الدرس 37 | خلاصة الفلسفة الديالكتيكية في سطور

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

وصل بنا البحث إلى «خلاصة الفلسفة الديالكتيكية» والبحث حول خلاصة هذه الفلسفة وتسجيل الملاحظات النقدية عليها ضمن محورين:

المحور الأول: في عرض أصول الفلسفة ونتائجها.

وقد قررها الشهيد المطهر - رحمه الله - في أصول الفلسفة[1] ، وهنا نقطتان:

النقطة الأولى: أصول الفلسفة الديالكتيكية أربعة.

الأصل الأول: تبعية الجزء للكل.

وهذه الفكرة سبقت منا في البحث الماضي، وقد عبر عنها السيد الشهيد السيد محمد باقر الصدر بالارتباط الوجودي العام، ذات الفكرة، فهنا عبر عنها تبعية الجزء للكل، وهناك عبر عنها بالارتباط الوجودي العام.

ما معنى تبعية الجزء للكل؟

تبعية الجزء للكل بحسب ما ذكره «ستالين» في كتابه «المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية» قال: ”إن أيَّ ظاهرة في الطبيعة لا يُمكن فهمها منفردة من دون الأخذ بعين الاعتبار عِلاقاتها بسائر ظواهر الطبيعة، وذلك لأن الظواهر التي نَتصورها في أي مجال من المجالات عندما نَدْرسها بعيداً عن بيئتها فإنها تتحول إلى أمر فاقد للمعنى“، ومعنى هذا الكلام هو أن كل ظاهرة فهي مرتبطة بالظواهر الأخرى، فلا توجد ظاهرة من ظواهر الطبيعة مستقلة، فكل جزء من أجزاء الطبيعة مرتبط بالأجزاء الأخرى، فإذا كان هناك ارتباط وجودي بين كل الظواهر وبين كل الأجزاء إذن بناء على هذا فأي جزء من أجزاء الطبيعة وأي ظاهرة من ظواهر الطبيعة لا يمكن لنا أن ندرسها، ولا يمكن لنا أن نعرفها، ولا يمكن لنا أن نحدد ما هي لأن كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة إنما نستطيع معرفتها بعد معرفة سائر الأجزاء المرتبطة بها وسائر ظواهر الطبيعة المرتبطة بها، فلا يمكن عزل ظاهرة عن الظواهر الأخرى، فلا يمكن دراسة ظاهرة عن الظواهر الأخرى، وهذا ما يسمى بتبعية الجزء للكل والتبعية ليست فقط في الوجود بل تبعية حتى في المعرفة والإدراك، ”كل جزء من أجزاء الطبيعة بغيره إذن لا يمكن معرفته إلا بمعرفة غيره من أجزاء الطبيعة“.

الأصل الثاني: أصل الحركة التكاملية الدائمة الشاملة للفكر.

وهذا ما سمي بأصل الحركة أو أصل التكامل، يقول فيه إنجلز في ما نقله الشيخ المطهري عنه قال: لا ينبغي لنا أن نتصور الوجود خليطاً من أشياء ثابتة - تقول: قمر ثابت وشمس ثابتة وأرض ثابتة وشجر وحجر كأنما الوجود أشياء ثابتة مبعثرة، لا هذا غير صحيح فلا ينبغي لنا أن نتصور الوجود خليطاً من الاشياء الثابتة بل هو عبارة عن خليط من مسيرات تحولية، فكل الوجود في حالة حركة وفي حالة تحول وفي حالة صيرورة من حالة إلى حالة، فليس هناك شيء اسمه ساكن أو ثابت - خليط من مسيرات تحولية تبدو الموجودات ثابتة - أي أننا نراها ثابتة لكنها ليست ثابتة بل هي ضمن مسيرات تحولية - وكذا انعكاسات هذه الموجودات في عقل الإنسان التي نُسميها بالأفكار - أي أن الأفكار ما هي إلا انعكاسات للوجود، فإذا الوجود كان مسيرات تحولية إذن الأفكار أيضاً هي مسيرات تحولية، فالأفكار أيضا تخضع لحركة الصيرورة والسيلان فلا تُوجد لدينا فكرة ثابتة، فكما لا يوجد لنا وجود ثابت لا يوجد لدينا فكرة ثابتة، فكل فكرة فهي متحركة كما أن الوجودَ كلُّه متحرك - ولكن الواقع هو أن هذه جميعاً في حال حركة وتحول دائم مستمر[2] .

الأصل الثالث: أصل القفزة. [3] 

يقول ستالين: ”إن الديالكتيك على عكس الميتافيزيق لأن المسيرة التكاملية بشكل تيار بسيط في النشء والارتقاء، وإنما تبدأ من التغيرات الكمية الخفية إلى تغيرات كيفية مفاجئة“، وهذا مثلنا له سابقاً فقلنا هذا الماء تجعله على النار، فتتحرك ذرات هذا الماء، هذا التغير تغيرٌ كمي بشكل بطيء، وبمجرد أن يصل إلى درجة 100° يتحول إلى تغير كيفي فيتحول حالة غازية، فهو قد كان تغيراً كميّا تحول إلى تغير كيفي بشكل مفاجئ، أو هذا الماء نفسه تنزل درجة حرارته بشكل بطيء وهذا كله تغير كمي، وبمجرد أن يصل إلى درجة الصفر يتحول إلى تغير كيفي وهو أن يصبح جليداً، وهذا ما نُعبر عنه بالقفزة، أي أن التغير الكمي يصل إلى لحظة يتحول فيها إلى تغير كيفي بشكل مفاجئ. ”القفزة وتعني كما ذكر ستالين الانتقال من التغيرات الكمية إلى التغيرات الكيفية المفاجئة“.

الأصل الرابع: نزاع الأضداد.

نحن قررنا أن الوجود كله يتحرك، وأن الحركة حركةٌ تكاملية، وأن هذه الحركة موجودة حتى في الفكر، وأن هذه الحركة هي عبارة عن انتقال من تغيرات كمية إلى كيفية، فكل أصل يتبع الأصل الثاني إلى أن وصل إلى الأصل الأخير وهو جواب على سؤال «ما هو منطلق هذه الحركة؟»، أي من أين جاءت هذه الحركة؟ هذه الحركة التكاملية على نحو القفزات من أين جاءت؟ ما هو مُنطلقها؟ قال منطلقها هو نزاع الأضداد؛ لأن كل وجودٍ يحوي في أعماقه صراع النقائض والأضداد، وهذا الصراع هو الذي يُولد هذه الحركة التكاملية.

يقول ستالين [4] : ”إن الأسلوب الديالكتيكي قائم على أن تار التكامل من السافل إلى العالي لم يكن نتيجة لتكامل الظواهر المنسجمة واتساعها - أي أنهم تماماً يخالفون المنطق العلمي، فهذا التغير هل هو ناشئ عن أن الظواهر توسعت وكبرت؟ لا، لم يتغير شيء في الظواهر، فالظواهر هي نفسها والحركة هي نفسها لأن هذه الحركة إنما هي ظهور لذلك التناقض الموجود في أعماقها - بل على العكس إنه أثر ظهور التناقضات الداخلية للأشياء ويتم خلال نضال مرير بين الرغبات المتضادة الناشئة من تلك التناقضات“، فكما قلنا في داخل البيضة يوجد صراع يتحول إلى فرخ ومن ثم يتحول إلى دجاجة وكل ذلك نتيجة الصراع بين المتناقضات".

يقول إنجلز: ”إن الإنسان لم يعد يرهب التناقضات - أي صارت التناقضات شيئاً عادياً لأنها موجودة في كل شيء - التي كانت علوم ما وراء الطبيعة تؤكد أنها ثابتة وترفض أي تغيير من قبيل التضاد، الصحيح والخطأ، الخير والشر، الثابت والمتغير، الحتمي والصدفة، فكل هذه التناقضات نسبية، فما يُعتبر اليوم صحيح له ناحية غير صحيحة مستترة وستظهر فيما بعد، وما يعد اليوم غير صحيح له ناحية صحيحة بسببها كان يُعتبر صحيحاً، وما نعتبره واجب الوقوع فهو مركب من حوادث اتفاقية، وما نعده صدفة فقد ركزنا على ظاهره فقط ويختفي تحت الظاهر الوجوب واللزوم - فكل شيء يشتمل على نقيضه تراه صدفة هو مشتمل على وجوب، نراه واجباً هو مشتمل على صدفة، تراه مثلا ثابتاً هو مشتمل على متغير، تراه متغير هو مشتمل على نقطة ثبات - فكل الكون يعيش صراعَ النقائض ونزاع الأضداد“.

النتيجة: في الفلسفة الميتافيزيقية - التي نحن نعتقد بها - توجد أصول ثلاثة ثابتة لا نستطيع أن نرفع يدنا عنها، وهي «العينية، الثبات، امتناع التناقض»، فمثلا عندما نقول «الإنسان حي ناطق»، فهذه فكرة وهذه حقيقة، هذه الحقيقة تعيش ثلاثة أصول وهي العينية بمعنى أن الإنسان هو الإنسان وليس شيئاً آخر، وقد عبرنا عنه سابقاً ب «مبدأ الهوية»، فكل شيء هو هو وليس غيره، الإنسان هو الإنسان وليس نباتاً ولا جماداً الإنسان هو الإنسان وليس ملكاً ولا جناً، فهذا مبدأ العينية والهوية، والأصل الثاني الثبات، فهذه الفكرة لا تتغير بمرور الأيام فهي تعبير عن الإنسان والإنسان حقيقة، إذن الفكرة حقيقة تبقى ثابتة، والأصل الثالث امتناع التناقض فلا يمكن أن يكون الإنسان حيّا ناطقا ولا حيا ولا ناطقا؛ لأن التناقض ممتنع، فهذه أصول ثلاثة تقوم عليها الفلسفة الميتافيزيقية، وعلى العكس تماماً الفلسفة الديالكتيكية تنقض الأصول الثلاثة فلا عينية ولا ثبات ولا استحالة في التناقض فتبنت الديالكتيك أضدادها، فمثلاً عندما نقول: «كل شيء هو ذاته وليس غيرَه» فهذه العبارة في الفلسفة الميتافيزيقية أصل من الأصول، وأما في الفلسفة الديالكتيكية هذه العبارة خطأ؛ لأنه يبتني على مبدأ العينية ومبدأ الثبات وامتناع التناقض.

مآخذ الديالكتيك على الأصول الثلاثة عند الميتافيزيقيين:

مبدأ العينية.

أما مبدأ العينية إنما قالت به الفلسفة الميتافيزيقية لأنها تتصور أن الأشياء منفصلة في الذهن، فالفلسفة الميتافيزيقية تقول تصور الإنسان غير تصور النبات وتصور البياض غير تصور السواد وتصور الموت غير تصور الحياة، فلأنها ترى الأشياء في الذهن منفصلة لذلك قالت بمبدأ العينية «كل شيء هو هو وليس غيره» لأنها تتبنى انفصال الصور في عالم الذهن، وهذا - أي الأشياء منفصلة في عالم الذهن - يتنافى مع مبدأ الارتباط الوجودي العام في الخارج والفكر، فكما أن الخارج مسيرات تحولية فإن الفكر أيضا مسيرات تحولية، إذن بالنتيجة لا يوجد عندنا فكرة منفصلة، فكما أن كل ظاهرة في الخارج مرتبطة بسائر الظواهر فإن كل فكرة مرتبطة بسائر الأفكار، فليس عندنا هوية ولا عينية.

مبدأ الثبات.

أما مبدأ الثبات، فأنا لما أقول «الإنسان هو الإنسان» يعني أنا أقول بالثبات، هم يقولون لا، وهذا الثبات الذي تقول به ناشئ عن تصور أن الأشياء ساكنة، والأشياء دائماً في حالة تغير، فبما أن الأشياء في حالة تغير فإذن لا يوجد عندنا فكرة ثابتة، فدعوى أن الأفكار ثابتة يتنافى مع قانون الحركة.

مبدأ امتناع التناقض.

أما مبدأ امتناع التناقض، فهو لازم وضروري لا ممتنع؛ لأن الحركة لا تقوم إلا على أساس صراع النقيضين.

المحور الثاني: عرض الملاحظات على الفلسفة الديالكتيكية.

الملاحظة الأولى:

هم قالوا أن الأصل الأول هو «تبعية الجزء للكل»، ويعني أن كل ظاهرة من الظواهر مرتبطة بغيرها من الظواهر، والكلام ليس هنا وإنما في الفكر، فهل أن لكل وجودٍ في عالم الطبيعة ماهية ثابتة أم لا؟! وهذا الذي نُريده، لا عالم الخارج وأن كل ظاهرة مرتبطة بغيرها من الظواهر فلا مانع من هذا الكلام، وإنما الكلام أن الصور لهذا العالم كصورتي عن الإنسان في الذهن والنبات في الذهن وصورة النبات في الذهن والحيوان في الذهن، فهل هذه الصورة أيضا لا تعيش الثبات؟! فالكلام في صور الأشياء، ولهذا قلنا في الملاحظة الأولى إن هناك فرقاً بين ماهية الشيء - الموجودة في الذهن - المنتزعة من حدّه الوجودي وبين واقع علاقاته مع الأشياء الأخرى، فلا يُمكن أن يوجد إنسان بدون علاقات، فالإنسان له علاقة مع الطبيعة يأكل ويشرب منها فهو منها وينتهي إليها، والإنسان له علاقة بالشمس فيكتسب من حرارتها الحياة، الإنسان له علاقة بالنجوم يكتسب من ضوءها، فالإنسان له علاقات مع كل الأشياء، ولكن هل يُمكن أن نَنْتَزِعَ من وجود الإنسان ماهيةً في الذهن نُسميها حيٌّ ناطق أو لا يمكن؟ فهذا هو جوهر البحث، فهل يمكن أن ننتزع ماهية ثابتة للإنسان مع أن وجود الإنسان في الخارج وجود ضمن علاقات عديدة مع الطبيعة؟ نقول نعم هناك فرق بين الماهية وبين وجوده، فوجوده ذو خيوط عديدة ومتعدد العلاقات، ولكن الماهية له ماهية ثابتة، وبيان ذلك:

دعنا نحلل العلاقات، لماذا صار لوجود الإنسان علاقة مع الطبيعة؟ لماذا صار لوجود النار علاقة مع الماء؟ لماذا صار لوجود الماء علاقة مع الشمس؟ لماذا هذه العلاقات؟ وما هو منشأ هذه العلاقات؟ نقول منشأ هذه العلاقات التفاعل، فهناك تفاعل بين النار وبين الماء، نتيجة هذا التفاعل تحرك الماء وتحول إلى حالة غازية، إذن العلاقات هي علاقة تفاعل، والتفاعل هو عبارة عن تبادل التأثير والتأثر، النار تؤثر في الماء والماء يؤثر في النار، فهناك علاقة تأثير وتأثر متبادل بين الأشياء، فعلاقة التفاعل الموجودة هي علاقة التأثير والتأثر.

لو سألنا: لماذا صارت بينهما علاقة؟ لماذا بين الماء والنار علاقة؟ لماذا صار هناك تفاعل بين الماء والنار؟ لوجود خصوصية وجودية في النار وخصوصية وجودية في الماء فكنتيجة لهاتين الخصوصيتين حصلت علاقة التأثير والتأثر، إذن اعترفنا أن هناك خصوصية لكل وجود، فلو لم يكن للنار خصوصية ولم يكن للماء خصوصية ولم يكن للهواء خصوصية ولم يكن للتراب خصوصية لما تفاعلت هذه الأشياء على نحو التأثير والتأثر، فنفس اعترافنا بأن الأشياء تتفاعل هو اعتراف ضمني بأن لكل شيء خصوصية تميزه، فبما أن لكل شيء خصوصية تميزه انتزعنا الماهية من تلك الخصوصية التي تميزه، فإنسان له خصوصية تميزه انتزعنا منها ماهية الإنسان، النار له خصوصية تميزها انتزعنا منها ماهية النار، الماء له خصوصية تميزه انتزعنا من تلك الخصوصية ماهية الماء، إذن فرق بين العالمين، تأتي وتقول أن الأشياء كلها مرتبطة، ما معنى مرتبطة؟ يعني متفاعلة، والمفروض أن تفاعلها فرع خصوصياتها، فلا بُد أن نرجع إلى الخصوصيات، فمن تلك الخصوصيات انتزعنا الماهيات، فالماهية ثابتة لأن الخصوصية ثابتة وإن كانت العلاقات متحركة وهي علاقة التأثير والتأثر.

الملاحظة الثانية:

قالوا أن الفكر يخضع للحركة، أي أنه حتى أفكارنا تتحرك، ولكننا نقول أن الفكر لا يخضع لقانون الحركة وإن كان الفكر وجوداً إلا أن هذا الفكر لا يخضع لقانون الحركة؛ لما يشهده الوجدان من ظاهرة التغاير والثبات والإدراكات، فمثلاً انتقشت في ذهني صورة الشجرة التي رأيتها في إستانبول قبل 30 سنة، هذه الشجرة الآن لربما تغيرت إلا أن صورتها التي انتقشت في ذهني ما زالت هي هي، فكلما تذكرت رجعت ذات الصورة، فإذن الصور الذهنية - التي نعبر عنها بالفكر - تعيش الثبات ولا تعيش الحركة، كما أنها أيضا تعيش التغاير تماماً، فزيد وعمر أخوان توأمان وهما توأم حقيقي من بويضة واحدة ومتشابهان تمام التشابه ولكن أنا الذي أعرفهما أميز بينهما فصورة زيد غير صورة بكر، أعرف أن هذا غير هذا، ولكن من يعاشرهما معاشرة لصيقة يميز بينهما، إذن هناك صورتان متمايزتان، وهذا التمايز نفسه مع الثبات دليل على أن الفكر لا يخضع لقانون الحركة.

الملاحظة الثالثة: الفكر الديالكتيكي نقض أصلين مهمين من أصول الفلسفة وهما «امتناع التناقض، مبدأ الهوية - العينية -»، ونحن هنا لا بُد أن نفهم ضرورة «مبدأ عدم التناقض» ثم نقيس عليه ضرورة «مبدأ العينية - الهوية -».

مبدأ عدم التناقض:

إن امتناع التناقض أساس الحكم، والتصديق بأيِّ فكرةٍ لا يُمكن إلا إذا آمنت بأن التناقض مستحيل فهو أساس العلوم التصديقية، فكل العلوم التصديقية المشتملة على حكم أساسها مبدأ عدم التناقض، فمثلا في الأصول الأربعة - كما ذكرنا في المحور الأول - للفكر الديالكتيكي فإنها لا تتم بدون مبدأ امتناع التناقض، فلو لم يؤمن الديالكتيكيون بامتناع التناقض لصح لهم أن يقولوا أن الأصول الأربعة «هي هي» وهي ليست هي، ولو كانوا يقولون هكذا لما صار للفكر الديالكتيكي أصول لأن أصوله متناقضة تقبل نقيضها ونفيها، فأصول الديالكتيك الأربعة لا يمكن الإذعان بها دون إغفال نقيضها، فالذهن بمجرد أن يتوجه إلى أصل من الأصول لا بُد أن يُغفل نقيضه وإلا لا يستطيع أن يؤمن به، فأنت لا تستطيع أن تحكم بأن الأرض كروية إلا إذا أغفلت نقيضها، ولا تستطيع أن تحكم بأن الأرض متحركة إلا إذا أغفلت نقيضها، ولا يمكنك أن تحكم بأنك أنت أنت إلا إذا أغفلت النقيض وإلا حتى وجودك لا يمكنك أن تؤمن به، فأي حكم وأي تصديق لا يمكن أن يحصل بدون البناء على امتناع التناقض، إذن امتناع التناقض أساس الحكم والتصديق بأي فكرة.

مبدأ العينية «الهوية»:

وهذا نقيسه على الأول، فكما أن مبدأ عدم التناقض أساس العلوم التصديقية فإن مبدأ العينية أساس العلوم التصورية، فنحن عندنا علوماً تصديقية وعلوماً تصورية، والعلوم التصورية هي التي لا تستبطن حكماً بل تصور للأشياء، فكما أن امتناع التناقض أساس العلوم التصديقية فإن مبدأ العينية هو أساس العلوم التصورية، كذلك علاقة مبدأ العينية بعالم التصور كعلاقة مبدأ امتناع التناقض بعالم التصديق، فكما أن الثاني - أي مبدأ امتناع التناقض - أساس استقرار الأحكام في العلوم التصديقية فإن الأول أساس كون الصورة على نحو ما به يُنظر وما فيه يُنظر.

زيادة بيان لهذه النقطة:

الآن أنا أتصور الشمس وأنا في الليل، فعندما أتصور الشمس لها لحاظان:

اللحاظ الأول: ما به يُنظر.

بمعنى أنني عندما أتصور الشمس لا يتحرك ذهني إلا لنفس الشمس التي رأيتها، فلا يُلاحظ الذهنُ أن هذه صورة بل يُلاحظ أن هذه الشمس نفسها، أي أغفل أني أرى صورة بل أشعر كأني أرى الشمس، فعندما أتذكر الشمس لا أشعر بأن بيني وبين الشمس صورة، وهذا معنى «الصورة على نحو ما به يُنظر».

اللحاظ الثاني: ما فيه يُنظر.

أقول أن هذه ليست الشمس وإنما هي الصورة، فصارت الصورة «ما فيه يُنظر».

فتارة الصورة تُستخدم مجرد أداة بحيث لا أرى إلا نفس الشمس ولا أرى صورة فهذا «ما به يُنظر»، وتارة أرى أن ما في ذهني هو نفس ما في الكاميرا - أي مجرد صورة - فأنظر إليها بما هي صورة لا بما هي شمس فتكون على نحو ما فيه يُنظر.

هذا التعدد في اللحاظ - لحاظ على نحو ما به يُنظر وتارة على نحو ما فيه يُنظر - ناشئ عن العينية، فصورة الشمس هي ماهية الشمس وهي مفهومها، فلو لم يكن مفهوم الشمس حاكياً عن الشمس لما صح أن تقول «هذا هو الشمس»، مثلا «الشمس نجمٌ حراري يبتعد عن الأرض 8 دقائق ضوئية أي 150 مليون كيلو متر»، فهذه هي صورة الشمس في ذهني، ألا أستطيع أن أقول «هذه هي الشمس؟»، فكلمة «هذا المفهوم هو الشمس» هو معنى أنك لاحظت الصورة على نحو ما به يُنظر، فلولا مبدأ العينية لما أمكنك أن ترى الصورة على نحو ما به يُنظر، وكونك تستطيع أن ترى الصورة على نحو ما فيه يُنظر دليل على أن مبدأ العينية لا يزول إلا باللحاظ فقط، وإلا لولا اللحاظ لكنت تقول «هذه هي الشمس» لا أن «هذه هي صورة الشمس».

ثم نتطور أكثر من ذلك، فالمسألة ليست فقط مسألة مبدأ العينية، بل لولا مبدأ الثبات لما أمكن العلم بشيء أبداً، فلو كانت الصورة الذهنية تتغير لم يحصل عندنا علم بأي شيء، فلو سألنا مثلا من يدرس الطب «هل تستطيع أن تعلم بأي قانون في علم الطب إذا لم تكن القوانين ثابتة؟» لا يمكن العلم بأي شيء من الأشياء إذا لم تكن الصورة ثابتة، فالصورة تحولت إلى صورة أخرى فأي شيء علمت به؟! فلا يُمكن العلم بأي شيء مع إلغاء مبدأ الثبات، فلا بُد أن يُقال أنَّ الأفكار ثابتة والصور الذهنية ثابتة، ولولا ثباتها لما أمكن العلم بأي شيء، بل حتى قولنا «كل شيء مجهول» هي علم، فلو لم يكن هناك ثبات لكانت نفس هذه الكلمة مجهولة أيضاً، بل لولا مبدأ الثبات لما أمكن العلم بأي شيء بل حتى قولنا «كل شيء مجهول»، فهذه قضية ولسوف تُصبح هذه القضية نفسها مجهولة وهذا خلاف الوجدان، فهي قضية معلومة.

ما هو السر في أننا عزلنا الفكر عن الواقع؟ آمنا بأن الواقع متحرك ولكننا قلنا بأن الفكر ثابت، فنحن آمنا بأن الواقع ينعكس بصورة ثابتة في الذهن، فما هو السر في ذلك؟

كلمة لطيفة وهي «الوجود محتجب عن نفسه» [5] ، فكل وجودٍ في عالم الطبيعة أو عالم المادة - وهذا سبق الإشارة إليه لما أقمنا البرهان على أن الفكر صورة مجردة - محفوف بالزمان والمكان، فلا يستطيع الوجود المادي أن يتحرر من الزمكان، فهو له زمان معين ومكان معين، فحتى هذه الكلمة التي أقولها الآن فهي كلمة اتصفت بزمن ومكان، فكل وجود حتى كلمة «هي محاطة بالزمكان» فهي محاطة بزمن معين وفضاء معين، ومع إحاطتها بنفس الزمان والمكان لا يمكن أن ترى نفسها إلا إذا خرجت عن الزمان والمكان، فلا يُمكن للشيء المحتجب بالزمكان أن يرى نفسه؛ لأنه ما دام في الزمكان فلا يستطيع أن يتحرر منهما، ومع عدم تحرره منهما لا يستطيع أن يرى نفسه وبما في ذلك العنصرين «الزمان والمكان» المحيطان به، فكل الوجود المادي محتجب عن نفسه لأنه محفوف بالزمكان، بينما الإدراك - الصورة التي أتصورها - متحررة من الزمان والمكان، ولتحرره منهما يُدرك الوجود المادي بما هو محاط بالزمكان، فالوجود المادي المحتجب عن نفسه ليس محتجباً عني؛ لأن الذي يمنعه عن رؤية نفسه هو كونه محاطاً بالزمكان بينما إدراكي ليس محاطاً بالزمكان ولذلك أدرك الوجود المادي بقيوده التي منها الزمان والمكان، وهذا هو سر الفرق بين عالم الذهن والعالم الواقع المادي.

فكما أن الحركة لا تجتمع أجزاؤها في الوجود وإلا لما صارت حركة، فالحركة في كل لحظة هي قوة وفعل، فلا يُمكن أن تكون الحركة فعليتان في آن واحد، فأنت لما تشمي على الأرض فإن كل خطوة على الأرض هي فعلية وقوة للخطوة التالية، فالحركة في كل لحظة هي قوة وفعل، لذلك لا تجتمع أجزاؤها في الوجود ولكن تجتمع أجزاؤها في الذهن، فأنا أتخيل حركة فلان منذ دخوله إلى خروجه بصورة واحدة جمعت جميع أجزاء الحركة، فإن هذا مما يكشف عن تغاير عالم الذهن مع عالم الواقع.

ربما أحدهم يقول: إذا كنتم تقولون أن عالم الذهن غير عالم الواقع فعالم الواقع محتجب عن نفسه وعالم الذهن محيط، عالم الواقع حركة لا تجتمع أجزاؤها بينما عالم الذهن محيط بالحركة فكيف إذن اعتبرتم عالم الذهن انعكاساً وعلماً بالواقع؟! نقول «إنما كان عالم الذهن انعكاسا للواقع وعلماً بالواقع لأن المتفرقات في عالم الوجود مجتمعات في الذهن»، مثل الآن فلم التصوير، فهذا الفلم يصور لنا محاضرة تستغرق ساعة متفرقة الأجزاء ومتوزعة الكلمات، ولكن هذا الفلم يجمعها كلّها بمعد أن يتم التصوير في لحظة واحدة، فما هي متفرقات في عالم الوجود مجتمعات في الصورة، فلذلك صار انعكاسٌ في عالم الواقع. [6] 

الملاحظة الرابعة: العينية أصل فطري.

الدليل على أن العينية أصل فطري عندما نقول «هذه الصورة هي هذه» يؤمن به الإنسان بفطرته هو أن إدراك العلاقة مع الأشياء فرع إدراك الذات، أي كما يقولون «العرش ثم النقش» فأنت تقول «لكل وجودٍ في الخارج علاقات» فإن نفس هذه الكلمة تتضمن عنصرين «ذات، علاقات»، ولولا أن له ذات لما صارت له علاقات، فإن إدراك العلاقة مع الأشياء فرع إدراك الذات، أدركت ذاته ثم أدركت علاقاته مع الأشياء الأخرى، فنفس هذا الإدراك هو أمر فطري، أدركت أن هذا الشيء هو ومتفرعاً عليه - وليس بالضرورة أن يكون التفرع زماني بل رتبي - أدركت أن له علاقات مع الأشياء الأخرى، بل كما قال السيد الطباطبائي «قدس سره» [7] : ”سلب العينية مستلزم لثبوتها“، فأنت لا تستطيع أن تسلب العينية إلا إذا أثبتها.

وهنا نطرح صورتين في الذهن: صورة زيد وصورة زيد - أي نتصور زيداً صورتين - وأنا أريد أن أسلب العينية وأريد أن أقول «هذا ليس عين هذا» فإني بمجرد أن أقول «هذا» فأنا اعترفت بالعينية، فسلب العينية مستلزم لثبوتها، وهو إقرار بأن هناك شيء اسمه «هذا»، فحتى الذين يريدون سلب العينية من حيث لا يشعرون يثبتون العينية، فإن سلب العينية مستلزم لثبوتها، ولولا ذلك لم يكن تعريف الديالكتيك هو الديالكتيك، فلو أتينا إلى تعريفهم فإنجلز يقول: ”الديالكتيك علم قوانين الحركة في العالم الخارجي والفكر الإنساني“، هنا هل هذا هو الديالكتيك أم لا؟ تقول هو الديالكتيك إذن هنا اعتراف بمبدأ العينية، فقلتم أن هذا المفهوم هو الديالكتيك، فمن يعرف الديالكتيك بهذا عندما يتصور الديالكتيك فهل يتصور في فكره الميتافيزيقا ويقول «هذا غير هذا» أم لا، فطبيعي هو يتصور الديالكتيك ويتصور الميتافيزيقا ويقول هذا الفكر غير هذا الفكر، وهذا التفريق هو نفسه اعتراف بأن لكل فكر عينية.

الملاحظة الخامسة: هل النظرية الديالكتيك حقيقة أو ليست حقيقة؟

وهذه يكررها الشهيد المطهري - رحمه الله - ويكررها السيد الصدر - رحمه الله -، فإذا قلتم أن النظرية الديالكتيك حقيقة فهل هي متحولة إلى ضدها أو غير متحولة؟ وعلى كل حال، هل هي مؤقتة أم دائمة؟ فلابد من الاختيار، ولذا نأتي إلى الأسئلة تباعاً:

السؤال الأول: هل أن هذه النظرية - التي جعلتم لها أصولاً أربعة - حقيقة أو ليست بحقيقة؟

هذه الفكرة - الديالكتيك علم وقوانين الحركة ويعتمد على أصول أربعة - هذي حقيقة أم ليست حقيقة؟ إذا قلتم ليست حقيقة، فكيف بُنيت عليها فلسفة مادية نقضت الفلسفات الأخرى وهي ليست حقيقة؟! وإن قلتم نعم هي حقيقة، نسأل السؤال الثاني.

السؤال الثاني: هل هي تتحول بطبعها إلى ضدها لأن كل موجود يعيش حركة والحركة هي عبارة عن صراع النقائض؟

إن قلتم بالأول فمشكلة وإن قلتم بالآخر فمشكلة أيضاً، فإن كانت لا تتحول إلى ضدها فهذا خلف الأسس الأولية للديالكتيك وهو أن كل شيء يتحول إلى ضده ومنه الفكر، وإن كانت تتحول فإن هذا خلف ما ذكره لينين حيث قال لا يُمكن أبداً تغيير أي قسم من الأقسام الأساسية للفلسفة الماركسية المبنية بأكملها من الفولاذ، فأصول فلسفتنا لا تتغير أبداً مبنية من الفولاذ، إذن كيف كل فكر يتحول إلى ضده وإلى نقيضه وهذه أفكار ثابتة كالفولاذ؟!

السؤال الثالث: هل هي مؤقتة أم دائمة؟

هم يقولون هذه المقالة «كل حقيقة فهي مؤقتة» أي لا يوجد شيء دائم، فإن كانت مؤقتة فلن تبقى حقيقة من الحقائق لأن كلها مؤقتة فكل الديالكتيك هو فكر مؤقت، وإن كانت دائمة انتقض أصل من أصول الديالكتيك وهو أنه لا ثبات في الأفكار ولا دوام في الأفكار.

إلى هنا فرغنا من مناقشة المادية الديالكتيكية، فندخل في فصل آخر يتعلق بنظرية المعرفة وهو البحث عن الحقيقة، في تعريفها والنظر إن كانت الحقيقة تقبل الخطأ أم لا.

والحمد لله رب العالمين

[1]  أصول الفلسفة ج2 ص152 فما بعدها.
[2]  وهذه عبرتُ عنها هنا «التي تعني خضوع كل موجود للحركة الدائمة حتى الأفكار في الذهن».
[3]  هذا بحثناه سابقاً في كلمات السيد الشهيد الصدر بعنوان «قفزات التطور» الآن هذا أيضا يذكر هنا كأصل من أصول الفكر الديالكتيكي.
[4]  الشاعر الجواهري له شعر جيد في أهل البيت ، له أيضا شعر في ستالين:
يا ستالين وما أعظمها في التهجي = أحرفاً تأبى الهجاء
[5]  ولعل القائل ابن سينا أو من قبله.
[6]  ولا نُريد الآن هنا أن ندخل فيما ذكره آينشتاين عن الزمان وغيره عن الزمان، وكيف أن الزمان بذهننا أنه أشياء متفرقة بينما هو في الواقع ليست متفرقة، فهذه نظريات أخرى وليس البحث فيها، بل الكلام في التصور الأولي، فنقول الذهن انعكاس لأنه محيط بالمتفرقات في عالم الوجود.
[7]  في متن أصول الفلسفة.