الحسين (ع) ثورة إنسانية

شبكة المنير

أعوذ بالله من الشّيطان الغويّ الرّجيم

والصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّدٍ وآله الطيبين الطاهرين

ورد عن النبي أنّه قال: ”حسينٌ منّي وأنا مِنْ حسينٍ، أحبّ الله مَنْ أحبّ حسينًا، وأبغض اللهُ مَنْ أبغض حسينًا، حسينٌ سبط مِنَ الأسباط“

صدق الرّسول الكريم

إنّ هذا التّعبير الذي عبّر به النبي الأعظمُ في حقّ الحسين بن علي حيث قال: ”حسينٌ منّي وأنا من حسينٍ“ هو تعبيرٌ عن المسانخة والمشاركة، فعندما تريد أنْ تعبّر عن أنّ شخصًا معينًا يسانخك ويشاركك ويتحد معك في صفاتٍ معيّنةٍ فإنّك تستخدم هذا التّعبير فتقول: فلانٌ منّي وأنا منه، إشارة إلى المسانخة والمشاكلة بين الوجودين وبين الطرفين، والنبي الأعظم يريد أنْ يرشد إلى المسانخة بين هذين النورين: النور المحمّدي، والنور الحسيني، وحديثنا عن هذه المسانخة في محورَيْن:

المحور الأوّل: في المسانخة بينهما في الوجود وفي الصّفة.

أمّا المسانخة بين النورين المحمّدي والحسيني في الوجود: فكما أنّ النبي المصطفى مرّ بمراحلَ ثلاثةٍ في وجوده: مرّ بمرحلة الوجود النوري، حيث كان نورًا محيطًا بساق العرش، وقد ورد عنه : ”إنّ أوّل ما خلق اللهُ نوري، واُشْتِق منه نورُ الخلائق“، والمرحلة الثانية: الوجود الذرّي، حيث تحوّل ذلك النور إلى روح تهلل الله وتسبّحه في عالم الذرّ، ثم انتقل إلى المرحلة الثالثة وهي الوجود المادّي الطاهر، خرج إلى الدّنيا وجودًا طاهرًا مِنَ الدّنس غيرَ ملوثٍ بالعيب، في هذه الوجودات الثلاث «في الوجود النّوري وفي الوجود الذرّي وفي الوجود المادّي الطاهر» كانت هناك مسانخة بين الحسين وبين جدّه محمّدٍ ، فالوجود النوري للحسين عبّرت عنه زيارة وارث الواردة عن الإمام الصّادق عليه السّلام: ”أشهد أنّك كنتَ نورًا في الأصلاب الشّامخة والأرحام المطهرة“، والوجود المادّي المبرّأ مِنَ الدّنس المنزّه مِنَ العيب عبّر عنه النبي محمّدٌ : ”لم يزل الله ينقلني مِنْ أصلاب الطاهرين وأرحام المطهرات إلى أنْ أخرجني إلى عالمكم هذا لم يدنسني دنسُ الجاهليّة“، وهذا التعبير استخدمته زيارة وارث الواردة عن الإمام الصّادق عليه السّلام في حقّ الحسين عليه السّلام: ”لم تنجسك الجاهليّة بأنجاسها ولم تلبسك مِنْ مدلهمات ثيابها“ فهناك مسانخة بين الوجودين في المراحل الثلاث التي تعرّضنا لها.

وهناك مسانخة بينهما في الصّفة: فالنبي الأعظم هو الذي تحرّك الدّين بحركته حركة جوهريّة، والحسين هو الذي تحرك الدّين أيضًا بحركته حركة جوهرية، وما معنى هذا الكلام؟

الفلاسفة يقسّمون الحركة إلى حركة مكانية، إلى حركة زمانية، إلى حركة كيفيّة، إلى حركة جوهريّة، وهذه الحركة الجوهريّة تشمل الموجوداتِ النامية سواءً كانت عينيّة أو كانت نفسيّة، أضرب لك أمثلة: النبات مِنَ الموجودات النامية العينيّة يخضع للحركة، هذا النبات عندما تزرع البذرة في التراب فتبدأ البذرة بالتفرّع يعيش النباتُ حركة مكانيّة، إذ ينتقل من تحت الأرض إلى ما فوق الأرض، ويعيش النباتُ حركة كيفيّة إذ ينتقل من لونٍ إلى لونٍ، ينتقل مِنْ لون الخضرة إلى لون الصفرة إلى لون الحمرة، هذه التفاحة تتحرك في ألوانٍ متعدّدةٍ وهذه حركة كيفيّة وإنْ لم تكن حركة مكانيّة، وأيضًا يستمرّ هذا النبات أشهرًا إلى أنْ يثمر وإلى أنْ ينتج فهو يعيش حركة زمانية أيضًا، ووراء هذه الحركات كلها هناك حركة جوهريّة، بمعنى أنّ جوهر النبات ينمو ويصعد في حدّ نفسه، هذه الحركة في صميم ذرّة النبات، في صميم بذرة النبات، تسمّى بالحركة الجوهريّة.

الفِكْرُ يخضع للحركة الجوهريّة، الطبّ كان طبًا عامًا ثم تحوّل الطبُ بتراكم الخبرات والثقافات إلى اختصاصاتٍ متعدّدةٍ، فالطبُ خضع لحركة جوهريّة أيضًا إلى أنْ تحوّل إلى اختصاصاتٍ متعدّدةٍ، فالطبّ فِكْرٌ خضع للحركة الجوهريّة في صميم ذاته إلى أنْ تحول إلى علوم مختلفة.

الفلاسفة يقولون: الموجودات النامية عينية أو نفسية تخضع للحركة، ومنها: الحركة الجوهريّة، الإنسان أيضًا يخضع للحركة بتمام أقسامها، هذا الإنسان يعيش حركة مكانيّة: كان هذا الإنسان جنينًا في بطن أمّه، أصبح هذا الإنسان متحرّكًا على الأرض، هذا الإنسان يعيش حركة زمانيّة: مِنْ طفولةٍ إلى شبابٍ إلى كهولةٍ إلى شيخوخةٍ إلى أنْ ينقضي عمره، هذا الإنسان يعيش حركة كيفيّة: شكله يتبدّل، جسمه يتبدّل مِنْ سنٍ إلى سنٍ ومِنْ مرحلةٍ إلى مرحلةٍ، هذا الإنسان يعيش حركة جوهرية أيضًا: هذا الإنسان قطعًا سيتحوّل مِنْ جاهلٍ إلى عالمٍ، مِنْ شخصٍ يفتقر إلى الخبرة إلى شخصٍ خبيرٍ، مِنْ شخصٍ غيرِ مجرّبٍ إلى شخصٍ مجرّبٍ، كلما تراكمت الثقافة، كلما تراكمت الخبراتُ تحرّك الوجودُ النفسي للإنسان حركة جوهريّة إلى أنْ يصبح إنسانًا خبيرًا مجرّبًا قادرًا على فكّ ألغاز الحياة وطلاسمها، فالإنسان أيضًا يعيش أقسامَ الحركة.

الدّين أيضًا تحرّك حركاتٍ مختلفة، الدّين وجودٌ مِنَ الوجودات النامية، الدّين شيءٌ موجودٌ في العقول والنفوس، فهو موجودٌ مِنَ الموجودات النامية، وهذا الدّين أيضًا خضع للحركة ووصل إلى درجة الحركة الجوهريّة، والحركة الجوهريّة التي عاشها الدّينُ الإسلاميُ كانت على يد محمّدٍ والحسين صلى الله عليهما وآلهما، الدّين تحرّك بحركة النبي فانتقل مِنْ مرحلة العقيدة إلى مرحلة النظام، كان الدّين مجرّد عقيدةٍ في النفوس، هناك مَنْ يعتقد وهناك مَنْ لا يعتقد، الدّين بحركة النبي تحرّك حركة جوهريّة وانتقل مِنْ مرحلة العقيدة إلى مرحلة أنه أصبح دولة، أصبح نظامًا، أصبح قانونًا، أصبح تشريعًا، أصبح حكومة، فانتقل مِنْ مرحلةٍ إلى مرحلةٍ ببركة جهود النبي محمّدٍ ، ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [1] .

الحركة للدّين أيضًا تمّت بالحسين بن علي، الحسين نقل الدّينَ مِنْ مرحلةٍ إلى مرحلةٍ أخرى، تحرّك الدّينُ بحركة الحسين مِنْ مرحلةٍ لمرحلةٍ أخرى، تحرّك الدّينُ مِنْ مرحلة الأخذ إلى مرحلة العطاء، المسلمون كانوا يتعاملون مع الدّين بالأخذ لا بالعطاء، كان المؤمنون يأخذون مِنَ الدّين ولا يعطون الدّينَ شيئًا، المؤمن عندما يصلي هو يأخذ مِنَ الصّلاة لا أنّه يعطي الصلاة، المؤمن عندما يصلي يأخذ مِنَ الصّلاة السّكينة والهدوء والاستقرار ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [2] ، المؤمن عندما يتصدّق يأخذ مِنَ الصّدقة الثوابَ والأجرَ، المؤمن يأخذ مِنَ الدين ولكن ماذا أعطى الدّينَ؟ الحسين بن علي نقل الدّينَ بحركةٍ جوهريّةٍ مِنْ مرحلة الأخذ إلى مرحلة العطاء، قال: أنا أعطي الدّينَ دمي ونفسي وأهلي وأولادي، وقدّم ما عنده للدّين صلوات الله عليه وآله، فنقل الدّينَ مِنْ مرحلةٍ إلى مرحلةٍ أخرى، وتحرّك الدّينُ بدمه المتدفق على أرض كربلاء حركة جوهريّة صميميّة مِنْ مرحلة الأخذ إلى مرحلة العطاء ومرحلة البذل ومرحلة التضحية.

إلهي تركتُ الخلقَ طرًا في هواكَ

فلو   قطعتني   في   الحبِّ   iiإربًا

 
وأيتمتُ     العيالَ    لكي    iiأراكَ

لما    مال   الفؤادُ   إلى   iiسواكَ

فقول النبي الأعظم : ”حسينٌ مني وأنا مِنْ حسينٍ“ إشارة إلى هذه المسانخة بينهما في الوجود وفي صفة الحركة الجوهريّة للدّين الذي تحرّك ببركتهما وجهودهما صلوات الله عليهما وآلهما هذه الحركة المنظورة الواضحة.

المحور الثاني:

الحسين سانخ جدّه النبي في عدّة شمائل، ومِنْ مواطن المسانخة: الجاذبيّة الرّوحيّة، النبي كان شخصًا جذابًا، الحسين كان شخصًا جذابًا.

النبي لابد أنْ يكون جذابًا، إذ لا يُعْقَل أنْ يكون داعية وليس جذابًا، خُلِقَ النبيُ لكي يكون داعية، كما قال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [3] ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [4] ، النبي خُلِقَ لكي يكون داعية، ولأنه خُلِقَ لأجل أنْ يكون داعية جهّزه الله بجهاز الدّعوة، صاغ اللهُ النبيَ صياغة تنسجم تمامًا مع هذا الهدف، تنسجم تمامًا مع هذا الأمل، أنْ يكون داعية، والدّاعية يحتاج إلى جاذبيّة، صاغ اللهُ النبيَ صياغة جعله جذابًا بتمام أنحائه، بتمام تفاصيل وجوده، جذابٌ في مظهره، جذابٌ في بيانه، جذابٌ في سلوكه، جذابٌ في فكره، جذابٌ في خُلُقِه، جذابٌ في تواضعه، جذابٌ في كلّ أنحاء وجوده لكي تنسجم هذه الجاذبية مع الهدف الذي خُلِقَ مِنْ أجله ألا وهو الدّعوة إلى الله.

وأجمل منك لم ترَ قط عيني

خلقت  مبرّأ  من  كل  عيبٍ

 
وأفضل  منك لم تلد iiالنساءُ

كأنّك  قد  خُلِقْتَ  كما iiتشاءُ

وهذه الجاذبيّة الرّوحيّة للنبي الأعظم امتدت إلى الحسين بن علي، امتدت إلى الشّخص الآخر الذي خُلِقَ لكي يكون داعيًا، فجُهِّزَ بأجهزة الجاذبيّة الرّوحيّة للمؤمنين، ”إنّ لجدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدًا“ وهذا إشارة إلى جاذبيته، عندما نقرأ ثورة الحسين، ثورة الحسين هي سرّ جاذبيّته، وثورة الحسين تضمنت ملامحَ للجاذبيّة الرّوحيّة للحسين عليه السّلام، ومن أهمّ هذه الملامح التي قد لا يركّز عليها خطباؤنا ومنابرنا، مِنْ أهمّ الملامح المبيّنة لسرّ جاذبيّة ثورة الحسين عليه السّلام: العنصر الإنساني، ثورة الحسين ثورة إنسانيّة بكلّ ما للكلمة مِنْ معنى، عندما نقارن ثورة الحسين بغيره نجد العنصرَ الإنساني واضحًا متجليًا في ثورة الحسين ، وأنا أشير إلى بعض الملامح للعنصر الإنساني في ثورة الحسين .

الملمح الأوّل: عدم استغلال المشاعر.

إذا قرانا الثوراتِ نجد أنّ قادة الثورات دائمًا يدغدغون مشاعرَ الجمهور ويركّزون على الأحلام الورديّة للجمهور، أيّ ثائرٍ يقوم في أيّ بلدٍ يخاطب النّاسَ: سأصنع لكم كذا، سأعطيكم الثروة، سأعطيكم الحرّيّة، سأعطيكم الكرامة، سأرفعكم مِنْ درجةٍ إلى أخرى.. وبالتالي ينشدّ الجمهورُ إليه لأنّه خاطب الجمهورَ بلغة الأحلام الورديّة التي تحرّك مِنْ عاطفته وحماسه، الحسين لم يستخدم هذا الأسلوب، الحسين استخدم أسلوبًا إنسانيًا واقعيًا، لم يبشّر بأحلام ورديّة، ولم يتعامل مع الناس بالأمنيات، ولم يتعامل مع الناس بالأحلام، إنّما تعامل معهم بلغةٍ واقعيّةٍ، قال: ”ألا فمَنْ كان فينا باذلاً مهجته موطنًا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإنّي راحلٌ مصبحًا إنْ شاء الله“ أنا ليس معي إلا الشهادة، وليس معي إلا التضحية، وليس معي أية أحلام وأية أمنيات، ”ألا فمَنْ كان فينا باذلاً مهجته موطنًا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإني راحلٌ مصبحًا إنْ شاء الله“ ووقف يخاطب الجماهير، قال: ”خُطَّ الموتُ على وِلْدَ آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخِيرَ لي مصرعٌ أنا لاقيه“.

الملمح الآخر لحركة الحسين ولثورة الحسين : تجسيد الأهداف تجسيدًا عمليًا.

الحسين جسّد الأهدافَ التي كان يطمح إليها وينظرها تجسيدًا عمليًا على الأرض، قال لجون مولى أبي ذر: يا جون.. جون كان خادمًا، كان عند أبي ذر، وانتقل إلى الإمام علي، وصار خادمًا عند الحسن ثم خادمًا عند الحسين، ”يا جون أنت إنّما لحقتنا طلبًا للعافية، وقد حلّ بنا ما حلّ، فأنت حرٌ لوجه الله، اذهب وأنت في حلٍ“ فبكى جون وقال: سيدي أفي الرّخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم؟! إنّ لوني لأسودٌ وإنّ ريحي لنتنٌ وإنّ حسبي للئيمٌ فمُنَّ عليّ بالجنة حتى يُخْلَط دمي بدماء آل محمّد، وتقدم جون وخرّ شهيدًا على الأرض وأقبل الحسينُ إليه ووضع خدَّه على خدِّه وقال: ”اللهم بيّض وجهَه، وطيّب ريحَه، واحشره مع محمّدٍ وآله، واجعله معهم - يعني: ليس فقط يُحْشَر معهم بل يكون معهم في مقامهم، في درجتهم - واجعله معهم“، فقال جون: مَنْ مثلي والحسين بن علي يضع خده على خدي؟!

الحسين يجسّد الهدفَ، مِنْ أهداف الثورة: الأخوة الإنسانيّة، الحسين يجسّد الأخوة الإنسانيّة، لم يكن هذا هدفًا تنظيريًا، كان هدفًا عمليًا مارسه الحسينُ على الأرض وجسّده، الحسين يجسّد الهدف تجسيدًا عمليًا، يمثل الأخوة الإنسانيّة بينه وبين جون خادمه، وبين جون مولى أبي ذر، حيث يضع خده على خده.

من الملامح الإنسانيّة لحركة الحسين عليه السّلام: المبدئيّة.

أنت ترى كثيرًا مِنَ الثوّار يتعلّلون بهذا المبدأ: الغاية تبرّر الوسيلة، المهم تنجح الثورة، الغاية تبرر الوسيلة، مِنَ الممكن أنْ يتجاوز المحظوراتِ، مِنَ الممكن أنْ يتجاوز المقدّساتِ لكي تنجح الحركة، لكنّ الحسين عليه السّلام قال: أنا مبدئيٌ مِنَ الأول إلى الأخير، وأنا لا أتعامل بهذه اللغة «الغاية تبرر الوسيلة» بل أتعامل بلغةٍ مبدئيّةٍ في تمام تفاصيل الحركة ولو كلفتني هذه اللغة المبدئية أنْ أخسر المعركة خسرانًا ماديًا، أنْ أخسر المعركة خسرانًا ظاهريًا، ولو كلفني ذلك، المهم أنْ تبقى اللغة المبدئيّة هي الميزان وهي الحكم الفصل.

لاحظوا الحسين خرج مِنْ مكّة وكان بإمكانه أنْ يستغلّ مكّة لثورته، لو أنّ الحسين صرخ وهو في مكّة لربّما كانت ثورته أقوى لأنّه سيصرخ والحجيج مجتمعون، لأنّه سيُحْمَى مِنْ قِبَلِ القبائل العربية المختلفة إذا كان في مكّة، لأنّه إذا أصدر صرخته في مكّة كان ذلك أكثر صدى وأكثر أمنًا، لكنّ الحسين قال لأخيه محمّد بن الحنفيّة: ”إنّي أخشى أنْ أكون الذي تستباح به حرمة الكعبة“ أنا لا أقوم بذلك، أنا لا أتجاوز المقدّساتِ لأجل حركتي ولأجل ثورتي، أنا لا أتجاوز المقدّساتِ ”أخشى أنْ أكون الذي تستباح به حرمة الكعبة“ وأصرّ على أنْ يغادر إلى منطقةٍ أخرى يصدح فيها بصرخته المباركة صلوات الله عليه وآله.

لاحظوا الحسين يوم عاشوراء والقتال قائمٌ وهو يعيد لنا الصّورة التي تكرّرت لأبيه المرتضى يومَ صفين، ليجسّد لنا الرّوح المبدئيّة التي تمثلت في شخصيته المباركة، قال: قولوا لهؤلاء القوم يمهلوننا حتى نصلي لربّنا، ودخل الحسينُ في الصلاة ورشقته السّهامُ وهو يصلي، فهو يريد أنْ يقول: إنّ مِنْ أهدافنا الصّلاة، وإنّ مِنْ مبادئنا الصّلاة، فكيف نغضّ الطرفَ عن مبادئنا لأجل ساعةٍ نحرز فيها النصرَ والغلبة؟! ليس الأمر كذلك كما قال أبوه الإمامُ أمير المؤمنين عندما صلى يوم صفين والحرب قائمة على قدم وساق، قال: على ما نقاتلهم؟! إنّما نقاتلهم لأجل الصّلاة، والحسين يجسّد المبدأ أيضًا.

مِنَ الملامح للعنصر الإنساني في حركة الحسين عليه السّلام: النبل.

النبل الإنساني بما له مِنْ معنى الكلمة، أنتم تعرفون أنّ الحسين نصح عمر بن سعد، وما هو الدّاعي لنصح عمر بن سعد؟! الحسين يطلب عمر بن سعد ويجلس معه لينصحه والحسين يعلم أنّ عمر بن سعد لو تراجع سيأتي مَنْ هو أشدّ شرًا منه، وكان هناك متنافسون على قيادة المعركة، وكان عمر بن سعد ينافسه الشمر وينافسه شبث بن ربعي، وغيره مِنَ الطامعين في جوائز يزيد بن معاوية، مع هذه المنافسة الحادّة الحسين مع ذلك طلب عمر بن سعد لينصحه، وقال له: يا ابن سعد أنصحك بالله أنْ ترجع عن سفك دمي وأنت تعلم نسبي ومقامي، فقال: يا أبا عبد الله أخاف أنْ تُهْدَم داري، قال: أنا أبنيها لك، قال: يا أبا عبد الله أخاف أنْ أخسر أملاكي، قال: أنا أعوّضها لك بما لي في المدينة، وصار يتعلّل: يا أبا عبد الله.. كلّ ساعة علة، والحسين ينصحه بكلّ ما أمكن مِنْ أسلوب إعادته إلى رشده، فلم يفلح ذلك فيه، ما قصد الحسين بذلك إلا بيان النبل والمروءة لعدوٍ صمّم على قتاله وصمّم على مواجهته.

والحسين عليه السّلام عندما أقبل الحر بن يزيد الرياحي ومعه زهاء ألف فارس لحصار الحسين عليه السّلام قام الحسينُ إليهم لما رآهم عطشى وأمر بالقوم بأنْ يسقوهم الماءَ ويرشّفوهم ترشيفًا حتى قال علي بن المحاربي: كنتُ آخر مَنْ وصل وكان العطش يأكل كبدي فأقبلتُ وكان أصحاب الحسين مشغولين بسقي القوم، فقام الحسين إليّ بنفسه وقال: يا ابن المحاربي اخنث السّقاء «يتكلم معه بلغةٍ حجازيّةٍ، وهذا ابن المحاربي عراقيٌ، ما فهم مقصود الحسين»، قال: اخنث السّقاء، يقول: فلم أفهم كلامَه، قال: أنخ الرّاوية، يقول: فلم أفهم كلامه، فقام بنفسه وفتح فمَ القربة وسقاه بيده الشّريفة إلى أنْ أروى ظمأه ثم سقى فرسَه بنفسه.

الحسين يجسّد الإنسان، الحسين يجسّد الإنسانيّة، الحسين يجسّد خصالَ ونقاءَ وصفاءَ الإنسان، الإنسان عندما يتجرّد عن كلّ الشّوائب النفسيّة، عن كلّ الشّوائب الجهتيّة القبليّة العاطفيّة ويصبح إنسانًا فالحسين يجسّد هذا الإنسان في أرقى معانيه وفي أرقى كمالاته، ويريد أنْ يقول للأجيال المتتابعة: هذه المعركة معركة إنسانيّة، وهذه الثورة ثورة إنسانيّة، وهذه الثورة لكي تبقى صدى في الأجيال ولكي تبقى صرخة على مدى الزمان طعّمتها بالطعم الإنساني وأعطيتها النكهة الإنسانيّة حتى تبقى جاذبيّتها متوقدة متجدّدة على مدى التاريخ.

إذن جاذبيّة الحسين التي هي امتدادٌ لجاذبيّة جدّه النبي المصطفى تكمن في العنصر الإنساني لحركته المباركة، في العنصر الإنساني لثورته العملاقة.

والحمد لله ربّ العالمين

[1] الفتح: 1 - 3.
[2] الرعد: 28.
[3] الأحزاب: 45 - 46.
[4] الجمعة: 2.