الدرس 31 | مقارنة بين المنطقين الكلاسيكي والديالكتيك

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

في نظرية المعرفة هناك مجموعة من الأبحاث ترتبط بالمقارنة بين المنطق الكلاسيكي والمنطق الديالكتيك، وقد تعرض السيد الشهيد الصدر «قدس سره» إلى هذه الأبحاث في كتابه[1] ، والبحث يكون في محورين:

المحور الأول: في تحليل المنطق الهيجلي ونقده.

وبيان المنطق الهيجلي في أمور:

الأمر الأول: الجدل في المنطق الكلاسيكي هو أسلوب من أساليب المناظرة، ومن الطبيعي أن يشتمل هذا الأسلوب على الأفكار المتناقضة؛ فلأجل ذلك عندما يُطْلق الجدل في المنطق الكلاسيكي يُعْرف به أن هناك أفكاراً وآراءً متناقضةً، ولكن عندما يُطلق الجدل في المنطق الديالكتيكي فهذا يعني أن التناقض ليس بين الأفكار فقط بل إن التناقض في صميم الوجود؛ بمعنى أن كلَّ حقيقة من حقائق الوجود تعيش تناقضاً، فحتى الذرة تحمل النقيضين السالب والموجب، وكل موجود في عالم الكون يحمل في ذاته نقيضه؛ أي أن كل موجود يعيش صراع التناقض، بل أكثر من ذلك أن التناقض الفكري يحكي عن الواقعي؛ بمعنى أن تناقض الأفكار لم يولد ابتداء بين الأفكار، وإنما تناقض الأفكار يكشف عن تناقض وراء الأفكار، وهذا يكشف عن تناقض في الواقع ولو لا صراع النقائض في الواقع لما حصل تناقض في الأفكار، فالتناقض في الأفكار حاكٍ عن التناقض في الواقع، قال لينين[2] : ”إذا كان ثمة تناقضات في أفكار الناس فذلك لأن الواقع الذي يعكسه فكرنا يحوي تناقضات، فجدل الأشياء يُنتج جدل الأفكار وليس العكس، فلو لا وجود تناقض في الأشياء التي نعيشها لما حصل تناقض في الأفكار“، وقال ماركس: ”ليست حركة الفكر إلا انعكاساً لحركة الواقع، فكما أن حركة الفكر تعيش تناقضاً إذن حركة الوجود الواقعي تعيش أيضا تناقضاً“.

الأمر الثاني: ليس التناقض محال، وهنا يتبين لنا الفرق بين المنطق الكلاسيكي والمنطق الديالكتيك، من أن المنطق الكلاسيكي يقول بأن التناقض محال، ومن المستحيل أن يجتمع النقيضان، في المقابل تماماً المنطق الهيجلي الذي يقول أن التناقض ضروريٌ لا بُد منه؛ لأن مسيرة الوجود بنظر المنطق الهيجلي قائمة على التناقض.

كيف تكون مسيرة الوجود قائمة على التناقض؟ وكيف أن التناقض يحكم العالم كله؟

قال عبر مراحل ثلاث: الإثبات، النفي، ونفي النفي. فالإثبات عبر عنه بعض المؤلفين بالأطروحة، والنفي عبروا عنه بالطباق، ونفي النقي عبروا عنه بالتركيب، بل عبر عنهم بعض الباحثين بالثالوث الديالكتيك «الإثبات، النفي، نفي النفي».

ولشرح هذا المعنى «أن مسيرة العالم ومسيرة الوجود تمر بالمراحل الثلاث» يقول: كل قضية نجعلها أصلاً، كافتراضنا الإنسان أن أصله مادة منوية  هي قضية وجعلناها أصلاً  فهذا الذي جعلناه أصلاً نسميه الإثبات كمرحلة أولى، أي أن المرحلة الأولى للإنسان مادة منوية، وهذا الأصل في مسيرته ينقلب إلى نقيضه، فالمادة المنوية تنقلب إلى نقيضها الوجود البشري بحكم الصراع الداخلي بين النقائض، بمعنى أن هذه المادة المنوية هي في صميمها تحمل صراعاً بين طرف موجب وطرف سالب أي صراعاً بين نقيضين، ولولا الصراعُ بين النقيضين في صميم المادة المنوية لما تحولت إلى وجود حيواني كالعلقة والمضغة والجسم البشري، فإذا تحولت نتيجة الصراع إلى أمر آخر انتقلت من الإثبات إلى النفي، ثم يأتلف النقيضان في وحدة فيتحول إلى نفي النفي، ثم يأتلف النقيضان مرة أخرى ويتحولا إلى وجود لا ثبات له ولا تحديد له ولا تعيين، فكل وجود يعيش المراحل الثلاث ويتحول من إثبات إلى نفي ثم إلى نفي النفي، وهذا ما يتكرر إلى ما لا نهاية.

ولإثبات وبرهنة أي كلام يقال تارة أن الفيزياء تؤكد ذلك، تارة يقال علم الأحياء يؤكد ذلك، وتارة يكون بحث فلسفي لا بحث علمي، وما يطرحه الديالكتيك من هيجل ولينين وماركس وغيرهم ليست بحوث علمية تستند إلى قوانين تجريبية بل بحث فلسفي، ومقتضى البحث الفلسفي أن كل وجود يعيش صراع النقائض فينتقل من الإثبات إلى النفي إلى نفي النفي.

البرهان: بيان البرهان على بحثهم الفلسفي.

قالوا أن البرهان على ذلك في أبرز وأشهر ثالوث وهو الوجود، فيقولون: الوجود موجود وليس معدوم، وهذه عبارة عن مرحلة الإثبات، لكن الوجود ليس شيء لانطباقه على المتناقضات هو الحار والبارد، وهو الأبيض والأسود، والنور والظلمة، والبصر والعمى، الفرح والحزن، إذن ليس شيئاً محدداً لانطباقه على المتناقضات.

الوجود ينطبق على الفرح وينطبق على الحزن، وبما أن الفرح هو لا وجود بالنسبة للحزن؛ لأن الفرح هو لا وجود للحزن، والحزن لا فرح بالنسبة للوجود إذن بالنتيجة اجتمع الوجود واللاوجود، ونتيجة التركيب بين النقيضين الوجود واللاوجود ينتج موجود اسمه الصيرورة والحركة؛ بمعنى أن لا شيء ثابت، ولا يوجد شيء يبقى «شيء» على حاله، وكل شيء يعيش المراحل الثلاثة في لحظة واحدة فهو إثبات وهو نفي وهو نفي النفي، ثم ينتقل إلى مرحلة ثانية وتلك المرحلة الثانية تعيش إثباتاً ونفياً ونفيَ النفي وهكذا يعيش الوجود كله صيرورة وحركة مستمرة تتضمن المراحل الثلاث.

النتائج:

النتيجة الأولى: انهيار مبدأ عدم التناقض، فمن يقول أن الشيء الواحد لا يتصف بالصفة وبنقيضها كالإنسان لا يمكن أن يكون موجوداً ولا موجوداً اتضح عدم صحة قوله، حيث أن التناقضَ ضروريٌ وهو عكس ما يقوله المنطق الكلاسيكي من أن نظرية المعرفة تقوم على مبدأ امتناع التناقض، فنظرية المعرفة عند المنطق الهيجلي تقوم على ضرورة التناقض؛ لأن التناقض بين الأفكار يعكس التناقض بين الأشياء والتناقض بين الأشياء ضروري لمسيرة الوجود.

النتيجة الثانية: مبدأ الهوية يقول أن الشيء «هو هو» إذا كان له ثبات، فالإنسان هو الإنسان إذا كان له ثبات، وفي المنطق الهيجلي إذا كان كل شيء له مراحل ثلاث هو إثبات ثم يصبح نفياً ثم يصبح نفيَ النفي إذن ليس هناك ثبات للأشياء، بل ولا يوجد شيئية إلا هذه الحركة والصيرورة، فإذا لم يكن لدينا شيء ثابت إذن ليس لدينا مبدأ هوية نقول به «الشيء هو هو»؛ لأنه لا يبقى هو بمجرد أن تقول هو صار نفي وبمجرد أن يصبح نفي تحول إلى نفي النفي وهكذا، إذن لا واقع لمبدأ الهوية والعينية.

النتيجة الثالثة: المبدأ الثالث الذي انهار من المنطق الكلاسيكي أو المنطق الميتافيزيقي هو لا ثبات في الوجود لأن الوجود كله بنحو الصيرورة والحركة المستمرة، فلا يوجد ثبات.

وهذا هو الملخص للمنطق الهيجلي، وسمي كذلك لأن هيجل[3]  أول رأس في الديالكتيك، وفي الدروس القادمة سنتابع ما ذكره الأخرون ممن تبعه.

 ما هي الثمرة من البحث في المنطق الديالكتيكي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وذهاب الشيوعية؟

ذلك لأن الفكر الديالكتيك متوغل في الفلسفة الغربية أكثر من أي فكر آخر، فلا يهمنا انتهاء النظام السياسي لأن النظام الفكري الديالكتيكي مازال قائماً في الفلسفة الغربية وما زال اتجاهاً في نظرية المعرفة.

وهنا ملاحظتان:

الملاحظة الأولى[4] : هناك خلط بين اشتراك الأشياء في مفهوم الوجود واشتراكها في واقع الوجود، فلو أتينا إلى البرهان الذي ذكره لم يقل أكثر من أن الأشياء المتناقضة تشترك في مفهوم الوجود، الفرحُ وجودٌ والحزنُ وجودٌ مع أنهما متناقضان، الحرارةُ وجودٌ والبرودة وجودٌ مع أنهما متناقضان، فالأشياء المتضادة تشترك في مفهوم الوجود ولا بأس في ذلك، أما هل هناك مصداق من مصاديق الوجود يحمل المتناقضات؟ يعني هل هناك شيء موجود هو فرح وهو حزن؟ وهل هناك شيء في عالم الوجود هو نور وهو ظلام؟ وهل هناك في عالم الوجود هو قلق وهو اطمئنان؟ لا يوجد، فاشتراك المتضادات في المفهوم لا يعني اشتراكها في واقع المصداق، فلا يوجد مصداق يحمل النقيضين، ولا يوجد مصداق يحمل الضدين، فعندما يقول المنطق الكلاسيكي لا يُعقل اجتماعُ النقيضين فهو لا يَعقل اجتماع النقيضين في صفحة الخارج وليس في المفهوم، ولا يَعقل اجتماع النقيضين في مصداق واقعي، وكل المحاولة التي قدمها هيجل هي اجتماع المضادات في مفهوم واحد وهو مفهوم الوجود، فإذن هناك خلط بين اشتراك الأشياء في مفهوم الوجود واشتراكها في واقع الوجود ولذلك يصدق عليها المفهوم على نحو البدل «أو» لا على نحو «وَ»، الوجود إما هو فرح أو حزن، حرارة أو برودة، أما أن يكون الوجود هو فرح وهو حزن لا وجود لهذا الشيء، فالمفهوم يصدق على الأشياء على نحو البدل «أو» لا على نحو الجمع «و».

الملاحظة الثانية: نحن ننكر أصل هذه البذرة التي بذرها هيجل عندما قال بأن التناقض في المفاهيم يحكي التناقض في الواقع، وهو نفس الكلام قد قاله لينين وماركس، فلا يوجد مفهوم واحد يحمل النقيضين، فمفهوم الفرح لا يحمل الحزن، ومفهوم النور لا يحمل الظلام، ولا يوجد مفهوم واحد يحمل في طياته النقيضين والضدين حتى يعكس التناقض في المفهوم والتناقض في الواقع، فالمفاهيم صور والصور معبرة عن الواقع فلو وجد مفهوم واحد يحمل النقيضين لقلنا ممكنٌ بما أنه مفهوم والمفهوم صورة والصورة تعبر عن الواقع إذن الواقع فيه تناقض ولكن لا يوجد ذلك، وكلمة الوجود لا تعبر عن اللاوجود، ولا يوجد شيء يحمل في ذاته نقيضه حتى يكون معبراً عن التناقض في عالم الواقع، ولذلك النقيضان هما عبارة عن فكرتين ومفهومين مختلفين لا مفهوم واحد، ولكل نقيض مفهوم وصورة لا أن هناك مفهوم يجمع النقيضين معاً.

المحور الثاني: حقيقة الحركة بين المنطقين الكلاسيكي والديالكتيك وبيانها في أمور.

الأمر الأول: التغير.

والتغير قسمان: تعاقب وحركة.

ما هو الفرق بين التعاقب والحركة؟

عندما نأتي إلى مفهوم المشي نجد أنه خطوة وبعدها خطوة ومن ثم خطوة أخرى، وكل خطوة تعتبر وجود، والخطوة الأولى غير الخطوة الثانية والثالثة غير الثانية وهكذا، إذن حقيقة المشي هي تعاقب بين الخطوات خطوة تعقبها خطوة، ولذلك نجد أن هذا الجسم الذي يمشي يتغير، فقد كان مثلاً في خارج المكان وأصبح الآن في داخل المكان، إذن هناك تغير وهذا التغير يسمى تعاقب.

وهناك القسم الآخر من التغير والذي يسمى الحركة، مثاله: تصاعد حرارة الماء، فعندما نأتي بالماء ونضعه على النار، يبدأ الماء بالحركة ويتصاعد إلى الحالة الغازية، فهذا التصاعد ليس تعاقباً، والحرارة ليست مجموعة من الحرارات؛ أي بمعنى حرارة انتهت وأعقبتها حرارة أخرى، وليس تصاعد الحرارة هو عبارة عن وجودات يتخللها سكون مثل الخطوات، بل إن الحرارة وجود واحد ذو مراتب، وجود يتصاعد بين مراتبه ودرجاته.

الأمر الثاني: ما هي الحركة؟

قال: الحركة هي الخروج من القوة إلى الفعل، كما في انتقال الماء من درجة إلى أخرى، كما لو كان بحالة سائلة وأصبح بالحالة الغازية.

ما معنى الخروج من القوة إلى الفعل؟

هنا يقول السيد الشهيد قدس سره[5] : الحركة سير تدريجي وتطور للشيء في الدرجات التي تتسع لها إمكاناته، ولذلك حدد المفهوم الفلسفي للحركة بأنها خروج الشيء من القوة إلى الفعل تدريجاً وبيان ذلك:

الماء قبل وضعه على النار لا يملك من الحرارة إلا الاستعداد، يعني أن الماء له استعداد لأن يصبح حاراً لكنه للآن لم يصبح، فإذن الموجود الآن هو القوة وليس الفعل، الماء له قوة في أن يكون حاراً، وهذا الإمكان والاستعداد ليس لدرجة معينة من الحرارة بل لجميع درجاتها التي تؤدي إلى الحالة الغازية، وحين يوضع الماءُ على النار ويبدأ بالانفعال تبدأ حرارته بالحركة؛ بمعنى أن الاستعداد الذي كان يملكه الماء قبل وضعه على النار قد خرج من عالم القوة إلى عالم الفعل، وهذا هو معنى الحركة، ولذلك تكون القوة والفعلية متشابكتين، ففي كل مرحلة توجد فعليّة للمرحلة الأولى وقوة للمرحلة الثانية، وفي المرحلة الثانية توجد فعلية للمرحلة الثانية وقوة للمرحلة الثالثة، فالقوة والفعلية متشابكتان في كل مرحلة، والحركة من ناحيةٍ هي فعلية وواقعية لأنها موجودة، ومن ناحية أخرى هي قوة واستعداد للدرجات الأخرى.

فالإنسان يبدأ نطفة فجنين فطفل فمراهق فراشد، يعني أن الإنسان يتحرك من نطفة فعلقة فمضغة فعظام، وهو وجودٌ واحد يتطور من درجة إلى أخرى، من قوة إلى فعل.

الحركة الجوهرية [6] :

قال الملا صدرا الشيرازي: أنتم ترون الحركة السطحية، ولكن توجد حركة أعمق من الحركة السطحية، فمثلاً التفاحة على الشجرة تكون خضراء فصفراء فدرجة أعلى من الصفرة وقد تعلوها حمرة، فاللون يتغير والشكل يتغير وهذه كلها حركة ولكنها حركة سطحية، وهذه الحركة السطحية تحكي عن حركة في صميم بذرة التفاحة حركة جوهرية للبذرة.

وأيضاً حركة تَكَوُّن الإنسان ابتداء من البويضة الملقحة إلى جميع المراحل الأخرى ليصبح جنيناً هي حركة سطحية، وهناك حركة جوهرية في تلك المادة التي تصورت بصور مختلفة لتصبح إنساناً هي نفسها تَرْجِعُ للقبر كما هي، فتلك المادة التي تحوّلت إلى بويضة مُلقّحة ومن ثم أصبحت عَلَقة ومن ثم مُضْغَة يرجع هذا الجسم العظيم إلى التراب ويتحلل وينتهي وتبقى تلك المادة، ﴿فَلْيَنْظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ «5» خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ «6» يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ «7» إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ «8» يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ «9»[7] ، إذن هناك حركة جوهرية تحكي عنها الحركة العرضية السطحية، ويقول في تعريف الحركة الجوهرية: ”هي عبارة عن التطور في حركة صميم الوجود لا في حركة سطحه وعرضه“.

الدليل على الحركة الجوهرية:

طرح العلمان المطهري والصدر - قدس سرهما - دليلاً بسيطاً لتقريب الفكرة[8] ، وهذا الدليل يتكون من عنصرين: أحدهما أن علة الحركة السطحية هي الطاقة القائمة بالجسم كما أن علة الحركة الآلية هي القوة القائمة به وليس العامل المنفصل.

العنصر الأول: عنصر علمي

ولشرح هذه النقطة نأتي بمثال ضرب الكرة، فعند ضرب الكرة تبقى متحركة ما لم يُعْقْها عائق وهذا ما يسمى بالقصور الذاتي، وقد يظن البعض أن سبب حركة الكرة هو الضربة، ولكنه تصور غير صحيح لأن الضربة مجرد معد ومقدمة وشرط، وأما العلة فهي الطاقة التي داخل الكرة والضربة وَلَّدَت هذه الطاقة التي داخل الكرة، فالطاقة هي علة الحركة وما دامت هذه القوة حيوية تظل الكرة في حالة الحركة، وبمجرد أن تنتهي القوة تنتهي معها الحركة، فعلة الحركة هي القوة التي في داخل الكرة لا الضربة، وأما الضربة فهي عامل منفصل، فلذلك قلنا علة الحركة السطحية كعلة الحركة الآلية، وكما أن علة الحركة الآلية هي القوة القائمة بالكرة والضربة مجرد عامل منفصل كذلك الحركة في الأجسام، فعندما نأتي إلى التفاحة ونقول أنها تتحول من شكل إلى شكل ومن لون إلى لون فلا إشكال ولا ريب في تفسير علم الأحياء أن هذه الحركة السطحية لها علة، وعلتها هي القوة أو الطاقة داخلَ بذرة التفاحة، وتلك الطاقة التي داخل بذرة التفاحة هي العلة في هذه الحركة السطحية الخارجية.

العنصر الثاني: عنصر فلسفي.

يقول الفلاسفة لكل معلول علة تناسبها وهو ما ينص عليه مبدأ السنخية بين المعلول والعلة، فإذا كان هناك سنخية وتناسب بين المعلول والعلة نأتي للحركة  الحركة السطحية  هل الحركة السطحية ثبات أم تجدد؟ بالتأكيد أن الحركة السطحية تجدد وتغير وليست ثباتاً وإلا لو كانت ثباتاً لم يكن هناك حركة، إذن الحركة السطحية هي تطور وتجدد وليست ثباتاً.

فإذا كان المعلول تجدداً فلابد أن تكون علته أيضا تجدداً؛ لأن لكل معلول علة تناسبه، فإذن جميع الأجسام في هذا العالم كله[9]  وكل ما في الوجود متحرك ولا يوجد شيء ساكن، حتى الحجر الذي يهيأ لنا أنه ساكن ففي ذراته الحجرية يعيش حركة في جزيئاته، إذن حركة الكون هي حركة سطحية ولأن هذه الحركة السطحية هي تجدد إذن علتها طاقة قائمة بالوجود كله، وتلك الطاقة أيضا في حالة تجدد وتطور، وتسمى تلك الطاقة الكامنة بالحركة الجوهرية.

فوصلنا من ذلك إلى أن الفيلسوف الشيرازي لم يُبرهن فقط على الحركة الجوهرية فحسب بل أوضح أن مبدأ الحركة في الطبيعة كلها من الضرورات، ولا بُد من وجود حركة وإلا لم يُصْبح هناك وجود، فالوجود يساوي الحركة.

وقد حل الملا صدره الشيرازي بنظريته هذه الكثير من المشاكل في الفلسفة التي كانت عالقة قبل نظريته، ومن هذه المشاكل علاقة الحادث بالأزلي وهي مشكلة كلامية مطروحة في علم الكلام، فالكون حادث والله أزلي فكيف يصبح علة الحادث أزلي؟

إذا كان علة الحادث أزلي فهذا معناه أن الكون أزلي أيضاً، فالكون معلول، والعلة هو الله، وبما أن العلة أزلية، إذن المعلول أزلي، إذن الكون ليس بحادث بل هو أزلي، فما هو الجواب عن هذه المشكلة؟

الجواب عن هذه المشكلة باختصار يكون في مرحلتين ونبدأ بالمرحلة الثانية ومن ثم ننتقل بها إلى المرحلة الأولى.

المرحلة الثانية: بلا إشكال بأن الكون حادث لأن الكون يعيش حركة وهذا ما أثبته العلم والفلسفة من أن الكون يعيش حركة وأن الوجود كله حركة، فالوجود يساوي الحركة الجوهرية في صميمه، وتعريف الحركة هو الخروج من القوة إلى الفعل، إذن بما أن الوجودَ حركةٌ والحركة خروج من القوة إلى الفعل إذن الوجود حادث لا محالة، ومقتضى أن الوجود يتضمن طاقة تطورية متجددة إذن الوجودُ حادث ولذلك هو ينتقل من حال إلى حال، ونحن في كل لحظة تمر علينا ننتقل من كون إلى كون آخر من الأكوان، فنعيش أكواناً لا نهاية لها لكن الذهن يصوغها صياغة ثابتة وإلا في الواقع ليس هناك ثبات، فلا يُعقل أن يكون العالم أزلياً ولا يعقل أن يكون العالم قديماً بل لابد أن يكون حادثاً وإلا لم يكن حركة.

المرحلة الأولى: تِلْك الطاقة التي بثّها الله وكانت تلك الطاقة هي عبارة عن التجدد والتطور وعلى أساسها أصبح السير الوجودي سيراً حركياً، فتلك الطاقة أو تلك المادة أو النقطة التي انفجرت فصار هذا الكون، أو ذلك البت «Bit» الذي حمل في داخله الطاقة وتحولت إلى هذا الكون بأسره وإلى هذا الوجود بتمامه، من أين جاءت؟ فعلاقة الفاعل بفعله لا علاقة العلة بمعلولها ومعنى هذا الكلام أن هناك فرقاً بين علاقة العلة الطبيعية بمعلولها وبين علاقة العلة الفاعلية بمعلولها، كالفرق بين علاقة الإنسان بفعله وعلاقة النار بالحرارة، فالنار علة طبيعية، وعلاقة العلة الطبيعية كالنار بمعلولها وهو الحرارة علاقة موجبة قسرية وليست اختيارية، بينما علاقة الإنسان بمشيه بكلامه هي علاقة العلة الفاعلية بمعلولها ليست علاقة موجَبَة بل موجِبَة، أي علاقة الخلّاقية[10] ، وهي التي جعلت سنخ العلاقة بين الإنسان وبين فعله علاقة موجِبَة، فعلقة الفاعل بفعله علقة موجِبَة، ومقتضى الخلّاقية القائمة به أن تكون علقته بفعله علقة موجِبَة، والله تبارك وتعالى هو الحياة التي لا حد لها، ومقتضى كونه تعالى هو الحياة التي لا حدَّ لها فهو القدرة التي لا حد لها وهو العلم الذي لا حد له، ومقتضى هذه الخلّاقية والصانِعية أن يَصنع هذه الطاقة أو يُحدث هذه الطاقة أو يبدع هذه الطاقة في الظرف الذي تكون فيه هذه الطاقة منتجة وفاعله.

والحمد لله رب العالمين

[1]  فلسفتنا ص 204 إلى ص 253
[2]  فلاديمير ألييتش أوليانوف المعروف ب لينين - Vladimir Lenin» 1870 - 1924».
[3]  جورج فيلهلم فريدريش هيغل - Georg Wilhelm Friedrich Hegel» 1770 - 1831».
[4]  قد تعرض لها السيد الشهيد - قدس سره - في كتابه فلسفتنا ص 208.
[5]  فلسفتنا ص213
[6]  نظرية طرحها الملا صدره الشيرازي
[7]  [الطارق: 5 - 9]
[8]  ولأن البحث ليس في الحركة الجوهرية بل في المقارنة بين المنطق الكلاسيكي والمنطق الديالكتيك في تعريف الحركة لذلك تعرضنا للحركة الجوهرية بتوضيح موجز.
[9]  صدر المتألهين ملا صدرا الشيرازي قال هذا الكلام قبل أن يصل العلم إلى حركة الجزيء تحت الذري، فقال كل ما نراه في الكون يتحرك.
[10]  الإنسان يمتلك الحياة ومقتضى امتلاكه للحياة أن يمتلك عنصرين هما القدرة والعلم، وهذه القدرة والعلم يعبر عنها بالخلّاقية.