الدرس 26 | نقد علاقة الدليل الاستقرائي ومبدأ السببية عند الشهيد الصدر

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ما زال الكلام فيما طرحه الشهيد الصدر في أن مبدأ السببية الوجودية إنما يَصِلُ الإنسان إلى الإيمانِ بهِ عبر الدليل الاستقرائي، فهو وإن كان مبدأً تتوقف عليه كثيرٌ من الاستنتاجات لكنه لا يمكن أن يؤمن الإنسان به إلا من خلال الاستقراء كما إذا رأى ظاهرة الترابط بين الرعد والبرق أو بين الحرارة والنار أو بين حركة المفتاح وحركة اليد فإذا مرّت عليه وتكررت عليه ظاهرة الاقتران والترابط بين الحوادث الوجودية فَلَسوفَ يصل إلى الإيمان بمبدأ السببية الوجودية.

هنا من أجل أن يتضح وجه المناقشة في كلامِه نَتعرّض إلى نقطة الاختلاف بينه وبين الفلاسفة الآخرين - منهم الفيلسوف راسل - حيث أن الفلاسفة الآخرين يعتقدون أن الاستقراء لا يُمكن أن يكون مُنتجاً إلا إذا سبقه الإيمان بالسببية الوجودية، أي لا يُمكن لأي استقراء أن يكون منتجا - أي موصلا لنتيجة جزمية - إلا إذا سبقه الإيمان بمبدأ السببية، فلا يُعقل لدى الفلاسفة أن يتوقف الإيمان بمبدأ السببية على الاستقراء، مع أن إنتاج الاستقراء يتوقف على الإيمان بمبدأ السببية؛ لكن السيد الصدر يقول: ”إن الإيمان بالسببية الوجودية ليس شرطاً ضروريا لدليلية الاستقراء“ فيمكن أن يكون الاستقراء دليلا وإن لم يسبقه الإيمان بمبدأ السببية الوجودية، ”وإنما انتاج دليل الاستقراء - أي إنتاج نظرية الاحتمال - بتكرار التجارب“ فعلى أي أساس نحن نكرر التجارب إذا لم نكن نؤمن بالسببية؟ يقول احتمال مبدأ السببية، فيكفي في نجاح الدليل الاستقرائي وإنتاجه احتمال مبدأ السببية، ولا يُشترط الجزم بمبدأ السببية، فلماذا يمارس الإنسان التجربة؟ لأنه يحتمل السببية ولذلك يمارس التجربة وإن لم يؤمن بمبدأ السببية، وبعبارة دقيقة وردت في كلامه يقول: ”إن إنتاج المنطق الاستقرائي يتوقف على عدم رفضٍ قبلي للسببية“ فالمهم أن لا ترفض السببية لا أن تؤمن بالسببية، فقبل أن تقوم بأي استقراء فإنه لا بُد أن لا يكون رفض قبلي للسببية إذ لو كان عندك رفض قبلي للسببية لم يكن الاستقراء منتجاً لا محالة، أما إذا لم يكن هناك موقف رافض مسبقاً فبالنتيجة ”يمكن أن يكون الدليل الاستقرائي يكفي في مسيرة الدليل الاستقرائي وانتاجه احتمال السببية الوجودية ولا حاجة إلى الإيمان ببداهتها“ كما يقول الفلاسفة، وهذا ملخص كلامه ونحن بصدد مناقشة هذا الكلام الذي خالف فيه الفلاسفة من أننا لا نحتاج أن نؤمن مسبقاً بمبدأ السببية بل يكفي الاحتمال، ولذلك ذكر السيد الصدر هنا أن هذا لا يتوقف على مبدأ السببية وإنما يتوقف على عدم رفضها، وهذا خلافا للفيلسوف راسل - بل والفلاسفة - والتأمل في كلامه يبتني على أمور:

الأمر الأول: ما هي السببية الوجودية؟

لا بدُ من معرفة «السببية الوجودية» حتى نَعْرِف أنه لا بُد من الإيمان بها قبل الاستقراء أم لا، فنرجع إلى نفس كلامه في فلسفتنا [1]  وهو يشرح لنا معنى «الفلسفة الوجودية» حيث يقول: ”إنّ هناك ألوان من الارتباط كارتباط الرسام باللوحة التي يرسم عليها، والكاتب بالقلم الذي يكتب به، والقارئ بالكتاب الذي يقرأ فيه“ - ارتباطات حسية موجودة - ”ولكن لكل واحد من الشيئين المرتبطين وجوداً خاصاً سابقاً على ارتباطه بالآخر، فالرسام له وجود واللوحة لها وجود ثم ارتبطا، فالارتباط حاصل بعد الوجودين، فارتباط الإنسان بالقلم بعد الوجود ثم عرض لهما الارتباط“، فالارتباط في هذه الأمثلة علاقة تعرض للشيئين بصورة متأخرة عن وجودهما، فلذلك الارتباط شيء ووجودهما شيء آخر، بينما ارتباط حركة المفتاح بحركة اليد فمختلف، فهنا وجودان، حركة اليد وحركة المفتاح، فارتباط حركة المفتاح بحركة اليد ليس متأخراً عن وجودهما بل هو عين وجودهما، أي لا وجود لحركة المفتاح قبل حركة اليد، فوجود حركة المفتاح عين الارتباط بحركة اليد، بمعنى أن حركة المفتاح لا تمتلك وجوداً بصورة مستقلة عن ارتباطها بحركة اليد، ليس مثل اللوحة والرسام، فهنا أساس وجود حركة المفتاح هو ذات الارتباط بحركة اليد، فلو كانت حركة المفتاح تمتلك وجوداً وراء ارتباطها بسببها لم تكن حركة المفتاح معلولةً لحركة اليد، ولا منبثقة عنها ولا ناشئة منها فالسببية بطبيعتها تقتضي أن لا يكون للمسبب حقيقة وراء ارتباطه بسببه، وهذا ما يقول عنه صدر المتألهين الشيرازي من أن السر في احتياج الوجود الخارجي للسبب هو في وجوده، فلا يمكن أن يوجد بدونه، فَسِرُّ حاجة المسبب إلى السبب كامنة في إمكان وجوده وهو ما يعبر عنه بالإمكان الوجودي، فالإمكان الوجودي هو عين التعلق والارتباط بالسبب فلا يمكن أن يستغني عنه ويرتبط به.

إذن معنى السببية الوجودية هو أن المسبب هو عين الارتباط بالمسبب، فالمسبب هو عين الارتباط وعين التعلق بالسبب وهذا معنى السببية الوجودية.

الأمر الثاني: قانون الحتمية وقانون التناسب والسنخية.

هذا ما ذكر قدس سره في فلسفتنا [2]  حيث قال: ”بعد المفروغية عن احتياج المسبب للسبب - وهذا الاحتياج هو عبارة عن عين الارتباط والتعلق - يتفرع قانونان، قانون الحتمية وقانون السنخية“، حيث قال ”إذا سقطت العلية ونظامها الخاص من حساب الكون يُصبح من المتعذر تماما تكوين نظرية علمية“ وهذا معاكس تماما لما في الأسس المنطقية، فلا يمكن أن تؤسس نظرية علمية إذا سقط الإيمان بالسببية ونظامها الخاص، ويصبح من المتعذر تماما من تكوين نظرية علمية في أي حقل من الحقول، وليتضح هذا يجب أن نُشير إلى عدة قوانين في المجموعة الفلسفية للعلية التي يرتكز عليها العلم، فلا علم بدون علية. ما هي هذه القوانين؟

القانون الأول: قانون الحتمية.

هذا القانون قائل بأن كل سبب يولد النتيجة الطبيعية بصورة ضرورية، ولا يمكن للنتائج أن تنفصل عن أسبابها، أي متى ما وجدت ارتباطا بين الحرارة والنار وتكرر هذا الارتباط فإنك تؤمن بأن الحرارة لا يمكن أن تولد بدون سببها، وهذا معنى الحتمية، وهذه نأتي إليها من جانب المعلول، ولا يمكن أن يولد المعلول دون العلة، فأنت بمجرد أن تقول أنه عين الارتباط إذن لا يمكن أن يحصل بدون العلة، فمن الطبيعي تفرع قانون الحتمية على مبدأ العلية، فبما أن المسبب عين الارتباط بالسبب إذن من المستحيل أن يوجد مسبب بلا سببه الوجودي، وهذا معنى الحتمية.

القانون الثاني: قانون التناسب والسنخية.

قال: ”إن كل مجموعة متفقة في حقيقتها من مجاميع الطبيعة - النبات مجموعة، والجماد مجموعة، والحيوان مجموعة، والنبات أنواع - يلزم أن تتفق في الأسباب والنتائج، وهذا ما يعبر عنه بالسنخية بين المعلول والعلة“، فلكل معلول علة من سنخه، فكل مجموعة في عالم الطبيعة أسبابها منها، ونتائجها منها أي من نفس حقيقتها وسنخها.

ومن الواضح أن القانونين الأخريين - الحتمية والسنخية - منبثقان عن مبدأ العلية، فلو لم تكن في الكون عليّة وكان الأشياء تحدث صدفة لم يكن من الحتم أن يوجد الإشعاع [3]  بدرجة معينة حين تكون هناك ذرة راديوم، أو فقل لم يكن من الحتم أن توجد الحرارة حين تكون هناك نار أو توجد حركة المفتاح حين تكون هناك حركة اليد، وليس من الضروري أن تشترك كل الحرارات أو حركة المفتاح في رجوعها لهذا السبب.

كيف نفهم السنخية؟

نرجع إلى ما ذكره أهل الحكمة في هذا المجال، ونحن قد ذكرنا أن معنى الحتمية أنه لا يمكن أن يولد المسبب إذا وجد السبب، فالآن معنى السنخية ما وُجد هذا السبب يوجد ذاك المسبب، فقانون السنخية مساوق لقانون الاطراد، فكلما وجد هذا السبب بعينه يوجد ذاك المسبب بعينه، فالمسبب ممكن والممكن متساوي الطرفين، فيحتاج انتقاله من العدم إلى الوجود إلى شيء وإلا يبقى على حالة التساوي، فلا يعقل وجوده بناء على مبدأ السببية لأن وجوده مع تساوي الطرفين ترجيحٌ بلا مُرجِّحٍ وهو خُلْفُ قانون مبدأ السببية، فلو فُرِضَ أَنَّهُ وجد المرجح - حيث كان في حالة استواء - ووجد المرجوح وهو اشتعال النار، فإذا فرض أنه وجود المرجح لكي يخرج من حالة التساوي إلى حالة الوجود فإنه إما أن يوجد أو لا يوجد - والمرجح قد وُجد - فإن قلتم أنه لا يوجد فإنه لزم من هذا المساواة بين حالة الاستواء وحالة وجود المرجح، فالمرجح موجود ومع هذا لم يخرج من الاستواء الوجود ولا فرق بين حالة الاستواء ووجود المرجح وهذا خلف كونه مرجحاً، فإما أنه يلزم من وجود المرجح وجوده أو لا يلزم، فإذا اخترنا أنه لا يلزم إذن تساوت حالة الاستواء مع حالة المرجح ولم يبقَ فرق بينهما - وهذا خلف - فإنه على نفس النكتة التي قلنا باستحالة الترجيح بلا مرجح - نقطة الخلف - تقتضي أنه لا يمكن أن يبقى على حالة الاستواء مع تمامية وجود المرجح لأن هذا خلف كونه مرجحاً، لنفس النكتة، إذن متى ما حصل هذا السبب لا بُد أن يحصل هذا المسبب وإلا هذا خُلف عدم التساوي بين حالة الاستواء وحالة وجود المرجح.

إذن بناءً على مبدأ السببية لا بُد من القول بقانوني الحتمية وقانون السنخية.

الأمر الثالث: إن إنتاج الدليل الاستقرائي يتوقف على السببية والحتمية وأن الاتفاقي لا يكون أكثرياً ولا دائمياً.

وبيان أن الاتفاقي لا يكون أكثرياً ولا دائمياً فإن هذه الجملة «الاتفاقي لا يكون أكثريا ولا دائميا» فإذا رأينا شيئا أكثرياً هو ليس باتفاقي، فإذا رأينا «دائما أو أكثراً» فدائما أو أكثراً إذا وجدت النار وجدت الحرارة، دائماً أو أكثراً إذا وجدت حركة اليد وُجدت حركة المفتاح، فإن هذه الحالة ليست اتفاقية بل هي مسبب عن هذا، فالسيد الصدر في فلسفتنا يعتبر أن هذا مبدأ عقلي واضح، أما في الأسس المنطقية يقول أن هذا لم يثبت إلا بالتجربة فمن أين لكم أن الاتفاقي لا يكون أكثرياً أو دائمياً؟! فما هي النكتة العقلية التي اقتضت أن تقولوا أن الاتفاقي لا يكون أكثرياً ولا دائمياً، فإن هذه مصادرة، فسببية سلمنا بها وحتمية سلمنا بها، أما أن الاتفاقي لا يكون أكثريا ولا دائمياً فإن هذه مصادرة ولا دليل عليها سوى التجربة، فنحن استقرأنا كل الارتباطات ووجدنا أنه ليس ثمة ارتباط يدوم أو يكون أكثر إلا وله سبب وإلا ليس العقل، فالاتفاقي لا يكون أكثرياً ولا دائميا فإن هذه توصلنا لها بالاستقراء لا أن هذه المبادئ القبلية السابقة على الاستقراء والتجربة.

ونحن نُريد أن نقول ان كلامه في فلسفتنا هو الأصح، فالاتفاقي لا يكون أكثريا ولا دائمياً هو قانون متفرع على السببية الوجودية ولا يُعقل انفكاكه عنها فهو من المبادئ العقلية السابقة على الاستقراء، ونصوغ ذلك بأحد وجهين:

الوجه الأول: الاقتران نفسه هو حادث.

أنت تقول أنك ترى دائماً اقتران بين الحرارة والنار واقتران بين حركة المفاتح واليد فإن هذا الاقتران حادث فهو لم يكن ثم كان، وتكرر الاقتران أيضا أمر حادث فهو لم يكن ثم كان، فبما أن الاقتران وتكرار الاقتران حادث والحادث يحتاج إلى سبب فإذا كان الحادث يحتاج إلى سبب فكلما حصل سببه حصل بمقتضى قانون الحتمية، فالاقتران حادث والحادث له سبب فبالنتيجة كلما حصل سبب الاقتران حصل الاقتران، وكلما حصل الاقتران حصل سببه بمقتضى أنه حادث يحتاج إلى سبب، فبمقتضى أن الاقتران عين الارتباط بسببه، فما دام الاقتران مسبب والمسبب عين الارتباط بسببه إذن لا يمكن أن يحدث اقتران إلا مع حدوث سببه وهذا يعني أن الاقتران الدائمي أو الأكثري يكشف عن علته معه فكلما حدث حدثت معه علته معه.

الوجه الثاني: الواحد لا يصدر منه إلا واحد.

هذه الصياغة تعتمد على قانون تعرض له السيد العلامة في نهاية الحكمة [4]  حيث ذكر هناك ”الواحد لا يصدر منه إلا الواحد، والواحد لا يصدر إلا من واحد، فلا يعقل اجتماع علل كثيرة على معلول واحد“ فأنت ترى اقترانا بين حركة المفتاح وحركة اليد، فلا يمكن أن تكون حركة المفتاح بلا سبب لأن الكل يقول بأن وجود الحادث صدفة غير معقول - وهذا الذي أسميناه بالسببية السلبية أو العدمية وقد مر بيانه - ولا يمكن أن يكون تحقق لحركة المفتاح إلا بسبب وجودي معها - وهو السببية الوجودية - لأن وجود المسبب عين الارتباط بسببه، وكذا فرغنا عن الحتمية وهو أنه لو لم يحصل سبب وجودي لحركة المفتاح لما حصلت فمتى حصلت حصل ذلك السبب، وهنا قد يقول أنه في كل مرة هناك سبب، ففي كل مرة تحصل حركة المفتاح فإنها تستند إلى سبب يختلف عن السبب السابق، فمن أين يكشف وجود المسبب كلما تكرر عن سبب واحد حتى تُثبتوا مبدأ السنخية من أنه في كل مرة يحصل لا بُد من سبب مسانخ له، من أين؟ السيد العلامة يقول لا يجتمع علل كثيرة على معلول واحد، فالواحد لا يصدر منه إلا واحد، والواحد لا يصدر إلا من واحد، وبيان هذه القاعدة هو:

يقولون أنه لو أمكن صدور الشيء من غير سنخه كأن تصدر الحرارة من الشجرة أو التفاحة من الخروف أو الخروف من المكينة وأمثال ذلك لصدر كل شيء من كل شيء، وصدر من كل شيء كل شيء، فلو لم تكن هناك سنخية بين المعلول والعلة بمعنى أن كل مجموعة من الوجود لها سبب واحد من سنخها، ولصدر كل شيء من كل شيء، ولصدر من كل شيء كل شيء، والحال أن الواقع الوجداني يُكذب أن يصدر كل شيء من كل شيء أو يصدر من كل شيء كل شيء، وبعبارة نحن نتداولها في ما بيننا، لنفترض أن هذا المعلول مباين بالحقيقة للعلة، فهذا المعلول هو تفاحة وهذه العلة - المفترضة علة - حيوان، فلو صدر هذا من هذا للزم من هذا أن يكون فاقد الشيء معطيا له، فإذا لم يلتقيا في حقيقة واحدة - أي في سنخ وجودي واحد - يلزم أن يكون فاقد الشيء معطيا له ومباينا له، فهما وإن كانا مشتركان في الوجود والحياة فإن هذا ليس كافياً في العلية، وإلا لماذا استند هذا لهذا ولم يستند لذاك، فإن هذا معناه أن الاشتراك في الوجود والاشتراك في الحياة ليس كافيا لتولد هذا من هذا، إذن لو لم يكن بينهما ارتباط في حقيقة واحدة للزم أن يصدر المباين مباينه وفاقد الشيء لا يعطيه.

فهذه هي القاعدة العامة التي نُسميها السنخية، فمعنى قاعدة السنخية هي اشتراك المعلول مع العلة في حقيقة واحدة، ويشترك المعلول مع العلة لوجهين:

  • الأول: أنه عين الارتباط بالعلة، فكيف يُعقل أن يكون عين الارتباط به بحيث لا وجود له إلا به وهو ليس من حقيقته؟!
  • الثاني: أنه لو لم نقل بذلك للزم من ذلك أن يكون فاقد الشيء معطياً له.

التطبيق لهذه القاعدة، نأتي إلى حركة المفتاح أن حركة المفتاح كلما تتكرر نجد معها حركة يد، ففي كل مرة تستند إلى علة غير العلة الأولى، فإن لازم ذلك اجتماع علل كثيرة على معلول واحد لأن حركة المفتاح - لما نقول واحد يعني واحد بالحقيقة لا بالعدد، فالفلاسفة يعنون الواحد بالحقيقة لا بالعدد وإلا الشجرة تُنبت آلاف التفاح فالكلام بالحقيقة والسنخ وإلا قد يكون واحداً بالحقيقية والسنخ ولكنه كثير بالعدد ولكنه علة واحدة وإن كثيراً بالعدد، وأما لو كان واحداً بالنوع لكن له حقائق مختلفة كالحرارة فحرارة النار تختلف عن حرارة الشمس وحرارة الشمس تختلف عن حرارة الحركة وإن كانت هذه الحرارات تجتمع في جامع نوعي واحد وهو عنوان الحرارة لكن لأن لكل صنف من الحرارة حقيقة لذلك لكل صنف علّة تُناسبه.

إذن المقصود بالواحد هو الواحد بالسنخ والحقيقة وهذا لا يُمكن أن يصدره من إلا واحد، والواحد بالسنخ والحقيقة لا يُمكن أن يولد إلا واحداً بالسنخ أيضا، ولذلك نقول لو اجتمعت علل متعددة على معلول واحد فنسأل «هل بين هذه العلل سنخية؟» أي هل هناك جامع مشترك بينها؟ وأما إذا لم يكن بين العلل الكثيرة جامع مشترك بينها فيلزم أن يكون فاقد الشيء معطياً له لأنه واحد بالحقيقة وهي علل مختلفة بالحقيقة ولا يمكن أن يصدر الواحد بالحقيقة عمّا هو مختلف بالحقيقة إذ يلزم أن يكون فاقد الشيء معطياً له، فلا محالة - لا بُد من القول - أنه متى تكرر ما هو واحدٌ بالحقيقية كشف أن له علة واحدة بالحقيقة، وهذا هو معنى أن الاتفاقي لا يكون أكثرياً ولا دائمياً، فمتى ما رأيته أكثري ودائمي اكتشف أنه ليس باتفاقي وإنما صادر عن علّة واحدة بمقتضى قاعدة السنخية.

إذن تبين لنا من خلال ذلك أن أي استقراء - كأن تُريد أن تثبت أن الحديد يتمدد بالحرارة، أو أن الماء يغلي إذا بلغت درجة حرارته 100° وأي استقراء تقوم به - فإنه ما لم تؤمن بمبدأ السببية والحتمية والسنخية - التي تعني أن الاتفاقي لا يكون أكثريا ولا دائميا - فإنه لا يمكن لهذا الدليل الاستقرائي منتجا نتيجة علمية كما ذكره في كتاب فلسفتنا.

الملاحظة الثالثة: ذكر في كتاب فلسفتنا [5]  أن إنتاج الدليل الاستقرائي يتوقف على الإيمان بالسببية المعرفية.

كيف أخوض استقراءً وأنا لا أؤمن بأن الأدلة توصل للنتائج والذي يعبر عنه بالسببية المعرفية؟! فإنه لا يمكن للإنسان أن يسوق دليلا ما لم يؤمن بأن الدليل يوصل إلى نتائج، فلو لم يؤمن بالسببية المعرفية - وهي أن الإيمان بالنتيجة فرع الإيمان بالدليل - لما ساق دليلا - سواء كان دليلا عقليا أو استقرائيا - فإنه لا يمكن أن تسوق دليلا ما لم يكن هناك إيمان بالسببية المعرفية، وأن الإيمان بالنتيجة يتوقف على الإيمان بالدليل، وأن الإيمان بالنتيجة عين الارتباط بالإيمان بالدليل - كما السببية الوجودية - فكما أن الإيمان وجود الحرارة عين الارتباط بالنار فإن الإيمان بالنتائج عين الارتباط بالإيمان بالدليل فالنكتة واحدة، فإذا كان إنتاج أي دليل استقرائي يتوقف على الإيمان بالسببية المعرفية فكيف باستنتاج أصل السببية؟ فالسيد الصدر يقول أن السببية الوجودية لا يمكن استنتاجها إلا بالاستقراء، فأصل السببية الوجودية ليست مبدأ قبلياً، فالسببية الوجودية يتوقف الإيمان بها على القيام بالدليل الاستقرائي، والمفروض أن الدليل الاستقرائي لا يمكن للإنسان أن يسوقه ما لم يؤمن بالسببية المعرفية، والنكتة في السببية المعرفية هي عين النكتة في السببية الوجودية وهي أن الإيمان بالنتيجة هي عين الإيمان بالدليل، لاحظوا ماذا يقول [6] : ”وهكذا يتضح أن كل محاولة للاستدلال - أي محاولة - تتوقف على الإيمان بمبدأ العلية وإلا كانت عبثاً غير مثمر، حتى الاستدلال على رد مبدأ العلية - أي حتى لو أن أحدهم قال أريد أن أنقض مبدأ العلية فإنك تؤمن بهذا المبدأ من حيث لا تشعر - الذي يحاوله بعض الفلاسفة أو العلماء يرتكز على مبدأ العلية أيضاً؛ لأن هؤلاء الذين يحاولون إنكار هذا المبدأ والاستناد في ذلك إلى دليل لم يكونوا يقومون بهذه المحاولة لو لم يؤمنوا بأن الدليل الذي يستندوا إليه سبب كافي للعلم بالنتيجة، وهذا بنفسه تطبيق حرفي لمبدأ السببية“.

وحتى الآن كلام السيد الصدر في «فلسفتنا» أدق من كلامه في الأسس المنطقية.

والحمد لله رب العالمين

[1]  كتاب «فلسفتا» 294.
[2]  كتاب فلسفتنا ص281.
[3]  هنا هو قد ذكر مثال الإشعاع وذرة الراديوم فلهذا يركز عليها هنا.
[4]  نهاية الحكمة ص 185.
[5]  فلسفتنا ص284.
[6]  ص284.