الدرس 40 | هل الحقيقة نسبية أم مطلقة؟

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

هل الحقيقة نسبية أم مطلقة؟ وهنا محوران:

المحور الأول: في تصوير النسبية ونقدها.

ما هي المدرسة النسبية؟

المدرسة النسبية تقول أولاً لا بُد من معرفة الحقيقة حتى نعرف هل أن الحقيقة نسبية أم غير نسبية، فلا بُد من تعريف الحقيقة أولاً وعلى إثر ذلك نستطيع أن نحدد هل أن الحقيقة نسبية أم مطلق؟

تعريف الحقيقة

الحقيقة: هي عبارة عن المفاهيم التي ترتسم في ذهن الإنسان حاكية عن الأشياء الموجودة في العالم المادي، ونحن لما نقول أنها «حاكية عن الأشياء الموجودة في العالم المادي» لأن المدرسة النسبية هي مدرسة مادية ولا تؤمن بما وراء عالم المادة ولذلك نحن حصرنا التعريف بالعالم المادي، ولذلك أساساً المدرسة النسبية لا تؤمن بما سوى عالم المادة.

هل مفهوم الحقيقة - كل مفهوم يحكي عن شيء في عالم المادة - هو مفهوم مطلق أم مفهوم نسبي؟ 

النسبية تقول أن هذه المفاهيم لا تصل إلى ذهن الإنسان بصورة ثابتة بل بصور مختلفة، أي أنني أتصور المفهوم بصورة وأنت تتصور المفهوم بصورة أخرى وثالث هكذا، فمفهوم واحد يحكي عن شيء واحد لكنه يرتسم في الذهن بصور مختلفة، وهذه المفاهيم لا تصل إلى ذهن الإنسان بصورة ثابتة بل بصور مختلفة.

ما هو السبب في أن المفاهيم ترتسم في الأذهان بصورٍ مختلفة؟ 

ذلك لدخالة ثلاثة عناصر في تحديد هذه المفاهيم:

العنصر الأول: السلسلة العصبية للذهن. [1] 

فالصورة تصل إلى الذهن عبر سلسلة عصبية، فتنعكس الصورة على قرنية العين، وتنتقل عبر أعصاب معينة إلى قوة الذاكرة، ثم من قوة الذاكرة تنتقل إلى قوة أخرى، فبالنتيجة فإن الصورة التي تحكي عن عالم الخارج تنتقل عبر سلسلة عصبية ترتبط بمخ الإنسان إلى أن تتحدد الصورة بمعالم معينة، وبما أن السلسلة العصبية تختلف باختلاف الإنسان والحيوان، فالحيوان لا يرى الألوان التي يراها الإنسان، فالإنسان يرى الألوان بأدق مما يراه الحيوان، فنفس الإنسان بمجرد أن يتعرض إلى خلل في هذه السلسلة العصبية فهو لا يرى الصورة بالصورة الواضحة التي يراها الإنسان السليم.

إذن السلسلة العصبية تختلف باختلاف الإنسان والحيوان، بل ربما تختلف باختلاف الإنسان نفسه، وذلك له أثره في اختلاف المفهوم المرتسم في الذهن، وضربنا مثلاً «صورة الحقيقة»، فأنا أرى الحديقة مستطيلة وأنت ترى الحديقة مربعة، فنحن نتكلم عن الصورة لا المقياس وكلانا بنفس المكان، لونها كذلك، فأنا أراها باللون الرمادي وأنت تراها باللون البنفسجي، وشكلها كذلك، فأنى أرى هذه الحديقة خضراء مؤنقة وأنت تقول لم تصل إلى حد الاخضرار المؤنق، فاختلاف السلسلة العصبية بيننا يؤدي إلى اختلاف الصورة المرتسمة في ذهني وذهنك، وهذا معناه أن المفهوم - وهو الصورة - التي تحكي عن الحديقة مفهوم نسبي وليس مفهوم مطلق، لأنه بالنسبة للمفهوم مثلث وبالنسبة لك المفهوم مربع وهكذا، فالمفهوم ليس بصورة ثابتة بل بصورة مختلفة.

الشهيد المطهري [2]  قال: ”إن العملية الفكرية ليست شيئاً سوى سلسلة من التغيرات الكيميائية التي تحصل للمخ، ولعل نوع التركيب العصبي للأشخاص مختلف، وإذا كان متفاوتاً إذن لا بُد أن تختف إحساساتهم وطرق تفكيرهم - وهذا جزء من المشكلة وهو أن السلسلة العصبية مختلفة بين الأشخاص، وعلاوة على ذلك فإن كل جزء من أجزاء الطبيعة تتغير خواصه وموقعه حسب العوامل المحيطة به“، إذن السلسلة الموجود في المخ أيضاً من أجزاء الطبيعة، فكما أن الشجرة تتغير والماء يتغير وكل ظواهر الطبيعة تتغير، فإن من جملة أجزاء الطبيعة هذه السلسلة العصبية المرتبطة بمخ الإنسان إذن هي خاضعة للتغير، وإذا كانت خاضعة للتغير رجعت المشكلة فَطَرْزُ تفكير الشخص الواحد قد يختلف في بيئات مختلفة، فأنا اليوم تفكيري هكذا وبعد شهر تفكيري يختلف، وقبل شهرين كان تفكيري شيء ثالث نتيجة هذه التغيرات، ولهذا لا بُد أن لا ننتظر من إنسان ينشأ في كرة المريخ وينفق عمره هناك أن يفكر كما نفكر نحن الذين نعيش على الكرة الأرضية، ”وذلك لأنه من المحتمل أن تكون إدراكاته بشكل آخر يتفق مع البيئة التي يعيش فيها، فمثلا قد الإنسان فوق المريخ عنده «2×2=3» ونحن عندنا «2×2=4»، وقد يكتشف القوانين الطبيعة بنحو مختلف عن اكتشافاتنا، وقد يصوغ لنفسه فلسفة أخرى ومنطقاً آخر“.

العنصر الثاني: المكان.

وليس المقصود بالمكان هو الطاولة أو الأرض، والقصود بالمكان نبيه بهذا البيان:

كل ظاهرة وجودية لها عوامل جيولوجية وطبيعية ساهمت في وجودها وولدتها، ”وحيث إنها تختلف باختلاف العوامل والمواقع“ وهذا الذي نقصد به، فالمكان هو مجموعة العوامل الجيولوجية والطبيعية المساهمة في وجود الظاهرة، وهذا يختلف، فمثلا اختلاف الثمرة باختلاف موقع النمو، فتفاحة أينما تزرعها تختلف، فتزرعها في لبنان وتزرعها في تركيا وفي إيران تختلف، فالثمرة تختلف باختلاف العوامل التي تُسهم في وجودها من سمادٍ وتراب وهواء، فهي تختلف باختلاف مواقع النمو. كذا أيضل ظاهرة الغليان نفسها، فالماء يغلي في طاقة حرارية تعود إلى الشمس، فهل أن نفس الدرجة الماء يغلي في طاقة حرارية تنشأ من كهرباء؟! هل الماء يغلي عندما يكون في أعلى الجبال الجليدية نفسه ونفس الدرجة عندما يكون على الأرض؟! من الطبيعي تختلف، فإنه تختلف درجة الغليان باختلاف السبب المولد لها واختلاف موقعها، فكما أن الغليان هو ظاهرة وهذه الظاهرة تختلف درجاتها وكيفيتها باختلاف العوامل، الثمرة هي ظاهرة وتختلف باختلاف العوامل، وكذلك المفهوم المنعكس عنها يختلف باختلاف هذه العوامل، فإن تصوري مثلا للثمرة في القطيف غير تصوري للثمرة في العراق، وتصوري للغليان في الأرض غير تصوري للغليان في أعلى الجبال الجليدية، فالمكان موجب للاختلاف.

العنصر الثالث: الزمن.

بناء على النظرية النسبية - نظرية آينشتاين - فإن الزمن ركن رابع مقوم لحركة الموجود المادي، فلا يتصور موجود مادي غير متحرك، ولا يُتصور حركة لأي موجود مادي منفصلة عن الزمن، فالزمن بُعدٌ رابع ومقوم لحركة الموجود المادي، وهذا يعني أنه لا محالة أن اختلاف الزمن سبب لاختلاف الصورة التي تنعكس في أذهاننا. هذه السيارة كم من الكيلو مترات تقطع في الساعة؟ كم في ساعتين؟ وهنا اختلف قياس الحركة وسرعة الحركة باختلاف الزمن كاختلاف مقدار سرعة حركة السيارة في كل زمن بحسبه، فالصورة التي تنعكس عن حركة السيارة في ساعة غير الصورة التي تنعكس عن حركتها في دقيقة أو في ثلاثين ثانية وغير ذلك.

فتحصل أن الحقيقة هي المفهوم، والمفهوم لا يصل بصورة ثابتة بل يصل إلى الذهن بصورة مختلفة، وذاك نتيجة لاختلاف السلسلة العصبية ونتيجة لاختلاف الزمن، والنتيجة هي: ”أن الحقيقة تصل إلى الأذهان بشكل مختلف بل تصل إلى الذهن الواحد - الإنسان كيف يتلقى الحقيقة - في زمانين أو مكانين بنحوٍ مختلف“، وهذا هو معنى النسبية.

نقد النظرية النسبية.

قبل أن ندخل في النقد فإننا لا بُد أن نقدّم بمقدمة وهي أننا نناقش أي نسبية ونتكلم عن أي نسبية؟ فهناك فرق بين النسيبة الواقعية والنسبية الإدراكية، فهل النسبية في أذهاننا أم في عالم الواقع مع غض النظر عن أذهاننا؟ فعن أي نسبية نتكلم الآن؟ فلا بُد أن نفرق بين الأمرين، وبيانه:

النسبية الأولى: النسبية الواقعية.

لو لم يكن هناك إنسان على الأرض وليس هناك مفاهيم وليس هناك صور، فهل هناك نسبية في الواقع أم لا؟ نعم هناك نسبية، فلا إشكال فيها في عالم الظواهر المادية بسبب خضوعها لقانون الحركة، فما دام كل شيء متحرك يعني لا يوجد شيء ثابت، وقانون الحركة يقتضي اختلاف الواقع باختلاف آن الحركة وموقع الحركة. حياة الإنسان هي مجموعة من الظواهر منذ أن كان نطفة وحتى يُصبح جثة في التراب فإن هذا العمر كله ظاهرة بعد ظاهرة، بالنتيجة خضوع الحياة الإنسانية - فضلا عن حياة كل موجد آخر - لقانون الحركة في جوهرها - أي الحياة هي تتحرك [3]  - فالحركة جوهرية لا أنها سطحية وعرضية، فهذه الحركة السطحية ما هي إلا كاميرا تكشف عن الحركة الجوهرية، فهذا قبل عشر سنوات صورته تختلف عن صورته الآن، هذا مثلا عندما كان شاباً كان شكله يختلف عن شكله الآن وهكذا، فهذا تغير سطحي، ولكن هناك تغير جوهري وراء ذلك.

إذن اختلاف الظواهر الطبيعية نتيجة خضوعها لقانون الحركة بحيث أن هذه الظواهر في كل مرحلة من مراحل نموها تختلف عنها في مرحلة أخرى، وهذا معنى أن الظواهر الطبيعية خاضعة للنسبية، فالعالم الخارجي نسبي وقد بينا سابقاً أن القوانين شيء والظواهر شيء آخر، ونحن نقصد بأن الظواهر هي التي تعيش النسبية وليس القوانين، ولذا تقول هذا طفل بالنسبة إلى سنة كذا وهو شاب بالنسبة لسنة أخرى، وهو مريض بالنسبة لزمن كذا وسليم بالنسبة لزمن كذا، فدائماً الظواهر تكون نسبية إذا قستها إلى الزمان أو المكان، ولذا النسبية الواقعية لا نتكلم فيها الآن بل نتكلم في النسبية الإدراكية، فهل أن الصور التي ترتسم في أذهاننا صور نسبية أو صور ثابتة؟

النسبية الثانية: النسبة الإدراكية.

إن في دعوى نسبيتها ملاحظتين أساسيتين[4] :

الملاحظة الأولى: عندما نأتي إلى الظاهرة المادية - كظاهرة الغليان - فإنها إما تُلحظ في زمكان واحد أو تُلحظ في متعدد، عندما ننظر إلى الغليان فإما أن ننظر إليه في مكان واحد وزمان واحد أو ننظر إليه في زمانين وفي مكانين، فإما أن يكون الإطار - إطار لحاظنا له - واحداً، أو يكون إطار لحاظنا له متعدداً، فنأتي:

الأول: ملاحظة ظاهرة الغليان في إطار واحد.

في الساعة الفلانية والثانية الفلانية والموقع الفلان كيف كانت ظاهرة الغليان، فإذا لاحظنا الظواهر الطبيعية المادية في زمكان واحد فهي ذات كيفية واحدة، فليس من المعقول أن ظاهرة الغليان في الثانية الفلانية والمكان الفلاني تكون ذات كيفيتين متضادتين فلا محال أن لها كيفيةٌ واحدة، فلا يُعقل اجتماع الضدين، فلا يُعقل أن يكون الغليان في آن واحد ومكان واحد بنحوين مختلفين، فلا محال بنحوٍ واحد وكيفية واحدة.

”فهي فيه ذات كيفية واحدة ولا يُعقل اتصافها بالكيفيتين المتضادتين وبالتالي..“ نستنج لو أن عندنا ناظرين مختلفين، أحدهما في الشرق والآخر في الغرب وهما ينظران لظاهرة واحدة، وهذه الظاهرة الواحدة مؤطرة بزمن ومكان واحد لا متعدد، فهل يُعقل الاختلاف أم لا؟ فهي بالنسبة للنظارين المختلفين في السلسلة العصبية البصرية - نفترض أنهما مختلفان - وكلاهما ناظر للغليان، فإن الصورة التي ترتسم في ذهن «أ» وفي ذهن «ب» ليست كلاهما حقيقة، فإن واحدة منهما حقيقة والثانية خطأ، أو كلاهما خطأ لأن أساساً الغليان بكيفية لا أبصرها الأول ولا أبصرها الثاني، فلا يُعقل أن يكون لظاهرة الغليان في زمن واحد ومكان واحد حقيقتان لأنها ذات كيفية واحدة، فما دام أنها هي ذات كيفية واحدة فإما أن يُدركها زيد دون بكر فيكون ما أدركه بكر خطأ، فهو ليس خطأ حتى يُسمى حقيقة، وإما أنه لم يُدركها لا زيد ولا بكر فكلاهما لم يُدرك الحقيقة، فنحن الآن بحثنا في الحقيقة في هل أنها نسبية أم مختلفة، لا في الحقيقة وغير الحقيقة وإلا لا معنى للبحث، فهناك حقيقة وهناك خطأ، وهناك صورة صادقة وهناك صورة كاذبة، فنحن نبحث عن الحقيقة أي الصورة الصادقة، فلا يمكن أن تكون الصورة الصادقة نسبية، إذن اختلاف الشخصين اللذين ينظران لظاهرة واحدة في زمن واحد، وفي مكان واحد، اختلاف الشخصين يرجع لحقيقة وعدمها، لا أنَّ اختلاف الشخصين يرجع إلى اختلاف في ذات الحقيقة كي يُقال بأن الحقيقة نسبية.

”إما حقيقة لأحدهما دون الآخر، أو ليست حقيقة لأي منهما ولا يوجد شق ثالث وهو النسبية“.

الثاني: ملاحظة ظاهرة الغليان في إطار متعدد.

”وإن لوحظ المتعدد“، الآن لم ننظر إلى الغليان في زمن واحد بل في زمانين، لم ننظر إلى الغليان في موقع واحد بل في موقعين، فالغليان في الساعة الخامسة كان بدرجة 100° والغليان في الساعة السادسة بدرجة 200°، الغليان على الأرض بدرجة 100 °، والغليان في أعلى المواقع الجليدية يحتاج إلى 150° حتى يغلي، إذن لاحظنا الغليان في زمانين أو مكانين، فبمجرد أن تُلاحظ الغليان في إطار متعدد لا في إطار واحد صارت هناك حقيقتان لا حقيقة واحدة حتى يُقال أنها حقيقة واحدة لكنها نسبية، فالغليان في الساعة الخامسة حقيقة والساعة السادسة حقيقة أخرى، الغليان على الأرض حقيقة وفي الجبال الجليدية حقيقة أخرى، أما حقيقة واحدة هي تكون في آن واحد نسبية ومتعددة فهو كلام لا يُفيد، فالحقيقة واحدة ولا تكون نسبية.

الملاحظة الثانية: إن مآل النسبية الناشئة عن اختلاف السلسلة العصبية - نحن ننظر إلى فرض واحد وهو أن تنشأ النسبية عن اختلاف السلسلة العصبية، فاثنان في زمن واحد ومكان واحد إلا أن أحدهما يقول أن هذه بلون كذا والثاني يقول بلون كذا الآخر - يؤول إلى مذهب التشكيك، فنتحول من المدرسة النسبية إلى المدرسة المشككة؛ لأنه - أي إذا آمنا بأن البشر يختلفون في السلسلة العصبية، والبشر مختلفون في السلسلة العصبية المرتبطة بالدماغ - نتيجة لذلك أننا لا نستطيع أن نثق بأي صورة، فلا نستطيع أن نضع يدنا على أي صورة ونقول أن هذه الصورة مطابقة للواقع، ”فإذا لم نستطع نتيجة اختلاف السلسلة العصبية أن نحرز الواقع فستؤول المدرسة النسبية إلى المدرسة المشككة“، وهي لا تؤمن بوجود واقع لا أنها تؤمن بواقع وتقول أن الصورة نسبية، فلا يُمكن عندهم بالتالي إحراز الواقع مع اختلاف السلسلة العصبية مع اختلاف السلسلة العصبية باختلاف أفراد الإنسان، وهذا هم لا يقبلون به ويقولون أننا لسنا مشككين بل نؤمن بواقع إلا أننا نرى النسبية، إلا أن النسبية بهذا المعنى ستؤول إلى الشك.

المحور الثاني: في عرض اتجاهات الفلسفة النسبية.

اتجاهات الفلسفة النسبية هي أربعة اتجاهات وبيانها كالتالي:

الاتجاه الأول: اتجاه ديكارت. [5] 

وديكارت يقسم المفاهيم - الصور التي تأتي إلى الذهن - إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الفطريات.

وهي قاعدة التفكير، أي أن هناك مفاهيم تشكل قاعدة لا تتغير وإن حصلت تحولات فكرية، فأنت تُصبح عندك تحولات فكرية كثيرة لكن هناك مفاهيم ثابتة عندك وتشكل قاعدة للتفكير، وهي تواكب كل التحولات الفكرية، ولذلك هي - هذه المفاهيم - حقائق، ولها قيمة علمية، وهي على أقسام وبيانها:

القسم الأول: المعقولات الصرفة، كالقواعد الفلسفية، فديكارت عقلي، فهو يؤمن بامتناع التناقض، ويؤمن بأن لكل مسبب سبب، ويؤمن بمبدأ الهوية، فهو يؤمن بقواعد فلسفية وتعتبر هذه القواعد قاعدة للتفكير.

القسم الثاني: الرياضيات، فالرياضيات كلّه علم ثابت، وهو يشكل قاعدة فكرية.

القسم الثالث: العناصر الأولية لعالم المادة، فهذا العالم الخارجي له عناصر أولية وعناصر ثانوية[6] ، وهذه العناصر الأولية هي الكيفية والبعد والحركة، فالإنسان كيفية وكذا النبات والحجر كلٌّ كيفية، فاختلاف الكيفيات بحيث نقول «أن بين كيفية الإنسان وكيفية النبات يوجد تضاد»، و«بين كيفية الإنسان وكيفية الشمبانزي يوجد تماثل[7] »، فعندما نقول أن الكيفيتان متضادان والكيفيتان متماثلتان فإن هذا معناه أن لكل موجود كيفية، ولذلك قد يحصل تضاد وقد يحصل تماثل. والبعد: «الطول، العرض، العمق، الزمن»، فالبعد أيضاً عنصر أولي. الحركة: «كل موجود مادي فهو متحرك». هذه الثلاثة عناصر - الكيفية، البعد، الحركة - موجودة قطعاً ولا شك فيها، فهي مثلها مثل القواعد الفلسفية والرياضية، فإيمانك أن لكل شيء مادي كيفية وبعداً وحركة كإيمانك بالقواعد الرياضية والفلسفية، ولذلك يُعتبر هذا القسم من الفطريات التي لا شك فيها.

كيف أدركنا أن لكل موجودٍ مادي كيفية وبعداً وحركة؟ 

يقول: لم نُدركه بالحس، وإنما أدركناه بالعقل، فالعقل هو الذي قرر أن لكل وجودٍ مادي كيفية وبعداً وحركة وليس الحس. ومن أجل هذا القسم جعلوا «ديكارت» رمز المدرسة العقلية.

القسم الثالث: الخارجيات.

وهي ما يصل عبر الحواس الخمس - الأصوات، الصور، المشمومات، المذوقات، اللون، الطعم، الرائحة، الملمس - وهذه سمّاها «الخواص الثانوية للأجسام»، وأنها ليست حقائق وليس لها قيمة علمية، فاللون والطعم والرائحة والملمس ليست حقائق حتى لو قلت 100% هذا حار، فهو يقول أن هذا ليس حقيقة، فإحساسك بالحرارة ليس من الحقائق وليس له قيمة علمية إطلاقاً؛ لأن الإحساس وسيلة لتمييز المفيد من المضر وليس وسيلة للظفر بالحقائق، فالوسيلة الوحيدة للظفر بالحقائق هو العقل وليس الإحساس، وبعبارة أخرى أن المحسوسات ذات قيمة عملية وليست ذات قيمة علمية، فالفطريات ذات قيمة علمية وأما المحسوسات ذات قيمة عملية، تحس بالحرارة فتسأل يُفيدك أم لا، تحس بالطعم والرائحة فتسأل هل هو مفيد أم لا، فالإحساس وسيلة للقيمة العملية وليس وسيلة للقيمة العملية للظفر بالحقائق.

القسم الرابع: المجهولات.

وهي ما تصنعه القوة المتخيلة، مثل الشعراء، فهؤلاء جالسون ويتخيلون فيركبون صوراً ويبدعون، وليس لهذه الصور لا قيمة علمية ولا عملية.

ويُعد ديكارت من المدرسة العقلية مقابل الحسية لإيمانه بالفطريات. [8] 

الاتجاه الثاني: المدرسة الحسية.

المدرسة الحسية فيها منهجان:

المنهج الأول: منهج لوك [9] .

وهذا المنج يُقسم المفاهيم إلى قسمين:

الأول: اليقينيات، وهي صنفان:

الصنف الأول: الوجدانيات.

وهي ما يُصدّق بها الذهن بلا واسطة كالمعلومات الحضورية، فأنا أصدق بنفسي فلا يحتاج إلى واسطة، فتصديقي بنفسي وأفكاري لا يحتاج إلى واسطة، فهذا يُسمى علماً حضورياً، فالمعلوم حاضرٌ لدى العالم، فهذه المعلومات الحضورية يُصدق بها الذهن بلا واسطة وتُسمى الوجدانيات. الأعداد أيضا لا تحتاج واسطة حتى تصدق بها، فأنت لا تحتاج إلى واسطة حتى تُصدق بأن «3» أكثر من «2»، فتصديقك بالأعداد لا يحتاج إلى واسطة، وكذا التمايز بين الأشكال والأبعاد، فالتمايز بين المثلث والمربع والمستطيل لا يحتاج إلى واسطة، وكذا بين الأبعاد، فإيمانك بوجودك أو بالأعداد أو التمايز بين الأشكال والأبعاد من اليقينيات الوجدانيات.

الصنف الثاني: المعقولات.

وهي تختلف عن الوجدانيات؛ لأن المعقولات - حسب تعريفه - ما يتوقف التصديق عليها على معاني أخرى، وذاك مثل الاستدلالات الرياضية، فكيف تُثبت أن «8×8 = 64»، فأنت تحتاج إلى برهان، فبما أن التصديق بهذه القضية احتاج إلى برهان - أي معنى آخر - سماها معقولات، فهي تحتاج إلى حركة عقلية وهي حركة الاستدلال.

ومع أن كلا الصنفين يقينيات إلا أنه يقول ليس لهما قيمة علمية، ولذلك اعتبر جون لوك من المدرسة الحسية لا من المدرسة العقلية لأنه لا يؤمن باليقينيات، فحتى إدراك أفكاري والأعداد والقضايا الرياضية والأبعاد لا قيمة علمية عنده لاحتمال أنه من الذهن وإلى الذهن وأن كله صنيعة الذهن، فهو الذي صنع الرياضيات والقضايا الوجدانية فهو من الذهن وإلى الذهن ولا حقيقة له.

الثاني: الحسيّات.

وتوضيحها هو أن لا طريق للتعرف على خارج النفس إلا عن طريق الحس لا العقل، فهنا نفسٌ داخِلُها مليء باليقينيات لكن ليس لها قيمة علمية، وعندي خارج النفس - هذا العالم - لا يُمكن الوصول إليه إلا عن طريق الحس وليس العقل، إذ لا يُمكن نيل الواقع إلا به، ولذلك اعتبرت مدرسة جون لوك مدرسة حسيّة، فهو يقول أن داخلك لا قيمة علمية له، وما هو خارجك لا تستطيع أن تصل إليه إلا بطريق الحس، فاعتبرت المدرسة حسيّة وذلك لإيمانها بأصالة الحس في إدراك الواقع الخارجي.

ما هي قيمة ما أُدْرِكَ بالحس بعد الإدراك؟ 

يقول أيضا لا قيمة له؛ لأن غاية ما يوقن به الذهن هو وجود واقع، أي يعلم أن هناك واقعاً وراء النفس، وأن ذلك الواقع ينقسم إلى خواص ذاتية للأجسام - الكيفية، البعد، الحركة - وخواص عرضية - وهي الخواص العرضية من لون وطعم ورائحة وو - كما ذكر ديكارت، بل أكثر من ذلك، أنت لو تسأل عما يوجد لديك من زاد تتيقن به من المحسوسات يقول أن الزاد الذي أتيقن به من المحسوسات هو أن هناك واقعا، وأن هناك خواصاً ذاتية وخواصاً عرضية فقط.

وبهذا يكون كل القضايا التجريبية التي أقامها الفيزيائيون وعلماء الأحياء كلها لا يقين بها، فاليقين فقط هو أن هناك واقعاً وأن هناك فرقاً بين الخواص الذاتية والعرضية، ولهذا فالمعلومات الحسية ما سوى هذين المعلومين - الواقع والفرق بين الخواص الذاتية والعرضية - ليس لها قيمة يقينية.

إشكال الشيخ المطهري.

أشكل الشيخ المطهري على هذا التيار بأنه كيف أمكنه التمييز بين الذاتي والعرضي إذا لم يكن له طريق إلا الحس؟! فأنت تقول لا طريق عندك غير الحس، وكل المحسوسات ليس لها قيمة يقينية إلا أن هناك واقعاً وأن هناك ذاتيا ًوعرضياً، لكن من أين حصل اليقين بهذا؟ فما هي الميزة لهذين على سائر القضايا الأخرى، فكل ما سوى هذين لا قيمة يقينية له، لكن هذان لهما قيمة يقينية، فمن أين حصلت القيمة اليقينية لهذين دون غيرهما من القضايا الحسية مع أنه لا طريق لنيل الواقع إلا الحس والحس متساوي النسبة؟!

تعميق الإشكال

وهنا نعمق إشكال الشيخ المطهري فنقول: الدليل الفطري الذي يسير عليه كل إنسان في كل حياته وفي كل معلوماته هو دليل حساب الاحتمالات[10] ، بل ليس عندك دليل غير دليل حساب الاحتمالات، بل إيمانك أن هذا كتاب هو بدليل حساب الاحتمالات، أن هذا ابني وهذه زوجتي وهذه حسينية وأنا الآن أتكلم كله بدليل حساب الاحتمالات، فالدليل الفطري الذي يسير به الإنسان في كل شؤونه ومعلوماته هو دليل حساب الاحتمالات، وبهذا الدليل أيقنا أن هناك واقعاً، وبدليل حساب الاحتمالات أيقنا أن الصفات على قسمين وهي ذاتية وعرضية، فإذا كان الموجب لليقين هو دليل حساب الاحتمالات إذن هو متساوي النسبة لجميع القضايا، فكما وصلتَ إلى اليقين في هاتين فستصل إلى اليقين في غيرهما لأن الدليل الموصل لليقين الرياضي واحدٌ وهو دليل حساب الاحتمالات.

المنهج الثاني: منهج بركلي وهيوم.

ويختلف منهجهما عن السابق في إنكار قيمة كل المعلومات الحسية ومنها الفرق بين الذاتي والعرضي، فهذان أنكرا قيمة المعقولات التي أنكرها لوك، ولما جاءا إلى الحسيّات أنكرا قيمتها، فلا قيمة لها وهي ليست حقائق ذات قيمة علمية.

والحمدلله رب العالمين

[1]  البحث ص188.
[2]  ص232.
[3]  كما ذكرنا سابقاً نظرية الملا صدرا وغيره.
[4]  ولسوف نفصل في المدارس النسبية ويكون لها مناقشات بحسبها، ولكن هذه مناقشة للمدرسة النسبية بصورة عامة.
[5]  من الطبيعي نتيجة 40 محاضرة أن يكون هناك نسيان، فنحن أول ما دخلنا في البحث حول نظرية المعرفة كنا نتكلم عن التصورات ثم التصديقات، في التصورات قسمنا المدارس في التصورات إلى مدرسة عقلية وحسية، الآن نرجع إلى نفس الكلام باعتبار أن «ديكارت» كان من أنصار المدرسة العقلية مقابل المدرسة الحسية.
[6]  العناصر الثانوية يأتي بحثها فيما بعد.
[7]  وهكذا يقولون حيث أن بين الإنسان والشنبازي 98.7% من التماثل في كل الصفات.
[8]  مناقشة ديكارت فيما بعد.
[9]  الفيلسوف الإنجليزي وعالم النفس لوك 1704م.
[10]  كما ذكر السيد الشهيد الصدر «قدس سره» في الأسس المنطقية للاستقراء.