد أي تجريد هذه الصورة عن ظروفها؛ لأن هذه الصورة انطبعت في الذهن ضمن ظروف معينة ووقت معين ومكان معين وشكل معين... إلخ، ومن ثم التعميم فلكل صورة نقاط مشتركة ونقاط خاصة، فيقوم الذهن بالتسليط على النقاط المشتركة من الصورة لينتزع منها جامعاً نُسميه «صورة الإنسان» مثلاً، ومن ثم نأتي لقدرة التركيب «رجلٌ أسمر، رجل أمامي، إنسان يتكلم» فيؤلّف قضية من موضوع ومحمول، وهذه القدرة نسميها القدرة العقلية التي لابد أن تنمو عند الإنسان.

القدرة اللغوية: وهي القدرة على الترميز، فلا يستطيع الإنسان - كما ذكرنا سابقا - أن يُؤلِّفَ قضايا إذا لم تكن لديه رموز في ذهنه، فليس بالضرورة أن تكون لغة، فبالترميز هو يرمز إلى الموضوع وإلى المحمول ويرمز إلى القضية.

وبعد أن امتلك الإنسان القدرة على التجريد والتعميم والتركيب والترميز أصبح قادراً على تأليف قضايا، وعندما أصبح قادراً على تأليف قضايا قال يستحيلُ أن يوجد الشيء صدفة، فهذه القضية - وهي السببية العدمية التي هي عبارة عن استحالة الشيء صدفة - هي قضية قبلية ولا تحتاج إلى تجربة ولكنها ليست فطرية، بمعنى أن إدراكها يتوقف على نمو القدرتين العقلية واللغوية.

الأمر الثاني: نمو القدرتين يتوقف على الإيمان بواقع الإحساس لا واقع المحسوس.

لدينا فرق بين واقع الإحساس وواقع المحسوس، فمثلاً عندما أضع يدي في الماء الحار يكون لدي إحساس بالحرارة وهذا هو ما نسميه واقع الإحساس، وأما ما وراء هذا الإحساس في الحقيقة من وجود حرارة في الخارج أم توهم لوجودها هو ما نسميه واقع المحسوس، فالإنسان يؤمن أولا بواقع الإحساس، وإذا لم يؤمن به لا يمكن أن تنمو لديه القدرتان العقلية واللغوية، فلابد أن يحسَّ بشيء ونتيجة الإحساس به يَنقشُ صورة، ونتيجة نقش الصورة كذلك تحتاج إلى إحساس، فإذا أحسست بالحرارة نقشت صورةً للحرارة وبعد أن أَحسستُ بصورة الحرارة حينئذ يأتي الذهن ويتمرن على التجريد والتعميم والتركيب، وهذا فرع الإيمان بواقع الإحساس حتى لو لم يكن هناك إيمان بوجود واقع محسوس، ولذا حتى السفسطائيين الذين لا يؤمنون بالواقع  يؤمنون بأننا نعيش أحلاماً وأوهام  يؤمنون بأن لهم إحساساً ولكنهم لا يؤمنون بأنَّ وراء الإحساس وجوداً للمحسوس، إذن لابد من الإيمان بالإحساس؛ لأنه إذا آمن الإنسان بالإحساس آمن بوجود صورة في ذهنه بإحساسه بها، وحيث آمن بوجود صورة في ذهنه انطلق الذهن في فعالياته، فنمو القدرتين يتوقف على الإيمان بواقع الإحساس لا بواقع المحسوس.

النتيجة - كما يقول السيد الصدر - هي لا تستطيع أن تؤمن بالسببية العدمية  وهي استحالة وجود صدفة  إلا إذا آمنت بواقع الإحساس، فالطفل الصغير ما لم يشعر بشيء لا تأتي هذه الخطوات كلها بل لابد أن يشعر بشيء أولاً ومن بعدها ترتسم صورة في ذهنه ومن ثم يعمل الذهن بتجريد وتعميم وتركيب ومن ثم يصل إلى إدراك قضية بديهية ألا وهي «لا يوجد الشيءُ صدفة».

الأمر الثالث: الإيمان بواقع الإحساس شرط في خروج الحكم بالسببية من القوة إلى الفعل.

ربما أحدهم يقول إذا كان الإيمان بالإحساس سبباً للإيمان بالسببية إذن أصبحت السببية متوقفة على نفسها وهذا دور، فالإيمان بواقع الإحساس ليس سبباً وعلّةً للإيمان بواقع السببية العدمية حتى لا يلزم الدور ولا يتوقف الشيء على نفسه، ولهذا «شرط» أي معد فَنحنُ نُدْرِكُ الألوانَ إذا انعكس الضوء على الجسم أدركت اللون، ولكن وجودَ اللون ليس مُسَبَّباً عن الضوء، فكل جسم له خاصية وتلك الخاصية هي السبب في اللون، فكل جسم له خصوصية وتلك الخصوصية هي سبب وجود اللون، إذن الضوء مجرد «شرط» يعد النظر لإدراك اللون، فاللون لا يتوقف وجوده على الضوء بل يتوقف على وجود الخصوصية في الجسم، أما انعكاس الضوء يُعدُّ البصر لرؤية اللون، وهنا يقول السيد «طاب ثراه»: ”عندما نقول لابد من نمو القدرتين العقلية واللغوية، ونمو القدرتين يتوقف على الإيمان بواقع الإحساس“ فإن هذا كله ليس علة وليس سبباً لقانون السببية، فقانون السببية كامن مختزن في ذهن الإنسان ولكنه يحتاج إلى شرط ليثيره ويخرجه من القوة إلى الفعلية، من الإبهام إلى الوضوح وهذا المثير وإلا هو موجود ومختزن في عقل الإنسان وغاية ما في الأمر أن هذا المختزن لا يوجد صدفة بل فقط يريد مثيراً يخرجه، وهذا المثير هو نمو القدرتين العقلية واللغوية المستند إلى الإيمان بواقع الإحساس.

فتلخّص من ذلك: أن قانون السببية قبلي بمعنى سابق على التجربة، لا فطري بمعنى توقف خروجه من القوة إلى الفعل على شرطٍ وهو نمو القدرتين والإيمان بواقع الإحساس.

تعليق بسيط على السيد: نقول صحيح ما قلته أن الإيمان بالسببية يتوقف على شيء، لكن المتوقف عليه علم حضوري أم علم حصولي؟ بمعنى أن الإنسان على نحو العلم الحضوري موجود عنده الشعور سلفاً وهو شعور الإنسان بالأشياء ومنها نفسه، وشعور الإنسان بنفسه مُسْتَبْطنٌ ومُتَضَمّنٌ إلى أن هذه النفس لا توجد صدفة، وهذا الشعور بنحو العلم الحضوري يتوقف عليه الإيمان بالسببية على نحو العلم الحصولي، وأما العلم بالسببية بنحو العلم الحضوري لا يتوقف على هذا الشيء، ولعل مقصود السيد الجيد هو هذا وإلا ما معنى كامنٌ في النفس ومُخْتزنٌ فيها ولا يخرجُ من القوةِ إلى الفعلية إلا بشرط، إما أن قانون السببية موجود أو معدوم وعندما تقول يخرج من القوة  العدم  إلى الفعلية معناها أنه كان معدوم وأصبح موجود فإذا كان خروجه من القوة إلى الفعلية يعني من العدم إلى الوجود متوقف على نمو القدرتين والإيمان بالواقع الموضوع بالإيمان بواقع الإحساس أصبح الإيمان بواقع الإحساس سبباً لخروجه وهذا لا يمكن، فلابد أن يُقال هكذا: أن الإيمان بالسببية العدمية  أي استحالة وجود الشيء صدفة  موجود وليس معدوم لكن على نحو العلم الحضوري، يعني موجود على مستوى شعور وارتكاز، فكيف يفسر الإنسان مشاعره؟! وجود الشعور شيء وتفسير الشعور شيء آخر، فالشعور علم حضوري وتفسير الشعور علم حصولي، وقانون السببية العدمية موجود بالفطرة بمعنى موجود كعلم حضوري وكشعور وارتكاز، ولكن هذا الشعور حتى يخرج إلى العلم الحصولي وحتى يُصْبح قضية تفصيلية مرتسمة في الذهن يحتاج إلى نمو القدرتين العقلية واللغوية والاستناد إلى الإيمان بواقع الإحساس، وهذه كلها مقدمات، وهذه المقدمات هي شرط في خروج الشيء من علم حضوري إلى علم حصولي، ولعل هذا المقصود وإلا لا يُتصور أن يتوقف الإيمان بالسببية على شيء وذلك الشيء ليس سبباً.

المضمون الثاني: السببية الوجودية. [3] 

السببية الوجودية هي عبارة عن ضرورة منطقية بين ظاهرتين، وتلك الضرورة المنطقية ناشئة عن ولادة إحدى الظاهرتين من الأخرى، مثلا لدينا نار وحرارة، فالحرارة جاءت من داخل النار، ولذلك عند تعريف النار يُقال بأنها طاقة حرارية، حرارةٌ تولد حرارة، فالحرارة وجود مختزن في رحم النار تُفيضه بين حين وآخر، إذن بين الحرارة وبين النار ضرورة منطقية فكلما وجدت النار وجدت الحرارة، ولابد من الإيمان بهذه الضرورة المنطقية التي بينهما لأجل ولادة الثانية وهي الحرارة من رحم الأولى وهي النار، وهذه الضرورة المنطقية نسميها بالسببية الوجودية.

فرق بين أن نقول لا يوجد الشيء صدفة  سببية عدمية  وبين أن نزيد على ذلك ونقول بل يتولد وجودياً من رحم ظاهرة أخرى  سببية وجودية فوق السببية العدمية  فالإيمان بالسببية الوجودية يتوقف على الدليل الاستقرائي على دليل حساب الاحتمالات، وهنا وقف السيد أمام الفلاسفة وقال: لا يمكن للإنسان أن يؤمن بسببيه وجودية إلا بعد دليل حساب الاحتمالات[4] ، وأن أٌمَّ القضايا هو دليل حساب الاحتمالات، وأقل قضية لا تستطيع إدراكها إلا بدليل حساب الاحتمالات، وأبده قضية لدى الإنسان أن يدرك أنه موجود هي قضية تحتاج لدليل حساب الاحتمالات، ويجريه كل إنسان عند إدراك وجوده لأول مرة من حيث لا يشعر.

كيف تُدْركُ السببية الوجودية؟

تبدأ بالمقارنة فكلما أشرقت الشمس استشعرنا الحرارة، وكلما رئي برق سُمِعَ الرعد وهكذا، فبمجرد أن نستقرأ هذه الظواهر نستنتج بأن هناك سببية، وإنما وصلنا للإيمان بالسببية الوجودية التي تعني ضرورة منطقية بين ظاهرتين عندما رأينا عدة ظواهر في حياتنا تتبعها ظواهر أخرى، فآمنا بوجود ضرورة منطقية بين الظواهر المعبر عنها بالسببية الوجودية.

إن الذهن البشري كما يستخدم الاستقراء وتجميع الاحتمالات لإثبات أن هناك واقعاً للأشياء فإنه يستخدم الاقتران بين الظواهر المختلفة كاقتران البرق والرعد، واقتران ضوء الشمس وحرارتها، واقتران حرارة البدن والألم، فيقارن بين ظواهر الاقتران المتعددة فإذا استقرأ عدّة ظواهر للاقتران نتيجة تجميع الاحتمالات آمن بأن وراء الاقتران ما يسمى بالسببية الوجودية، ويكفي في إيمان الذهن بمبدأ السببية الوجودية أن يُدرك أن هناك علاقةً ضرورية بين صورتين وهما صُورة البرق وصورة الرعد، وإن لم يؤمن بأن وراءَ الصورتين واقعا موضوعياً، فلا يتوقف الإيمان بالسببية الوجودية على الإيمان بواقع ويكفي أن يؤمن أن في ذهنه صورتين مقترنتين، فكلما جاءت صورة البرق في ذهنه جاءت معها صورة الرعد، وكلما جاءت صورة الشمس في ذهنه جاءت معها صورة الحرارة، وكلما جاءت صورة الحرارة في بدنه جاءت معها صورة الألم، فالاقتران بين الصورتين في الذهن كلما تكرر حصل للإنسان احتمال وجود سببية إلى أن يؤمن بوجود سببية وجودية بين الأشياء.

إذن الإيمان بالسببية الوجودية لا يتوقف على الإيمان بواقع يكفي الاقتران بين الصور للإيمان بواقع العلية أو السببية الوجودية، بمعنى أننا لا نحتاج إلى إثبات مبدأ السببية إلى إثبات الواقع الموضوعي للأشياء.

المضمون الثالث: السببية التجريبية.

السببية التجريبية تعني السببية الخاصة، لكن كيف يؤمن الإنسان بوجود سببية خاصة؟

لا محال يحتاج إلى أمرين: استقراء وإيمان بالواقع.

مثلاً: «أرى أن حركة الإنسان في السيارة مستندة لحركة السيارة، وحركة السيارة مستندة إلى المكينة، والمكينة مستندة على الطاقة»، فهذا الانتقال من شيء إلى شيء هو عبارة عن البحث عن السببية الخاصة  السببية التجريبية  وذهاب الإنسان إلى البحث والفحص عن السببية الأولى يسمى بالسببية التجريبية، فلا يمكن لإنسان أن يؤمن بالسببية التجريبية لو لم يؤمن بوجود واقع، وهنا احتجنا إلى الإيمان بواقع المحسوس فلو لم نؤمن أن وراء الحس واقعاً لما بحثنا عن السببية الخاصة أي السببية التي اكتشفناها بالتجربة.

ولذلك قال - قدس سره -: أن الإيمان بالسببية التجريبية يتوقف على أساس ظاهرة الحضور والغياب، فكلما وُجِدَت ظاهرة حركة السيارة وُجِدَت الطاقة  حضور  ولكن ليس كلما وُجِدت الطاقة وُجِدَت حركة السيارة، لأن الطاقة من الممكن أن تُولِّد شيئاً آخر، فإذن حركة السيارة معلول والطاقة علة لأن المعلول لا يمكن أن يحضر بدون حضور العلة، لكن يمكن أن تحضر العلة ولا يحضر المعلول للاحتياج إلى شرائط أخرى، وهذا معنى ظاهرة الحضور والغياب.

هذا ما أفاده السيد الجيد قدس ولكن هنا مجموعة من الملاحظات:

الملاحظة الأولى: وتتألف من أمور:

الأمر الأول: التفكيك بين السببيتين.

ذكر السيد أن الذهن يُدرك السببية العَدمية  وهي استحالة الصدفة بلا حاجة إلى المنطق الاستقرائي وتجميع الاحتمالات  وإن كان يحتاج في إدراك السببية العدمية إلى معاينة القضايا الحسية كشرط لإثارة الذهن نحو هذه القضية الأولية  وهي أن الشيء يستحيل أن يُوجد صدفة 

وأما السببية الوجودية  وهي ولادة ظاهرة من رحم ظاهرة أخرى  فهي مستفادة من الدليل الاستقرائي؛ أي أن الذهن إنما يؤمن بالسببية الوجودية إذا أجرى الدليل الاستقرائي لعدة ظواهر فرأى أن هناك قَدَراً مُشْتَركاً بين الظواهر، وذلك القدر المشترك بين الظواهر هو مبدأ السببية فيتحقق الإيمان بها.

الأمر الثاني: لا يمكن التفكيك بين السببيتين.

نعم لا يكن التفكيك بين السببيتين وذلك لرجوع مبدأ السببية عند تحليله إلى عدة أسئلة:

الأول: بعد أن أدركت أني موجود، يأتي السؤال «هل وُجِدْتُ بلا مرجح؟» كنت معدوماً وأصبحت الآن موجوداً مما يعني أنني خرجت من الاستواء إلى الترجح  بتعبير الفلاسفة  فهل يمكن أن أخرج من حالة الاستواء إلى حالة الترجح بدون أي مرجح؟

الجواب: لا يمكن ذلك، وهذا يعني استحالة وجود الشيء صدفة، فمن أدرك وجوده أدرك أنه لا يمكن أن ينتقل من حالة الاستواء إلى حالة الترجح بدون مرجح.

الثاني: لا يمكن أن أُوجَدَ بلا مرجح، فهل المرجح من ذاته أم من غيره؟ فعندما قلت يستحيل أنه صدفة، ويستحيل أن أنتقل من حالة الاستواء إلى حالة الوجود بلا مرجح إذن من أين أتى هذا المرجح؟ كل شيء سببه إما من ذاته أو من غيره ولا يوجد شق ثالث غيرهما.

يُعبّر المحقق الداماد: تَذَوُّتُ الذات وشيئية الشيء إما من ذاته أو من غيره، تَذَوُّتُ الذات تعني صيرورة الشيء، والصيرورة هي الَتذَوُّتُ، فهذه الصيرورة وجدت حرارة  أصبحت ذات  فوجود الحرارة إما من ذاتها أو من غيرها، ولا يحتمل الذهن شقا ثالثا بالفطرة، وهذا السؤال هو السببية الوجودية متفرع تلقائيا عن السؤال الأول، ولا يوجد فاصل بينهما أو مقدمة دخيلة، فبمجرد أن تطرح على نفسك السؤال الأول يأتي السؤال الثاني، وحيث يستحيل أن يكون الشيء سبباً لوجود نفسه وإلا لكان الشيء متقدم على نفسه، وتقدم الشيء على نفسه محال إذن أوجده غيره ولا يوجد شق ثالث.

الثالث: ما هو ذلك الغير الذي أوجد الشيء؟ السببية التجريبية هي التي يعبر عنها أهل الفلسفة «ما بالعرض يرجع إلى ما بالذات» فحركة المفتاح جاءت من حركة اليد، وحركة اليد جاءت من الإرادة التي تمثلت بالأعصاب، فما بالعرض وهو حركة المفتاح ترجع إلى ما بالذات ألا وهي الإرادة.

بناء على ما ذكرناه أتضح لنا أن النكتة التي اقتضت الإيمان بالسببية العدمية هي نفس النكتة التي اقتضت الإيمان بالسببية الوجودية ولا تفكيك بينهما، والنكتة التي اقتضت الإيمان بالسببية العدمية هو إدراك الإنسان للوجود، فبمجرد أن أدرك الإنسان الوجود جاء السؤال الأول الذي لا جواب له إلا بالإيمان بالسببية العدمية، وبمجرد أن يجيب عن السؤال الأول فلا جواب عن السؤال الثاني إلا بالإيمان بالسببية الوجودية، والنكتة التي اقتضت أن تؤمن بالسببية العدمية  وهي إدراك الوجود  هي التي اقتضت الإيمان بالسببية الوجودية، ونفس النكتة التي اقتضت قبلية الإيمان بالسببية العدمية هي التي اقتضت قبلية الإيمان بالسببية الوجودية بلا حاجة إلى الاستقراء وتجميع الاحتمالات.

الأمر الثالث: لا يتوقف الإيمان بالسببيتين - العدمية والجودية - على الإيمان بالواقع الموضوعي، فلا يُحتاج أن تؤمن أن هناك واقعاً في الخارج، بل يكفيك في الإيمان بالسببية إدراك وجودك، ولا يوجد إنسان لا يدرك وجوده، فيكفي لكي تؤمن بالسببيتين أن تدرك أنك موجود وأنك ذات من دون الحاجة للإيمان بالواقع الموضوعي للمحسوسات.

الأمر الرابع: قال راسل أن الدليل الاستقرائي يتوقف على مبدأ السببية، ولكن السيد الصدر يخالف راسل في رأيه ويقول أن الدليل الاستقرائي لا يتوقف على مبدأ السببية بل يتوقف على عدم رفض السببية، لا على الإيمان بها.

والحمد لله رب العالمين

[1]  كتاب الأسس المنطقية.
[2]  سبق منا في الجلسة السابقة تقسيم السببية إلى ثلاثة أقسام: السببية العدمية والسببية الوجودية والسببية التجريبية.
[3]  السيد لم يشرحها في كتابه، نذكرها اعتماداً على ما ذُكِرَ في كتب الفلسفة.
[4]  كتاب الأسس المنطقية للاستقراء قائم على ذلك.