الدرس 27 | وقفة مع الشهيد الصدر في توقف إدراك السببية الوجودية على الاستقراء

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ما زال الحديث حول مسلك السيد الصدر من أن السببية الوجودية يُمكن اكتشافها عِبْرَ الدليل الاستقرائي، وسَبَقَ فيما مضى أنْ قُلنا بأن أيَّ دليل سواءً كان دليلاً عقلياً أو دليلاً استقرائياً يَتوقف إنتاجه على السببية المعرفية، والمقصود بالسببية المعرفية أن الإيمان بالنتيجة يتوقف على الإيمان بالمقدمات، فكل إنسان ما لم يؤمن بالدليل لن يؤمن بالنتيجة، فتوقف الإيمان بالنتيجة على الإيمان بالدليل هو ما يُعبّر عنه بالسببية المعرفية، فجميع الأدلة لا يمكن أنْ تُنْتِج ما لم يُذعن الإنسان بالسببية المعرفية.

الملاحظة الرابعة:

السيد الصدر والجميع يُسلم أنه لا يمكن إنتاج الدليل الاستقرائي لأي نتيجة علمية بمجرد احتمال السببية، مثلا إذا أردنا أن نستنتج من الاستقراء أن الحديد يتمدد بالحرارة، فإنه لا يمكن أن نصل إلى هذه النتيجة من دون إيمان بالسببية، أي أن مجرد احتمال السببية لا يكفي في الوصول إلى هذه النتيجة؛ لأن احتمال السببية غاية ما يُشكل هو 50% فإن الاحتمال المقابل يشكل أيضا 50%، فعندما نخوض التجارب من أجل أن نستنتج من هذه التجارب أن الحديد يتمدد بالحرارة، فما دمنا نحتمل أن السببية 50% ونحتمل عدم السببية 50% فإن التجربة لن تُنتج شيئاً، أي أننا لو أقمنا التجربة مليار مرة فإننا لن نصل إلى أكثر من أن احتمال سببية الحرارة لتمدد الحديد هي 50%؛ لأننا من الأساس لم نؤمن بمبدأ السببية الوجودية وإنما آمنا باحتمال السببية، أي دخلنا وخضنا الدليل الاستقرائي بناء على احتمال السببية لا بناء على الإيمان بالسببية، إذن النتيجة هي بمقدار المقدمة، فما دامت المقدمة هي 50% يحتمل السببية و50% يحتمل عدمها إذن النتيجة هي أن سببية الحرارة لتمدد الحديد لن تعدو 50%.

وهذا متفق عليه بين السيد الصدر وغيره، ولذلك لا بُد من إثبات السببية الوجودية قبل أن نخوض أي تجربة، فقبل الخوض في أي تجربة علمية فإنه لا بُد من إثبات السببية الوجودية أولاً، ثم بعدها نخوض التجارب، ولو لم نؤمن بالسببية الوجودية فإنه لا يمكن خوض أي تجربة بأي عدد كان بل ستكون التجربة فاشلة ولا ثمرة فيها، إذن المهم هو إثبات السببية الوجودية قبل خوض أي تجربة، فبأي شيء نُثبت السببية الوجودية؟

هذه هي المشكلة، فإن المعروف في الفلسفة أن السببية الوجودية قضية عقلية بديهية قبلية سابقة على جميع الاستقراءات ولذلك لا نحتاج أن نثبتها، فبما أن لدى العقل إيمانا بالسببية الوجودية بالبداهة فلا حاجة للإثبات ونتكأ على هذه القضية البديهية في إجراء التجارب، أما السيد الصدر هو الذي قال أن السببية الوجودية تحتاج إلى إثبات، وإثباتها عبر الدليل الاستقرائي، بمعنى أن الذهن إذا شاهد ظاهرة الاقتران متكررة - كأَنْ رَأى اقتراناً بين الرعد والبرق، والحرارة والنار، وحركة المفتاح واليد، بزوغ الشمس ووصول الحرارة، وهكذا - بأن يستقرئ مظاهر الاقتران في الكون يزداد عنده احتمال وجود سببية وجودية في الكون، فكلما تكررت يتصاعد احتمال السببية الوجودية إلى أن يصل الإنسان إلى اليقين الرياضي بأنَّ في الكون سببية وجودية، وإنما حصل الإيمان بالسببية الوجودية ببركة استقراء ظواهر الاقتران في الوجود، ولولا استقراء ظواهر الاقتران لما وصل الإنسان إلى الإيمان بالسببية الوجودية، وهذا هو مسلكه، ونحن الآن في مقام المناقشة.

إثبات السببية الوجودية بالاستقراء عند السيد الشهيد «قدس سره» يدور بين محتملين - أي لا بُد أن يبني على أحدهما - وهما إما عدم التوقف على الإيمان بالواقع الموضوعي أو التوقف عليه - فنحن نريد أن نخوض الاستقراء الآن ونستنتج من الاستقراء مبدأ السببية الوجودية - فهل يتوقف خوض الاستقراء لكي نصل إلى السببية الوجودية على أن نؤمن بوجود واقع خارجي أم لا؟ - في كلامه لا يحتاج - أم أنه حتى لو لم نؤمن بوجود واقع - كإنسان يشك أن هناك واقعا في الخارج - فهل يمكن أن يعتمد على الاستقراء إلى الوصول إلى الإيمان بمبدأ السببية وإن لم يؤمن بالواقع الموضوعي الخارجي، أم أنه لا بُد من الإيمان بوجود واقع ثم نخوض الاستقراء لكي نصل به إلى الإيمان بمبدأ السببية الوجودية، فهنا نحن بين محتملين:

المحتمل الأول: أننا لا نحتاج إلى الإيمان بالواقع فإن الاستقراء يوصلنا إلى المبدأ - مبدأ السببية - وإن لم يكن هناك إيمان بالواقع الموضوعي، كما هو ظاهر كلمات السيد -.

وهنا نقول: من المستحيل بناء عليه - بناء على عدم التوقف - إثبات السببية الوجودية، فإن لم نؤمن بوجود واقع لن نستطيع بالاستقراء إثبات السببية الوجودية لوجهين:

الوجه الأول: السيد يقول: ”أن إنتاج الاستقراء يتوقف على تصاعد الاحتمال في محور معين، فأنا مثلا أريد أن أثبت أن الحديد يتمدد بالحرارة - وهذا محور معين - فكلما أقمت تجربة فإن الاحتمال يصب في مصلحة هذا المحور إلى أن أصل إلى حد نتيجة تكرار التجربة انمحاء احتمال الخلاف أو غفلة النفس عنه، فإما أن الاحتمال المعاكس - الحديد لا يتمدد الحرارة - ينمحي ولا يبقَ، أو أنه يبقى لكن لضآلته وصغره تغفل النفس عنه، وهذا ما يقرره في الأسس المنطقية للاستقراء، فإن إنتاج الاستقراء يتوقف على تصاعد الاحتمال في محور معين إلى حد انمحاء الخلاف لصغره“.

وهنا سؤالنا: انمحاء احتمال الخلاف أو غفلة النفس عن احتمال الخلاف لضآلة هذا الاحتمال فهل هو متقوّم بعامل سيكولوجي - وهو ما عبرنا عنه «لحاظ المحتمل على نحو ما فيه يُنظر» أم لعامل موضوعي «على نحو ما به يُنظر»؟ فنحن الآن نُصعد الاحتمال إلى أن نصل إلى المحتمل وهو أن الحديد يتمدد بالحرارة؛ لأن هذا المحتمل هو الذي يواجهنا الآن، أما ذاك قد انمحى أو غفلت النفس عنه، أما هذا المحتمل الذي يواجهنا «الحديد يتمدد بالحرارة» فإنه متقوّمٌ بعامل سيكولوجي أي أن الذهن معمل احتمالات تولد احتمالات، فنتيجة عامل سيكولوجي نفسي - كما يُسمى قطع القطاع وهناك قطع بطيء، فهناك نفسيات سريعة في القطع وبعضها بطيئة في القطع، فهناك الوسواسي الذي يُثير الاحتمالات وهنا من تنمحي الاحتمالات بسرعة عنده - فهل انمحاء احتمال الخلاف هل يستند إلى عامل سيكولوجي أم عامل موضوعي؟ أي بمعنى أن هذا الذي رَجَّحَتْهُ النفس ومالت له وطمأنت له فإن النفس لاحظته إلى ما فيه يُنظر فتكون المسألة راجعة لعامل سيكولوجي في الداخل لأنني ألاحظ المحتمل فقط، فهذه الصورة - الحديد يتمدد بالحرارة - حصل لي الاطمئنان إليها بما هي صورة لا بما هي مُعبّرة عن واقع خارجي وهذا معنى أن المحتمل لُوحظ على نحو ما فيه يُنظر، فقد تَرَكّزَ ذهني على الصورة لا ما وراء الصورة، أم أنه لعالم موضوعي والنفس ركنت واطمأنت لا بما هي صورة بل بما هي معبرة عن واقع خارجي، فما اطمأنت به في النفس في الواقع هو التمدد الخارجي، فالنفس لم تطمئن بصورة التمدد وإنما اطمأنت بواقع التمدد أي أنه لعامل موضوعي على نحو ما به يُنظر إلى الخارج؟

إن كان الأول أي أن النفس اطمأنت بهذه الصورة لخصوصية في الصورة أو لخصوصية في داخل النفس فإن نفسه تقطع بسرعة فقطعت بذلك فإنه ليس له قيمة علمية، فأنت مطمئن بأن الحديد يتمدد بالحرارة فإن هذا الاطمئنان لا قيمة علمية له - وهذا يذكره السيد ولا يقول به -.

وإن كان الثاني - أن الاطمئنان بأن الحديد يتمدد بالحرارة لأجل كونه وجها لواقع خارجي - فإن هذا مستحيل من دون إيمان بواقع خارجي، فمن المستحيل أن تطمئن النفس أن الحديد يتمدد بالحرارة من دون إيمان منها بوجود حديد وحرارة وتمدد، فلا يمكن للنفس أن تطمئن للصورة نتيجة حساب الاحتمالات إلا إذا كانت الصورة على نحو ما به يُنظر، فما لم يؤمن بالواقع الخارجي فإنه من المستحيل أن يصل إلى الإيمان بالصورة على نحو ما به يُنظر.

الوجه الثاني[1] : نحن أقمنا الاستقراء، وهذا الاستقراء ليس له علاقة بالإيمان الخارجي، فهناك صورة تأتي إلى الذهن، فأرى صورة اقتران بين الحرارة والنار، وبين حركة المفتاح واليد، وبين الحركة وحرارة البدن، فكل يوم أرى صورة اقتران، فنتيجة مليون صورة اقتران صار عندي اطمئنان بالسببية الوجودية، فنقول أن غاية ما يُنتجه الاستقراء اليقين بالاقتران بين الصور، فهذا نتيجة المشاهدات المتكررة صار عندي يقين أن هناك اقتراناً بين الصور، أما أن منشأ ذلك هل هو خاصية في الذهن لمثير معين بأن يكون ذهني له خاصية وهذا الذهن خاصيته أنه متى ما حصل عنده مثير يقرن بين صورتين، فالقرن بين الصورتين لأجل خاصية في الذهن فقط، أو أن يُحتمل أن يكون منشأ ذلك قانون تداعي المعاني بأحد أسبابه - وقد مر علينا سابقا - وأسبابه إما التضاد أو التماثل أو التقارن، فمتى ما تصورت النور أتصور الظلام فهذا تداعي المعاني للتضاد، ومتى ما تصورت زيداً تصورت أخاه وهذا تداعي المعاني للتماثل، أو للاقتران مثل نظرية بافلو فاقترن الدرس بليلة الجمعة فمتى ما أتت ليلة الجمعة جاءت صورة الدرس، ولعل الاقتران بين الصورتين من باب تداعي المعاني، أو أن سبب ذلك هو خاصية الفعل الموضوعي أي أنهما في الواقع مقترنين ولذلك اقترنا في الذهن، فلأن هناك في الواقع اقترانا بين الحرارة والنار لذلك اقترنت صورة الحرارة في الذهن بصورة النار، فالاقتران بين الصورتين لأن هناك اقترنا في الواقع، أما الاستقراء لا يثبت أي شيء بل فقط يثبت أن هناك اقترنا بين الصورتين، أما منشأ ذلك هو منشأ ذهني أو منشؤه قانون تداعي المعاني، أم منشأه خاصية في الواقع فإن هذا أمر لا يُثبته الاستقراء؛ لأننا جردنا الاستقراء عن الإيمان بالواقع الموضوعي.

"فإن قلت: إن تحليل المشاهدة - مشاهدات كثيرة وتُريد تحليلها - يحتمل العامل الذاتي - الذي أسميناه أن الذهن معملا - ويحتمل العامل الموضوعي - وهو أن وراء الاقتران في الصور اقترانا في الخارج - لكن الثاني يقوى بتكرارها، فكلما كررنا المشاهدات قوي احتمال أن وراء الاقتران بالصور اقترنا بالواقع الخارجي؛ لأنه يستبطن قضية شرطية صادقة وهي أنه لو كان لهذه الصورة واقع موضعي لكانت لها صفة مشتركة تقتضي تكرر الصورة عند الاتصال الحسي، فإذا كان اقتران صورة الحرارة بالنار له واقع؛ إذن هناك قضية مشتركة وهذه تعني أنه كلما اتصل حسي بالنار تأتي صورة الحرارة، ما هي الصفة المشتركة كلما حصل الاتصال الحسي بها جاءت صورة الحرارة؟ جسمية النار، أي أن للنار تجسما وتمثلا في الخارج، فلو كان للاقتران بين الصورتين واقع لكانت هناك صفة مشتركة بين الصور كلها، وتقتضي تلك الصور كلها أنني كلما اتصلت به جاءت الصورة الأخرى وهي صورة الحرارة، وتلك الصفة المشتركة هي وجود واقع للنار، وتمثل للنار، فهناك قضية شرطية صادقة وهي أنه لو كان للصورة - أي الاقتران - واقع موضوعي لكان له صفة مشتركة تقتضي تكرر الصورة عند الاتصال الحسي، وتلك الصفة المشتركة هي الجسمية - هذا بعدنا في لو - والآن نأتي ونستخدم الدليل الإنّي، وبما أن الصورة باقية كشف بقاء الصورة عن وجود الصفة الخارجي ألا وهي تجسم النار - الاستدلال بالمعلول على العلة - فلو كان هناك واقع لكانت هناك صفة مشتركة تقتضي بقاء الصورة عند الاتصال الحسي وحيث أن الصورة باقي إذن هناك صفة مشتركة ألا وهي الجسمية، لذلك كان احتمال العامل الموضوعي يقوى مع تكرر المشاهدات مقارنة باحتمال العامل الذاتي.

قلتُ: فلو كانت - الآن سوف تكتشفون صفة مشتركة، فبقاء الصورة كلما يكون هناك اتصال حسي تأتي هذه الصورة كاشف عن وجود صفة مشتركة، لكن هذه الصفة المشتركة هي واقع أم لا؟ وهذا هو أول الكلام، التلازم بين الصفة المشتركة والواقع هو بنفسه موضوع يحتاج إلى إثبات واقعية، فمن الذي يقول أن هناك تلازم؟ لكن بين الصفة المشتركة والواقع فإن هذا التلازم يحتاج إلى إثبات، فبقاء الصورة يعني صفة مشتركة، أما وجود صفة مشتركة يعني وجود واقع هو ما يحتاج إلى إثبات، فإن التلازم بين الصفة المشتركة والواقع الموضوعي هو نفسه من القضايا الموضوعية - أي الواقعية - التي تحتاج إلى إثبات في رتبة سابقة، فمن أي نُثبت ذلك؟ فلعل الصفة المشتركة مشكلة في النفس ما يدريني، نعم بقاء الصورة يعني أن هناك صفة مشتركة بين هذه الاتصالات كلها، اتصالات حسية متكررة تنتج الصورة نفسها، فلعل الصفة المشتركة شيء في الداخل - في الاتصال الحسي - فمن أي نُثبت أن هناك تلازما بين الصفة المشتركة وثبوت الواقع؟ "

هذا كله المحتمل الأول الذي يقول السيد به من أن الوصول إلى مبدأ السببية الوجودية بالاستقراء لا يتوقف على الإيمان بالواقع الموضوعي.

المحتمل الثاني: أن يتوقف الإيمان بالسببية الوجودية على الاستقراء، والاستقراء يتوقف على الإيمان بالواقع الموضوعي، ولكن الإيمان بالواقع الموضوعي يدور بين المحتملين:

المحتمل الأول: أنه من القضايا الأولية، وهذا الذي ذهب إليه المنطق الأرسطي من أن الإيمان بالواقع من القضايا الأولية لا تحتاج إلى دليل، فالإنسان بمجرد أن يأتي إلى الدنيا يعلم بوجود واقع، وهذا ما أنكره السيد الصدر.

المحتمل الثاني: أنه تطبيق للمبادئ الأولية، أي أن هناك مبادئ قبل الإيمان بالواقع ولولا الإيمان بهذه المبادئ لما آمن الإنسان بالواقع الموضوعي، وهذه المبادئ هي السببية العامة، الحتمية، السنخية، وقد ذكرناها سابقا ونُريد ربطها هاهنا. كيف نُثبت وجود واقعٍ؟ الآن رفعت بصري فانتقشت في ذهني صورة شجرة أمامي، كيف أثبت أن للشجرة واقعاً؟ السيد الصدر يقول أثبت من خلال تطبيق لمبادئ عامة فليست قضية بديهية، المبادئ العامة منها السببية العامة والتي منها أنه يستحيل أن يوجد صدفة، فوجود صورة الشجرة في ذهني ليست صدفة بل هناك ما أثاره في ذهني، والثاني الحتمية وهو أنه كلما صار اتصال حسي عبر البصر حتما تأتي صورة الشجرة، فكلما صار الأول صار الثاني، وأنا أريد أن أثبت السببية الخاصة أي أنه كلما حصل اتصال بصري بهذا الذي أمامي تأتي هذه الصورة، أي بين هذا الاتصال الحسي المعين وبين هذه الصورة تُوجد سنخية فكلما صار الأول صار الثاني، فما لم أؤمن بالحتمية والسنخية لن أؤمن أنه إذا رفعت بصري نحو هذا المنظر سوف تأتي صورة الشجرة في ذهني، فمن المستحيل أن أؤمن بأن الصورة سوف ترد في ذهني ما لم أؤمن بالسببية العامة والحتمية والسنخية، والمفروض أنهما - الحتمية والسنخية - يتوقفان على الإيمان بالسببية الوجودية؛ لأن الحتمية والسنخية صفتان للسببية الوجودية فلولاها لم تكن حتمية ولا سنخية، فالسنخية والحتمية صفتان للسبية الوجودية فلا يمكنك إثبات الواقع الموضوعي لأي صورة ترد على ذهنك إلا إذا آمنت بالحتمية والسنخية والإيمان بهما يستبطن الإيمان بالسببية الوجودية.

تحصل من ذلك أن السيد الشهيد يقول: ”إن الإيمان بمبدأ السببية يتوقف على الاستقراء، والاستقراء يتوقف على الإيمان بالواقع الموضوعي، والإيمان بالواقع الموضوعي يتوقف على الإيمان بمبدأ السببية الوجودية“، فالنتيجة أن الإيمان بمبدأ السببية الوجودية يتوقف على نفسه وهذا هو عبارة عن الدور، إلا أن يكون مقصوده حيث أن بعض الشراح إلى كلامه - حفظهم الله - قالوا أن السيد يقصد أن العلم التفصيلي بالسببية الوجودية أن العلم التفصيلي يتوقف على مثير، وهذا المثير هو الاستقراء، والاستقراء يتوقف على العلم بالسببية الوجودية لكن على العلم الإجمالي الارتكازي، فالطفل أول ما يخرج من بطن أمه يؤمن بأن هناك علماً اتركازياً وإن لم يكن مُلْتفتا له إلا أنه يؤمن به، فالطفل مؤمن ارتكازاً بالسببية الوجودية، ولذلك بمجرد أن تضع أُمّهُ حَلمةَ ثَدْيها في فمه ينطلق نحو الشرب، فهو يؤمن ارتكازاً بالسببية الوجودية - فلو لم يؤمن بالسببية الوجودية لم ينطلق تلقائيا لهذا العمل، لكن هذا الإيمان هو إيمان ارتكازي إجمالي، وهذا الإيمان هو شرطٌ جاء بعده الاستقراء، وجاء بعد الاستقراء الإيمان التفصيلي، وإذا كان هذا مقصوده «قدس» فإن هذا ليس مما يختلف فيه أحد وهو ليس محل البحث بين الفلاسفة وغيرهم.

والحمد لله رب العالمين

[1]  هذه الوجوه لا تختلف في النكتة بل تختلف في الصياغة.