الدرس 43 | هل يمكن أن يخطئ الإحساس؟

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

المحاضرة بعنوان «هل يمكن أن يخطئ الإحساس؟»، وهنا محاور ثلاثة:

المحور الأول: في بيان ما ذكره السيد الطباطبائي - رحمه الله - حول خطأ القوى المدركة.

أفاد السيد الطباطبائي - رحمه الله - أن جميعَ القوى المدركة - كقوة الإحساس والقوة المتخيلة والقوة العاقلة - لا يتطرق الخطأ إليها، وقد أفاد في أصول الفلسفة أن الفلاسفة قالوا: ”إن الخطأ في الأحكام دائما يعود لقوة الخيال“، وقَد تصدى هناك لشرح ذلك، وذكر بأن مرجع الخطأ دائما إلى تطبيق حكمِ قوةٍ على حكمِ قوةٍ أُخرى، فإذا افترضنا أنّ هناك حكمين لقوتين من القوى المُدْرِكَة للإنسان فإن كلَّ حكمٍ في حدِّ ذاته ليس خطأ، وإنما الخطأ ناشِئ عن تطبيق حكم قوة على حكم قوة أخرى، وذلك يكون بجعل ما بالعرض مكان ما بالذات، وجعل ما هو مجاز مكان ما هو حقيقة.

وحتى نوضّح هذه المصطلحات نذكر عدة قواعد في المقام تعرض لها نفس السيد الطباطبائي - قدس سره - في أصول الفلسفة:

القاعدة الأولى: ”لا خطأ في الكون فإن قلمَ الصنع لم تَخُطْ شيئاً خطأً“.

عالمُ الوجود الذي نعيشُ فيه ليس فيه خطأ، فحتى ما يُقال بأن الزلازل والبراكين هي أخطاء فإنها ليست أخطاءً بل كلها ضرورية لمسيرة عالم الوجود، فلا يوجدُ في عالم الوجود خطأ باعتبار أن القلمَ الذي صَنَعَ هذا العالم قَلمُ الحكمة فلا خطأ فيه، فإن قلمَ الصنع لم تخطْ شيئاً خطأً كما هو مقتضى الحكمة.

القاعدة الثانية: ”لا خطأ في إدراك حقيقي“.

إذا لم يكن هناك خطأ في عالم الوجود فهل هناك خطأ في عالم الإدراك؟! وهنا تأتي القاعدة الثانية، لا خطأ في إدراك حقيقي، فالإدراك نوعين: إدراك حقيقي «مباشر»، وهناك إدراك غير حقيقي، والقاعدة تقرر بأن لا خطأ في الإدراك الحقيقي، فما هو الإدراك الحقيقي الذي لا خطأ فيه؟

الإدراك الحقيقي «المباشر».

هو ما كان إدراكاً بالذات، والإدراك بالذات هو إدراك القوى الثلاث، أي إدراك قوة الحس وإدراك قوة المتخيلة وإدراك القوة العاقلة، فكل إدراك من هذه الإدراكات الثلاث هو إدراك حقيقي وهو إدراك بالذات، مثلا، عندما يُدرك الحس الحرارة فما أدركه الحس لا خطأ فيه، فهو أدرك حرارة الجسم، وهنا القوة المتخيلة حوّلت صورةَ الحرارة التي أدركها الحس من كونها صورة متغيرة إلى كونها صورة ثابتة وهذا أيضا لا خطأ فيه، فما أدركته القوة المتخيلة هو ما أدركته قوة الحس وغاية الأمر أن قوة الحس أدركته متغيراً والقوة المتخيلة أدركته ثابتاً لا خطأ، والقوة العاقلة هي التي حوّلت الحرارة المدركة من كونها جزئية إلى كونها كلية عبر عملية التجريد، فالحرارة ليست حرارة نار ولا حرارة شمس ولا حرارة حركة وإنما طبيعي الحرارة، وهذا أيضا لا خطأ فيه، وهذا كله نسميه «إدراك حقيقي» فهو إدراك أولاً وبالذات، يعني المُدْرَك مُدْرَكٌ مباشر، فقوة الحس أدركت شيئاً بشكل مباشر فهو إدراك حقيقي أول وبالذات، والقوة المتخيلة بالنسبة إليها أدركت شيئا مباشراً والقوة العاقلة كذلك، فكل هذا إدراك بالذات لا خطأ فيه.

القاعدة الثالثة: ”إن الخطأ فرع وجود قضية مشتملة على موضوع ومحمول وحكم“.

طبيعيُّ الخطأ وصفٌ للقضية وليس وصفاً للمفرد، فالمفرد لا يُقال له خطأ، فعندما تقول «الإنسان»، فهذا لا يعني شيئاً حتى يصبح صواباً أو خطأً، وكذلك عندما تقول «ماشي» فهذا لا يعني شيئاً حتى يُقال «خطأ» و«صواب»، فالخطأ والصواب وصف للقضية، والقضية هي ما كانت مُشَكلَّةً من موضوع ومحمول وحكم، ف «الإنسان ماشٍ» هنا «الإنسان» موضوع و«ماشٍ» محمول، الحكم نسبة هذا لهذا، فما يتصف بالخطأ والصواب هو القضايا وليس المفردات، ولذلك قال في القاعدة الثالثة ”إن الخطأ فرعُ وجود قضيةٍ مشتملة على موضوع ومحول وحكم“، فإذا كانت عندنا قضية مشتملة على موضوع ومحمول وحكم فأين الخطأ؟ يقول: ولا خطأ في الحكم، فالخطأ لا يأتي من الحكم من حيث هو حكم لأن الحكم فعل من أفعال النفس، فالحكم عملية تقوم بها النفس، فالنفس أدركت عنوان الإنسان، وأدركت عنوان الماشي، وبعد أن أدركت هذين العنوانين قامت بعملية وهي نسبة هذا إلى هذا، فنسبة المشيء إلى الإنسان عمل من أعمال النفس، وأعمال النفس معلومة للنفس بالعلم الحضوري، والعلم الحضوري لا يقبل الخطأ؛ لأن المعلوم حاضرٌ بنفسه لدى العالم، فلا يُمكن أن تُخطئ في نفسك وفي أفكارك وفي أفعالك الداخلية لأنها كلها حاضرة بنفسها فهذه ليست صورة، وفرق بين العلم الحصولي والعلم الحضوري هنا، فالعلم الحصولي صورة وقد تكون مطابقة للواقع وقد لا تكون، أما العلم الحضوري فإن المعلوم بنفسه حاضر فكيف يُصبح خطأ؟!

إذن لا خطأ في الحكم من حيث هو حكم لأنه فعل من أفعال النفس، فهو معلوم حضوري والمعلوم الحضوري لا يُتصور فيه الخطأ.

القاعدة الرابعة: ”إن مرجع الخطأ لا محالة إما لجعل غير الموضوع مكان الموضع أو جعل غير المحمول مكان المحمول أو جعلهما معاً“.

قلت بأن الخطأ لا بُد أن يكون في قضية فيها موضوع ومحمول وحكم، وتقول بأن الخطأ لا يأتي من الحكم لأنه معلوم حضوري، فمن أين يأتي الخطأ إذن؟ فهنا يقول في القاعدة الرابعة «إن مرجع الخطأ لا محالة إما لجعل غير الموضوع مكان الموضع أو جعل غير المحمول مكان المحمول أو جعلهما معاً» - وهذا سيأتي التمثيل له - فهنا الخطأ ليس في الحكم وإنما لجعل الموضوع غير ما هو الموضوع واقعاً أو جعلت المحمول غير ما هو المحمول واقعاً أو كلاهما جعلته غير ما هو عليه واقعاً.

القاعدة الخامسة: ”إن الخطأ فرعُ وجود حكمين لقوتين، ومنشؤه تطبيق حكم قوة - كالقوة العاقلة - على قوة أخرى - كالقوة المتخيلة“

لو كان عندنا قضية مكونة من موضوع ومحمول وحكم فهل يكون هناك خطأ؟ يقول لا، بل لا بُد من حكمين، فلا يُتصور خطأ حتى يكون هناك حكمان، وتطبيق حكم على حكم هو الذي يكون منشأ الخطأ، وإلا لو كان حكماً واحداً لا يُتصور فيه خطأ، إذن بالنتيجة لا بُد أن نفترض حكمين لقوتين - أي عندنا حكم للقوة المتخيلة وحكم للقوة العاقلة - وطَبّقْنا أحدهما على الآخر فهنا يحصل الخطأ، أما لو نظرت لحكم القوة المتخيلة وحده فلا خطأ، ولو نظرت لحكم القوة العاقلة وحده فلا خطأ، فلا يأتي الخطأ إلا مع افتراض حكمين لقوتين ونتيجة تطبيق حكم قوة على قوة أخرى ينشأ الخطأ، فالقاعد هي «"إن الخطأ فرع وجود حكمين لقوتين، ومنشؤه تطبيق حكم قوة - كقوة العاقلة - على قوة أخرى - كالقوة المتخيلة -» وهذا التطبيق يكون بواسطة الخيال، حيث يتدخل ويُطبق حكم قوة على حكم قوة أخرى فيكون منشأً للخطأ.

مثال [1] :

يُمكن تطبيق القواعد السابقة - التي ذُكرت أعلاه - على مثال «اللص دخل الدار» وبفرض أن اللص لم يدْخِل الدار في الوقع بل الذي دخل الدار هو الأخ، إلا أن العقل قال أن اللص دخل الدار، فهذه قضية خاطئة، فهذه قضية مكونة من موضوع «اللص» ومحمول «دخل الدار»، وحُكْمُ النفسِ بأن هذا هو هذا.

هناك خطأ الآن جزماً - لأن الذي دخل الدار هو الأخ وليس اللص - فهنا الخطأ من أين جاء؟ هنا يتعرض السيد الطباطبائي - قدس سره - [2]  إلى كيفية تطبيق هذه القواعد، وهنا نرجع إلى المثال السابق «اللص دخل الدار»، وهنا نرجع إلى القواعد، فلا خطأ في الكون، ففي الخارج ليس هناك خطأ فالأخ جاء ودخل الدار، وأما القاعدة الثانية - لا خطأ في إدراك حقيقي وهو ما كان إدراكاً بالذات فلا خطأ في عمل أي قوة من القوى الثلاث - نطبقها هنا، فهل حصل هنا خطأ في أحكام القوى الثلاث أم لا؟ يقول السيد الطباطبائي أن هنا توجد ثلاثة أحكام:

الحكم الأول: حكم «قوة الحس».

فنحن شاهدنا شخصاً طويل القامة كثيف الشعر ذا ملابس سوداء قد دخل البيت، وهذا الذي انطبعت صورته في الدماغ وقد انعكست صورته في قرنية العين ثم انطبعت هذه الصورة في الدماغ، فالحس ليس عنده أي خطأ، فقطعاً هناك شخص طويل القامة وكثيف الشعر ذا ملابس سوداء دخل الدار، فالحكم الصادر من قوة الحس لا خطأ فيه لأنه إدراك حقيقي فهو أدرك أولاً وبالذات.

الحكم الثاني: حكم «القوة المتخيلة».

فقد حكمنا بأن هذه الأوصاف متحدة مع أوصاف اللص، أي أن القوة المتخيلة قامت تُراجع الخزانة التي لديها، فهي جاءت لها صورة والحس لا يقول هذا لص أو غيره، فالحس يقول شخص بهذه الصفات دخل الدار، والقوة المتخيلة تُقارن بين الصور الموجودة عندها في الخزانة فرأت أن هذه الأوصاف تتطابق تماماً مع أوصاف اللص الذي سمعت عنه قبل أيام، فهي رأت أن الأوصاف مُتطابقة فقالت - القوة المتخيلة - أن أوصاف من دخل الدار متحدة مع أوصاف اللص، فهذا الحكم صحيح أيضا ولا خطأ فيه لأنهما مشتركان في الأوصاف الجسدية.

إذن حكم قوة الحس لا خطأ فيه، وحكم القوة المتخيلة أيضا لا خطأ فيه لأنها قالت أن هذه الأوصاف متحدة مع أوصاف اللص.

الحكم الثالث: حكم «القوة العاقلة».

القوة العاقلة جاءت مباشرة فقالت أن اللص دخل الدار، فإذا نظرنا لهذا الحكم من حيث هو حكم لا من حيث أنه مطابق لما أدرك الحس أم غير مطابق، فلا بما هو مطابق لإدراك قوة الحس أو غير مطابق له، فبما هو حكم لا خطأ لأنه بما هو حكم فعل من أفعال النفس، وفعل النفس معلوم بالعلم الحضوري، والمعلوم بالعلم الحضوري لا خطأ فيه.

إذن أحكام ثلاثة لا خطأ فيها، وكل حكم هو إدراك حقيقي، وكل إدراك حقيقي هو إدراك لما هو أول وبالذات.

إذن من أين جاء الخطأ؟ جاء الخطأ - لنفترضه - في جعل ما ليس موضوعاً موضوعاً؛ لأن الذي دخل الدار هو الأخ وليس اللص، فالموضوع هو الأخ ونحن جلعنا مكان الموضوع شيئا آخر، ونحن قلنا اللص دخل الدار والحال أنه الأخ، فجعلنا ما ليس موضوعاً موضوعاً، وهذا يتم بجعل ما بالعرض مكان بالذات لوجود عنصر مشترك بينهما، ففي البلاغة في باب الحقيقة والمجاز عندهم ما يُسمى بالاستعارة، الاستعارة التحقيقية والاستعارة التخيلية، فالاستعارة التخيلية عندما تقول مثلا «رأيت أسداً على المنبر»، فلا وجود للأسد على المنبر بل هو رجل، إذن الذي على المنبر هو رجل وليس أسد، فما هو على المنبر أولاً وبالذات هو رجل، لكن لوجود عنصر مشترك بين من هو على المنبر وبين الصنف الآخر - عنصر الجرأة والشجاعة - فجئت بالمجاز مكان الحقيقة فقلت «رأيت أسداً على المنبر» فجعلت المجاز مكان الحقيقة، وجعلت ما بالعرض مكان ما بالذات؛ لأن الشجاعة وصف أولاً وبالذات للرجل، وثانيا وبالعرض للأسد، فغاية ما في الأمر أن الأسد يُعد عند الناس رمزاً للشجاعة، وهذا الجعل ليس خطأ لأني أقمت قرينة فقلت «رأيت أسداً على المنبر» فالأسد المفترس لا يقعد على المنبر، فهنا قرينة فلما أتيت بها لم يكن خطأً.

نُلاحظ هنا ما الذي جعل ما بالعرض مكان ما بالذات، أو جعل المجاز مكان الحقيقة؟

هي قوة الخيال، ولذلك هي تُسمى استعارة تخيلية، فقوة الخيال جعلت ما كان ما بالعرض مكان ما بالذات أو جعلت المجاز مكان الحقيقة، والأمر ذاته في الأخطاء، فالحس رأى شخصاً دخل الدار، والمتخيلة قالت أوصاف من دخل الدار هي أوصاف اللص، فجاءت قوة الخيال وهنا تصرف؛ لأنها بالنتيجة رأت شبهاً بين ما بالعرض وما بالذات، فما بالذات هو الأخ الذي دخل الدار، وما بالعرض هو دخول اللص، فلوجود عنصر مشترك بينهما وهو اتحادهما في الأوصاف، فقوة الخيال تصورت مكان الأخ الذي دخل الدار دخول اللص بسبب اتحادهما في الأوصاف فجعلت المجاز مكان الحقيقة وما بالعرض مكان ما بالذات ثم جاءت القوة العاقلة، فالقوة العاقلة تأتيها المادة جاهزة، فهي لا تُخطئ، فلما جاءتها المادة الجاهزة قالت أن اللص دخل الدار، فلا خطأ في القوة العاقلة كما لا خطأ في قوة الحس وكما لا خطأ في القوة المتخيلة.

إذن تحديد الخطأ في المقام يتم بالتفريق بين الخطأ ومنشأ الخط، والخطأ يكون في عدم التطابق بين حكمِ قوةٍ وحكمِ قوةٍ أخرى، فالحس قال شخص دخل الدار - والذي هو في الواقع الأخ - وأما العقل قال أن اللص دخل الدار، فإذا ننظر إلى كل من الحكمين في حدِّ نفسه فليس فيه خطأ لأن كل واحد منهما إدراك حقيقي، إلا أن الخيال قامت بتطبيق حكم العقل على حكم الحس، فهي التي قالت أن الذي أدركه الحس هو الذي حكم به العقل، فتطبيق حكم قوة على حكم قوة أخرى بجعل ما بالعرض مكان ما بالذات وجعل ما هو المجاز ما هو الحقيقة، وكل هذا من تصرفات قوة الخيال، ومن هنا نشأ الخطأ، ولذلك ذكرنا منذ البدء أن السيد الطباطبائي نقل عن الفلاسفة أنهم يقولون أن الأخطاء في الأحكام تأتي من تصرف قوة الخيال، والذي شرحه السيد الطباطبائي بقوله ”من تطبيق حكم قوةٍ على حكم قوة أخرى“.

لذلك السيد الطباطبائي يقول[3] : ”ومن هنا يُمكن الاستنتاج بأننا إذا تعمقنا في علومنا - أي أصبحنا دقيقين فنميز بين الإدراكات، وأن هذا إدراك قوة الحس وهذا إدراك قوة المتخيلة، وهذا إدراك القوة العاقلة وهكذا - بالتميز بين الإدراكات الحقيقية والمجازية بالذات أو بالعرض، وعرفنا خواصها العامة نستطيع أن نقف على كل أخطائنا وأحكامنا الصائبة، وحسب اصطلاح المنطق فإننا نستطيع التمييز بين القضايا المصيبة والقضايا المخطئة“.

وهذا الذي يقوله السيد الطباطبائي - عليه الرحمة - هو الذي تعرضنا له سابقاً [4]  فهنا نحن متفقون في النتيجة وأننا إذا ميزنا وفرزنا ودققنا سوف نكتشف الخطأ والصواب، إلا أنه بالنتيجة، هنا أمران:

أولا: ما هو الطريق لتدقيق أحكام القوى وتمييز وفرز ما بالعرض عمّا بالذات؟ الطريق هو حساب الاحتمالات وليس هناك طريق آخر.

ثانياً: هل يُفيدكم هذا التحليل كلّه؟ فأنت حللت وبين وشرحت أحكام القوى وشرحت الإدراكات الحقيقية وغير الحقيقية، وشرحت أنه لا خطأ في الأحكام، ثم توصلت أن المشكلة كلها في الخيال، إلا أن المطلب لا يحتاج إلى هذا كله، فافترضْ أن الحواس تُخطئ وأن المتخيلة تُخطئ بالنتيجة تمييز الخطأ عن الصواب هو بدليل حساب الاحتمالات، فسواء أرجعنا الخطأ إلى الحواس أو إلى قوة أخرى أو تصرف قوة الخيال في جعل ما بالعرض مكان ما بالذات لن يغير من الأمر شيئاً.

المحور الثاني [5] : في عرض الوجه العقلي الذي استدل به السفسطائي على إنكار الواقع وراء المفاهيم.

فالسفسطائي قال أن المفاهيم ليس وراءها واقع وذلك لوجه حسي - خطأ الحواس - وقد مضى بيانه، وهنا نعرض الوجه العقلي، وبيانه:

لو كانت الصور مطابقة للواقع وكان الشيء - كما يقول الفلاسفة - يحضر بنفسه - أي أن الماهية موجودة بنفسها في الذهن، فكما توجد في الخارج توجد في الذهن - لكانت الصورة متصفة بما يتصف به الواقع من التأثير والتأثر المتبادل بين أجزاء الطبيعة، فالآن لو تصورت صورة النار فالسفسطائي يقول لو أن هذه الصورة هي ماهية النار لكانت الصورة حارة، فلو كان فعلاً أن صورة النار مطابقة للواقع - أي هناك واقع وراءها وهي مطابقة له - لاتصفت بصفات الواقع واتصفت بصفات النار ولكانت محرقة، وإذا أتصور أنني في الجليد يُصبح به الرأس بارداً لأني أتصور أني في لجة الجليد، فلو كانت الصورة مطابقة للواقع لاتصفت بصفات الواقع وحيث أنها ليس متصفة بصفات الواقع إذن ليست مطابقة للواقع، فكيف يُقال أن وراء الصور واقع وهي ليست مطابقة له؟! وحيث إنه ليس كذلك كشف ذلك عن عدم المطابقة وأن الواقع لم يحضر بنفسه في الذهن والذي في الذهن هو شبح وليس هو الواقع، فلا علم بل هو جهل مركب، أي أن العالم كله يعيش في جهل مركب.

الجواب عن هذا الوجه العقلي:

قالوا أن الجواب هو ما ذكره الملا صدرا في فلسفته من الفرق بين الحمل الذاتي الأولي والحمل الشائع الصناعي، وهذا المطلب قد ذكره الشيخ المظفر في منطقه أيضا.

الشيخ المظفر في منطقه قال: ”الحمل على قسمين، حمل أولي وحمل شائع، لأن ملاك الحمل الاتحاد“ فلا تستطيع أن تحمل شيئاً على شيء إلا إذا كان بينهما اتحاد ولا تستطيع أن تنسب شيئاً إلى شيء إلا إذا كان بينهما اتحاد، فمِلاك الحمل الاتحاد، فلا يصح حمل بدون الاتحاد، ”فلا بدُ من اتحاد بين الموضوع والمحمول حتى يصح الحمل“، إلا أن الاتحاد تارة يكون في المفهوم وتارة اتحاد في الوجود، فإذا كان الاتحاد في المفهوم فكلاهما مفهومهما واحد، وهذا يُسمى «حمل أولي»، فتقول: الإنسان حيوان ناطق، فمفهوم الإنسان هو أنه حيوان ناطق ومفهوم الحيوان الناطق الإنسان، فهما متحدان مفهوماً، فنفس المفهوم واحد، فالإنسان هو الإنسان، والإنسان حيوان ناطق، فمتى ما اتحد الموضوع والمحمول مفهوما سُمي الحمل حملاً أولياً، أو حملاً ذاتياً، وأما إذا اتحدا في الوجود فحينئذ يُسمى «حمل شائع صناعي»، فمثلا نقول: «الهاشمي عالم» فمفهوم الهاشم غير مفهوم العالم، فمفهوم الهاشمي هو من انتسب إلى رسول الله - - بالأب، وأما مفهوم العالم هو من حمل علماً، فهذا المفهوم هو غير هذا المفهوم، فهذا ماهية وتلك ماهية ولكن وُجدا بوجودٍ واحد، فنفس الهاشمي خارجاً هو نفس العالم، وهذا يُسمى «حمل شائعٌ».

إذن ملاك الحمل الاتحاد، والاتحاد إما في المفهوم فهو «حمل أولي» وإما في الوجود فهو «حمل شائع»، وبناء على ذلك جاء ملا صدرا وقال: ”إذا كان الحمل أولياً فالموضع ليس مصداقاً للمحمول، وإذا كان الحمل شائعاً فالموضوع مصداق للمحمول“، وبيان ذلك:

إذا كان الحمل أولياً فأنت تُريد أن تقول أن هذه الحقيقة هي نفس هذه الحقيقة فمثلا «الإنسان حيوان ناطق» فليس أن مفهوم الإنسان مصداق للإنسان، بل مفهوم الإنسان هو مفهوم الإنسان لا أنه إنسان، فمفهوم الإنسان شيء ومصداق الإنسان شيء آخر، فمفهوم الإنسان ليس مصداقاً للإنسان لأن مفهوم الإنسان ما اتحد مع حقيقة الإنسان عيناً وإلا هو ليس مصداقاً للإنسان، ولهذا تستطيع أن تقول: مفهوم الإنسان ليس إنسان، لأن مفهوم الإنسان إنما هو صورة تحكي حقيقة الإنسان، وهذه الصورة ليست إنسان، فمفهوم الموضوع في الحمل الذاتي الأولي ليس مصداقاً للمحول، بينما لما نأتي إلى الحمل الشائع ونقول ونحن نشير «النار هذه حارة» فهذه النار الخارجية مصداق للحارة قطعاً، فما هو حمل شائع يعني أن الموضوع فيه مصداق للمحمول وإلا لا يكون حملاً شائعاً؛ لأننا قلنا أن ملاك الحمل الشائع هو الاتحاد في الوجود ولا يتحدان إلا إذا كان الموضوع مصداقاً للمحول، فنقول «هذه النار حارة» و«هذا الهاشمي عالم» و«هذا الماشي إنسان»، وهذا هو الفرق بين الحمل الأولي والحمل الشائع، فهو في الحمل الأولي ليس الموضوع مصداقاً للمحمول بينما في الحمل الشائع الموضوع مصداق للمحمول.

بناء على ذلك نأتي إلى كلام السفسطائي حيث يقول: ”لو كانت صورة الشيء مطابقة للشيء لاتصفت بصفات الواقع، وحيث أنها لم تتصف فليست مطابقة“، نقول هذا كلامه مرتكز على الحمل الأولي، فلأنه مركز على الحمل الأولي فالموضوع ليس مصداقاً للمحول، ولأن الموضوع في الحمل الأولي ليس مصادقاً للمحمول لا يكون متصفاً بصفات الواقع لأنه ليس مصداقاً له.

إذن إذا تخيلت صورة الإنسان فإن صورة الإنسان ليست هي الإنسان، وليس مصداقاً للإنسان لأنها - أي حمل هذه الصورة على الإنسان - حمل أولي وليس حملاً شائعاً، ولأنه حمل أولي لا يكون الموضوع مصادقاً للمحمول، وإذا لم يكن مصداقاً للمحمول لا يحمل صفات الواقع، ولذلك يقول صدر المتألهين: ”الواقع متعدد المقولات“، حيث يقولون المقولات عشر مقولة الجوهر، مقولة الكيف، مقولة الكم، مقولة الفعل، مقولة الانفعال، المقولات النسبية، فصورة الإنسان الموجودة في ذهني هي من مقولة الكيف النفساني، بينما الإنسان نفسه ليس من مقولة الكيف بل من مقولة الجوهر، فالإنسان نفسه من مقولة الجوهر بينما صورته هي من مقولة الكيف النفساني، ولذلك أنت تتصور الجوهر ولكن صورة الجوهر من الكيف، وتتصور الطول إلا أن صورة الطول ليست من مقولة الكم بل من مقولة الكيف، وتتصور الزمن فالمتصور من مقولة المتى إلا أن الصورة من مقولة الكيف النفساني.

ولذلك تصور الكم أو الكيف أو الحركة ليس مصداقاً من مصاديق الكم أو الكيف أو الحركة، فإذن السفسطائي خلط بين الحمل الأولي والحمل الشائع فركز على الحمل الأولي فلذلك قال أن الذي لا يحمل صفات الواقع ليس مطابقاً للواقع.

المحور الثالث: بيان تفسير المدرسة الحسية لخطأ الحس.

نحن قلنا في الجلسة السابقة أن هناك أخطاءً في الحس، إلا أن التفسير اختلف بين اتجاهات ثلاثة:

الاتجاه الأول: الاتجاه الواقعي.

وهو الذي يعترف أن هناك خطأ في الحس.

الاتجاه الثاني: الاتجاه السفسطائي.

الذي أراد أن يستغل الأخطاء في الحس لإنكار الواقع.

الاتجاه الثالث: المدرسة النسبية.

وبيان هذه المدرسة في تفسير الخطأ في الحس بعناصر ثلاثة:

العنصر الأول: أن الحقيقة هي التأثير الذي تتركه المجموعة العصبية على الدماغ.

نحن نقول أن الحقيقة هي الصورة المطابقة للواقع، إلا أنهم يقولون أن الحقيقة هي ”التأثير الذي تتركه مجموعة الأعصاب في الدماغ بعد اتصالها بالخارج“. فأنا لو وضعت يدي على الجسم الحار صار بهذا اتصال بالخارج، فمجرد أن وضعت يدي على الجسم الحار وحصل الاتصال فإن المجموعة العصبية بدأت تتأثر بهذا اللمس، ونتيجة تأثر المجموعة العصبية بهذا اللمس صار تأثراً في الدماغ، وهذا التأثير الذي تركته المجموعة العصبية على الدماغ بعد لمس الحرارة هو الحقيقة، وليس شيئا آخر.

العنصر الثاني: إن التركيب العصبي يختلف باختلاف الأشخاص.

فالتركيب العصبي لجسمي غير التركيب العصبي لشخص آخر، فالتركيب العصبي مختلف، فإذا كانت الحقيقة هي التأثير الذي يتركه التركيب العصبي والمفروض أن التركيب العصبي مختلف باختلاف الأشخاص، إذن الحقيقة مختلفة، بل لشخص آخر في زمانين، فالتركيب العصبي لما كان سليماً غير التركيب العصبي عندما كان مريضاً، فهو في زمانين تأثير مختلف.

العنصر الثالث: النتيجة.

أن كل إحساس في ظرفه هو إحساس حقيقي وليس فيه خطأ؛ لأن كل إحساس هو عبارة عن اتصال بالخارج وتأثر بالمجموعة العصبية وتأثر من الدماغ بالمجموعة العصبية، فكل إحساس حقيقي وكل إحساس مصيب، فليس هناك إحساس مخطئ ولا خطأ في الإحساس، وبهذا تبين أن الحقيقة نسبية لأن كل واحد له حقيقة، فالحقيقة هي التأثر، والتأثر باختلاف الأشخاص، إذن الحقيقة مختلفة باختلاف الأشخاص، وإذا كانت كذلك فهي نسبية وليست مطلقة.

ويُمكن التمثيل لذلك بالفرق بين القلم في الهواء والقلم في الماء، فإذا تنظر إلى القلم في الهواء تراه مستقيماً، وإذا تنظر له في الماء تراه منكسراً أو متمايلاً، فإن موقع القلم - كونه هنا أو هنا - وطرف الرؤية - أنظر للقلم عن يمين أو من فوق أو من الأسفل - وانعكاس الضوء على القلم أيضا مؤثر، فهذه العوامل الثلاثة - موقع القلم وطرف الرؤية وانعكاس الضوء - جعل الرؤية مختلفة باختلاف الأشخاص، وجميع هذه الصور هي صورة حقيقية، فكل واحد أدرك صورة حقيقية مما يعني أن الحقيقية نسبية وليست مطلقة.

الملاحظة على هذا:

الملاحظة الأولى: أن الواقع واحد لا يتغير، وإحدى الصورتين خطأ جزماً والثانية مصيبة، لأن القلم في واقعه إما مستقيم أو منكسر، ولا يُعقل أن يكون القلم في آن واحد مستقيماً ومنكسراً لاستحالة اجتماع الضدين، إذن القلم في الواقع إما مستقيم أو منكسر، وفي كلتا الحالتين - سواء كان مستقيماً أو منكسراً - لا تأثير للظرف الزمكاني على شكله، فسواء كان في الماء أو في الهواء فهو بصفة واحدة، فالظرف المكاني لن يغير من صفته سواء كان في الماء أو الهواء، وكذلك الظرف الزماني بحيث تراه في ساعة كذا أو في ساعة أخرى، فالقلم ذو صفة واحدة ولا تتأثر صفته لا بالظرف الزماني ولا الظرف المكاني فلا محالة هناك خطأ في صورة، فكلتا الصورتين جاءتا في الحس - صورة القلم منكسر وصورة القلم مستقيم - إلا أن إحدى الصورتين الواردة عن طريق الحس خطأ والصورة الأخرى الواردة عن طريق الحس صواب لا محالة، وهذا مصادم للنسبية لأن النسبية لا تعترف بالخطأ، حيث تقول أنه لا خطأ بل كله حقيقة، ونحن نقول أنه كشف لنا البرهان العقلي أن إحدى الصورتين خطأ والأخرى مصيبة، إذن بالنتيجة لا نسبية.

الملاحظة الثانية: هم فسروا الحقيقة بمعنى آخر، فنحن نقول أن الحقيقة هي الصورة المطابقة للواقع، وهم قالوا أن الصورة هي تأثر الدماغ بالمجموعة العصبية، فتفسير الحقيقة بمعنى آخر لا يُجدي في تحول الحقيقة من كونها مطلقة إلى كونها نسبية؛ لأن تفسيركم لا يُلغي جزم الذهن بكذب إحدى الصور، فمهما غيرتم من مصطلحات فإن الذهن لا زال يقول أن إحدى الصورتين صواب والأخرى خطأ، فما دام جزم الذهن باقياً إذن تغيير المصطلحات لن يُجدي في تحويل الحقيقة من كونها مطلقة إلى كونها نسبية.

وصلنا إلى الفصل الأخير من فصول نظرية المعرفة وهو ما ذكره السيد الشهيد - قدس سره - في مقدمة كتابه للاستقراء وهو «ما هو القانون العاصم في الحس والفكر؟» ونتعرض له في محاضرتين آتيتين.

والحمد لله رب العالمين

[1]  وهذا المثال والمطلب كله للسيد الطباطبائي، وأما الشهيد المطهري لم يتحدث حول هذا المطلب بشيء.
[2]  أصول الفلسفة ج1 ص262.
[3]  أصول الفلسفة ج1 ص264.
[4]  الدرس السابق في مقالة السيد الصدر - قدس سره -.
[5]  وهذا الوجه العقلي الذي تخلف من الدرس السابق.